فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: 31 ـ 45
(31)
الحكومة في الجميع تكون حكومة ظاهرية ومن شؤون حكومتها على الواقعيات ، ونحن قد استقصينا الكلام في ذلك في خاتمة الاستصحاب فراجع (1) هذا تمام الكلام في أقسام القطع وأحكامها.
    وأما الظن : فمجمل الكلام فيه ، هو أن الظن ليس كالعلم حجيته منجعلة ومن مقتضيات ذاته ، بل لابد وأن تكون حجيته بجعل شرعي.
    وما يقال : من أن الظن في حال الانسداد على الحكومة يكون حاله كالعلم لم تكن حجيته بجعل شرعي بل عقلية محضة وليس موردا لحكم شرعي ـ ولو بقاعدة الملازمة ـ فضعيف غايته ، فإن الظن لا يكون حجة عقلية في شيء من الحالات ، ولا تكون منجعلة كالعلم ، واعتبار الظن في حال الانسداد بناء على الحكومة ليس معناه حجية الظن عقلا بحيث يقع في طريق إحراز الواقعيات إثبات التكاليف به ، بل معناه كفاية الامتثال الظني في الخروج عن عهد التكاليف المعلومة إجمالا ، فالحكم العقلي واقع في طريق الامتثال و الإطاعة ، لا في طريق الإثبات والإحراز حتى يكون الظن حجة عقلية ، و سيأتي توضيح ذلك مفصلا ( إن شاء الله تعالى ) في محله (2) وبالجملة : حجية الظن لا تكون منجعلة في شيء من الحالات ، بل إما أن يكون حجة شرعية ، و إما أن لا يكون ، ولا ثالث لهما.
    ثم ما يكون حجة شرعية لإثبات متعلقه وواقعا في طريق إحرازه تارة : يؤخذ موضوعا لحكم آخر غير حكم متعلقه لا يضاده ولا يماثله ، كما إذا قال « إذا ظننت بعدد ركعات الصلاة يجب عليك التصدق » حيث إن الظن الذي هو حجة في عدد ركعات الصلاة ومحرز لها شرعا اخذ موضوعا لوجوب
1 ـ أقول : ولقد راجعنا إلى الاستصحاب ، فما كان هناك شيء زائد عما هنا.
2 ـ أقول : هذا المشرب يرجع إلى التبعيض في الاحتياط ، وسيجيء ( إن شاء الله ) أن ذلك لا يناسب مع كثير من الشبهات المتعلقة بدليل الانسداد أيضا.


(32)
التصدق. وأخرى : يؤخذ موضوعا لما يضاد حكم متعلقه. وثالثة : لما يماثله. و رابعة : يؤخذ موضوعا لنفس حكم المتعلق ، هذا فيما إذا كان حجة شرعية لإثبات متعلقه ، وكذا الحال فيما إذا لم يكن حجة شرعية ، فإنه يجرى فيه هذه الأقسام الأربعة.
    وعلى جميع التقادير : تارة يؤخذ على وجه الصفتية ، وأخرى على وجه الطريقية ، تمام الموضوع أو جزئه ، ولكن هذه غالبا مجرد تصورات لا واقع لها ، بل بعضها محال لا يعقل. والذي هو واقع في الشريعة ليس إلا اعتبار الظن على وجه الطريقية والكاشفية والمحرزية لمتعلقه الذي هو مفاد أدلة حجية الطرق و الأمارات ، من دون أن يؤخذ الظن موضوعا لحكم آخر. هذا هو الواقع.
    وأما الذي يمكن أن يقع عليه : فهو أنه لا إشكال في إمكان أخذه موضعا لحكم آخر لا يضاد حكم متعلقه ولا يماثله ، سواء كان الظن حجة و طريقا شرعا إلى متعلقه أو لم يكن ، وسواء أخذ على وجه الصفتية أو الطريقية ، وسواء كان تمام الموضوع أو جزئه ـ على إشكال فيما اخذ تمام الموضوع على وجه الطريقية ـ وقد تقدم في العلم (1).
    وأما أخذه موضوعا لمضاد حكم متعلقه فلا يمكن مطلقا ، من غير فرق بين أن يكون حجة لاثبات متعلقه أو لم يكن ، ومن غير فرق بين أخذه على وجه الصفتية أو الطريقية ، تمام الموضوع أو جزئه ، لأنه يلزم اجتماع الضدين ولو في الجملة (2) وفي بعض الموارد على كل حال ، ولا يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي كما توهم ، فان مسألة اجتماع الأمر والنهي إنما هي فيما
1 ـ أقول : قد تقدم دفعه أيضا.
2 ـ أقول : هذا صحيح لو كان أخذ عنوان المظنونية بنحو الجهة التقييدية ، وإلا فلو كان بنحو التعليل ، فلا بأس بأخذه في الموضوع بنفس ذاته مع عدم حجيته شرعا. نعم : مع حجيته يستحيل أخذه كذلك بنحو الجزئية أو التمامية صفة أو طريقا.


(33)
إذا كانت نسبة العموم من وجه بين نفس متعلق التكليف ، وهو الفعل الصادر على المكلف ـ كالصلاة والغصب ـ بالشرائط المتقدمة في محله ، وأين هذا مما نحن فيه مما يؤخذ الظن موضوعا لمضاد حكم متعلقه ؟ فإنه يلزم اجتماع الأمر والنهي في محل واحد ، مثلا لو فرض أن حكم الخمر واقعا هو الحرمة و حكم مظنون الخمرية هو الوجوب ، ففي صورة مصادفة الظن للواقع يلزم اجتماع الوجوب والحرمة ، بل في صورة أخذ الظن جزء الموضوع دائما يلزم اجتماع الضدين في الواقع وعالم الجعل.
    هذا إذا تعلق الظن بموضوع خارجي ، وكذا لو تعلق بحكم شرعي ، كما لو فرض أن حكم صلاة الجمعة هو الوجوب والظن بهذا الوجوب اخذ موضوعا للحرمة ، فإنه يلزم أيضا اجتماع الضدين في صلاة الجمعة على كل حال ، وذلك واضح.
    وأما لو اخذ موضوعا لمماثل حكم متعلقه ، فإن لم يكن الظن حجة شرعية لإثبات متعلقه فلا مانع من أخذه كذلك ، غايته أنه في صورة مصادفة الظن للواقع يتأكد الحكمان ، كما هو الشأن في اجتماع كل عنوانين على موضوع واحد ، ولا يلزم اجتماع المثلين ، فإن اجتماع المثلين المستحيل إنما هو فيما إذا تعلق حكم على موضوع بعنوان ثم يتعلق حكم آخر مماثل لذلك الحكم على ذلك الموضوع بذلك العنوان. وأما إذا تعلق حكم على موضوع مع قطع النظر عن الطوارئ ثم تعلق حكم مماثل على ذلك الموضوع باعتبار الطوارئ ، فهذا ليس من اجتماع المثلين ولو كانت النسبة بين ذلك الموضوع وبين الطوارئ العموم المطلق ، فإنه في صورة الاجتماع يتأكد الحكمان (1) ويتولد منهما حكم واحد آكد ، في موارد تعلق
1 ـ أقول : لا مجال في أمثال المقام بالالتزام بالتأكد ، حيث إن التأكد يقتضي وحدة الوجود وهو ينافي طولية الحكمين ، بحيث يكون مجال تخلل الفاء ، إذ مع هذا التخلل لا يتصور الاتحاد كي يتصور التأكد ، فالأولى في

(34)
النذر بالواجب ـ حيث يتأكد الوجوب ـ وتعلق الظن بشيء من الطوارئ ، فيمكن أن يكون حكم الخمر واقعا هو الحرمة ومظنون الخمرية أيضا حكمه الحرمة وفي صورة مصادفة الظن للواقع يتأكد حرمته ، هذا إذا لم يكن الظن طريقا محرزا لحكم متعلقه ولم يكن حجة شرعية لذلك.
    وأما الظن المحرز لمتعلقه وما يكون حجة شرعية عليه : فلا يمكن أن يؤخذ موضوعا لحكم المماثل ، فإن الواقع في طريق إحراز الشيء لا يكون من طوارئ ذلك الشيء ، بحيث يكون من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث ملاك في ذلك الشيء غير ما هو عليه من الملاك ، فلو كان حكم الخمر في الواقع هو الحرمة فلا يمكن أن يكون إحراز تلك الحرمة موجبا لطرو حكم آخر على الخمر المحرز ، لأن الحكم الثاني لا يصلح لأن يكون باعثا ومحركا لإرادة العبد ، فإن الانبعاث إنما يتحقق بنفس إحراز الحكم الواقعي المجعول على الخمر ، فلا معنى لجعل حكم آخر على ذلك المحرز ، ولذلك لا يعقل أخذ العلم موضوعا لحكم مماثل للمتعلق أو لحكم المتعلق ، من جهة أن العلم بالشيء لا يكون من طوارئ ذلك الشيء الموجبة لملاك آخر غير ما هو عليه.
    والفرق بين العلم والظن ، هو أنه في العلم مطلقا لا يمكن ، لكون إحرازه ذاتيا له ، بخلاف الظن ، فإنه فيما اخذ حجة شرعية لا يمكن ، وفيما لا يؤخذ يمكن بالبيان المتقدم.
    فتحصل : أن أخذ الظن موضوعا لحكم آخر لا يضاد حكم متعلقه ولا يماثله بجميع أقسامه يمكن ، وهي ستة : فان أخذ الظن موضوعا لحكم آخر ، إما
هذه الصورة التفرقة بين كون الظن المزبور من الجهات التقييدية أو التعليلية ـ بجوازه في الثاني دون الأول ـ كما سيجيء توضيح هذا المحال في بحث التجري ( إن شاء الله تعالى ).
    والعجب أنه جعل باب النذر أيضا من باب التأكد مع أن النذر من الجهات التعليلية ! وإلا فلا مدفع للإشكال بعد بطلان التأكد في الطوليين إلا بنحو أسسناه في باب التجري : من طولية العنوانين مع وحدة المعنون ، كما سيجيء شرحه ( إن شاء الله تعالى ).


(35)
أن يكون على وجه الصفتية وإما أن يكون على وجه الطريقية. والصفتية إما أن تكون تمام الموضوع وإما أن تكون جزئه. وأما أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية فقد عرفت الإشكال فيه.
    والموضوع في كل من هذه الأقسام الثلاثة ، إما أن يكون هو الظن المجعول حجة شرعية لمتعلقه ، وإما الظن الغير المجعول ، فتكون الأقسام ستة. هذا في الظن المأخوذ موضوعا لحكم آخر لا يضاد حكم متعلقه ولا يماثله.
    وأما أخذه موضوعا لمضاد حكم متعلقه : فقد عرفت أنه لا يعقل بجميع أقسامه. وأخذه للمماثل فقد عرفت أيضا إمكانه على بعض الوجوه.
    وأما أخذه موضوعا لنفس متعلقه إذا كان حكما ، كما لو قال : « إذا ظننت بوجوب الصلاة تجب عليك الصلاة بذلك الوجوب الذي ظننت به » فإن كان ذلك بنتيجة التقييد لا محذور فيه ، إذ لا يزيد الظن عن العلم ، وفي العلم قلنا إنه يمكن أن يؤخذ كذلك بنتيجة التقييد كما تقدم ، وإن كان بالتقييد اللحاظي فهو مما لا يمكن لاستلزامه الدور كالعلم ، من غير فرق بين الظن المعتبر وغير المعتبر ، بل في الظن المعتبر لا يمكن ولو بنتيجة التقييد ، فإن أخذ الظن حجة محرزا لمتعلقه معناه أنه لا دخل له في المتعلق إذ لو كان له دخل في المتعلق لما اخذ طريقا محرزا للمتعلق ، فأخذه محرزا مع أخذه موضوعا يوجب التهافت ولو بنتيجة التقييد ، وذلك واضح.
    فذلكة :
    قد اختلف بيان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في أقسام الظن المأخوذ موضوعا ، وما بينه أخيرا هو أن الظن الغير المعتبر لا يصح أخذه موضوعا على وجه الطريقية ، لا لمماثل حكم متعلقه ولا لمخالفه ، فإن أخذه على وجه الطريقية يستدعى اعتباره ، إذ لا معنى لاعتبار الظن إلا لحاظه طريقا ، فحينئذ تكون الأقسام ثمانية أو سبعة ، فإن الظن ، إما أن يؤخذ موضوعا لمماثل حكم


(36)
المتعلق ، وإما أن يؤخذ موضوعا لمخالفه ، والأول لا يمكن إلا إذا كان الظن غير معتبر ، إذ الظن المعتبر لا يصلح لأن يؤخذ موضوعا لحكم المماثل ـ على ما تقدم بيانه ـ فالمأخوذ لحكم المماثل لابد وأن يكون الظن الغير المعتبر ويلزمه أن يكون ملحوظا على وجه الصفتية ، لما تقدم : من أن لحاظه على وجه الطريقية يستدعى اعتباره ، والمفروض أنه غير معتبر ، وحينئذ فالذي يمكن من هذا قسمان :
    الأول : أخذه تمام الموضوع على وجه الصفتية ، بأن يكون الخمر حراما ومظنون الخمرية أيضا حراما ، صادف الظن للواقع أو خالفه.
    الثاني : أخذه جزء الموضوع على وجه الصفتية ، بأن يكون الخمر حراما و الخمر المظنون أيضا حراما. ولا إشكال في كل من القسمين ، أما في الأول : فلأن النسبة تكون حينئذ العموم من وجه ، وفي مورد الاجتماع يكون الحكم آكد ، كما في مثل قوله : أكرم العلماء وأكرم الهاشميين. وأما في الثاني : فربما يتوهم لغوية الحكم المماثل ، من جهة أن الحكم الأولى المجعول لذات الخمر محفوظ في حال العلم والظن والشك ، فجعل حكم آخر على الخمر المظنون لغو لا أثر له.
    ولكن يدفعه : أنه يكفي في الأثر تأكد الحرمة في صورة تعلق الظن بالخمر وتكون مثلا واجدة لعشر درجات من المفسدة ، بخلاف ما إذا لم يتعلق الظن به ، فإنه يكون واجدا لخمس درجات ، وربما لا يقدم الشخص على ما يكون مفسدته عشر درجات مع إقدامه على ما يكون خمس درجات وهذا المقدار من الأثر يكفي بعد إمكان أن يكون الظن من العناوين الثانوية الموجبة للمصلحة والمفسدة ، فالإنصاف أنه لا إشكال في شيء من هذين القسمين. هذا إذا اخذ موضوعا لحكم المماثل.
    وأما إذا اخذ موضوعا لحكم المخالف : فإن لم يكن الظن حجة فهو كأخذه لحكم المماثل لابد وأن يكون على وجه الصفتية تمام الموضوع أو جزئه ، و إن كان الظن حجة فيمكن أخذه على وجه الصفتية ويمكن أخذه على وجه


(37)
الطريقية ، وفي كل منهما إما أن يكون تمام الموضوع وإما أن يكون جزئه ( على إشكال في إمكان أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية قد تقدم في العلم ) فتكون أقسام الظن الغير المعتبر أربعة وأقسام الظن المعتبر أيضا أربعة بناء على إمكان أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية ، وإلا فالأقسام سبعة. هذا بناء على عدم صحة أخذ الظن الغير المعتبر موضوعا على وجه الطريقية لحكم المماثل أو المخالف ، وإلا فتكون الأقسام عشرة ، مضافا إلى ما اعتبر طريقا محضا لمتعلقه وكاشفا عنه ومحرزا له من دون أخذه موضوعا لحكم أصلا. والظاهر : أن تكون الأقسام العشرة كلها تصورات لا واقع لها في الشريعة ، والموجود فيها هو اعتبار الظن طريقا محضا ، ويقوم مقامه ساير الطرق العقلية والشرعية والأصول المحرزة.
    ولا يخفى عليك : أن عبارة الشيخ ( قده ) في بيان أقسام الظن لا تخلو عن اضطراب وإغلاق ، فعليك بالتأمل فيها. هذا تمام الكلام في القطع بأقسامه ، والظن بأقسامه.

    إعلم : أن القائل باستحقاق المتجرى للعقاب لابد له من أن يستند إلى إحدى الجهات الأربع : بعضها أصولية وبعضها كلامية وبعضها فقهية.

    الجهة الأولى : دعوى أن الخطابات الأولية تعم صورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، ويندرج المتجرى في عموم الخطابات الشرعية حقيقة ، ببيان أن التكليف لابد وأن يتعلق بما يكون مقدورا للمكلف ، والتكليف الذي له


(38)
تعلق بموضوع خارجي كقوله « لا تشرب الخمر ، وصل في الوقت » وإن كان وجوده الواقعي مشروطا بوجود ذلك الموضوع (1) من غير دخل للعلم والجهل في ذلك ، إلا أن مجرد الوجود الواقعي لا يكفي في انبعاث المكلف وحركة إرادته نحوه ، فإن الحركة والانبعاث إنما يكون بالوجود العلمي ، ولا أثر للوجود الواقعي في ذلك ، فالعلم وإن كان بالنسبة إلى الموضوع طريقا ، إلا أنه بالنسبة إلى الاختيار والإرادة والانبعاث يكون موضوعا ، ومتعلق التكليف إنما يكون هو الاختيار والانبعاث الناشئ عن العلم بالموضوع والتكليف ، وهذا المعنى موجود في كلتي صورتي مصادفة العلم للواقع ومخالفته ، فإنه في صورة المخالفة قد تحقق اختيار شرب ما أحرز أنه خمر ، والفرق بين الصورتين ليس إلا مصادفة العلم للواقع في إحديهما ومخالفته له في الأخرى ، والمصادفة والمخالفة ليست اختيارية ، فلا تصلح لأن يتعلق بها التكليف ، فالذي يصلح لأن يتعلق به التكليف ليس إلا اختيار شر ما أحرز أنه خمر ، فيكون مفاد قوله : لا تشرب الخمر مثلا ـ بعد ضم المقدمة العقلية إليه : من أن متعلق التكليف لابد وأن يكون أمرا مقدورا وليس هو إلا الاختيار والانبعاث نحو ما علم أنه موضوع
1 ـ أقول : بعد الاعتراف بأن الخمر بوجوده الواقعي كان شرطا للتكليف ، فضم المقدمة الأخرى لا ينتج إلا فعلية التكليف في ظرف العلم المصادف لا المطلق ، فاستنتاج هذه النتيجة ينافي دخل الخمرية الواقعية في شرط التكليف ، فهذه الكلمات مختلة النظام في أصل التقريب ، كما أن في جعل الاختيار والانبعاث تحت التكليف مسامحة أخرى ، إذ هذه باصطلاحه من الطوارئ اللاحقة للتكليف فيلحق بالانقسامات اللاحقة ، مضافا إلى أن التكليف بشيء إذا كان من شأنه الدعوة فلا جرم يكون المدعو إليه عنوانا في طول عنوان المعروض وإن كان العنوانين متحدين ذاتا ومنشأ ، فما هو المعروض لا يعقل أخذ الإرادة فيه ولو قيدا ، لأن الإرادة الناشئة عن غير دعوة التكليف أجنبية عن التكليف والإرادة الناشئة عن التكليف معلول التكليف ، فكيف يكون قيد موضوعه ؟ فما توهم في دفع المقدمة الأولى مندفع بهذا الكلام ، إذ الفعل الصادر عن الإرادة الناشئة عن دعوة التكليف معلول التكليف لا معروضه ، فلا محيص من تجريد المعروض عن الإرادة رأسا ، كما لا يخفى على الناظر الدقيق ، وحينئذ هذا البرهان شاهد خروج الإرادة عن حيز التكليف لا جهة الغفلة ، كيف وكثيرا ما نلتفت إلى إرادتنا حين الامتثال ، كما في العبادات خصوصا عند الإخطاري في النية.

(39)
التكليف ـ وهو لا تختر شرب ما أحرزت أنه خمر ، وهذا المعنى كما ترى موجود في المتجرى.
    ولعله إلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ ( قده ) من الوجه العقلي في استحقاق المتجرى للعقاب ، من قوله « وقد يقرر دلالة العقل على ذلك بأنا إذا فرضنا شخصين قاطعين الخ » فإنه يمكن أن يكون ( قده ) في مقام بيان اندراج المتجرى تحت الخطابات الأولية ، كما أنه يمكن أن يكون في مقام بيان كون المتجرى عاصيا حكما وإن لم يكن عاصيا حقيقة ـ على ما سيأتي في الجهة الثالثة ـ.
    وعلى كل حال : ترجع هذه الدعوى إلى أن متعلق التكليف هو القدر الجامع بين مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، بعد ما كانت المصادفة والمخالفة غير اختيارية ، والقدر الجامع ليس إلا تحريك العضلات نحو ما أحرز أنه خمر واختيار شرب ذلك ، فيكون المتجرى عاصيا حقيقة ومخالفا للخطاب النفس الأمري.
    وحاصل هذه الدعوى تتركب من مقدمتين :
    الأولى : دعوى أن متعلق التكليف هو الانبعاث وحركة الإرادة و الاختيار نحو ما أحرز أنه من مصاديق الموضوع الذي تعلق به التكليف الواقعي.
    الثانية : دعوى أن الاحراز والعلم يكون موضوعا على وجه الصفتية بمعنى الاختيار والإرادة ، وإن كان طريقا بالنسبة إلى الموضوع. ولا يخفى عليك ما في كلتي المقدمتين من المنع.
    أما في الأولى : فلأن المتعلق هو الفعل الصادر عن إرادة واختيار لا نفس الإرادة والاختيار ، فان الإرادة والاختيار تكون مغفولة عنها حين الفعل ولا يلتفت الفاعل إليها ، فلا يصلح لأن يتعلق التكليف بها ، فإذا كان متعلق التكليف هو الشرب المتعلق بالخمر الصادر عن إرادة واختيار فالمتجري لم يتعلق شربه بالخمر.
    وأما في الثانية : فلأن الإرادة وإن كانت تنبعث عن العلم ، لكن لا


(40)
بما أنه علم وصورة حاصلة في النفس (1) بل بما أنه محرز للمعلوم ، فالعلم يكون بالنسبة إلى كل من الإرادة والخمر طريقا ، بل العلم يكون في باب الإرادة من مقدمات وجود الداعي ، حيث إنه تتعلق الإرادة بفعل شيء بداعي أنه الشيء الكذائي ، وهذا الداعي ينشأ عن العلم بأنه الشيء الكذائي.
    والحاصل : أن دعوى اندراج المتجرى في الخطابات الأولية لا يمكن إلا بأن يكون التكليف متعلقا بالعنوان الجامع والقدر المشترك بين مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، والقدر الجامع المتصور ليس إلا إرادة شرب الخمر المحرز خمريته ، فإن هذا هو الجامع بين الصورتين.
    وأما لو فرض أن التكليف لم يتعلق بالإرادة وتعلق بشرب الخمر ، فلا ينتج ما أراده المدعى ، لان المتجرى لم يشرب الخمر ولو فرض أن العلم في باب الإرادة اخذ موضوعا على نحو الصفتية ، إذ غايته أنه يعتبر العلم بإرادة شرب الخمر ، إلا أن الإرادة لو خطت مرآة للمراد وهو شرب الخمر ولم يتعلق التكليف بنفسها ، وفي صورة المخالفة لم يتحقق المراد فلم يأت بما هو متعلق التكليف. وكذا لو فرض أن الإرادة لوحظت معنى اسميا وكانت هي متعلق التكليف ، ولكن العلم اخذ موضوعا في باب الإرادة على نحو الطريقية و الكاشفية عن المراد ، فان متعلق التكليف يكون حينئذ هو حرمة إرادة شرب الخمر الذي علم بخمريته على وجه يكون العلم طريقا إلى الخمر الواقعي ، والمتجري وإن أراد شرب الخمر الذي أحرز خمريته ، إلا أن إحرازه لم يقع طريقا إلى الخمر الواقعي ، لأنه لم يؤد إلى الخمر الواقعي ، فدعوى المدعى لا تتم إلا بأخذ
1 ـ أقول : مجرد طريقية العلم لا يقتضي المصادفة للواقع ، كما أن أخذ الجامع بين المصادف والمخالف لا يقتضي أخذ العلم على وجه الصفتية ، فما في هذه الكلمات أيضا من نحو هذه التعبيرات لا يخلو عن اغتشاش ، بل الأولى أن يقال : مع فرض دخل الخمر بعنوانه الواقعي في التكليف لا يعقل تعلقه بمعلوم الخمرية مطلقا ، فضلا عن شمول إطلاقه للعلم المخالف ، كما أشرنا سابقا.

(41)
متعلق التكليف هو الإرادة وأخذ العلم على وجه الصفتية ، وكل منهما في محل المنع ، لما عرفت من أن متعلق التكليف هو الفعل الصادر عن المكلف عن إرادة على وجه تكون الإرادة فانية في المراد ، ودخل العلم في الإرادة إنما يكون على وجه الطريقية والكاشفية عن المراد ، لا على وجه الصفتية.
    مضافا إلى ما عرفت : من أن العلم في باب الإرادة يكون من مقدمات الداعي ، ولا يكون موضوعا للإرادة ، فدعوى اندراج المتجرى في الخطابات الأولية واضحة الفساد ، مع أن هذه الدعوى لا تصلح في مثل ما إذا علم بوجوب الصلاة ولم يصل وتخلف علمه عن الواقع ، فان البيان المتقدم لا يجرى في هذا القسم من التجري ، كما هو واضح.

    الجهة الثانية : دعوى أن صفة تعلق العلم بشيء تكون من الصفات و العناوين الطارية على ذلك الشيء المغيرة لجهة حسنه وقبحه ، فيكون القطع بخمرية ماء موجبا لحدوث مفسدة في شربه تقتضي قبحه.
    والإنصاف : انه ليس كذلك ، فان إحراز الشيء لا يكون مغيرا لما عليه ذلك الشيء من المصلحة والمفسدة. وليس من قبيل الضرر والنفع العارض على الصدق والكذب المغير لجهة حسنه وقبحه ، لوضوح أن العلم بخمرية ماء وتعلق الإحراز به لا يوجب انقلاب الماء عما هو عليه وصيرورته قبيحا ، فدعوى أن الفعل المتجرى به يكون قبيحا ويستتبعه الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة ، واضحة الفساد (1).
1 ـ أقول : يمكن دعوى ان نظر القائل بحرمة التجري ليس إلى دعوى كون العلم بشيء من الجهات المقبحة ، بل عمدة نظره إلى أن إقدامه على العمل من قبل علمه نحو جرئة على المولى وهو قبيح ، ولذا لو علم ولم يقدم لا قبح في البين ، فعدم حرمة التجري مبنى على عدم اقتضاء هذا العنوان المتأخر عن العلم أيضا للقبح ، لا عدم اقتضاء مجرد مخالفة العلم شيئا ، كما لا يخفى. وحينئذ قوله « فدعوى الخ » كما أفاد ـ لا يخلو عن اغتشاش ، بل بهذا البيان يرتفع شبهة اجتماع الضدين ، بتقريب : أن قبح التجري ومبغوضيته لدى المولى ينافي بقاء الواقع على

(42)
    نعم : لا بأس بدعوى القبح الفاعلي (1) بأن يكون صدور هذا الفعل عن مثل هذا الفاعل قبيحا وإن لم يكن الفعل قبيحا. ولا ملازمة بين القبح الفاعلي والقبح الفعلي ، إذ ربما يكون الفعل قبيحا ولكن صدوره عن الفاعل حسن ـ كما في صورة الانقياد ـ وربما ينعكس الأمر ـ كما في صورة التجري ـ و حينئذ يقع الكلام في أن هذا القبح الفاعلي هل يصلح لأن يكون ملاكا للخطاب بحيث يتعلق خطاب بالفعل الصادر عن الفاعل قبيحا ؟ أو أنه لا يصلح لأن يكون ملاكا للخطاب ؟ والكلام في ذلك تارة : يقع من حيث عموم الخطابات الأولية لما يصدر عن المكلف قبيحا ، بحيث تكون تلك الخطابات مطلقة تعم صورة القبح الفعلي والقبح الفاعلي ، وأخرى : يقع من حيث استتباع القبح الفاعلي لخطاب يخصه ، غير الخطابات المترتبة على الموضوعات الواقعية.
ما هو عليه من المحبوبية ، للجزم بان علم المكلف بخلاف مرامه لا يغير مرامه ، أقدم المكلف على وفق علمه أم ما أقدم.
    وملخص جوابه : أن المحبوب في الواقع هو الذات في الرتبة السابقة عن حكمه لأن موضوعه ، والذات المبغوض في التجري هو الذات الملحوظ في الرتبة اللاحقة عن العلم بحكمه ، فالذاتان حيث كانتا في الرتبتين لا يتعدى حكم كل إلى الآخر ، بعد التحقيق بأن موضوع الحكم ومعروضه في كل مقام هو العنوان لا المعنون ، بلا إضرار لوحدة المعنون أصلا لعدم سراية الحكم إليه ، كما لا يخفى.
1 ـ أقول : ما المراد من صدور الفعل من الفاعل ؟ فإن أريد به الفعل المضاف إلى الفاعل بإضافة صدورية فقهرا قبح الفعل المضاف عين قبح الفعل بقبح ضمني لا مستقل ، وهو خلاف المقصود أيضا. وإن أريد نفس إضافة الفعل إلى الفاعل فهو أشنع ، لأن قبح الإضافة المزبورة يسرى إلى ما قام به ولو غيريا من باب المقدمة. وان أريد به كشف صدور الفعل عن سوء ذات الفاعل بلا قبح في صدور الفعل أبدا فلازمه عدم استحقاقه للثواب في الانقياد أيضا ، ولا أظن التزامه من أحد ، كيف ! ولازمه عدم رجحان الاحتياط باحتمال كونه انقيادا ، إذ هو خلاف صريح كلماتهم بعدم الإشكال في رجحان الاحتياط. هذا مضافا إلى أنه بناء على الكاشفية لا معنى لاستناد القبح إلى صدور الفعل ولا إلى ذات الفاعل لسوء سريرته ، فان هذه أمر غير اختياري لا معنى لإضافة الحسن والقبح إليه ، إذ لا يتصف بهما إلا ما هو اختياري للمكلف ـ كما لا يخفى ـ وحينئذ لا حسن ولا قبح في البين ، وهو كما ترى !.


(43)
    أما الكلام من الحيثية الأولى : فالحق فيه أن الخطابات الأولية لا تعم القبح الفاعلي ، فان الحسن والقبح الفاعلي إنما يكون مترتبا على الخطابات الأولية (1) ومن الانقسامات اللاحقة له ، إذ بعد تعلق الخطابات بموضوعاتها تتحقق رتبة الحسن الفاعلي وقبحه ، فان ذلك يقع في رتبة امتثال تلك الخطابات وعصيانها ، فلا يمكن أن تكون الخطابات مطلقة تعم الحسن الفاعلي وقبحه بالاطلاق والتقييد اللحاظي.
    نعم : يمكن ذلك بنتيجة الإطلاق والتقييد (2) إلا أن دعوى إطلاق تلك الخطابات ولو بنتيجة الإطلاق للفعل الصادر عن الفاعل قبيحا تكون بلا برهان ، بعد ما كانت الخطابات مترتبة على موضوعاتها الواقعية ، والموضوع في مثل قوله ( لا تشرب الخمر ) هو الخمر الواقعي.
    نعم : قد يتفق تقييد الخطاب بصورة صدور الفعل عن الفاعل حسنا و عدم صدوره قبيحا ، كما في مثل الصلاة في الدار المغصوبة ، حيث قلنا ببطلان الصلاة فيها عند الالتفات إلى موضوع الغصب وحكمه ، مع أنا نقول : بجواز اجتماع الأمر والنهي (3) وليس ذلك إلا من جهة أن صدور الصلاة المشتملة على المصلحة من مثل هذا الشخص يكون قبيحا ، فلا تصلح لأن يتقرب بها ، فقد قيدت الصلاة بصورة عدم صدورها عن الفاعل قبيحا بنتيجة التقييد ، كما
1 ـ أقول : ما يترتب على الخطاب هو حكم العقل باستحقاق الثواب والعقاب ، لا جهة سوء سريرة الفاعل ، إذ وجودها في ذات الفاعل غير محتاج إلى الخطاب أصلا ، وإن تحقق تكشف عنه في بعض الأحيان. و حينئذ احتمال الكشف في الكلام السابق ملغى. بقى في البين الاحتمالان الأولان ، ولقد تقدم ما فيهما
2 ـ أقول : ولقد تقدم الكلام فيه مستقصى ، فراجع. نعم : في صيرورته تحت الخطاب ـ كما أفيد ـ يحتاج إلى متمم الجعل.
3 ـ أقول : قد حققنا في محله أنه بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوانين لا معنى لسراية القبح فعليا وفاعليا إلى العنوان الراجح ، فلا معنى لتقييد موضوع الأمر بعدم اقترانه بالحرام ، كما هو الشأن في المتزاحمين ، وإن كان بينهما فرق من جهة أخرى ، فتدبر.


(44)
قيدت بقصد القربة ، بل يكون ذلك التقييد من شؤون التقييد بقصد القربة ، لكن هذا في خصوص العبادات التي يعتبر فيها التقرب ، وأما في غير ذلك فتقييد الخطاب وإطلاقه بالنسبة إلى الحسن الفاعلي وقبحه يكون بلا موجب ، فدعوى أن الخطابات الأولية تعم قبح الفاعلي ضعيفة جدا.
    وأما الكلام من الحيثية الثانية : وهي اختصاص القبح الفاعلي بخطاب يخصه غير الخطابات الأولية ، فمجمل الكلام فيها : هو أن توجيه الخطاب إلى ما يختص بالقبح الفاعلي مما لا يمكن ، فان موضوع الخطاب الذي يمكن أن يختص بذلك إنما هو عنوان المتجرى (1) أو العالم المخالف علمه للواقع و أمثال ذلك من العناوين المختصة بالقبح الفاعلي ، والخطاب على هذا الوجه لا يعقل ، لأن الالتفات إلى العنوان الذي تعلق به الخطاب مما لا بد منه ، و المتجرى لا يمكن أن يلتفت إلى أنه متجري ، لأنه بمجرد الالتفات يخرج عن كونه متجريا ، فتوجيه الخطاب على وجه يختص بالقبح الفاعلي فقط لا يمكن ، مع أنه لا موجب إلى هذا الاختصاص (2) فان القبح الفاعلي مشترك بين
1 ـ أقول : ما أفيد إنما يتم لو قلنا بأن مناط الخطاب وموضوعه عنوان التجري ، ولنا ان نقول : إن تمام المناط على الطغيان على المولى والتسليم له الجامعين بين العصيان والتجري والإطاعة والانقياد. وحينئذ الغفلة عن فرد الجامع مع الالتفات بنفسه ـ ولو بخيال فرد آخر ـ لا يضر باستحقاق العقوبة وقبحه الفاعلي ، ولو صادف الفرد الآخر ، كما لا يخفى.
2 ـ أقول : اعترافه بعدم اختصاص القبح بخصوص صورة المخالفة في غاية الجودة ، ولكن ذلك لا يقتضي تعلقه بعنوان معلوم الخمرية أعم من المخالف والمصادف ، بل انما يتعلق بالطغيان الصادر عن العلم بالخمرية ، كما أشرنا إليه سابقا.
    ثم إنه على فرض تعلقه بهذا العنوان لا معنى للتأكد في المجمع ، إذ الحكم المترتب على العلم بحرمة الخمر يستحيل اتحاده مع الحرمة الواقعية ، فأين يتصور التأكد في المقام ؟ نعم : الأولى أن يعتذر عن مثل هذا الحكم في حق العالم به بمغفولية وجود موضوعه في العلم المخالف ، وذلك أيضا على فرض تعلق الحكم بكل واحد من العلم المخالف والموافق ، وإلا فعلى فرض تعلقه بالجامع ـ كما فرضنا ـ فلا مانع فيه ، كما أشرنا إليه في الحاشية السابقة ، فتدبر ، ولعمري ! أن الناظر البصير يرى هذه القطعة مختلة النظام ، وأظن أنه من المقرر.


(45)
المصادفة للواقع والمخالفة ، بل القبح الفاعلي في صورة المصادفة أتم وأكمل ، فلو كان القبح الفاعلي مناطا للخطاب فلابد وأن يكون الخطاب على وجه يعم صورة المصادفة والمخالفة ، بأن يقال : لا تشرب معلوم الخمرية ، فان هذا العنوان يعم كلتا الصورتين.
    ولكن الخطاب على هذا الوجه أيضا لا يمكن ، لا لمكان أن العلم لا يكون ملتفتا إليه غالبا والفاعل لا يشرب الخمر بعنوان أنه معلوم الخمرية ، بل بعنوان أنه خمر ، فان الالتفات إلى العلم من أتم الالتفاتات ، بل هو عين الالتفات ولا يحتاج إلى التفات آخر ، ولو لم يمكن أخذ العلم موضوعا في المقام فكيف يعقل أخذه موضوعا لحكم آخر ؟ وهل يمكن الفرق بين مواضع أخذ العلم موضوعا ؟ مع أن صاحب الدعوى سلم إمكان أخذ العلم موضوعا لحكم آخر ، فهذا لا يصلح أن يكون مانعا لتوجيه الخطاب كذلك ، كما لا يصلح عدم ثبوت المصلحة والمفسدة في المتعلق في صورة المخالفة لأن يكون مانعا عن الخطاب ، لأن صحة الحكم لا تدور مدار وجودهما في المتعلق بعد ما كان القبح الفاعلي مناط للخطاب ، بل المانع من ذلك هو لزوم اجتماع المثلين في نظر العالم دائما وإن لم يلزم ذلك في الواقع ، لأن النسبة بين حرمة الخمر الواقعي و معلوم الخمرية هي العموم من وجه ، وفي مادة الاجتماع يتأكد الحكمان ـ كما في مثل أكرم العالم وأكرم الهاشمي ـ إلا أنه في نظر العالم دائما يلزم اجتماع المثلين ، لأن العالم لا يحتمل المخالفة ودائما يرى مصادفة علمه للواقع ، فدائما يجتمع في نظره حكمان ، ولا يصلح كل من هذين الحكمين لأن يكون داعيا و محركا لإرادة العبد بحيال ذاته ، ولا معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث عنه ولو في مورد ، وفي مثل أكرم العالم وأكرم الهاشمي يصلح كل من الحكمين للباعثية بحيال ذاته ولو في مورد افتراق كل منهما عن الآخر ، وفي صورة الاجتماع يلزم التأكد ، فلا مانع من تشريع مثل هذين الحكمين. بخلاف المقام ، فإنه لو فرض أن للخمر حكما ولمعلوم الخمرية أيضا حكما ، فبمجرد
فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: فهرس