سِلْسِلَةُ المَعَارِفِ الأِسْلامِيَّةِ 18


العِصْمَةُ

حَقيقَتُهَا ـ اَدِلَّتُهَا




مَرْكَزِ الرِسَّالةِ


( 5 )

مقدمة المركز :

الحمدُ لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الاَمين وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد..
إنّ موضوع العصمة هو واحد من المواضيع التي عنيت بها الكتب الكلامية لدى سائر الفرق الاِسلامية كواحدة من مفردات العقيدة ، ولكل نظريته في تفسيرها ومنهجه في الاستدلال عليها.
والحديث عن العصمة يقتضي في بادي الاَمر تصور من هو المعصوم الذي يُقال بعصمته أوّلاً ومن ثمّ التحقيق في تلكَ النسبة ثانياً.
أمّا من هو المعصوم حقّاً فلا ريب في أنهم ملائكة الله المقربون ورسله وأنبياؤه وأوصياؤهم عليهم السلام ، ولم تنسب العصمة إلى غير هؤلاء عليهم السلام وأمّا عن عصمة الاِجماع على ماينقل عن بعض اصوليي العامة فليست بشيء من التحقيق لاِمكان وقوع الخطأ عقلاً على المجمعين مالم يكن المعصوم فيهم ، نعم عصمة القرآن الكريم مفروغ عنها ولكنها خارجة عن محل البحث هذا ، وأمّا عن التحقيق في تلكَ النسبة فلا شك أنه يرتكز على ثلاث شعب :


( 6 )

الاُولى : ويعتمد فيها على استجلاء موقف العقل من مفهوم العصمة ، وهذا الموقف لابدّ وأن يكون مقراً ومذعناً بها إذ لا يمكن أن يؤتمن الله على وحيه إلاّ من يأتمن جانبه من كل قبيح ومن كلّ مايتنافى معَ الغرض الذي لاَجله نزل الوحي بالشريعة ، كالخطأ والسهو والنسيان ونحو ذلكَ مما يتنزه عنه أمناء الله على وحيه ودينه.
الثانية : السمع ، وهو لا شك متحقق بالمقام سواء في آيات القرآن الكريم أو السنة المتواترة ، وقد تضمن هذا البحث طرفاً من تلكَ الاَدلة.
الثالثة : معرفة السيرة الذاتية لمن تثبت له العصمة وهذه الشعبة بالذات تعد في الواقع دليلاً معتبراً جداً خصوصاً فيما يتصل بأوصياء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ سجل التأريخ سيرتهم بصفحات من نور ولم يعثر شانؤوهم على سقطة واحدة قط لاَي منهم وإلاّ لطاروا بها زرافات ووحداناً ، وأقل ماقيل عنهم عليهم السلام يوجب القول بعصمتهم.
والكتاب الماثل بين يديك ـ عزيزي القارئ ـ اعتمد هذه الشعب الثلاث في إثبات العصمة ، وألمّ بأطراف الموضوع ، عرضاً ونقداً وتحليلاً ، وأفلح في تنظيم المنتخبات من الاَدلة والبراهين على أرجح الاَقوال فيهِ ميسراً على القراء سبيل الوصول إلى مبتغاهم في هذه المفردة العقيدية المهمة.
والله من وراء القصد.. وهو الهادي إلى سواء السبيل
مركز الرسالة



( 7 )

المقدِّمة

الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله المعصومين.
أما بعد : فإنّ الاِمام : هو الاِنسان الذي له الرئاسة العامّة في أمور الدين والدنيا بالاصالة في دار التكليف (1) .
ويُقصد هنا بقيد «الاصالة» ، أي انّ الاِمامة من قبل الباري عزّ وجلّ ، لامن قبل أيّ أحدٍ سواه حتّى وإن كان نبيّاً أو مرسلاً ، إذ سلطنة الباري عزّ وجلّ على مخلوقاته تكونُ أولاً وبالذّات ، ثُمَّ تلك تترشح لمن يشاء كيف يشاء فتكون سلطنة أيّ شخصٍ آخرٍ حينئذٍ بالتّبع لا بالاصالة ، وهذا واضح.
ولعلّ هذا التعريف من أسدّ التعاريف للاِمام وأقومها طرداً وعكساً. وهو مختار بعض علمائنا.
وقد عُرّف الاِمام أيضاً بأنّه : هو الذي له الرياسة العامّة في أمور الدين
____________
(1) راجع كتاب الاَلفين|العلاّمة الحلي قدس سره : 12.
( 8 )

والدنيا خلافةً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1) .
وبملاحظة التعريفين يظهر الفرق بينهما.
وعلى كلِّ حالٍ ، فإنّ الاِمامة ليست بيد الاُمّة ولا يكون تعيين الاِمام من قِبَلها أبداً ، وقد أثبت علماؤنا ذلك في كتبهم بما يغني الباحث عن الحقّ (2) .
ومن الشروط الاَساسية لهذا المنصب المهم : العصمة التي هي أمرٌ خفيٌ غير ظاهر لا يعلمه إلاّ الله سبحانه ، ولذلك فإنه هو الذي يشير إليها ، ويعيّن المتصف بها.
وقد وضعنا هذه الرسالة للبحث عنها وعن أدلّتها...
ومن الاَسئلة المهمّة التي يمكن لها أن تستقرَّ في الذهن :
هل بالعصمة نعلم الاِمام ؟ ! أم بالاِمام نعرف العصمة ؟ !
أي هل من ثبتت لهُ العصمة كان إماماً ؟ ! أم من ثبتت له الاِمامة كان معصوماً ؟ !
وبتعبير آخر : ـ أيُّهما المقدّم ؟ ! فبعضهم أحبَّ تقديم الاَول ، وآخرون أحبوا تقديم الثاني.
____________
(1) مقتبس من تعريف الاِمامة|القوشجي ـ تبعاً لصاحب المواقف.
(2) راجع الاِمامة والحكومة في الاِسلام : 26. وراجع أيضاً خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الشورى والنصّ ، من اصدارات مركز الرسالة ـ قم.

( 9 )

إلاّ أننا نجد أنّ هناك فرقاً واضحاً بين المقامين.
فالاِمام الذي يكون نبيّاً يجب أن نثبت نبوّته أولاً ، ولا تثبت إلاّ بالمعجز وبادعائه معه النّبوة ، فحينئذٍ تبعاً لذاك نُثبتُ عصمته. هذه هي طريقة إثبات عصمة الاَنبياء والرسل.
ولو كان الاِمام مختفياً بحيث انقطع أثره وخبره وذكرهُ من الناس فنسوه كليّاً ، فحينئذٍ عندما يدّعي الاِمامة ، عليه أن يُظهر المُعجِزَ إلى جانب الدعوى ، فتثبت له الاِمامة وبها نُثبت عصمته.
وأمّا في حال معرفة الاِمام ، فإنّ تعيينه من قبل المُرسَل يكشف عن كونه معصوماً.
لاَنَّ العصمة أمرٌ خفيٌ لا يستطيع الوصول إليه الناس ، فالرسول هو الذي يشير إليه.
كما أنَّهُ باختلاف الناس في التعيين وعدمه ، أو في قولهم بالتعيين مع اختلافهم في التشخيص لابدّ من إثبات العصمة حتّى يتعيّن ذلك الشخص.
وبما أنَّهُ أمرٌ خفي فلابدّ أن تثبت العصمة عن طريق النص ، والنص منحصرٌ كما هو معلوم بكتاب الله وبسُنّة من ثبتت عصمته ، كأن يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو معصوماً آخر قد ثبتت عصمته بالدليل ـ بكتاب الله وسُنّة نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم ـ.
فالذي أراد إثبات عصمة الاَنبياء والرسل والاَئمة بالطريق الاَول عليه


( 10 )

أن يُثبت ذاك عن طريق العقل وحده أولاً ، ثُمَّ بعد ذاك يستأنس ويعمّق استدلاله بالدليل النقلي كما هو مطلوب.
وأمّا الذي يريد أن يثبتَ العصمة عن الطريق الثاني المنحصر باثبات العصمة بالاِمام فلابدّ أن يتلمّس الدليل عن طريق النص ، ويستأنس بالدليل العقلي ليؤكد مطلبه ويعززه.
والذي سنعتمده في كتابنا هذا هو تقديم الطريق الاَول ؛ لاَنَّ أُسَّ الافتراق كان فيه. إذ إنّ الذين آمنوا بالرسل والاَنبياء قد وقع الاختلاف بينهم في ثبوت العصمة وحدودها وسعتها ، كما سنرى ، لذا علينا تقديم الدليل العقلي ، ثم الكتاب ، ثم السُنّة بسعتها ومدى دلالتها على ذلك ، ومدى مطابقة العقل للشرع في هذا المورد بالذات.
محاولين أن نمزج بين الدليلين في مواضع مهمّة اخرى لكي يكون الدليل أقوى وأوضح ، عندما نجد أن النقل جاء على طبق العقل ، فنتشرّف بذكر كلام المقدَّمين في شرع الله تعالى ونجعله مدخلاً لحديثنا.
وسيكون بحثنا في اربعة فصول :
الاَول : في تعريف العصمة ، والثاني : في دراسة ومناقشة الاَقوال المختلفة في العصمة ، والثالث : في الاَدلة العقلية على العصمة ، والرابع : في إثبات العصمة عن طريق الكتاب والسُنّة ، ثم ألحقنا ذلك بتتمة في إثبات عصمة الزهراء عليها السلام.

وبه تعالى نستعين ، وهو الهادي إلى سواء السبيل


( 11 )

الفصل الاَول

تعريف العصمة


العصمة لغةً :
عَصَمَ ، يعصم من باب ضَرَبَ : حَفَظَ ووقى (1) .
فالعصمة في كلام العرب : معناها المنع (2) .
والعاصم : المانع الحامي (3) .
العصمة اصطلاحاً :
عرّف الشيخ المفيد العصمة في الاصطلاح الشرعي بأنّها : ( لطفٌ يفعلُهُ اللهُ تعالى بالمكلّف ، بحيث تمنع منه وقوع المعصية ، وترك الطاعة ، مع قدرته عليهما ) (4) .
____________
(1) راجع المصباح المنير : 417 مادة «عَصَمَ».
(2) مختار الصحاح : 437 مادة «عصم».
(3) راجع لسان العرب 12 : 403 مادة «عصم».
(4) النكت الاعتقادية|الشيخ المفيد 10 : 37 مصنّفات الشيخ المفيد ط ـ المؤتمر العالمي.

( 12 )

ومِنْ هنا قالوا بانّهُ : ( ليس معنى العصمة انّ الله يجبُرهُ على ترك المعصية ، بل يفعل به ألطافاً ، يترك معها المعصية ، باختياره ، مع قدرته عليها ) (1) .
ولذا قال الشيخ المفيد قدس سره : ( العصمة من الله لحججه هي التوفيق ، واللّطف ، والاعتصام من الحجج بهما عن الذنوب والغلط في دين الله ).
والعصمة : تفضّل من الله تعالى على من علم انّه يتمسك بعصمته ، والاعتصام فعل المعتصم.
وليست العصمة مانعةً من القدرة على القبيح ، ولا مضطرة للمعصوم إلى الحسن ، ولا مُلجئةً له إليه ؛ بل هي الشيء الذي يعلم الله تعالى إنّه اذا فَعَلهُ بعبدٍ من عبيده ، لم يُؤثِر معه معصيةً له.
وليس كلُّ الخلق يُعْلَمُ هذا من حاله ، بل المعلوم منهم ذلك هم الصّفوة والاخيار ، قال الله تعالى : ( إنّ الّذين سبقتْ لهم منّا الحسنى ) (2) ، وقال : ( ولقد اخترناهم على علمٍ على العالمين ) (3) ، وقال : ( وإنَّهم عندنا لَمِنَ المصطفين الاَخيار ) (4) .
و «اعلم إنّ العصمة هي : اللّطف الذي يفعله الله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع من فعل القبيح ، فيقال على هذا انّ الله عصمه بأن فَعَلَ له
____________
(1) حق اليقين|السيد عبدالله شبر 1 : 91.
(2) سورة الاَنبياء : 21|101.
(3) سورة الدخان : 44|32.
(4) سورة ص : 38|47.

( 13 )

ما اختار عنده العدول عن القبيح.
ويُقال : إنّ العبد معصوم لاَنّهُ اختار عند هذا الداعي الذي فعل له الامتناع من القبيح.
وأصل العصمة في موضوع اللغة المنع يقال عصمتُ فلاناً من السوء إذا منعت من حلوله به ، غير أن المتكلمين أجروا هذه اللّفظة على من امتنع باختياره عند اللّطف الذي يفعله الله تعالى به عنده من فعل القبيح ، فقد منعه من القبيح ، فأجروا عليه لفظة المانع قهراً ، وقسراً.
وأهل اللّغة يتعارفون ذلك أيضاً ، ويستعملونه لاَنّهم يقولون فيمن أشار على غيره برأي فقبلهُ منه مختاراً ، واحتمى بذلك من ضررٍ يلحقه ، وسوء يناله انّه حماه من ذلك الضرر ، ومنعه وعصمه منه ، وان كان ذلك على سبيل الاختيار» (1) .
وقد قال المحقق الطوسي قدس سره في «التجريد» : ( ولا تنافي العصمة القدرة ).
وقال العلاّمة الحلي قدس سره في شرحه لهذه العبارة : اختلف القائلون بالعصمة في انّ المعصوم هل يتمكن من فعل المعصية أم لا ؟ ! فذهب قوم منهم إلى عدم تمكّنه من ذلك. وذهب آخرون إلى تمكّنه منها.
أمّا الاَولون : فمنهم من قال إنّ المعصوم مختص في بدنه ، أو نفسه بخاصيّة تقتضي امتناع إقدامه على المعصية.
____________
(1) الامالي|السيد المرتضى 2 : 347 دار إحياء الكتب العربية ـ مصر ط1.
( 14 )

ومنهم من قال : إنّ العصمة هي القدرة على الطاعة ، وعدم القدرة على المعصية ، وهو قول أبي الحسن البصري.
وأمّا الآخرون الذين لم يسلبوا القدرة : فمنهم من فسّرها : بانّه الاَمر الذي يفعله الله تعالى بالعبد من الاَلطاف المُقرِّبة إلى الطاعات ، التي يعلم معها انّه لا يقدم على المعصية ، بشرط أن لا ينتهي ذلك الاَمر إلى الاِلجاء.
ومنهم من فسّرها : بأنّها ملكة نفسانية لا يصدر عن صاحبها معها المعاصي.
وآخرون قالوا : العصمة لطفٌ يفعله الله لصاحبها ، لا يكون معه داعٍ إلى ترك الطاعات ، وارتكاب المعصية.
وأسباب هذا اللّطف أمور أربعة :
أحدها : أن يكون لنفسه ، أو لبدنه خاصيّة ، تقتضي ملكةً مانعةً من الفجور ، وهذه الملكة مغايرة للفعل.
الثاني : أن يحصل له علم بمثالب المعاصي ، ومناقب الطاعات.
الثالث : تأكيد هذه العلوم بتتابع الوحي ، أو الالهام من الله تعالى.
الرابع : مؤاخذته على ترك الاَولى ، بحيث يعلم انّه لا يُترك مهملاً ؛ بل يُضيَّقُ عليه الاَمر في غير الواجب من الامور الحسنة.
فإذا اجتمعت هذه الامور كان الاِنسان معصوماً ) (1) .
____________
(1) شرح تجريد الاعتقاد|العلاّمة الحلي : 365.
( 15 )

إلى هنا وقفنا على أربعة تعاريف لمصطلح العصمة ، هي كالآتي :
1 ـ ( لطفٌ يفعله الله تعالى بمكلّف ، بحيث تمنع منه وقوع المعصية ، وترك الطاعة ، مع قدرته عليهما ).
2 ـ ( الاَمر الذي يفعله الله تعالى بالعبد من الالطاف ، المقرِّبة إلى الطاعات التي يعلم معها إنّه لا يقدم على المعصية ، بشرط ألاّ ينتهي ذلك الاَمر إلى الاِلجاء ).
3 ـ ( ملكة نفسانية لا يصدر عن صاحبها معها المعاصي ).
4 ـ ( لطفٌ يفعله الله لصاحبها ، لا يكون معه داعٍ إلى ترك الطاعات ، وارتكاب المعاصي ).
ومنه يظهر اتحاد التعاريف الثلاثة : الاَول والثاني والرابع ، في المعنى ، وأنّها تكاد تتحد في اللفظ أيضاً.
وأمّا الثالث : فاذا كان مقصودهم من انّ ذلك لطفٌ يفعله الله بمكلّفٍ يجعل له ملكة نفسانية حينئذٍ تكون كلُّ التعاريف واحدة.
وأمّا سبب هذا اللطف لو لاحظناه بدقة لرأينا انه في التعريف الثاني هو «علم» ، وفي الثالث تأكيد هذه العلوم يرجع إلى العلم أيضاً ، والرابع أيضاً يرجع إلى علمه بانّه سيضيَّقُ عليه ، فعليه كلّها ترجع إلى العلم.
يبقى الاَول ، ولعلَّ قوله تقتضي ملكة مانعة أيضاً مرجعها إلى العلم فنحصل على انَّ سبب هذا اللّطف علم في علم ، ولعلّ ذلك حدى بالسيد الطباطبائي قدس سره إلى تبني أن قوّة العصمة هي علمٌ خاص.


( 16 )

وأمّا على تعريف الشيخ محمدرضا المظفر قدس سره من أنّ العصمة : «هي التنزّه عن الذنوب والمعاصي ، صغائرها وكبائرها ، وعن الخطأ والنسيان ، وإن لم يمتنع عقلاً على النبي ان يصدر منه ذلك ، بل يجب ان يكون مُنزّهاً عمّا ينافي المروءة ، كالتبذّل بين الناس من أكلٍ في الطريق ، أو ضحك عالٍ ، وكل عمل يستهجن فعله عند العرف العام» (1) .
فهو أقرب للشرح ، لا للتعريف.
هذا ما اقتضى ذكره حول تعريف العصمة في هذه الرسالة ، ومن أراد التوسّع فليرجع إلى كتب هذا الشأن ، وسنذكر نصوص عبارات عدّة من أعلام الطائفة في العصمة إن شاء الله.
لكن من المهم هنا تبيان قول السيد الطباطبائي الذي ارجع هذه الملكة إلى العلم ، إذ قال في تفسيره «الميزان» تحت عنوان ( كلامٌ في معنى العصمة ) عند تفسيره للآية المباركة : ( ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفةٌ منهم بأن يُضلوك وما يُضلّون إلاّ أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً ) (2) .
( ظاهر الآية انّ الاَمر الذي تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبّس بالمعصية والخطأ. وبعبارة اُخرى علمٌ مانعٌ
____________
(1) عقائد الاِمامية|الشيخ محمدرضا المظفر ، تحقيق محمدجواد الطريحي : 287 مؤسسة الاِمام علي عليه السلام.
(2) سورة النساء : 4|113.

( 17 )

عن الضلال.
كما ان سائر الاَخلاق كالشجاعة والعفّة والسخاء كلٌّ منها صورة علمية راسخة ، موجبة لتحقق آثارها ، مانعة عن التلبس باضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره ، والبخل ، والتبذير.
ومن هنا يظهر ان هذه القوّة المسماة بقوّة العصمة سببٌ شعوري علمي غير مغلوب البتة ، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والاِدراك لتسرّب إليها التخلّف ، وخبطت في أثرها أحياناً.
فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم ، والاِدراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب.
ثم يقول قدس سره ـ : فقد بان من جميع ما قدّمناه انّ هذه الموهبة الالهية التي نسميها قوّة العصمة نوع من العلم والشعور يغاير سائر أنواع العلوم في انه غير مغلوب لشيء من القوى الشعورية البتة ، بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إيّاها ولذلك كانت تصون صاحبها من الضلال والخطيئة مطلقاً ) (1) .
فقوله : ( إنّ الاَمر الذي تتحقق به العصمة نوعٌ من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطأ ) قول دقيق وصحيح ، فالعلم أمرٌ تتحقق به العصمة ، أي ان العصمة شيء والعلم أمرٌ آخر.
ويمكن ان يقال حينئذٍ انّ العلم بلا ريب له تأثيره الاَكبر في العصمة ،
____________
(1) الميزان|السيد الطباطبائي : 5|78 ـ 80.
( 18 )

ولذا قال تعالى : ( إنّما يخشى الله من عباده العلماء ) (1) ، فحتى الخشية ولعلّها من مراحل العصمة الاُولى أيضاً منشؤها العلم ، ولذا حصر الخشية لله من عباده بالعلماء كما هو ظاهر الآية ، وهذا تامٌّ لا غبار عليه.
إلاّ أنّ قوله بعد ذلك : ( ومن هنا يظهر ان لهذه القوّة المسماة بقوّة العصمة سببٌ شعوري علمي غير مغلوب ألبتّة ) يوجب إرباكاً ، فهو يجعل قوّة العصمة : قوةً وسبباً شعورياً علمياً غير مغلوب. ثم نراه يقول أخيراً : ( فقد بان من جميع ما قدّمناه ان لهذه الموهبة التي نسميها قوّة العصمة نوعٌ من العلم والشعور يغاير سائر أنواع العلوم في انّه غير مغلوب لشيء من القوى الشعورية البتّة ).
فيُعرِّف العصمة بالعلم.
بل في استطراد كلام له في موضع آخر يقول بصريح العبارة : ( العصمة الالهية : التي هي صورة علمية نفسانية تحفظ الاِنسان من باطل الاعتقاد ، وسيّء العمل ) (2) .
وللتحقيق في هذا مجالٌ آخر ، وإنّما كان قصدنا تذكير القارئ بذلك ليراجع مظانّه إن شاء.
ولنتبرّك بذكر بعض معاني العصمة من كلام الاِمام الرضا عليه السلام : « إنّ الاِمامة خصَّ الله عزَّ وجلَّ بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة
____________
(1) سورة فاطر : 35|28.
(2) الميزان|السيد الطباطبائي 16 : 312.

( 19 )

والخلّة ، مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها ، وأشاد بها ذكره ، فقال : ( إنّي جاعلك للناس إماماً )..
إنّ الاِمامة هي منزلة الاَنبياء وإرث الاَوصياء... إنّ الاِمام زمام الدين ونظام المسلمين ، وصلاح الدنيا ، وعزّ المؤمنين....
الاِمام يحلُّ حلال الله ، ويحرّم حرام الله ، ويقيم حدود الله ، ويذب عن دين الله ، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة...
الاِمام الماء العذب على الظماء ، والدال على الهدى ، والمنجي من الردى... والدليل في المهالك من فارقه فهالك... الاِمام المطهّر من الذنوب المبرّأ عن العيوب... الاِمام واحد دهره لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عالم ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير مخصوص بالفضل كلّه ، من غير طلب منه له ، ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضِّل الوهاب. فمن الذي يبلغ معرفة الاِمام أو يمكنه اختياره ؟ ! هيهات هيهات....
فكيف لهم باختيار الاِمام ؟ والاِمام عالم لا يجهل ، وراعٍ لا ينكل معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة...

( 20 )

نامي العلم ، كامل الحلم ، مضطلع بالاِمامة ، عالم بالسياسة ، مفروض الطاعة ، قائم بأمر الله عزَّ وجلَّ ناصح لعباد الله ، حافظ لدين الله » (1) .
____________
(1) اصول الكافي|الكليني 1 : 198|1 باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ، كتاب الحجة.