الفصل الرابع

أدلة العصمة من الكتاب والسُنّة


المبحث الاَول : أدلة العصمة من القرآن :
1 ـ قال تعالى : ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ( 1 ).
( دلّت الآية ـ كما قال القرطبي ـ على انّ الله عزَّ وجلَّ لا يُخلي الدنيا في وقت من الاوقات من داع يدعو إلى الحق ) (2).
وقال الجبائي : ( هذه الآية تدلُّ على أنّه لا يخلو زمان ألبتّة عمّن يقوم بالحق ، ويعمل به ، ويهدي إليه ، وانّهم لا يجتمعون في شيء من الازمنة على الباطل... ) (3).
فعليه يمكن ان يقال بأنّ هذه الاُمّة آخر الاُمم ، وانّه لابدّ ان يبقى منها من يقوم بأوامر الله ، حتى يأتي أمر الله.
____________
(1) سورة الاعراف : 7|181.
(2) الجامع لاحكام القرآن|القرطبي 7 : 329.
(3) التفسير الكبير|الفخر الرازي 15 : 76 ـ 77.

( 66 )

وقال السيد الطباطبائي في « ميزانه » : ( تدل على انّ النوع الانساني يتضمن طائفة قليلة أو كثيرة مهتدية حقيقة ، إذ الكلام في الاهتداء والضلال الحقيقيين المستندين إلى صنع الله ومن يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فاولئك هم الخاسرون ، والاهتداء الحقيقي لا يكون الا عن هداية حقيقية ، وهي التي لله سبحانه ، وقد تقدم في قوله تعالى : ( فان يكفر بها هؤلاء فقد وكلّنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ) (1) ، وغيره. ان الهداية الحقيقية الالهية لا تتخلف عن مقتضاها بوجه ، وتوجب العصمة من الضلال ، كما ان الترديد الواقع في قوله تعالى : ( أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ ان يُتَّبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يُهدى ) (2). يدل على انّ من يهدي إلى الحقّ يجب ان لا يكون مهتدياً بغيره إلاّ بالله.
وعلى هذا فإسناد الهداية إلى هذه الاُمّة لا يخلو عن الدلالة على مصونيتهم من الضلال ، واعتصامهم بالله من الزيغ إمّا بكون جميع هؤلاء المشار إليهم بقوله : ( اُمّة يهدون بالحق ) متصفين بهذه العصمة والصيانة كالانبياء والاوصياء ، وإما تكون بعض هذه الاُمّة كذلك ، وتوصيف الكل بوصف البعض نظير قوله تعالى : ( ولقد آتينا بني اسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ) (3) ، وقوله تعالى : ( وجعلكم ملوكاً ) ( 4 ) ، وقوله : ( لتكونوا
____________
(1) سورة الانعام : 4|89.
(2) سورة يونس : 10|35.
(3) سورة الجاثية : 45|16.
(4) سورة المائدة : 5|20.

( 67 )

شهداء على الناس ) (1)وانّما المتصف بهذه المزايا بعضهم دون الجميع )(2).
وبناءً على كلِّ ما تقدّم نستخلص وجود من يهدي إلى الحقّ ولايجتمع مع الباطل أصلاً في جميع الازمنة ، ولا يمكن بناءً على هذا ان يظهر المصداق لهذه الآية المباركة إلاّ على ما نقول به من وجود الاِمام المعصوم في كلِّ وقت.
فالذي يهدي بالحق وبه يعدل لابدّ ان يكون معصوماً كما تقدم ، إمّا اشارة إلى امة معصومة بالذات ، أو إلى الاُمّة المرحومة جميعاً بالاضافة إلى وجود المعصوم فيها في كلِّ وقت.
2 ـ ( والنجم إذا هوى * ما ضلَّ صاحبكم وما غوى ) (3).
فالضلال منفي عنه ، والغواية منفية عنه. ومن معاني الضلال التي أشار إليها القرآن الكريم : النسيان ، قال تعالى : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشهداء ان تضلَّ إحداهما فتذكّر إحداهما الاُخرى ) (4). ( يريد لئلاّ تنسى إحداهما فسمّى النسيان ضلالاً ، وذلك معروف في اللغة ) (5).
____________
(1) سورة البقرة : 2|143.
(2) الميزان|الطباطبائي 8 : 345 ـ 346.
(3) سورة النجم : 53|1 ـ 2.
(4) سورة البقرة : 2|282.
(5) مصنفات الشيخ المفيد ( كتاب الجمل ) 1 : 104.

( 68 )

وقال تعالى : ( وعصى آدمُ ربَّهُ فغوى ) (1). فسمى سبحانه المعصية هنا غواية. والغواية تأتي في اللغة بمعنى الخيبة ، وهنا اطلقت لخيبة آدم من ثواب كان مقدّراً له.
قال الشاعر :
ومن يلق خيراً يحمد الناس أمرهُ * ومن يغو لا يُـعدم على الـغي

فحينئذ لو أدركنا انّ من معاني الضلال النسيان وان من معاني الغواية المعصية والخيبة نرى أنَّ الباري عزَّ وجلّ قد نفى النسيان والمعصية والخيبة عن نبيه الكريم باطلاق قوله سبحانه : ( والنجم إذا هوى * ما ضلَّ صاحبكم وما غوى ).
3 ـ وآيات الاتّباع والاسوة لابدّ ان تكون دالة على العصمة وإلاّ لاُمرنا باتّباعه والتأسي به حتى عند خطئه وسهوه وهو كما ترى.
مثل قوله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) (2).
وقوله تعالى : ( ورحمتي وسعت كلَّ شيء فساكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذّين يتّبعون الرسول النبيَّ الاُمي ) (3).
وقوله تعالى : ( قُلْ إن كنتم تحبونَ الله فاتبعوني يحببكم الله ) (4).
____________
(1) سورة طه : 20|121.
(2) سورة الاحزاب : 33|21.
(3) سورة الاعراف : 7|156 ـ 157.
(4) سورة آل عمران : 3|31.

( 69 )

وقوله تعالى : ( فآمنوا بالله ورسوله النبيّ الاُمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتّبعوه لعلّكم تهتدون ) (1).
وكذلك آيات الاطاعة الكثيرة سواء كانت مقرونة مع طاعة الله تعالى أو منفصلة بل انّ لسانها كلها ( من يُطعِ الرسول فقد أطاع الله ) (2) ، فيجب ان يكون معصوماً مطلقاً كما هو واضحٌ بلا مزيد بيان.
4 ـ وقوله تعالى : ( وما ينطق عن الهوى * إنْ هو إلاّ وحيٌ يوحى ) (3).
( دلّت على ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق إلاّ عن وحي ، فيستحيل ان يُسَلِّم في الصلاة في غير محلّه ، ثمّ يتكلم قبل تمام صلاته ، ثمّ يُكذِّب ذا الشمالين ، وهو صادق على قولكم ، ثمّ يعترف بخطئه ، وكلّ ذلك ينافي مدلول الآية ) (4).
وقد دلّ السياق للآيات المباركة مع ورود النطق وقد ورد عليه حرف النفي انّ النطق مطلقاً منفي منه الهوى لا خصوص القرآن الكريم ، فلا قرينة هناك مخصّصة لا مقامية كما مال إليه بعضهم ، ولا مقالية ، فتأمل.
فدلّ على نفي الهوى عن نُطقه مطلقاً ، وان مطلق نطقه وحيٌّ يوحى ، إلاّ إذا قام الدليل على خلافه ، والاَدلة الاُخرى تعضده ، فحينئذٍ توجد قرائن خارجية كثيرة تفيد ذلك فكيف تصرفها عن الظاهر ونقول من انّها
____________
(1) سورة الاعراف : 7|158.
(2) سورة النساء : 4|80.
(3) سورة النجم : 53|3 ـ 4.
(4) التنبيه بالمعلوم|الشيخ الحر العاملي : 77.

( 70 )

في مقام بيان انّ القرآن من الوحي ؟ !!
5 ـ ويمكن ان يستشف من قوله تعالى : ( إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) (1).
( الاصطفاء والاجتباء والاختيار نظائر ، وهو افتعال من الصفوة ، وهذا من أحسن البيان الذي يُمثَّل به المعلوم بالمرئي.
وذلك انّ الصافي هو النقي من شوائب الكدر فيما يشاهد ، فمثَّل الله خلوص هؤلاء القوم من الفساد ظاهراً وباطناً بخلوص الصافي من شوائب الادناس ) (2).
وبقرينة الآية المباركة : ( الحمد لله ربِّ العالمين ) وتكرارها في مواضع عدّة من كتابه بهذه الصيغة نستدلُّ على انّ العالمين جمع عالم ، وهو كل ما خلقه الله تعالى فيشمل ، عالم الملائكة ، وعالم الجن ، وعالم الاِنسان ، وعالم الحيوان ، وعالم النبات ، وعالم الجماد ، أو أي عوالم أُخرى يمكن تصورها.
والملائكة كما نعلم من المعصومين على أصحّ الاقوال ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمَرون ) (3).
ومن هذه الآية نستدل على انّ الاَنبياء والاَئمة عليهم السلام أفضل حتى من
____________
(1) سورة آل عمران : 3|33.
(2) مجمع البيان|الطبرسي 3 : 433 في تفسير هذه الآية المباركة.
(3) سورة التحريم : 66|6.

( 71 )

الملائكة ؛ ( لاَنّ العالمين يعم الملائكة وغيرهم من المخلوقات ، والله سميع لما تقوله الذرية ، عليم بما يضمرونه فلذلك فضلّهم على غيرهم لما في معلومه من استقامتهم في أفعالهم وأقوالهم ) (1).
بل من هذا السياق نستدل على ان نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء رحمة ليس للناس فقط بل حتى للجماد والحيوان والجن والانس بل حتى للملائكة ، فهو رحمة لكلِّ ما خلق الله ويخلق بدليل قوله تعالى : ( وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين ) (2) ، ومن كانت هذه صفاته بالخصوص ، ومن كانت تلك صفاتهم بالعموم مع تفضلهم على خلق الله تعالى ومن جملتهم المعصومين الذين هم الملائكة الذين منهم سُجّدٌ لا يركعون ، ورُكّعٌ لا يسجدون قد مُلئت السموات والاَرض منهم وعن العبادة لا يفترون..
كيف يتصوّر ان يكون ( الرحمة ) لهم غافلاً عن ذكر الله ، أو فاتراً عنه ، ولو للحظة واحدة ، حتى ولو كان سهواً ، وهذا الدليل الاخير بالخصوص مختصٌ بنبينا وآله عليهم السلام.
ألا نستشف من ذلك عصمتهم بالاضافة إلى نكاتٍ اُخرى لا تخفى على اللبيب ؟
6 ـ قوله تعالى : ( سنقرئك فلا تنسى ) (3).
____________
(1) مجمع البيان 3 : 433.
(2) سورة الانبياء : 21|107.
(3) سورة الأعلى : 87|6.

( 72 )

( وهي عامة ، فانّ المفعول لا يتعين تقديره بالقراءة ، ولا قائل بالفرق بين ماقبل نزول الآية ، وقبل القراءة ، وما بعدها ، فالفارق خارقٌ بالاجماع )(1). وهذه « اللاّ » ليست ناهية ، بدليل عدم حذف حرف العلة ، فهي إذن نافية فيثبت المطلوب.
7 ـ قوله تعالى : ( وتعيها أذنٌ واعية ) (2).
روى الطبرسي وغيره من طرق العامّة والخاصّة انّها نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام ، وانه قال : « ما سمعتُ شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنسيتُه » (3).
وهذا عام مطلقٌ في التبليغ وغيره ، فيستحيل النسيان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطريق الاَولوية (4).
8 ـ قوله تعالى : ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله انّ الله شديد العقاب ) (5).
قال صاحب الميزان : والآية مع الغضّ عن السياق عامّة تشمل كلَّ ماآتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حكم فأمر به ، أو نهى عنه. وقوله : ( واتقوا الله إنّ الله شديد العقاب ) تحذير لهم عن مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأكيداً لقوله : ( وما
____________
(1) التنبيه بالمعلوم|الشيخ الحر العاملي : 78.
(2) سورة الحاقة : 69|12.
(3) مجمع البيان|الطبرسي ، في تفسير هذه الآية المباركة.
(4) التنبيه بالمعلوم|الشيخ الحر العاملي : 77.
(5) سورة الحشر : 59|7.

( 73 )

آتاكم الرسول... ) (1).
بل ورد ( في الكافي باسناده عن زرارة انّه سمع أبا جعفر وأبا عبدالله عليهما السلام يقولان : « إنّ الله عزَّ وجلَّ فوّض إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أمر خلقه ، لينظر كيف طاعتهم ، ثم تلى هذه الآية ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) » ، والروايات عنهم عليهم السلام في هذا المعنى كثيرة ، والمراد بتفويضه أمر خلقه كما يظهر من الروايات امضاؤه تعالى ما شرّعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، وافتراض طاعته في ذلك ، وولايته أمر الناس ) (2).
9 ـ قال تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربُّه بكلمات فأتمهنَّ قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) (3).
يمكن البحث في دلالة هذه الآية المباركة كما يلي :
المحور الاَول : في معنى الظلم والظالمين نجد في القرآن الكريم إضافة إلى هذه الآية موارد كثيرة : قال تعالى : ( ... والكافرون هم الظالمون ) (4) ، وقال تعالى : ( فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فاولئك هم الظالمون ) (5) ، وقال تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك
____________
(1) الميزان|الطباطبائي 19 : 204.
(2) الميزان 19 : 210.
(3) سورة البقرة : 2|124.
(4) سورة البقرة : 2|254.
(5) سورة آل عمران : 3|94.

( 74 )

هم الظالمون ) (1) ، وقال تعالى : ( إنّ الشرك لظلمٌ عظيم ) (2) ، وقال تعالى : ( إنّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الاَرض بغير الحق اولئك لهم عذاب أليم ) (3) ، ويمكن ان يكون الاِنسان ظالماً لنفسه ، قال تعالى : ( فمنهم ظالمٌ لنفسه ) (4) ، وقال تعالى : ( ومن ذريّتهما محسن وظالم لنفسه مبين ) (5) ، وقد بيّن كيفية ظلم الاِنسان لنفسه بقوله تعالى : ( ومن يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه ) (6) ، وقال تعالى : ( ومن يتعدَّ حدود الله فاولئك هم الظالمون ) (7).
مؤدى الآيتين الكريمتين الاخيرتين يجب ألاّ يراد التعدي لحدود الله مطلقاً ، أي سواء كان التعدي عن عمدٍ أم سهو ، لاَنّه اذا تعدى حدود الله تعالى عمداً فواضح ، وإذا تعدى سهواً ، فهو متعدٍ ظالم لنفسه ، إلاّ انه معذور فالعقوبة ترتفع إلاّ أنّ الظلم يبقى حتى وإن كان معذوراً.
وبه يظهر ان الاِمام يجب ألا يكون مخطئاً أصلاً ، وإلاّ لكان ظالماً في ذلك المصداق بالذات ، فيشمله انه من الظالمين ، فلا يمكن ان يناله عهد الله تعالى ، فيجب ان يكون معصوماً مطلقاً.
____________
(1) سورة المائدة : 5|45.
(2) سورة لقمان : 31|13.
(3) سورة الشورى : 42|42.
(4) سورة فاطر : 35|32.
(5) سورة الصافات : 37|113.
(6) سورة الطلاق : 65|1.
(7) سورة البقرة : 2|229.

( 75 )

المحور الثاني : قال تعالى : ( يوم يعضُّ الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا )(1).
فهذه الآية تُظهر لنا انَّ الظالم في جهة ، وفي الجهة الاُخرى يكون الرسول ، فعليه لا يمكن ان يكونا في مصداقٍ واحد جزماً. ومنه نستشف انَّ الرسول يجب الا يكون ظالماً أصلاً ، ولو نوقش في هذا ، فالمحور الثالث ينجلي فيه الامر أكثر وأنصع.
المحور الثالث : قال إبراهيم عليه السلام : ( ومن ذُريتي... ) طلب هذا الاَمر الجليل لبعض ذريته ، ولابدّ وان يكون مقصوده الذي يكون منهم مؤمناً ، فحاشاه ان يطلب هذا الاَمر الجليل لغير المؤمن كما هو واضح ، ولاَنّه خاطب أباه آزر من قبل فقال له : ( .. أتتخذ أصناماً آلهةً إنّي أراك وقومك في ضلالٍ مبين ) (2) ، فكيف يطلب هذا الامر لضال ؟ !
وقد قال كذلك عند البيت الحرام : ( ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهلهُ من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر... ) (3)فهو يدعو بالرزق للذين آمنوا خاصة ، فكيف يطلب الاِمامة لغيرهم ؟ !! هذا أولاً.
وثانياً : لابدّ وان يكون ذلك مؤمناً في حال كونه غير فاسق ، لاَنّه يعلم انّ المتلبِّس بالفسق لا يمكن ان يكون إماماً للمؤمنين ، إذ إنّه هو عليه السلام لم يحز هذا المنصب إلاّ بعد التسليم المطلق لله تعالى ، وبعد الرسالة ، والخلّة.
____________
(1) سورة الفرقان : 25|27.
(2) سورة الاَنعام : 6|74.
(3) سورة البقرة : 2|126.

( 76 )

وهذه المعاني لابدّ وان تكون موجودة في ذهنه المنار بالايمان لدرجة التسليم.
فإذا كان كذلك ، فما معنى قول الباري عزَّ وجلَّ بعد ذلك : ( لا ينال عهدي الظالمين ) إذا استثنينا الكافر والفاسق الفعلي الذي يظهر منه انّه قد أخبر بذلك ، لرفع ما ليس متبادراً ومتداعياً في ذهن الخليل عليه وعلى نبينا وآله السلام ، فبيّن له الباري عزّ وجلّ من انّ العهد لا ينال من ليس مؤمناً فحسب بل حتّى المؤمنين الخواص ، وانّ ذلك المقام لابدّ وان يكون للذي لم يرتكب ، ولن يرتكب ظلماً أبداً ، سواء كان متلبساً بالظلم ، أم لا ، مستغفراً وتائباً من ذنبه لله تعالى أم لا ، صغيراً كان أو كبيراً ، كما يُشعر بذلك ، قوله سبحانه : ( لا ينال عهدي الظالمين ) ويريد ان يبين نكتة اُخرى ، بإنَّ الظلم لا يفارق طبيعة الذرية ، والذرية مجموع ، فعليه أتى بالجمع وقال تعالى : ( لا ينال عهدي الظالمين ) ولم يقل لاينال عهدي الظالم ، هذا أولاً.
وثانياً : ليبين انّ هناك بعده باشارة لطيفة أئمة وليس إماماً واحداً ، وفي ذريته بالخصوص وإن كان هذا المعنى أبعد غوراً من ذاك.
10 ـ قال تعالى : ( اطيعوا الله واطيعوا الرسول... ) (1).
نستفيد من هذه الآية المباركة استفادات عديدة ، منها :
الاستفادة الاُولى : اطاعة الله سبحانه جاءت في الآية المباركة خالية
____________
(1) سورة النساء : 4|59.
( 77 )

من أيّ قيدٍ ، وبما انّ طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جاءت كذلك وعطفت على اطاعته تعالى ، إذاً يجب ان تكون مطابقة لها كما هو الظاهر.
الاستفادة الثانية : بما انّ الله سبحانه منبعُ العصمة ، إذاً يجب ان يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معصوماً ، وإلاّ لاختلّت الاطاعة الثانية ولما عُطِفَت على الاطاعة الاُولى كما هو ظاهر.
الاستفادة الثالثة : قوله تعالى في نهاية هذه الآية المباركة : ( فان تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ واحسنُ تأويلاً ) (1).
يظهر وجوب كون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معصوماً وإلاّ لطلب منهم ان يردّوه إلى الله فقط ، لئلا يحدث الخطأ بخطأ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما قال في نهاية الآية ( ذلك خيرٌ واحسنُ تأويلاً ) لاَنّه ان لم يكن معصوماً لاَغرانا الله بالباطل سبحانه وأدلانا به ، هذا أولاً.
وثانياً : إنّ الارجاع الى الله غير واضح على ما هو عليه ، لاَنّ الله غير ملموس ولا محسوس فالارجاع إليه ارجاع إلى حكمه ، وحكمه مستفاد من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو الذي يمثله (2).
____________
(1) سورة النساء : 4|59.
(2) وقد قال الله سبحانه : ( فان تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول ) فردُّوه إلى أن نحكم بكتابه.. « وقد بيّن الاِمام علي سلام الله عليه قبل ذلك في نفس الخطبة ، وهذا القرآن إنّما هو خطٌّ بين الدفتين لا ينطق بلسانٍ ولابدّ له من ترجمان وانما ينطقُ عنه الرجال... ». ومن أولى من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في النطق عنه. نهج البلاغة|شرح الشيخ محمد عبده : 258.

( 78 )

فقوله تعالى ( فردّوه إلى الله ) كافٍ ، أو إلى الرسول كذلك على هذا ، إلاّ انّه لم يكتف بذلك بل قال فردّوه إلى الله والرسول ، ليبين لنا ان الردَّ إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة الردّ إلى الله ، وما بينه الرسول بمنزلة ما بيّنه الله سواءً أظهر هذا الرسول وقال هذا حكم الله ، أم لم يظهر ذلك ، حتى وان قال هذا حكمي كما هو بيّن في أي أمرٍ صدر منه ، وما هذا الامرُ إلاّ العصمة.
ولعلّه لما ذكرنا لم يتكرر حرف الجر ، بل عطف الرسول على الله بدونه ، ليدلنا على عدم الاثنينية في ذلك ، بعد ان كرر لفظ الاطاعة ليؤكدها وليركزها في أذهان الذين آمنوا.
الاستفادة الرابعة : عطف أولي الاَمر على الرسول واطاعتهما على اطاعة الله يقتضي عصمتهم لما قدّمناه في عصمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
بل نقول أكثر ببركة ورود أمر واحد بالاطاعة للرسول ولأولي الاَمر فاطاعتهما واحدة ، ولذا لم يذكر أولي الاَمر مرة اخرى في نهاية الآية لاندكاكهم في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وللبيان والتوضيح اتى بهم أولاً ، وللاختصار ولبيان وحدتهم بعد أن جعل لهما اطاعة واحدة لم يذكر الا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، أخيراً وهو واضحٌ بحمد الله وبركته.
ولو جوّزنا الاّ تكون اطاعة أولي الاَمر مطلقة كما كانت اطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للزِمَ ان يكون استعمال اللفظ امّا من باب استعمال المشترك في أكثر من معنى ، وهذا ما لا يجوّزه أكثر أصحاب التحقيق ان لم يكن كلّهم.
( 79 )
أو من باب المجاز ، وهو خلاف الظاهر ، فضلاً من ان السياق لا يساعد عليه بعد قوله تعالى : ( فان تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول.. ) ولم يذكر أولي الاَمر لما ذكرناه ، وبعد قوله ختاماً : ( ذلك خيرٌ واحسنُ تأويلاً ) ، وقد « وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله وطاعة رسوله بطاعته ، فمن ترك طاعة ولاة الاَمر لم يطع الله ورسوله » (1).
وقد أقرّ الرازي بدلالة هذه الآية على العصمة (2)ولكنّه لحاجةٍ في نفسه أوّل أولي الاَمر بأهل الاجماع بلا دليل يرتكز عليه. وقد ردّهُ الشيخ محمد حسن المظفر قدس سره في دلائل الصدق (3) ، وفيه انَّ المنصرف من أولي الاَمر من لهُ الزعامة وهذا خلاف أهل الاجماع ، وهذا الرد نوافق عليه.
إنّ ظاهر الآية إفادة عصمة كلّ واحدٍ منهم لا مجموعهم ، لاَنّ ظاهرها ايجاب اطاعة كلّ واحدٍ منهم ، وهذا غير واضح من الآية المباركة ، ولذا يستطيع ان يدعي خلافه ، على ان العمل بمقتضى الاجماع ليس من باب الطاعة لهم ، لاَنّ الاجماع من قبيل الخبر الحاكي. وهذا ليس محلّ ذلك ففيه ما فيه.
فلم يبق إلاّ ان التمسك بانّ تأويله لاَولي الاَمر بأهل الاجماع خلاف الظاهر أصلاً ويحتاج إلى دليلٍ واضح ، لا سبيل له ، ولا دلالة للآية المباركة
____________
(1) الكافي 1 : 182|6.
(2) يراجع للاطلاع على رأيه تفصيلاً كتابه : مفاتيح الغيب 3 : 257.
(3) دلائل الصدق|الشيخ محمد حسن المظفر 2 : 17 ـ 18.

( 80 )

عليهم لا من قريب ولا من بعيد ، مع الانصراف المذكور أولاً فيتعين من له الزعامة والاِمامة ، وهو الاِمام بزعمنا لا غير.
وقد أشكل الرازي (1)على انّ المراد بهم الاَئمة عليهم السلام بوجوه مشوّهة :
الوجه الاَول منها : إنّ الطاعة لهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم واذا قلنا انه يجب علينا ذلك ، إذ صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار مشروطاً وهو مطلق.
وفيه :
أ ـ النقض : بطاعة الله ورسوله وطاعة أهل الاجماع على رأيه.
ب ـ الحل : فالطاعة ليست مشروطة بمعرفتهم وبقدرة الوصول إليهم ، بل مطلقاً كما هي طاعة الله ورسوله... فيجب تحصيل المعرفة بهم ، كما في معرفة الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلاّ لو التزمنا بما ذكر في أولي الامر لوجب ذلك أيضاً في الله والرسول وهو كما ترى.
الوجه الثاني : إنّ أولي الاَمر جمعٌ وعندهم لا يكون في الزمان إلاّ امامٌ واحد ، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر.
وفيه أنّ المراد هو الجمع ولكن بلحاظ التوزيع في الازمنة ، ولا منافاة فيه للظاهر بل نقول أكثر من ذلك وهو وجوب طاعتهم كلّهم على حدٍّ سواء ، وان كان الاِمام واحداً في كلِّ عصر ، وهذان مقامان مختلفان وهو
____________
(1) مفاتيح الغيب|الرازي 3 : 257.
( 81 )

واضحٌ لمن تدبّر.
الوجه الثالث : ( فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول ) (1) ، ولو كان المراد بأولي الاَمر الاِمام المعصوم لوجب ان يقول فان تنازعتم في شيء فردّوه إلى الاِمام.
وفيه : إنّ الردّ إلى أولي الاَمر أيضاً مأمورٌ به ، لكن اكتفى عن ذكرهم في آخر الآية بما ذكره في أولها من مساواة طاعتهم بطاعة الله ورسوله ) (2) ، بل نقول أكثر من ذلك من انّ المصدر الرئيس للتشريع هو الله سبحانه ، ولا يجب اطاعة أي مخلوق ، فهو الاساس في الاطاعة ، واطاعة المخلوقين تأتي وتترشح من الباري عزَّ وجل ، فذكر تفصيلاً من تجب طاعته ابتداءً وفصَّل ، ثم أخيراً بين الطرفين الاَساسيين في عملية الاطاعة وهي المرسِل والمرسَل ، لاَنّ الاَساس اطاعة الله ثم بواسطة المرسلين تترشح هذه الاطاعة كما انه بالمعاجز يثبتها.
وثبوت الاِمامة وولاية الاَمر متوقفة على الرسول لبيانها وتوضيحها ، فولاية الاَمر مستفادة من الله ورسوله.
فولاية الاَمر هي كذلك من الامور التي يمكن ان يقع التنازع فيها كما وقع ، وهذا الارجاع إرجاع كلي ، ولو أُرجع إليهم أيضاً للزم الدور كما هو واضح ، فلذا لم يذكر الرد إلاّ إلى الله والرسول. وكما ذكرنا أولاً ولاية الاَمر
____________
(1) سورة النساء : 4|59.
(2) دلائل الصدق|الشيخ محمد حسن المظفر 2 : 19.

( 82 )
مندكّة في المرسل لا تفترق عنه فهو المصدر لها ومبينها ، ولهذا وذاك ذكر الارجاع إليه مكتفياً به كما هو واضح لمن ألقى السمع وهو بصير (1).
ومن نافلة القول صرف الوجه لاشكالٍ ربّما راود بعضهم هذه الاَيام مفاده : إنّ الاطاعة هنا شأن الاطاعة للعلماء بلا فرق في ذلك أصلاً ، فكيف أطلقتم هنا ولم تطلقوا هناك ؟ !
وإذا كانت هناك محدّدة فهنا كذلك. والاطاعة للعلماء لا تدل على عصمتهم. فالاطاعة لاولياء الاَمر أو للنبي المرسل صلى الله عليه وآله وسلم لا تدل على العصمة ، كذلك.
والجواب : إنّ بين الاطاعتين فرقاً ، وبين الموردين فرقاً آخر. فهل يقول صاحب هذا الاشكال في العلماء ومنهم الصحابة بأنّ أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم حجّة ، كما هو الاَمر بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
إن قال بحجيتها خرج عن مسلك العلماء وطريقتهم. وان قال بعدم حجيتها ظهر الفرق ، وذلك لاَنّ الصحابي أو العالم إذا فعل فعلاً مثلاً ، نحمل فعله على محمل الصحة ، وانّه لا يخالف الشرع بتصرفه بدواً ، كأي مسلم ، إلاّ أننا نحتمل فيه :
1 ـ التأويل الخاطئ لقول المعصوم.
____________
(1) والذي يوجب الاطمئنان أكثر من ذلك كلّه أن هناك روايات جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير هذه الآية المباركة بالاَئمة الطاهرين عليهم السلام فضلاً عن الروايات التي يعضد بعضها بعضاً من ان خلفاءه اثنا عشر خليفة وهو ما ينطبق كلياً على ما تدعيه الاِمامية وهو كافٍ في ابطال ما ذهب إليه الرازي في توجيهه أو ما ادعاه غيره بغيرهم ولم ترد في ذلك ولا رواية واحدة تؤيد ما أدعوه من التأويل البعيد.
( 83 )

2 ـ النسيان.
3 ـ السهو والغفلة.
4 ـ عدم وصول الحكم اليه ، فعمل على ما ارتكز في ذهنه من اعتقادات سابقة ، الله أعلم بمنشئها.
5 ـ والاحتمال الاخير ، وان كان ضعيفاً إلاّ انّه يبقى كاحتمال وارد وان كانت نسبته ضئيلة بالقياس إلى تلك الاحتمالات ، وهو الاحتمال القائل ، بالمخالفة العمدية للشارع المقدّس ، لكونه غير معصوم فيحتمل فيه الفسق.
فبناءً على هذه الاحتمالات لا يُعدُّ فعله حجّة لنا ، ولا علينا ، وان كنّا نُصحّحُ فعله الذي فعله ، بحمل عمل المسلم على الصحة ، لكن بما هو عمل شخصي له لا يمكن استنباط حكم شرعي منه.
فتنفع الاصول العقلائية من اصالة عدم الخطأ ، واصالة عدم السهو أو الغفلة في ذلك فقط ، لا غير.
فإذا كان كذلك لا يمكن ان يُقاس النبي بهذا أبداً ، وذلك لاَنَّ فعله ليس خاصاً به حتّى نحمله على تلك المحامل ، هذا أولاً.
وثانياً : إذا أخطأ العالم الحكم الواقعي لا يقدح بالاحكام الالهية أي شيء. وينتهي هذا الحكم الظاهري بانتهاء عمل هذا العالم.
وأمّا إذا أخطأ المبلِّغ المباشر عن الله تعالى فالحكم الالهي سيتغير ،
( 84 )

ويتبدّل ، ولا تشفع لنا الاصالات كلها في ردّه لاصله ، فيكون النبي قد أصدر حكمين أو ثلاثة لواقعة واحدة فتتغير أحكام الله تعالى ولاتظهر أبداً.
وبتعبير آخر المبلغ المباشر عن الله تعالى مثل النبي يكون مصدراً ومظهراً للحكم الالهي ، فلابدّ ان يكون مظهراً له على حقيقته وواقعه. وهذه الاصول اجراؤها يكون لمجرد تمشية الامور الظاهرية في وقت معين ولشخص أو أشخاص معيّنين.
فلا يمكن تطبيقها على مسلك الرسول أو الاِمام وذلك لاَنّهما مظهران لاحكام الله الواقعية والحقيقية ، وإلاّ لانتفت فائدة بعثة الرسول كما هو ظاهر لكلِّ عين ، فبناءً على هذا الاطاعة تكون مطلقة بالنسبة للنبي والاِمام كما هي للباري عزّ وجلّ.
أما الاطاعة للصحابي ومثله للعالم فهي مقيدة بقيود كثيرة ، قد يظهر بعضها في هذه الرواية المباركة :
عن الاِمام الحسن العسكري عليه السلام : « قال رجل للاِمام الصادق عليه السلام فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون من علمائهم ، لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمّهم الله بتقليدهم والقبول من علمائهم وهل عوام اليهود الاّ كعوامنا يقلدون علماءهم ؟ !
فقال عليه السلام : بين عوامنا وعلمائنا ، وبين عوام اليهود وعلمائهم
( 85 )

فرق من جهة ، وتسوية من جهة.
أمّا من حيث استووا فإنّ الله قد ذمّ عوامنا بتقليدهم علمائهم ، كما ذمّ عوامهم بتقليدهم علمائهم.
وأمّا من حيث افترقوا فلا.
قال : بيّن لي يا بن رسول الله.
قال عليه السلام : إنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح ، وبأكل الحرام والرشاء ، وتغيير الاحكام عن وجهها ، بالشفاعات ، والعنايات ، والمصانعات ، وعرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون به أديانهم ، وانهم اذا تعصّبوا ، أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه ، واعطوا مالايستحقه من تعصّبوا له من أموال غيرهم ، وظلموهم من أجلهم ، وعرفوهم مقارفون المحرمات ، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى انّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق ، لا يجوز ان يصدُق على الله ، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله. فلذلك ذمّهم لما قلدوا من قد عرفوا ، ومن علموا انّه لايجوز قبول خبره ، ولا تصديقه في حكايته ، ولا العمل بما يؤديه اليهم ، عمّن لم يشاهدونه. ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إذا كانت دلائله أوضح من ان تخفى ، وأشهر من أن لا تظهر لهم.
وكذلك عوام أمتنا ، إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر
( 86 )

والعصبية الشديدة ، والتكالب على حطام الدنيا ، وحرامها ، وإهلاك من يتعصبون عليه ، وان كان لاصلاح أمره مستحقاً ، وبالترفرف بالبر والاحسان على من تعصّبوا له ، وان كان للاذلال والاهانة مستحقاً. فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم.
فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لاَمر مولاه ، فللعوام ان يقلدوه ، وذلك لا يكون الا بعض فقهاء الشيعة لاجميعهم.
فأنّه من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلاتقبلوا منهم عنّا شيئاً ، ولا كرامة.
وإنّما كثر التخليط فيما يتحمل عنّا أهل البيت لذلك.
لاَنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الاشياء على غير وجوهها ، لقلة معرفتهم.
وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم.
ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا ، فيتعلمون بعض علومنا الصحيحة ، فيتوجهون به عند شيعتنا ، وينتقصون بنا عند نصّابنا ، ثمّ يضيفون اليه اضعافه ، واضعاف
( 87 )

اضعافه من الاَكاذيب علينا التي نحن براء منها ، فيتقبله المستسلمون من شيعتنا على انّه من علومنا.
فضلّوا وأضلّوا. وهم أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي عليهما السلام وأصحابه » (1).
من هذه يتضح الفرق ، فليس كل فقيه يجب اتّباعه ، وليس كلّ عالم ، فإذا اختلت الكلية ، يكون المصدَّق منهم التّابع لشرع الله تعالى ، فتدور طاعته مدار اتّباعه للشرع ، بينما في المعصوم يدور الشرع مداره ، فهذا هو الفرق بين المقامين ، فهنا تجب الطاعة مطلقاً ، بينما في الفقيه أو العالم لاتجب مطلقاً ، بل ضمن حدود ما رسمه الشارع المقدّس لنا.
وهناك فرقٌ آخر : إنّ العالم العادل لا طريق إلى معرفة عدالته ، إلاّ الاِسلام ، وعدم ظهور الفسق ، وحسن الظاهر. وبذا صرَّح كلٌّ من الشهيد الاَول (2) ، والمحقق الكركي (3) ، وصاحب الجواهر (4) ، والشيخ الاعظم الانصاري (5).
فإذا أخلّ بشيء من الواجبات ، أو ارتكب المحرمات تختلُّ عدالته.
____________
(1) الاحتجاج|الطبرسي 3 : 508 ـ 512|337 انتشارات الاُسوة التابعة لمنظمة الاَوقاف والشؤون الخيرية ـ قم.
(2) الذكرى : 267. والدروس : 54.
(3) رسائل المحقق الكركي ، الرسالة الجعفرية 1 : 126.
(4) الجواهر 13 : 299.
(5) رسائل فقهية ، رسالة في العدالة : 8 المؤتمر العالمي.

( 88 )

أمّا الاِمام : فلا يمكن ان يُقال بحقه ذلك. وذلك لاَنّ طريق معرفة عصمته ليس الاِسلام ، وعدم ظهور الفسق ، وحسن الظاهر. بل الطريق إليها إمّا النصّ كما قلنا ، أو المعجزة ، فإذا كان كذلك : فما يقوم به هو الاسلام بعينه. فإذا أمر ذاك لا تجب اطاعته إلاّ ضمن حدود الاِسلام ، وعدم ظهور الفسق ، وحسن الظاهر. وإذا أمر هذا تجب اطاعته على كلّ حال. فظهر الفرق.
فاذن اطاعة الاِمام عليه السلام ، ليست مثل اطاعة أيّ شخصٍ آخر.
وبتعبير علمي دقيق : إنّ كل حجة لا تنتهي إلى العلم فهي ليست بحجة ، لاَنّ القطع هو الحجة الوحيدة التي لا تحتاج إلى جعل ، وبها ينقطع التسلسل ويرتفع الدور.
وهذه الاصول العقلائية التي يفزع إليها الناس في سلوكهم مع بعضهم لا تحدث علماً بمدلولها ، ولا تكشف عنه أصلاً لا كشفاً واقعياً ولا تعبدياً.
أما نفي الكشف الواقعي عنها فواضح لعدم التلازم بين إجراء أصالة عدم الخطأ في سلوك شخص ما ، وبين اصابة الواقع والعلم به ، ولو كان بينهما تلازم عقلي لاَمكن إجراء هذا الاصل مثلاً في حق أي شخص واعتبار ما يصدر عنه من السنة ، ولا خصوصية للنبي في ذلك.
وأما نفي الكشف التعبدي عنها فلاَنه مما يحتاج إلى جعل من قبل الشارع ، ومجرد بناء العقلاء لا يعطيه هذه الصفة ما لم يتم امضاؤه من قبله ، وشأنه في ذلك شأن جميع ما يصدرون عنه من عادات
( 89 )

وتقاليد وأعراف.
والسر في ذلك ان القطع بصحة الاحتجاج به على الشارع لا يتم إلاّ اذا تم تبنيه من قبله وعلم ذلك منه.
وكل حجة لا تنتهي إلى القطع بصحة الاحتجاج بها فهي ليست بحجة(1).
11 ـ وقال تعالى : ( وإذا جاءهم أمرٌ من الخوفِ أو الاَمنِ أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الاَمر منهم لعلِمهُ الذينَ يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتُم الشيطان إلاّ قليلا ) (2).
فهنا لدينا عدَّة من العناوين :
1 ـ الذين يأتيهم الامر ويذيعون به.
2 ـ الذين يردّون الامور إلى الرسول وإلى أولي الاَمر.
3 ـ الرسول.
4 ـ أولو الاَمر.
وفي قوله تعالى : ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم... ) عنوان خامس المستنبطون للحكم.
____________
(1) الاصول العامة للفقه المقارن ، السيد محمد تقي الحكيم : 130.
(2) سورة النساء : 4|84.

( 90 )

ومن الآية الكريمة يظهر انّ العنوان الثاني داخل في ظل العنوان الاَول بل هو جزء منه لا بالجزئية الحقيقية ، بل بمعنى انّ هؤلاء المذيعين لو ردّوا الامور قبل ذلك إلى من ذكر في الآية لعلموا الحق في الاَمر ، فهم منهم من هذه الجهة كما لا يخفى.
أولاً : وقبل كلّ شيء نقول انّ الظاهر من تعدد العنوان تعدد المعنون إلى ان يثبت ان العناوين لواحد ، وخاصة اذا وردت في كلام واحد ، يساعد ظاهره على ذلك ، ثم سياق الآية كما نرى يدل على المغايرة.
ثانياً : نتساءل ما المقصود بـ ( أولي الاَمر منهم ) هنا ؟
هناك دعويان يطفحان هذه الايام في الخارج ولا ثالث لهما.
1 ـ ان يكونوا هم الحكام.
2 ـ ان يكونوا الاَئمة المخصوصين الذين نعتقد امامتهم.
فإن كان الاَول لزم منه عدم صدق ذلك ؛ وذلك لاَنّ أغلب هؤلاء كما يعلم المطلعون على التاريخ الاسلامي من بدايته إلى الآن يعلمون علم اليقين بانّ أغلبهم إن لم نقل كلهم لا علم لهم باحكام الله ، فكيف يرجع الله تعالى المؤمنين اليهم لمعرفة احكامه منهم ، وهذا ما لا يفعله جاهل فضلاً عن رب العزة سبحانه ، هذا أولاً وأما ثانياً فنقول بما ان الحكام كذلك إلاّ نفراً أو نفرين فلا يمكن ان يُصب العموم فيهما ، لانه نادر الوقوع وقليله ، فلا يفعل ذلك مبتدئ في اللغة فضلاً عمّن أعجز كتابه من هذه الجهة بالخصوص ومن جهات أخر البشر قاطبة.
( 91 )

ثم نقول ثالثاً : إذا تم الرجوع الى أولي الاَمر هؤلاء فما فائدة وجود الذين يستنبطونه منهم ، بعد ان سمعوا الحكم ورأوا ما يفعله الحاكم ، ولا تخلو بلاد منهم لاَنه اذا قلنا بانها تشمل الرأس الاكبر في الحكم فهي تشمل كل رأس كذلك في كل منطقة ولو صغيرة ، فما أدخل ذاك أدخل هذا ، ولا فرق ، فلا تبقى فائدة للمستنبطين ، وأما على قولنا فالفائدة مستمرة سواء بحضور الاِمام أم بغيبته كما هو ظاهر.
ورابعاً : ان قيل ان الظرف الذي يلي أولي الامر يقتضي ان يكون أولو الاَمر من اولئك الذين أذاعوا ، فنقول : بالاضافة إلى ما قدّمناه ، واستبعاد ان يكون أولو الاَمر منهم بالخصوص ، إن الظرف راجع إلى الرسول وإلى أولي الاَمر كليهما. ولا يقدح شيء في ذلك بعد قوله تعالى : ( كما ارسلنا فيكم رسولا منكم... ) (1). وبعد قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم )(2). ولم يكن هو منهم بشيء من الضلالة التي كانوا فيها ، فالظاهر كونه ظرفاً مستقراً أي أولو الاَمر الكائنون منكم ، هذا أولاً.
وثانياً : إذا كان أولو الاَمر ممّن اذاع ذلك الاَمر من الاَمن أو الخوف كيف يُردُّ إليهم ما صدر منهم ليقوَّم ، ولايمكن ان يكون الرسول كذلك فعطف اولئك عليه يعلم منه انهم كذلك لا يمكن صدور تلك الاذاعة منهم لذا يجب ان يكونوا غيرهم.
____________
(1) سورة البقرة : 2|152.
(2) سورة التوبة : 9|128.