الفصل الثاني


الاَقوال في العصمة

قد وقع الاختلاف بين العلماء في عصمة الاَنبياء عليهم السلام ، وقد أرجع الشيخ المجلسي هذه الاختلافات إلى أربعة محاور :
أحدها : ما يقع في باب العقائد.
وثانيها : ما يقع في التبليغ.
وثالثها : ما يقع في الاَحكام والفتيا.
ورابعها : في أفعالهم وسيرهم عليهم السلام.
قال رحمه الله : فأمّا الكفر والضلال في الاعتقاد :
فقد أجمعت الاُمّة على عصمتهم عنهما قبل النبوة وبعدها.
غير أنّ الازارقة من الخوارج (1)جوّزوا عليهم الذنب ، وكلُّ ذنبٍ عندهم كفر ، فلزمهم تجويز الكفر عليهم ، بل حُكي عنهم أنهم قالوا يجوز
____________
(1) وهم فرقة متشددة منهم ، تنسب إلى ( نافع بن الازرق ).
( 22 )

أن يبعث الله نبيّاً عَلِمَ أنّه يكفر بعد نبوته!
وأمّا النوع الثاني ، وهو ما يتعلّق بالتبليغ :
فقد اتّفقت الاُمّة بل جميع أرباب الملل والشرائع على وجوب عصمتهم عن الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ عمداً وسهواً إلاّ القاضي أبو بكر ، محمد بن الطيب الباقلاني البصري المتكلم الاَشعري ( ت|403 هـ ) (1) ، فإنّه جوّز ما كان من ذلك على سبيل النسيان ، وفلتات اللّسان.
وأمّا النوع الثالث : وهو ما يتعلق بالفتيا :
فاجمعوا على أنّه لا يجوز خطؤهم فيه عمداً وسهواً ، إلاّ شرذمة قليلة من العامّة.
وأمّا النوع الرابع : وهو الذي يقع في أفعالهم :
فقد اختلفوا فيه على خمسة أقوال :
الاَول : مذهب أصحابنا الاِمامية : وهو أنّه لا يصدر عنهم الذنب لاصغيره ولا كبيره ، لا عمداً ولا نسياناً ، ولا يخطأ في التأويل ، ولاللاسهاء من الله سبحانه.
ولم يخالف فيه إلاّ الصدوق ، وشيخه محمد بن الحسن بن الوليد قدس سرهما ، فإنّهما جوّزا الاسهاء ، لا السهو الذي يكون من الشيطان.
____________
(1) ولد في البصرة ومات في بغداد ، له مؤلفات عدّة منها : « اعجاز القرآن » ، « التمهيد ».
( 23 )

وكذا القول في الأئمة الطاهرين عليهم السلام.
الثاني : قول أكثر المعتزلة : أنه وقت النبوة ، وأما قبله وهو أنّه لا يجوز عليهم الكبائر ، ويجوز عليهم الصغائر ، إلاّ الصغائر الخسيسة المنفّرة كسرقة حبة ، أو لقمة ، وكل ما ينسب فاعله إلى الدناءة والضّعة.
الثالث : قول أبي علي الجبائي (1) : وهو أنّه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ، ولا كبيرة على جهة العمد ، لكن يجوز على جهة التأويل ، أو السهو.
الرابع : قول النظام (2)وجعفر بن مبشر ومن تبعهما : وهو أنّه لا يقع منهم الذنب إلاّ على جهة السهو والخطأ ، لكنّهم مؤاخذون بما يقع منهم سهواً ، وإن كان موضوعاً عن أُممهم لقوّة معرفتهم وعلو رتبتهم ، وكثرة دلائلهم ، وإنّهم يقدرون من التحفظ على ما لايقدر عليه غيرهم.
الخامس : قول الحشوية (3) ، وكثير من أصحاب الحديث من العامّة : وهو أنّه يجوز عليهم الكبائر والصغائر ، عمداً وسهواً وخطأً (4).
ثمّ اختلفوا في وقت العصمة على ثلاثة أقوال :
____________
(1) محمد بن عبدالوهاب ، توفي سنة 303 هـ ، وينسب إلى ( جبّا ) وهي منطقة تقع جنوب ايران ، وهو أحد علماء البصرة والفرقة التي تنسب إليه تسمى بـ ( الجبّائية ) وهي فرقة من المعتزلة.
(2) إبراهيم بن سيّار وهو تلميذ أبي الهذيل العلاّف ( متكلم معتزلي ) ، كان في البصرة ، وبغداد. ويعدُّ أحد اساتذة الجاحظ ، والفرقة التي تنسب إليه تسمّى بـ ( النظامية ).
(3) وهم المحدِّثون من العامّة الذين ينفون تأويل الاَحاديث ، والكتاب الكريم ، ويأخذونهما على الظواهر.
(4) بحار الاَنوار|العلاّمة المجلسي 11 : 89 ـ 90.

( 24 )

الاَول : وهو مذهب أصحابنا : وهو أنّه من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله سبحانه.
الثاني : مذهب كثير من المعتزلة : وهو أنّه من حين بلوغهم ، ولا يجوز عليهم الكفر والكبيرة قبل النبوة.
الثالث : وهو قول أكثر الاَشاعرة ومنهم الفخر الرازي ، وبه قال أبو هذيل (1) ، وأبو علي الجبائي من المعتزلة : إن فيجوز صدور المعصية عنهم.
هذا مجمل القول في الآراء حول العصمة.
أقوال علمائنا في عصمة الاَنبياء والاَئمة عليهم السلام :
ونقتنص بعض أقوال علمائنا ، المفيدة للعصمة المطلقة ، بالاضافة إلى ما مرَّ علينا في مطاوي البحث :
قال الشيخ المفيد قدس سره : ( إنّ الذي أذهب إليه في هذا الباب إنّه لا يقع من الاَنبياء عليهم السلام ذنب بترك واجب مفترض ولا يجوز عليهم خطأ في ذلك ولا سهو يوقعهم فيه ، وإن جاز منهم ترك نفل ومندوب إليه على غير القصد والتعمد ، ومتى وقع ذلك منهم عوجلوا بالتنبيه عليه فيزولون عنه في أسرع مدة وأقرب زمان ، فأما نبينا صلى الله عليه وآله وسلم خاصة والاَئمة من ذريته عليهم السلام فلم يقع منهم صغيرة بعد النبوة والاِمامة ، من ترك واجب ، ولا مندوب إليه ، لفضلهم على من تقدّمهم من الحجج عليهم السلام ، وقد نطق القرآن بذلك ،
____________
(1) محمد العلاّف ولد في البصرة ، وتوفي سنة 235 هـ ، وهو أحد علماء المعتزلة.

( 25 )

وقامت الدلائل منه ومن غيره على ذلك للاَئمة من ذريته عليهم السلام ) (1).
السيد المرتضى علم الهدى رضي الله عنه : وعندما يذكر السيد المرتضى علم الهدى ما يحتج به على صواب جميع ماانفردت به الاِمامية ، أو شاركت فيه غيرها من الفقهاء ، يذكر اجماعها على ذلك الامر ، ثمّ يبيّن سبب حجيّة ذلك الاجماع بقوله : ( إنّما قلنا ان اجماعهم حجة لان في اجماع الامامية قول الاِمام الذي دلت العقول على ان كلّ زمان لا يخلو منه ، وانه معصوم لا يجوز عليه الخطأ في قولٍ ، ولا فعل ) (2).
الشيخ الطوسي شيخ الطائفة قدس سره : قال ردّاً لحديث ذي الشمالين في سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( وهذا ممّا تمتنع العقول منه ) (3).
وقال في « الاستبصار » : ( وذلك مما تمنع منه الاَدلة القاطعة في انّه لايجوز عليه السهو والغلط ) (4).
الخواجه نصير الدين الطوسي رضي الله عنه : ( ويجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض.
ثم أضاف قدس سره ـ : وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو ، وكلّما ينفّر عنه ، من دنائة الآباء ، وعهر الامهات ، والفظاظة
____________
(1) مصنفات الشيخ المفيد|الشيخ المفيد 2 : 103.
(2) الانتصار|السيد المرتضى : 6.
(3) التهذيب|الطوسي 2 : 180.
(4) الاستبصار|الطوسي 1 : 371.

( 26 )

والغلظة ، والاُبنة وشبهها ، نحو الاَكل على الطريق وشبهه ) (1).
ثم قال قدس سره في عصمة الاِمام : ( وامتناع التسلسل يوجب عصمته ، ولاَنّه حافظ للشرع ، لوجوب الانكار عليه لو أقدم على المعصية فيضاد امر الطاعة ، ويفوت الغرض من نصبه ، ولانحطاط درجته عن أقل العوام ) (2).
وقال العلاّمة الحلي قدس سره : وقالت الاِمامية إنّه يجب عصمتهم من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها (3) ، ثم ساق أدلة حول ذلك.
ثم قال قدس سره : ذهبت الاِمامية والاسماعيلية إلى ان الاِمام يجب ان يكون معصوماً ، وخالف فيه جميع الفرق (4) ، ثمَّ ساق الاَدلة على ذلك.
وقد علّل عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً أي عدم جواز السهو والخطأ عليه بقوله قدس سره : ( إنّه لو جاز عليه السهو والخطأ ، لجاز ذلك في جميع أقواله وأفعاله ، فلم يبق وثوق باخباراته عن الله تعالى ، ولا بالشرائع والاديان ، لجواز ان يزيد فيها وينقص سهواً ، فتنتفي فائدة البعثة.
ومن المعلوم بالضرورة : ان وصف النبي بالعصمة ، أكمل وأحسن من وصفه بضدها ، فيجب المصير إليه ، لما فيه من دفع الضرر المظنون ؛
____________
(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد|الطوسي ، تعليق الشيخ حسن زاده آملي : 349 ، مؤسسة النشر الاِسلامي.
(2) المصدر نفسه : 264.
(3) المصدر نفسه : 349.
(4) المصدر نفسه : 264.

( 27 )

بل المعلوم ) (1).
وقال في « نهج المسترشدين » : ( إنّه لا يجوز أن يقع منه الصغائر والكبائر لا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً في التأويل.
ويجب ان يكون منزّهاً عن ذلك كلّه من أول عمره إلى آخره ).
وقال الفاضل المقداد قدس سره : ( وأصحابنا حكموا بعصمتهم مطلقاً قبل النبوة وبعدها عن الصغائر والكبائر عمداً وسهواً ، بل وعن السهو مطلقاً ، ولو في القسم الرابع ، ونقصد به الافعال المتعلّقة بأحوال معاشهم في الدنيا مما ليس دينياً ) (2).
وقال الشيخ بهاء الدين في جواب « المسائل المدنيات » : ( عصمة الاَنبياء والاَئمة عليهم السلام من السهو والنسيان ، مما انعقد عليه اجماعنا )(3).
وقال الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي قدس سره : ( وأما علم الحديث فهو من أجلَّ العلوم قدراً وأعلاها رتبة وأعظمها مثوبة بعد القرآن ، وهو ماأُضيف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الاَئمة المعصومين ، قولاً أو فعلاً أو تقريراً أو صفة حتى الحركات والسكنات واليقظة والنوم ) (4) ، وهذا ظاهر بالشمول التام.
____________
(1) الرسالة السعدية|العلامة الحلي : 76.
(2) ارشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين|الفاضل السيّوري : 304.
(3) نقلاً عن كتاب « التنبيه بالمعلوم »|الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي ، تحقيق محمود البدري : 59 مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي.
(4) منية المريد في آداب المفيد والمستفيد|الشهيد الثاني : 191.

( 28 )

وقال العلاّمة المجلسي صاحب البحار قدس سره : ( اعتقادنا في الاَنبياء والرسل والاَئمة ، والملائكة عليهم السلام أنهم معصومون ، مطهّرون من كلِّ دنس ، وانّهم لايذنبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً ، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم ، واعتقادنا فيهم انّهم موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل أمورهم الى أواخرها ، لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا جهل ) (1).
وقال في موقع آخر : ( العمدة في ما اختاره أصحابنا من تنزيه الاَنبياء والاَئمة عليهم السلام من كل ذنب ودناءة ومنقصة قبل النبوة وبعدها قول ائمتنا عليهم السلام بذلك المعلوم لنا قطعنا باجماع أصحابنا رضوان الله عليهم مع تأييده بالنصوص المتظافرة حتى صار ذلك من قبيل الضروريات في مذهب الاِمامية ، وقد استدل عليه أصحابنا بالدلائل العقلية وقد أوردنا بعضها في شرح كتاب الحجة ، ومن أراد تفصيل القول في ذلك فليرجع إلى كتاب ( الشافي ) و ( تنزيه الاَنبياء ) وغيرهما من كتب أصحابنا.
والجواب ، مجملاً عمّا استدل به المخطؤون من اطلاق لفظ العصيان والذنب فيما صدر عن آدم عليه السلام هو انّه لمّا قام الدليل على عصمتهم نحمل هذه الاَلفاظ على ترك المستحب والاَولى ، أو فعل المكروه مجازاً ، والنكتة فيه كون ترك الاَولى ومخالفة الاَمر الندبي
____________
(1) بحار الانوار|المجلسي 11 : 72 باب عصمة الاَنبياء عليهم السلام.
( 29 )

وارتكاب النهي التنزيهي منهم مما يعظم موقعه لعلو درجتهم وارتفاع شأنهم ) (1).
وقال الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي : ( ذكر السهو في هذا الحديث وأمثاله ـ يقصد حديث السهو ـ محمول على التقية في الرواية ، كما أشار إليه الشيخ وغيره ، لكثرة الادلة العقلية والنقلية على استحالة السهو عليه مطلقاً.
ثم انظر في رسالته الموسومة بـ « التنبيه بالمعلوم » أو ( البرهان على تنزيه المعصوم من السهو والنسيان ) تجد ما يدحض به الرأي الشاذ في ذلك.
وتحت عنوان ( في جملة من عبارات علمائنا وفقهائنا المصرّحين بنفي السهو عن النبي والاَئمة عليهم السلام في العبادات وغيرها ) كتب الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي ، صاحب « وسائل الشيعة » : ( إنّ علمائنا وفقهاءنا قد صرّحوا بذلك في أكثر كتبهم في الفروع ، وصرّحوا في جميع كتب الاصول بنفي السهو عنهم عليهم السلام على وجه العموم والاطلاق الشامل للعبادة وغيرها ، وأوردوا أدلة كثيرة شاملة للعبادة ) (2).
وأورد أقوال شيخ الطائفة الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتبه المختلفة ، والشيخ المفيد ، والمحقق الحلي في « المختصر النافع » ، والعلاّمة الحلي ، والفاضل المقداد ، والشيخ البهائي ، والشيخ
____________
(1) بحار الاَنوار 11 : 91.
(2) التنبيه بالمعلوم ( البرهان على تنزيه المعصوم عن السهو والنسيان ) : 47 تحقيق محمود البدري ، اصدار مركز النشر لمكتب الاعلام الاسلامي ط1.

( 30 )

الشهيد الاَول ، والمحقق الطوسي ، وأخيراً قول السيد ابن طاووس (1).
والحق عندنا معاشر الاِمامية وجوب العصمة في الملائكة والاَنبياء والاوصياء عليهم السلام ، في تمام العمر مطلقاً سواء كان فيما يتعلق بالاعتقاد ، أو فيما يتعلق بالتبليغ ، أو فيما يتعلق بالفتوى ، أو فيما يتعلق بالاحوال والافعال ، صغائر كانت أو كبائر ، ولا يجوز السهو والنسيان عليهم (2).
وقال الشيخ محمد رضا المظفر قدس سره : ( ونعتقد ان الاَنبياء معصومون قاطبة ، وكذلك الاَئمة عليهم جميعاً التحيات الزاكيات.
وقال بعد ذلك : ونعتقد ان الاِمام كالنبي يجب ان يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ، ما ظهر منها وما بطن ، من سنّ الطفولة إلى الموت ، عمداً وسهواً.
كما يجب ان يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان ، لاَنّ الاَئمة حفظة الشرع ، والقوّامون عليه ، حالهم في ذلك حال النبي ، والدليل الذي اقتضانا ان نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا ان نعتقد بعصمة الأئمة بلافرق (3)عث.
وقال الشيخ الآملي : ( الحق ان السفير الالهي مؤيّد بروح القدس ، معصوم في جميع أحواله وأطواره وشؤونه قبل البعثة ، أو بعدها.
____________
(1) التنبيه بالمعلوم : 47 ـ 65.
(2) شرح الاسماء الحسنى|السبزواري 2 : 37.
(3) عقائد الاِمامية : 313 باب عقيدتنا في عصمة الاِمام ، ط مؤسسة الاِمام علي عليه السلام.

( 31 )

فالنبي معصوم في تلقي الوحي وحفظه وابلاغه ، كما انّه معصوم في أفعاله مطلقاً بالاَدلة العقلية والنقلية.
فمن اسند إليه الخطأ فهو مخطئ ، ومن اسند إليه السهو فهو أولى به.
ونقل الروايات والاخبار ، بل الآيات القرآنية في ذلك ، يؤدي إلى الاسهاب ، وتنزيه الاَنبياء لعلم الهدى السيد المرتضى اغنانا عن ورود البحث عن هذه المسائل ) (1).
____________
(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد|الشيخ حسن زاده آملي : 593.
( 32 )


( 33 )

الفصل الثالث

الاَدلة العقلية على العصمة


توطئة خاصة :
قال الاِمام أبو عبدالله الصادق عليه السلام : « إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا ، وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً ، لم يجز أن يشاهده خلقه ، لا يلامسهم ولا يلامسوه ، ولا يباشرهم ولا يباشروه ، ولايحاجّهم ولا يحاجّوه. فثبتَ أنّ له سفراء في خلقه وعباده ، يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه. ثبت عند ذلك أنّ له معبرين ، وهم الاَنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء ، مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس في أحوالهم ، على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب » (1).
____________
(1) التوحيد|الشيخ الصدوق قدس سره : 249.
( 34 )

ولعلّه من هنا وممّا على شاكلته ، استفيدت مقدّمات ما جعلوه بياناً وأسّسوا عليه قاعدة متينة تسمى بقاعدة « اللطف » وخلاصة ذلك :
أنّه تعالى لا يشاهده خلقه ، ولا يلامسهم ، ولا يلامسوه ، ولا يحاجّهم ، ولا يحاجّوه ، إذن لابدّ من وجود سفراء له في خلقه وعباده.
وهؤلاء هم الذين يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم ، وفي تركه فناؤهم ، فثبت حينئذٍ الآمرون والناهون ، عن الحكيم العليم في خلقه.
ولذا قد ورد : « إنّ الخلق لمّا وقفوا على حدٍّ محدود ، وامروا ان لا يتعدّوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم ، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلاّ بأن يجعل عليهم أميناً يأخذهم بالوقف عندما أُبيح لهم ، ويمنعهم من التّعدّي والدخول فيما حظر عليهم ، لاَنّه لو لم يكن ذلك لكان أحدٌ لا يترك لذَّته ومنفعته لفساد غيره ، فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد ، ويقيم فيهم الحدود والاَحكام.
و ـ إنّا لا نجد فرقةً من الفرق ولا ملّةً من الملل بقوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس لما لابدّ لهم منه في أمر الدين والدنيا ، فلم يجز في حكمة الحكيم ان يترك الخلق ممّا يعلم انّه لابدّ لهم منه ، ولا قوام لهم إلاّ به » (1).
____________
(1) بحار الاَنوار|المجلسي 3 : 19 عن الاِمام علي بن موسى الرضا عليه السلام.
( 35 )

ومنه يجب ان يكون هؤلاء لكي تتمّ الحكمة من سفارتهم صفوته من خلقه ، وإلاّ لكان هناك ترجيحٌ بلا مرجّح ، أو تقديمٌ لمفضول على فاضل ، وهو منافٍ للحكمة. وهؤلاء حكماء ، قد ادّبهم الباري عزّ وجلّ بآدابه فبُعثوا بالحكمة كما كانوا هم من أهلها وسادتها. ويجب أن يكونوا بصراء مطيعين لله تعالى لا يشركون به طرفة عينٍ ولا أقلَّ من ذلك ولا أكثر. ويجب ألاّ يكونوا كاذبين وإلاّ لانتفت الحكمة في بعثهم ، إذ سيتردد الناس في قبول قولهم ، ولا يصلح أن يكونوا أدلاّء على طريقه. وهؤلاء يجب أن يكونوا من جنس البشر وطينتهم حتى يكونوا مثالاً حيّاً للائتمام بهم. واختصاراً لكلِّ الصفات الكاملة المجتمعة في ذاته المقدّسة نقول إنّه يجب أن يكون معصوماً.
وبما انّ العصمة ، ليست من الامور الظاهرة والواضحة ، بل من الامور غير المدركة للبشر ، إذن لابدّ وان يُشار إليها ، بالطرق الثلاثة الآتية أو ببعضها :
أ ـ بالعقل.
ب ـ بالنقل بالاضافة إليه.
جـ ـ أو بالاعجاز لاثبات منصبه ، ومن إثبات المنصب تثبت له بالملازمة.
ويتأكد العنصر الثالث ، إذ لابدّ من إعجاز يظهر لتأييد صدق مدّعي السفارة ، وإلاّ لادّعاها كلُّ أحد. ولابدّ ان يفهم أهل عصر السفير أنّ ذلك
( 36 )

إعجازٌ ، فلذا كانت المعاجز مختلفة باختلاف العصور.
والرعاية شاملةٌ لكلِّ البشرية من أولها إلى آخرها لا يختص ذلك بزمانٍ دون زمان. ولكن نعلم علم اليقين أنّه لا نبيّ بعد نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّ المنكر لذلك لا يعدّ مسلماً أصلاً ، إذ إنَّ ذلك من ضروريات الدين ، فمنكره منكر للضروري ، ومنكر الضروري كافر. فاذن لابدّ من وجود سفير لله ، ولا يكون نبيّاً ، وذلك هو الذي نعبّر عنه « بالاِمام ».
ونحصر البحث في الاِمامة عند المسلمين إذ إنّه « لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً أميناً حافظاً مستودعاً لدرست الملّة ، وذهب الدين ، وغُيّرت السُنّة والاَحكام ، ولزاد فيه المبتدعون ، ونقص منه الملحدون ، وشبّهوا ذلك على المسلمين ؛ لاَنّا وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم ، وتشتّت انحائهم ، فلو لم يجعل لهم قيّماً حافظاً لما جاء به الرسول ، فسدوا على نحو ما بيّنّا ، وغُيِّرت الشرائع والسنن ، والاَحكام ، والايمان ، وكان ذلك فساد الخلق أجمعين » (1).
ولذا قالوا : ( لمّا أمكن وقوع الشرّ والفساد وارتكاب المعاصي من الخلق ، وجب في الحكمة وجود رئيس قاهر ، آمر بالمعروف ، ناهٍ عن المنكر ، مُبين لما يخفى على الاُمّة من غوامض الشرع ، مُنفِّذ لاَحكامه ، ليكونوا إلى الصلاح أقرب ، ومن الفساد أبعد ، ويأمنوا من وقوع الشر والفساد ).
____________
(1) بحار الاَنوار|المجلسي 23 : 19 عن الاِمام علي بن موسى الرضا عليه السلام.
( 37 )

فوجوده لطف ، وقد ثبت ان اللطف واجب عليه تعالى ، وهذا اللطف يسمى إمامة ، فتكون الاِمامة واجبة ، ( ولمّا كان علّة الحاجة إلى الاِمام عدم عصمة الخلق وجب ان يكون الاِمام معصوماً ) (1).
ومن ناحية اُخرى فإنّ القرآن حق كلّه وإنّه قطعي الصدور ، إلاّ انّه ظنّي الدلالة ، فلذا سيقع الاختلاف في تأويله ، وكلُّ متأول يدعي انّه على الحق وغيره ليس عليه ، فيكون ذلك سبباً للفرقة والنزاع أكثر من التأليف والاجتماع ، وهذا منافٍ للحكمة ، إذن لابدّ من وجود مبيّن لكتابه العزيز ونعبِّر عنه بالحافظ له.
ومن جانب آخر نرى أن السُنّة النبوية كذلك ، بل ملئت كتب نقلها بأحاديث كاذبة ومُلفقة ، فما أدرانا ما الذي قاله صاحب الشرع وما الذي لم يقله ؟ خاصّةً أنّ هذه الفجوة تكبر وتكبر كلّما ابتعدنا عن مركز الرسالة الاَول ، فبذا لابدّ من وجود مبيّن ومفسّر وكاشف عنها. ومن هنا صرّح الشيخ الصدوق قدس سره بهذا الدليل في اول كلامه إذ قال :
« إنّه لمّا كان كلّ كلام ينقل عن قائله يحتمل وجوهاً من التأويل ، وكان أكثر القرآن والسُنّة مما اجمعت الفرق على انّه صحيح لم يغيّر ولم يبدّل ، ولم يزد فيه ولم ينقص منه ، محتملاً لوجوه كثيرة من التأويل ، وجب أن يكون مع ذلك مخبر صادق معصوم من تعمد الكذب والغلط ، مُنبئ عمّا عني الله ورسوله في الكتاب والسُنّة على حق ذلك وصدقه ، لاَنّ الخلق
____________
(1) تعليقة العلاّمة الاُستاذ الشيخ علي الاَنصاري على فصول العقائد للحكيم الطوسي رضي الله عنه : 35 ـ 36 ط1393 هـ.
( 38 )

مختلفون في التأويل ، كلّ فرقةٍ تميل مع القرآن والسُنّة إلى مذهبها ، فلو كان الله تبارك وتعالى تركهم بهذه الصفة من غير مخبر عن كتابه صادق فيه لكان قد سوّغهم الاختلاف في الدين ودعاهم إليه... وفي ذلك إباحة العمل بالمتناقضات والاعتماد للحق وخلافه.
فلمّا استحال ذلك على الله عزّ وجلّ ، وجب أن يكون مع القرآن والسُنّة في كلّ عصر من ينبئ عن المعاني التي عناها الله عزّ وجلّ في القرآن بكلامه... وينبئ عن المعاني التي عناها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سنته وأخباره... واذا وجب انه لابدّ من مخبر صادق وجب ان لا يجوز عليه الكذب تعمّداً ، ولا الغلط وجب ان يكون معصوماً » (1).
وبما أنّ مهمته كذلك إذن يجب ان يكون صادقاً وأميناً ، لكي يقبل منه الناس كلّ ما يبينه ويوضحه كما كان الرسول كذلك.
( وثبت عند ذلك أنّ له معبّرين هم الاَنبياء وصفوته من خلقه... ).
فالاَنبياء قد ذكر ، والاَئمة بصفوته من خلقه قد بيّنهم كذلك ، فالاَنبياء والاَئمة كلُّهم لابدّ وان يكونوا ( مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس في أحوالهم ، على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب.. ). ومن هنا نفهم وندرك جيداً معنى حديث الثقلين : « إنّي مُخَلِّفٌ فيكم الثقلين كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي... ».
وندرك كذلك لِمَ سكت ذلك الشامي عندما ناظره هشام بن الحكم رضي الله عنه
____________
(1) معاني الاَخبار|الشيخ الصدوق : 133 ـ 134 بتصرف طفيف.
( 39 )

عندما قال له هشام : يا هذا أربُّك أنظَر لخلقه أم خَلقُهُ لاَنفسهم ؟
فقال الشامي : بل ربي أنظر لخلقه.
فقال : ففعل بنظره لهم ماذا ؟ !
قال : أقام لهم حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا ، أو يختلفوا ، يتألّفُهُم ويقيم أودهم ويخبرهم بخبر ربهم.
قال : فمن هو ؟ !
قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال هشام : فبعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ ؟ !
قال : الكتاب والسُنّة
قال هشام : فهل ينفعنا اليوم الكتاب والسُنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟ !
قال الراوي ـ الذي هو يونس بن يعقوب ـ فسكت الشامي » (1).
وأخيراً نقول إنّ الاِمامة منصبٌ خاص.
ونستطيع أن نضيف : بانّ منزلة الاِمامة تساوي الاُسوة والقدوة.
فالمُقتدى به هو الاِمام ، وبما أنّه النموذج الاَمثل والاَكمل للخلافة الالهية فعليه يجب أن يكون حاوياً لكلِّ معنى الكمال الذي يمكن أن يتّصف به المخلوق ، حتّى يكون قدوةً للجميع.
____________
(1) اُنظر اصول الكافي 1 : 171 ـ 172|3. وكذلك وسائل الشيعة| الحر العاملي 27 : 177| 2 باب 13.
( 40 )

وبالخليفة يُستدلُّ على المستخلِف ، فلو كان عادلاً لاَشعر وأشار إلى عدله ، ولو كان ظالماً لبيّن ظلمه.
كما أنّ نصب الكامل أبعد للخيانة ، فالله قادرٌ لا يعجزهُ شيء ، وهو المُطّلع على عباده ، فاختياره لمن يحمل رسالته ويكون خليفته لابدّ أن يكون أتمّ خلقه ، ولا يصح أن يقع بالخيانة مهما صغرت ، إذ الله يقول وقوله الحقّ : ( إنّ الله لا يهدي كيد الخائنين ) (1).
فعليه لابدّ وأن يكون أحسن خلقه وأتمَّهم. وبذا أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسوةً لنا : ( لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة ) (2).
فالاِمام كما يظهر للمتتبع يمثل الاسوة والقدوة الالهية الكاملة للممكن سواء كان نبيّاً أم غيره.
وبهذا كلّه ظهر بعض خصائص الاِمام المعبّر عنه بالعصمة.

الاَدلة العقلية

بعد هذا الاستعراض وهذه المقدّمات نحاول أن نضع أصابعنا على الاَدلة العقلية التي تثبت العصمة لمن اختاره الله تعالى لهداية خلقه بعد إنذارهم...
____________
(1) سورة يوسف : 12|52.
(2) سورة الاَحزاب : 33|21.

( 41 )

1 ـ إنّ من يدّعي منصباً إلهيّاً لابدّ أن يظهر المعجز على يديه ، فدعوى ذلك المنصب أولاً ، وإظهار المعجز ثانياً ، فيعلم صدقه ووساطته عن الله تعالى إلى الناس.
ومقتضى هذا كلّه يجب أن يكون صادقاً وأميناً ليؤدّي رسالته على أتمّ وجه ، وأكمل صورة ، إذ يقبح عقلاً أن يبعث الله تعالى ، أو يوسِط بينه وبين خلقه من هو كاذبٌ غير أمين. وهذا واضحٌ لا غبار عليه.
فكأنّ المُعجز قد وقع وأيّد مُدّعي النبوة والرسالة والمقام الالهي. فلابدّ أن يكون مانعاً من الكذب ، لاَنّ تصديق الكذّاب قبيح. وهذا المقام الالهي بتأييده يدلُّ على الاتّباع والتصديق ، وذلك لاَنّ الغرض الامتثال لما جاء به صاحب هذا المقام.
من هنا نستكشف أنّ كلّ ما يقدحُ في صاحب هذا المقام ، يقدح في الامتثال ويزحزحه ، فلابدّ أن يكون هذا الصاحب مؤيّداً بالبُعد عن جميع ما يكون منفّراً عنه مبعّداً ، ولعلّ هذا أقرب للوقوع من إظهار المعجز ، إذ إظهار المعجز لقبول قوله ، فكلّ ما يؤيِّد هذا القبول ويقوّيه يُرَجّحُ وقوعه ، وهذا كلُّه ممكن وشرائطه واضحة طبيعية ، فهو أولى للتصديق من اختراق القوانين الكونية والنواميس الطبيعية لتأييد هذا الوسيط ليكون بذلك كلّه الامتثال أقرباً. إذ إنّ النفس لا تميل لمرتكب كلّ ما يكون منفراً.
وبعبارة أوضح نقول : إنّ مدّعي الوساطة لابدّ أن يكون خالياً من السخف ، والجنون ، والخلاعة.. الخ. ونضيف إلى ذلك الذنوب كلّها ، وبالخصوص الكبائر منها ، فإنّها أوضح للقبول ، ولذا عبّر من عبّر ، وأصاب
( 42 )

فيما عبّر ( انّ حظّ الكبائر في هذا الباب إن لم يزد عن حظّ السخف والجنون والخلاعة ، لم ينقص منه ) (1).
فإذا تمَّ هذا يظهر أنّ كلّ ما هو منفرٌ يجب أن لا يتّصف به الوسيط ، رعاية من الله تعالى لنا ، ليقرِّبنا إلى الطاعة أكثر ، ويبعدنا عن المعصية (2).
فإذا سلّمنا بهذا نقول : إنَّهم اختلفوا في عدد الكبائر ، بل في حدود الكبيرة ، فبعضٌ قد رواها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعة ، ورووا انّ ابن عمر زادها اثنين ، وابن مسعود زاد عليها ثلاثة. كما أنّ كثيراً من عظائم الذنوب ليس في ما ذكروه وسطّروه.
وقد اختلفوا كذلك في تحديد الكبيرة ، فقالوا : هي الذنب الذي واعد الله تعالى عليه النار في القرآن ، وبعضهم قال : إنّ الكبائر من الذنوب هي التي عُدّت كبائر في الاَخبار (3). بل بعضهم صرَّح أنّه ليس هناك كبيرة ولاصغيرة بل كلّها كبائر.
وكلّ هذا لا مدخلية له في بحثنا عند التمعّن بشيء ، وذلك لاَنّ الذي يهم ، هو ما كان مُنفّراً للخلق من الوسيط ، وما كان مبعّداً للوسيط من الخالق ، فاذا رضينا بذلك وقنعنا به ، يكون حينئذٍ حال الذنوب
____________
(1) بحار الانوار|المجلسي 11 : 92.
(2) وهذا من أساسيات قاعدة اللطف ، فقد حدَّ القوم اللّطف : بأنّه هبة مقربة إلى الطاعة ، ومبعدة عن المعصية ، ولم يكن لها حظٌّ في التمكين ، ولم تبلغ به الهبة حدَّ الالجاء. راجع كتاب العقائد من أنوار الملكوت في شرح الياقوت : 153.
(3) راجع : الكافي في كتاب الايمان والكفر ، باب الكبائر ، والوسائل 11 : 45 من أبواب جهاد النفس.

( 43 )

كلّها واحداً.
ولو دققنا في الاَمر أكثر لرأينا أن هناك ذنباً أي معصية ، وعاصياً ، ومن قد عُصي ، فمن جهة نفس المعصية رأينا الاختلاف في الكبيرة والصغيرة ، وحدودهما. ومن جهة العاصي رأينا علو مقامه ، وحسّاسيّة ذلك المقام فعلمنا أنّه من المقربين ، وإذا سلّمنا بأنّ حسنات الاَبرار سيئات المقرّبين ، علمنا ما يُفيده ذنب المقرب سواء كان صغيراً أو كبيراً بما أنّه مقرّب ، إذ إنّ ما يُعدُّ حسنةً في مقام يُعدُّ له ذنباً وسيئة ، فكيف بالذنب والمعصية.
ومن جهة ثالثة نظرنا إلى الذي عُصِيَ فرأيناهُ عظيماً فعظُمت معصيته أيّاً كانت ، ولذا جاء في الاَثر : « لا تنظروا في صغر الذنوب ، ولكن انظروا على من اجترأتم » (1).
من هذه الجهات الثلاث نرى انّ استبعاد بل امتناع صدور المعصية من صاحب هذا المقام أقرب للقبول ، بل هو عين الواقع ، إذ حاله يختلف عن حالنا جزماً.
ومن هنا يظهر معنى قول الشيخ المفيد قدس سره : ( وإنّه ليس في الذنوب صغيرة في نفسه ، وإنّما يكون فيها بالاضافة إلى غيره ) (2).
كما أننّا لو دقّقنا النظر لرأينا أنّ النفس تسكن للذي لم تصدر منه المعصية أصلاً أكثر ممن صدرت منه ، سواء تاب عنها أم لا ، والمثل الذي
____________
(1) كنز العمال 4 : 229|10294. ووسائل الشيعة|الحر العاملي 11 : 247|13.
(2) أوائل المقالات|الشيخ المفيد 4 : 83.

( 44 )

نضربه يُقرِّبُ هذا المعنى ويجعله أوضح : « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » (1) ، إذ لو لم يكن أعلا منه منزلة لما شُبّه به ، فإذا ثبت هذا : ( أمكن التمسّك في إثبات ما ذهب إليه أصحابنا من تنزيههم « صلوات الله عليهم » عن كلِّ منقصة ، ولو على سبيل السهو والنسيان من حين الولادة إلى الوفاة بالاجماع المركب ) (2).
إذ العلماء بين قائل بعصمتهم كذلك مطلقاً. وبين قائل بعصمتهم من الكبائر ، واختلفوا بالصغائر ، وبين قائل بعصمتهم من الكبائر في حال دون حال. فإذا ثبتت عصمتهم من الكبائر والصغائر يتعيّن القول الاَول. إذ لا قائل بعصمتهم منهما معاً ويشكّك بمقام دون مقام.
2 ـ لو صدر ذنب منه لزم اجتماع الضدين ، فيجب إطاعته لاَنّ مقامه يقتضي هذا ، ويجب عصيانه لاَنّ ما جاء به ذنب. بل يجب منعه ، والانكار عليه ، بل ردعه وحتى زجره لكي يترك ذلك الذنب ، فلربما يولّد ذلك الايذاء له ، وإيذاؤه كما نعلم حرام بالاجماع ، ولقوله تعالى : ( إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ) (3).
3 ـ كما أنّه لو أذنب كان فاسقاً ، فيجب أن تُردَّ شهادته ، للاجماع ، ولقوله تعالى : ( إنّ جاءكم فاسقٌ بنبأ... ) (4). فيلزم حينئذٍ أن يكون أدون
____________
(1) كنز العمال 4 : 207|10174 وغيره.
(2) بحار الانوار|المجلسي 11 : 92.
(3) سورة الاَحزاب : 33|57.
(4) سورة الحجرات : 49|6.

( 45 )
من آحاد الاُمّة.
4 ـ وبعصيانه يكون من حزب الشيطان ، فيلزم منه خسرانه ، إذ قال تعالى : ( ألا انّ حزب الشيطان هم الخاسرون ) (1). وهو باطل بالضرورة.
5 ـ وكما قدّمنا فإنّ حسنات الاَبرار سيئات المقربين ، فعلى هذا يكون حظُّه أقلّ مرتبة من أقلّ أحد من أفراد الاُمّة. بل قد يلزم منه استحقاقه للعذاب ، قال تعالى : ( ومن يعصِ الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين ) (2). ومن هذه الآية بالذات يظهر لنا جليّاً أنّ الرسول لا يعصي أصلاً ، فحدوده هي الله ورسوله ، ولا يمكن أن يكون المُحدَّدُ خارجاً عن الحدّ.
6 ـ وقد يستحق اللعن ، إذ بتعديه للحدود يكون ظالماً ، والله تعالى يقول : ( ألا لعنة الله على الظالمين ) (3)وهو باطل بالضرورة ، والاجماع.
7 ـ ويشمله التهوين في قوله تعالى : ( أتأمرون الناس بالبرِّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) (4).
____________
(1) سورة المجادلة : 58|19.
(2) سورة النساء : 4|14.
(3) سورة الهود : 11|18.
(4) سورة البقرة : 2|44.