ولو قال قائل منهم عناداً أو جهلاً كما قيل من انّ الفعل المضارع الذي هو ( يريد ) ، و( يذهب ) ، و( يطهر ) لا ينبئ عن الوقوع ، بل لا يدل على المستقبل.
قلنا : أولاً الفعل المضارع يفيد الزمن الحاضر والمستقبل المتصل بالزمن المقال به الكلام ، لا الزمن المستقبل على الحقيقة ، وللدلالة على هذا الاَخير يضاف على الفعل المضارع السين أو سوف حسب بعد الزمن وقربه.
ولذا قالوا : ( ويصلح المضارع لوقتين لما أنتَ فيه ، ولما لم يقع كما يقول المبرّد أي للحال والاستقبال ) (1).
مع انّ الفعل المضارع كثيراً ما يستعمل حتى في الماضي فضلاً عن الحال ، قال تعالى : ( إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة ) ، وقال تعالى : ( يريد الله ان يخفف عنكم ) ، وقال تعالى : ( يريدون أن يبدّلوا كلام الله ) (2).
ومما جعلوا فيه المستقبل في موضع الماضي قول الصلتان العبدي يرثي المغيرة بن المهلّب :

وانضخ جوانب قبره بدمائها * فلقد تكون أخا دمٍ وذبائحِ

والبيت يستشهد به النحويون على انّ المضارع ، وهو يكون ، مؤوّل
____________
(1) معجم القواعد العربية|عبد الغني الدفر : 433 ط 1.
(2) سورة المائدة : 5|91. وسورة النساء : 4|28. وسورة الفتح : 48|15 على التوالي.

( 115 )

بالماضي ، أي ولقد كان ، لاَنّه في مرثية ميت ، وهو إخبار عن شيء وقع ، ومضى ، لا اخبار عمّا سيقع لاَنّه غير ممكن.
قال ابن الشجري في أماليه ، قال أبو الفتح عثمان بن جني ، قال لي أبو علي سألت يوماً أبا بكر بن السراج عن الاَفعال ، فقال : يقع بعضها موقع بعض.
وقال : كان ينبغي للافعال كلها ان تكون مثالاً واحداً ، لاَنّها لمعنىً واحد ، ولكن خولف بين صيغها لاختلاف أحوال الزمان ، فإذا اقترن بالفعل ما يدل عليه من لفظ ، أو حال ، جاز وقوع بعضها موقع بعض (1).
وقال ابن عقيل في ألفية ابن مالك عند تعرّضه لتوكيد الفعل بالنون : ( مايجوز تأكيده أحياناً ، ولا يجوز تأكيده أحياناً اُخرى وهو المضارع ، والاحيان التي يجوز فيها تأكيده هي : وذكر ثلاثة أحيان ، وسنذكرها إلاّ انّ المعلّق قد علّق على هذه العبارة بـ ( الجامع لهذه المسائل كلها دلالته على الاستقبال فيها ، وإنّما يقصد العلماء ببيانها تفصيل مواضع دلالته على الاستقبال ، لاَنّه لا يستطيع معرفتها كل أحد ) (2).
والاَماكن هي :
1 ـ أن يقع شرطاً بعد « ان » الشرطية المدغمة في « ما » الزائدة المؤكدة ،
____________
(1) أمالي السيد المرتضى 4 : 109 الهامش ، صححه وضبط ألفاظه وعلق حواشيه الشيخ أحمد بن الامين الشنقيطي ـ مصر ط 1.
(2) شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد 2 : 655.

( 116 )

كقوله تعالى : ( إمّا ينزغنّك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله ) (1).
2 ـ أن يكون واقعاً بعد اداة طلب ، نحو لتجتهدنَّ ، لاتغفلنَّ ، وكقوله تعالى : ( ولا تحسبنَّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون ) (2).
3 ـ أن يكون منفيّاً بلا ، كقوله تعالى : ( واتّقوا فتنة لا تُصيبَنَّ الذّين ظلموا منكم خاصة ) (3) ، وله حالة رابعة يجب فيها التوكيد اذا كان مثبتاً ، جواباً لقسم غير مفصول من لامه بفاصل ، ويجب ان يكون دالاً على المستقبل أيضاً ، كقوله تعالى : ( وتالله لاَكيدنَّ أصنامكم ) (4) ، فإذا كان كذلك علمنا انّه اذا خلا الفعل المضارع من هذه أي من أن الشرطية ، ومن الطلب ، ومن النفي ، أو كما في القسم الرابع فحينئذٍ الفعل المضارع يدلّ على الحال ، ولعلّه لذا جاء التوكيد في الآية المباركة باداة الحصر وباللام وبالمصدر دون نون التوكيد بقسميها لرفع هذا الالتباس.
وأخيراً ختاماً لكلِّ ما تقدّم نقول بانَّ :
الجملة الفعلية : هي التي تتألف من فعلٍ وفاعل أو نائبه ، وللفعل مدلولان : الحدث والزمان.
ولمّا كان الزمان غير ثابتٍ ولا قارٍّ بالحدث لو أخذنا الحدث بما هو حدث ، اذن يكون الفعل مع دلالته على الزمان بصيغته الماضوية أو
____________
(1) سورة الاعراف : 7|100. وسورة فصلت : 41|36.
(2) سورة إبراهيم : 14|42.
(3) سورة الانفال : 8|25.
(4) سورة الأنبياء : 21|57.

( 117 )

المضارعية أو المستقبلية على فردٍ من الاَزمنة الثلاثة إلاّ انّه يفيد التجدّد.
ولذا قالوا ان الجملة الفعلية ( موضوعة لافادة التجدد والحدوث ).
وأما الجملة الاسمية : ( فتفيد بأصل وضعها ثبوت شيء لشيء ليس غير بدون نظر إلى تجدد ولا استمرار ) (1).
وبهذا نعلم السر في مجيء هذه الآية المباركة بالفعل دون الاسم للدلالة على تجدد الارادة والاذهاب للرجس والتطهير تطهيراً مؤكداً دائماً ومستمرّاً.
13 ـ قال الله سبحانه على لسان نبيه يوسف عليه السلام مخاطباً لصاحبيه في السجن : ( واتّبعتُ ملة آبائي إبراهيم واسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نُشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) (2).
لو تمعّنا قليلاً في هذه الآية المباركة لرأينا انّه اقرار من قبل نبي من أنبياء الله سبحانه بصفة معيّنة ، قد نقلها الباري عزَّ وجل واقرّها بكتابه العظيم المنزل على أعظم انبيائه ، واقرار هذا النبي المبارك ، مفاده امتناع صدور الشرك منه بفضل الله تعالى ، وليس هذا فقط بل امتناع صدور الشرك من آبائه وأجداده.
والشرك بالمصطلح القرآني له عدّة معان حتى ان بعضها قد ذكر في
____________
(1) شرح ابن عقيل 2 : 75.
(2) سورة يوسف : 12|39.

( 118 )

نفس هذه السورة بالذات : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون ) (1).
والايمان بالله والشرك به وحقيقتهما تعلّق القلب بالله بالخضوع للحقيقة الواجبة وتعلّق القلب بغيره تعالى ، مما لا يملك شيئاً إلاّ باذنه تعالى يختلفان بحسب النسبة والاضافة ، فانّ من الجائز ان يتعلّق الاِنسان مثلا بالحياة الدنيا الفانية وزينتها الباطلة ، وينسى مع ذلك كلّ حق وحقيقة ، ومن الجائز ان ينقطع عن كلِّ ما يصدّ النفس ويشغلها عن الله سبحانه ، ويتوجّه بكلّه اليه ، ويذكره ولا يغفل عنه ، فلا يركن في ذاته وصفاته إلاّ اليه ، ولا يريد إلاّ ما يريده ، كالمخلصين من أوليائه تعالى.
وبين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين والبعد منه ، وهي التي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع (2).
فإذا كان كذلك علمنا انّه خالص من ذلك كلّه ، وانّه محض اطاعة له سبحانه ، ولا يمكن له ان يتبع هواه بأي حال من الاحوال.
ومن هذه الآية المباركة بالذات نستطيع ان نستكشف معنى الهمّ الذي همّ به يوسف عليه السلام مقابل هم امرأة العزيز.
فإنّ عدم إشراكه بالله طرفة عين يقتضي عدم تعلقه بشيء سوى الله تعالى ومرضاته ، وهذا هو الذي قد كان من فضل الله عليه بالخصوص وعلى الناس بالعموم ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون.
____________
(1) سورة يوسف : 12|106.
(2) الميزان|الطباطبائي 11|276.

( 119 )

وكفى به دليلاً على العصمة له ولابائه ولبقية انبياء الله ورسله عليهم السلام مطلقاً ، لاَنّ امكان تعلّقه بشيءٍ منافٍ للتوحيد الخالص ولو طرفة عين سينقل الاَمر إلى التبعيض ولا قائل بالتبعيض ، كما ان منطوق الآية ينفيه.


( 120 )

المبحث الثاني : أدلّة العصمة من السُنّة :

في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاَئمة الاَطهار من أهل البيت عليهم السلام طائفة كبيرة من النصوص التي تدل دلالة صريحة على عصمة الاَنبياء والاَئمة عليهم السلام انتخبنا منها هذه المجموعة :
1 ـ عن تفسير الصافي عن الصادقين عليهما السلام : « إنّ أيوب عليه السلام أُبتلي بغير ذنب سبع سنين ، وانّ الاَنبياء معصومون لا يذنبون ، ولا يزيغون ، ولا يرتكبون ذنباً صغيراً ، ولا كبيراً » (1).
2 ـ وقال الاِمام الصادق عليه السلام : « نحن خزّان علم الله ، نحن تراجمة أمر الله ، نحن قوم معصومون ، أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا ، ونهى عن معصيتنا ، نحن الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الاَرض » (2).
3 ـ وعن الاِمام الرضا عليه السلام : « إنّ الله يقول في كتابه ( ولو ردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الاَمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) يعني آل محمد عليهم السلام وهم الذين يستنبطون منهم القرآن ، ويعرفون الحلال والحرام ، وهم الحجة لله على خلقه » (3). 4 ـ قال الاِمام علي عليه السلام : « وقد جعل الله للعلم أهلاً وفرض على
____________
(1) تفسير الصافي : 450. ورواه كذلك المجلسي في بحار الانوار 12 : 348 عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام.
(2) اصول الكافي1 : 269|6.
(3) جامع أحاديث الشيعة ، عن الوسائل 3 : 389.

( 121 )

العباد طاعتهم بقوله : ( اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الاَمر منكم ) ، وبقوله : ( ولو ردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الاَمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ، وبقوله : ( اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) ، وبقوله : ( وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم ) ، وبقوله : ( واتوا البيوت من أبوابها ) والبيوت هي بيوت العلم الذي استودعته الانبياء ، وأبوابها أوصياؤهم ، فكل عمل من أعمال الخير يجري على غير أيدي أهل الاصطفاء وعهودهم وحدودهم وشرايعهم وسننهم ومعالم دينهم مردود غير مقبول ، وأهله بمحلِّ كفر ، وان شملتهم صفة الاِيمان.
إلى أن قال عليه السلام : ثم ان الله جلَّ ذكره لسعة رحمته ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدثه المبدّلون من تغيير كتابه قسّم كلامه ثلاثة أقسام فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسماً لا يعرفه إلاّ من صفا ذهنه ولطف حسه ، وصحّ تمييزه ممّن شرح الله صدره للاسلام. وقسماً لا يعرفه إلاّ الله وامناؤه والراسخون في العلم ، وإنّما فعل الله ذلك لئلاّ يدعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من علم الكتاب ما لم يجعله الله لهم.
وليقودهم الاضطرار إلى الائتمار لمن ولاه الله أمرهم فاستكبروا عن طاعته » (1).
____________
(1) الاحتجاج|الطبرسي 1 : 581 ـ 596|137.
( 122 )

5 ـ حديث صححه أشدُّ نقاد الحديث من أئمة الحديث وهو الذهبي :
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « من اطاعني فقد اطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن اطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومن عصى علياً فقد عصاني »(1).
ونصوِّر هذا الحديث هكذا : طاعة علي طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبما ان طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طاعة الله ، ينتج ان طاعة علي طاعة الله.
ومثل هذا : معصية علي معصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معصية لله تعالى ، ينتج انّ معصية علي معصية لله تعالى.
فإن كانت ارادة علي عليه السلام تتخلّف عن ارادة الله ، وكان ما يكرهه علي يتخلّف عمّا يكرهه الله فانّ القياس الاَول باطل ، وهكذا القياس الثاني باطل أيضاً.
وإذا كان صحيحاً وحقّاً فانّ انكار عصمة علي بن أبي طالب عليه السلام ظلم وباطل.
6 ـ عن أمير المؤمنين عليه السلام : قال : « إنّ الله طهّرنا ، وعصمنا ، وجعلنا شهداء على خلقه ، وحجّته في أرضه ، وجعلنا مع القرآن ، وجعل القرآن معنا ، لانفارقه ولا يفارقنا » (2).
____________
(1) انظر المستدرك|الحاكم 3 : 121|128 ، عن أبي ذر الغفاري ، وقد صححه الذهبي.
(2) الوسائل|الحر العاملي 27 : 178|4 الباب 13.

( 123 )

7 ـ حديث الثقلين :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به... وأهل بيتي » (1).
وفي لفظ آخر : « إني تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » (2).
( والصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابياً متضافرة ) (3).
( وحديث الثقلين من المتواترات التي أجمع على روايتها الفريقان ، وقد انهى بعض علماء الحديث رواته من الصحابة إلى خمس وثلاثين راوياً من الرجال والنساء ، وقد رواه عنهم جمٌّ غفير من الرواة وأهل الحديث ) (4).
( وقد بلغ هذا الحديث الشريف من الشهرة ما أغنى استطراد مصادره ، فإنّه قد رواه الفريقان ، واعترفت به الفرقتان ، وعرفه الخاص والعام ، بل حفظه الصغير والكبير ، والعالم والجاهل فهو فاكهة الاندية ، وفي مذاق
____________
(1) لفظ صحيح مسلم|باب فضائل علي بن أبي طالب. ومسند أحمد 4 : 366.
(2) مستدرك الصحيحين 3 : 109.
(3) المراجعات|السيد عبدالحسين شرف الدين : 15.
(4) تفسير الميزان|الطباطبائي 3 : 379 بتصرف.

( 124 )

الافواه ، حتى كاد ان يتجاوز حدّ التواتر ) (1).
واختلاف بعض الرواة في زيادة النقل ونقيصته تقتضيه طبيعة تعدد الواقعة التي صدر فيها ، ونقل بعضهم له بالمعنى ، وموضع الالتقاء بين الرواة متواتر قطعاً.
ومن حسنات دار التقريب بين المذاهب الاِسلامية في مصر انها أصدرت رسالة ضافية ألّفها بعض أعضائها في هذا الحديث اسمتها ( حديث الثقلين ) ، وقد استوفى فيها مؤلفها ما وقف عليه من أسانيد الحديث في الكتب المعتمدة لدى أهل السُنّة (2).
وقد أخرج لحديث الثقلين العلاّمة الحجة الكبير السيد هاشم البحراني في غاية المرام تسعة وثلاثين طريقاً من طرق أهل السُنّة.
كما أخرج له اثنين وثمانين طريقاً من طرق الشيعة عن أهل البيت عليهم السلام (3).
هذا وقد ذكر هذا الحديث السيد الاجل السيد مير حامد حسين النيسابوري ، ثمّ الهندي في « عبقات الاَنوار ». ورواه عن جماعة تقرب من
____________
(1) لماذا اخترت مذهب أهل البيت عليهم السلام|الشيخ الانطاكي : 146.
(2) الاُصول العامة للفقه المقارن|السيد محمد تقي الحكيم : 163. وقد أخرج هذا الحديث : أحمد ومسلم والترمذي والنسائي والدارمي وأبو داود وابن ماجة من طرق متعددة ، والبغوي في مصابيح السُنّة ، والحاكم في المستدرك كذلك والذهبي في تلخيص المستدرك ، والفخر الرازي في التفسير ، وابن كثير أيضاً وغيرهما من المفسرين.
(3) غاية المرام : 211 ـ 217.

( 125 )

المائتين من أكابر علماء المذاهب من المائة الثانية إلى المائة الثالثة عشرة ، وعن الصحابة والصحابيات أكثر من ثلاثين رجلاً وامرأة كلهم رووا هذا الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1).
ومن هذا الحديث الشريف نقف على فوائد جمة ، منها :
أ ـ تكراره في عدة مواضع ، وأوقات مختلفة يدلّ على اهتمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمضمونه اهتماماً بالغاً.
ب ـ الرجوع إلى معنى الثقل في اللغة يبين لنا ثقل هذا الحديث الشريف ويمكن ان نستدلّ منه على عصمة من ذكروا فيه.
فهذا ابن حجر مثلاً يقول بعد ان ذكر حديث الثقلين في عليّة تسمية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن وعترته بالثقلين :
( لاَنّ الثقل كلُّ نفيس خطير مصون ، وهذان كذلك ؛ إذ كلٌّ منهما معدن للعلوم الدينية والاَسرار والحكم العلية ، والاَحكام الشرعية ، ولذا حثّ صلى الله عليه وآله وسلم على الاقتداء والتمسك بهم ، والتعلم منهم ، وقال الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة ـ أهل البيت ـ وقيل سُمّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما ) (2).
ويقول آخر : ( إنّما سماهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثقلين لخطرهما ، وعظم
____________
(1) لماذا اخترت مذهب أهل البيت عليهم السلام|الشيخ محمد مرعي أمين الانطاكي : 153 ـ 154 ، 1962 م بتصرّف لا يخل.
(2) الصواعق المحرقة|ابن حجر الهيتمي : 131 ط مصر.

( 126 )

قدرهما حيث يعبّر في اللغة لكلِّ خطر عظيم ثقلاً ؛ لاَنّ الاخذ عنهما ، ودوام التمسك بهما ليس بالامر السهل ، أو لاَنّ العمل بما أوجب الله تعالى من حقوقهما ثقيل كما ذكر ذلك جماعة من أعاظم علماء السُنّة منهم ابن حجر في صواعقه في باب وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم السيوطي )(1) .
فلو رجعنا لمعنى الثقل الذي هو : كلُّ نفيس خطير مصون ، لتبين لنا الامر فالكتاب نفيس وخطير ومصون لاَنّه ثقل ، والعترة نفيسة وخطيرة ومصونة لاَنها ثقل.
فالنفاسة والخطر فيهما ، فما وجه الصون لهما لعلّه اشارة طريفة لعصمتهما ، فهما مصونان عن كلِّ زيف وزيغ وانحراف ، وكذا النفاسة.
جـ ـ نفي الضلال عن التمسك بهما دلالة على انهما على الحق دائماً ، وإلاّ لما نُفي : فإنَّ « لن » تفيد تأبيد النفي كما هو واضح لمن تتبع استعمالات هذه الكلمة في كلام العرب ، وكما صرّح به أهل الخبرة والتتبع منهم (2).
و ( هو مقتضى ما تفيده لن التأبيدية ) (3)ومن هنا سلّم العلاّمة الطباطبائي قدس سره بظهورها في التأبيد خلال كلامه حول آية ( لن تراني )(4).
____________
(1) لماذا اخترت مذهب أهل البيت عليهم السلام|الشيخ الانطاكي : 156.
(2) كما صرّح بذلك الزمخشري في انموذجه.
(3) الاصول العامة|السيد محمد تقي الحكيم : 163.
(4) سورة الاعراف : 7|143.

( 127 )

وقال : ( والتعبير في قوله : ( لن تراني ) بـ « لن » الظاهر في تأبيد النفي )(1).
( وقد استدلّ بهذه الآية كثير من العلماء الموحدين على أنّه تعالى لايُرى بالاَبصار من حيث نفي الرؤية نفياً عاماً بقوله تعالى : ( لن تراني )) (2)شر.
ولو تنزلنا وقلنا انّها لا تفيد تأبيداً كما صرّح به صاحب قطر الندى (3) ، عند كلامه حول ما ينصب به الفعل ، إلاّ انّها تفيده لو كانت ثمة قرينة تفيد ذلك ، كما في قوله تعالى : ( لن يخلقوا ذباباً ) (4) ، أو ( لن يخلف الله وعده ) (5).
فهاتان الآيتان لقرائن خارجية على رأي بعضهم أفادتا تأبيداً لما دخل عليه « لن ».
ففي هذا المقام نقول عين قولهم ، إذ لو حدث أن ضللنا باتّباعهما ، ولو بمصداق واحد لما خرج كلامه صلى الله عليه وآله وسلم صحيحاً وصادقاً ، لاطلاق الكلام وهو في مقام الهداية والبيان.
فما يكون اتّباعه عدم الضلال ، ومن عدم الضلال يمكن ان نستشف
____________
(1) تفسير الميزان|الطباطبائي 8 : 243.
(2) أمالي السيد المرتضى 4 : 128.
(3) قطر الندى وبل الصدى|ابن هشام : 79.
(4) سورة الحج : 22|73.
(5) سورة الحج : 22|47.

( 128 )

عصمته كما هو ظاهر للمتمعّن.
د ـ إنّ المفهوم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم « إني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي » انّما هو ضلال من لم يتمسك بهما معاً ، كما لايخفى.
ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حديث الثقلين عند الطبراني ـ « فلاتقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم »(1).
فلابدّ لكلِّ مكلف من ان يتمسك بالثقلين معاً ، لا بالكتاب وحده دون قرينة العترة ، ولا بالعترة وحدها دون مصدرها الكتاب... ، بل ما هما إلاّ عروة واحدة لا يمكن التفكيك بين حلقها المتماسكة ، غير ان العترة اللسان الناطق للكتاب الصامت ، فلا نقدر ان نتمسك بالكتاب من دون طريقهم (2).
هـ ـ كتاب الله ، هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه هو معصوم في جميع آياته وسوره ، وهذا ما لا يُخالف فيه المسلمون قاطبة.
وحسب أئمة العترة الطاهرة ان يكونوا عند الله ورسوله بمنزلة الكتاب ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكفى بذلك حجة
____________
(1) المراجعات|السيد عبدالحسين شرف الدين : 23.
(2) لماذا اخترت مذهب أهل البيت عليهم السلام|الشيخ الانطاكي : 154.

( 129 )

تأخذ بالاعناق للتعبّد بمذهبهم.
فإنّ المسلم لا يبتغي بكتاب الله بدلا ، فكيف يبتغي عن اعداله حولا (1).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات « ولن يفترقا » كما في سنن الترمذي (2) ، إذا تمعنّا بهذه الـ « لن » فانّها تفيد كما ذكرنا سابقاً التأبيد في نفي المتعلق ، وهنا هو عدم الافتراق بعد ان نقول لاحقاً اذا وسوست النفس ولم تطمئن بذلك هناك قرينة لفظية بعدم الافتراق ، وبالاضافة إلى القرينة تلك وهذه على أقل تقدير إذ حدَّد بمنطوق الكلام فترة عدم الافتراق ، نهايتها ، بورودهما عليه الحوض ، إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم : « لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ». وهو المهم في حديثنا الآن ، كما هو واضح.
فعليه نقول : إذا كان أحدهما معصوماً وهو كتاب الله الكريم فيجب أن يكون الثاني وهو العترة الطاهرة كذلك ، وإلاّ لافترق أحدهما عن الآخر في موارد عدم عصمة الآخر كما هو واضح ، ( ومن البديهي أن صدور آية مخالفة للشريعة سواءً كانت عن عمد أم سهوٍ أم غفلة تعتبر افتراقاً عن القرآن في هذا الحال ، وإن لم يتحقق عنوان المعصية عليها أحياناً كما في الغافل والساهي ، والمدار في صدق عنوان الافتراق عنه عدم مصاحبته لعدم التقيّد بأحكامه وإن كان معذوراً في ذلك فيقال فلان مثلاً افترق عن
____________
(1) المراجعات|السيد عبدالحسين شرف الدين : 16 القاهرة 1979 م ط2.
(2) وكما في الدر المنثور ، ومسند أحمد ، والمستدرك وغيرها.

( 130 )

الكتاب وكان معذوراً في افتراقه عنه ) (1).
فهذا يثبت لاخبار الصادق الاَمين صلى الله عليه وآله وسلم عدم افتراقهما مطلقاً ، وهذا يثبت عصمة أهل البيت عليهم السلام مطلقاً.
ولا يمكن ان يقع منهم ما يخالف الكتاب الذي هو معصوم لا غفلة ولا سهواً ولا اشتباه ولا نسياناً ، كما هو الظاهر للمتأمل المتمعن في هذا الكلام المقدس.
إذن مقتضى عصمة أحدهما ، عصمة الآخر بلا شك ولا ريب.
و ـ وأخيراً لا آخراً يمكن أن نستفيد من هذا الحديث بالخصوص ، بقاء العترة ببقاء القرآن ، فما دام القرآن باقٍ فالعترة باقية ، وإلاّ لافترقا ، كما هو واضح للمتأمل.
وهذا له عمقه الدلالي لمن أراد الوصول إلى الله تعالى ، وألقى السمع وهو شهيد.
ز ـ وبعدها ألا يعني قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثقل ما ذكر في حديث الثقلين ؟ !
فتارةً ينفي الضلال باتّباعهما ، واُخرى بالاَمر بالاَخذ بهما والتمسك بهما ، وثالثة بالسؤال من الاُمّة عن كيفية مراعاة ما خلّفه فيها تشجيعاً لهم ، وتشويقاً للتمسك بهما مع تأكيده لهم بأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليه
____________
(1) الاصول العامة للفقه المقارن|السيدمحمد تقي الحكيم : 63.
( 131 )
الحوض.
فلنرجع لانفسنا ونتساءل بيننا عن مقدار تمسكنا بوصيّة حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ح ـ ولعلَّ جملة « لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » اشارة إلى انّ مامرَّ على أحد هذين الاثنين بعد الوجود المقدّس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قد مرَّ على الآخر.
ومهجورية كل واحد منهما ، مهجورية للآخر (1).
____________
(1) صحيفة الثورة الاسلامية ، نص الوصية السياسية الالهية|السيد الخميني : 8 ط وزارة الثقافة والارشاد الاسلامي.