|
|||
(316)
ولا يقاس الترجيح في تعيين الحجة الشرعية على الترجيح في الأمور العادية ، فإنه في الأمور العادية يكفي أدنى مزية موافقة للغرض وميل النفس وملائمة الطبع لترجيح أحد الطرفين واختياره ، وأما الأمور الشرعية : فلابد من أن يكون الترجيح بما ثبت حجيته واعتباره شرعا أو عقلا ، ولا يكفي في الخروج عن الترجيح بلا مرجح مطلق المزية ما لم يقم دليل على وجوب الترجيح بها.
وإن كان المراد من الترجيح بمظنون الاعتبار ، هو أن القضية المهملة المرددة بين مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه تتعين في خصوص مظنون الاعتبار (1) بترتيب مقدمات انسداد آخر ، بأن يقال : إنا نعلم من مقدمات الانسداد المتقدمة أن الشارع جعل لنا حجة وطريقا إلى الأحكام المعلومة بالإجمال ، وقد انسد علينا باب العلم به لتردد الطريق المجعول بين مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه ، ولا يجوز لنا إهمال الطريق المجعول لأنه يلزم من إهماله إهمال الإحكام ، ولا يجوز أو لا يجب الاحتياط في جميع الأطراف : من مظنون الاعتبار أو مشكوكه وموهومه ، فالعقل يستقل حينئذ بتعين الأخذ بمظنون الاعتبار وترك المشكوك والموهوم ، ولو فرض تردد الظن بالاعتبار أيضا بين مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه ، فلا بد من إجراء مقدمات انسداد ثالث لتعيين النتيجة وانتهاء الأمر إلى اعتبار ظن واحد أو ظنون متعددة ، فيؤخذ بالجميع ، فيكون الترجيح بمظنون الاعتبار لقيام دليل قطعي على الترجيح به ، 1 ـ أقول : لا مجال لجعل الانسداد في الطرق معينا لنتيجة الانسداد الجاري في الأحكام ، لأن انتهاء النوبة إلى الانسداد الثاني فرع عدم كون النتيجة الواصل بنفسه ، وذلك لا يمكن إلا بعدم ايكال العقل في الانسداد الأول بالمقدمة الرابعة ، وإلا يستقل العقل بالأخذ بالأقرب فالأقرب ، وربما يكون نفس الظن بالاعتبار طريقا إلى الأقربية ـ بالتقريب المتقدم ـ فمع حكمه به لا يبقى مجال لإهمال العقل وإجماله ، كي ينتهى النوبة إلى الانسداد الثاني ، ثم على فرض عدم الإيكال إلى المقدمة الرابعة لا مجال لكشف حجية الظن رأسا ، فالجمع بين حجية الظن وإهماله لا يخلو عن تهافت !. (317)
وهو مقدمات الانسداد الثاني أو الثالث أيضا إن وصلت النوبة إليه.
فيرد عليه : أن إجراء مقدمات الانسداد الثاني والثالث يتوقف على بقاء النتيجة مهملة بحيث لا يمكن تعيينها إلا بمقدمات انسداد آخر ، وليس كذلك ، فإنه بمجرد عدم ثبوت مرجح لبعض أفراد الظنون يستقل العقل بعموم النتيجة لكل ظن ، لقبح الترجيح بلا مرجح ، فلا إهمال حتى نحتاج إلى مقدمات انسداد آخر. فان قلت : يمكن قلب الدليل بأن يقال : إن حكم العقل بعموم النتيجة موقوف على ثبوت المرجح لبعض أفراد الظنون وبمعونة الانسداد الثاني يثبت المرجح لمظنون الاعتبار ، فيرتفع موضوع حكم العقل بالتعميم الذي كان مبنيا على قبح الترجيح بلا مرجح. وبالجملة : كما يصح أن يقال : إن العقل يستقل بعموم النتيجة لكل ظن بمجرد عدم ثبوت المرجح لبعض أفراد الظنون فلا إهمال حتى نحتاج إلى دليل الانسداد ، كذلك يصح أن يقال : إن العقل يستقل ببركة مقدمات الانسداد بترجيح مظنون الاعتبار ، فلا قبح في ترجيحه ، فلا تعميم في النتيجة. قلت : حكم العقل بالتعميم مقدم بالرتبة على حكمه بترجيح مظنون الاعتبار بمعونة مقدمات الانسداد الثاني ، لما عرفت سابقا : من أن نتيجة مقدمات الانسداد لابد من أن تكون واصلة إلى المكلف إما بنفسها وإما بطريقها (1) فإنه لا أثر لترتيب مقدمات لا تكون النتيجة منها واصلة لا بنفسها 1 ـ أقول : قد عرفت سابقا : أن النوبة لا ينتهى إلى تشكيل مقدمات الانسداد في الطرق إلا في فرض كون النتيجة الطريق الواصل بطريقه ، وهو لا يمكن إلا بعدم ايكال الشرع في تعين طريقه في الانسداد الأول إلى المقدمة الرابعة ، وإلا فلا يبقى معه مجال الإهمال ، إذ العقل مستقل بالتعميم لو لم يكن في البين أقرب إلى الواقع أو ببدله ، فيعين فيه مع وفائه بالفقه ، فتكون النتيجة حينئذ الطريق الواصل بنفسه. كما أن الانسداد الثاني أيضا مشروط بايكال العقل في تعيين الطريق في الانسداد الثاني إلى المقدمة الرابعة من الأخذ بما هو أقرب الطرق إلى الطريق المجعول بالانسداد الأول ، وإلا فلا يكاد ينتهى النوبة إلى جريان (318)
ولا بطريقها ، وحيث استكشفنا من مقدمات الانسداد : أن الشارع جعل الظن في الجملة طريقا إلى إحراز الأحكام وتردد الطريق المجعول بين أفراد الظن ، فلابد وأن يستقل العقل إما بالتعميم لجميع أفراد الظن وإما بتعيين بعض أفراده ، ولكن حكم العقل بالتعيين يتوقف على ثبوت معين ومرجح لبعض الأفراد في تلك المرتبة ـ أي في مرتبة استكشاف النتيجة من المقدمات ـ وفي تلك المرتبة لم يكن ما يقتضي الترجيح والتعيين لبعض الأفراد ، بل ترجيح البعض يتوقف على ترتيب انسداد آخر ، وهو يتوقف على بقاء الإهمال والإجمال في الطريق المنصوب في المرتبة المتأخرة من أخذ النتيجة ، والعقل يستقل في المرتبة السابقة بعموم النتيجة ، لأنه في تلك المرتبة لم يثبت الترجيح ، فلا يبقى موضوع للانسداد الثاني ، فتأمل.
فتحصل : أن الوجوه الثلاثة التي ذكروها لترجيح بعض أفراد الظنون على بعض وتخصيص النتيجة بالبعض المعين ـ ردا على ما ذكره في وجه التعميم من عدم الترجيح لبعض الأفراد على بعض ـ كلها مخدوشة. الوجه الثاني : ( من وجوه التعميم ). هو ما حكى عن بعض الأعلام : من أن القاعدة وإن كانت تقتضي الاقتصار على مظنون الاعتبار إذا كان وافيا بمعظم الأحكام ، إلا أنه يعلم إجمالا أن في مشكوك الاعتبار وموهومه مقيدات ومخصصات لمظنون الاعتبار ، فيجب المقدمات في الطرق ، إلا مع الجزم بالايكال في أحد المراتب بالمقدمة الرابعة ، فلابد حينئذ من إجراء المقدمات إلى أن ينتهى هناك ، ومع عدم الايكال بالرابعة مطلقا ، فلابد من إجراء المقدمات إلى أن ينتهى إلى ظن واحد أو أمارة واحدة ـ ولو لم تكن ظنا ـ أو أمارات متساوية ، ومع عدم الانتهاء إليها فلا محيص من كون المرجع فيه الاحتياط تماما أو تبعيضا تخييريا ، كما لا يخفى. وحينئذ عمدة الوجه في هذا الترتيب وتقديم بعضها على بعض بملاحظة ايكال الشرع إلى المقدمة الرابعة وعدمه في الانسداد الأول أو مطلقا ، فتدبر فيما قلنا بعين الإنصاف. (319)
العمل بالجميع.
وفيه أولا : منع العلم الإجمالي. وثانيا : أنه يلزم الاقتصار على الأخذ بالمشكوكات أو الموهومات التي تكون كاشفة عن المرادات في مظنون الاعتبار ، ولا موجب للأخذ بجميع المشكوكات والموهومات ، فهذا الوجه لا يقتضي تعميم النتيجة إلى كل ظن. الوجه الثالث : ما حكى عن بعض المشايخ : من أن قاعدة الاشتغال تقتضي العمل بجميع أفراد الظنون ، لأن الثابت من دليل الانسداد وجوب العمل بالظن في الجملة ، وحيث إنه لم يكن في أفراد الظن ما يكون قدرا متيقنا وافيا بالأحكام ، فلابد من العمل بكل ما يحتمل الحجية. وفيه : أن الاحتياط في المسائل الأصولية يرجع إلى الاحتياط في المسائل الفقهية (1) وقد تقدم ( في المقدمة الثالثة من مقدمات الانسداد ) بطلان الاحتياط في المسائل الفقهية. فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه على فرض كون النتيجة مهملة لا سبيل إلى تعميمها بأحد الوجوه الثلاثة ، ولكن قد عرفت : أنه لا وجه لأن تكون النتيجة مهملة بعد البناء على بطلان الاحتياط في كل واقعة واقعة وعدم جواز الرجوع إلى البراءة كذلك ، وعلى فرض كون النتيجة مهملة ، فلابد من الاقتصار على العمل بالخبر الموثوق به ، لأنه هو القدر المتيقن في حال الانسداد 1 ـ أقول : كم فرق بين دائرة الاحتياط في كلية الأحكام وبين دائرة الاحتياط بين الأمارات المثبتة ، وربما لا يستلزم الثاني حرجا بخلاف الأولى ، وقيام الإجماع على بطلان الاحتياط في الأولى أيضا لا يكاد يشمل الثاني ، لوجود القائل به هنا وكلامه هناك ، فتدبر. فالأولى في الجواب عنه أن يقال : بأن ايكال الشارع بالمقدمة الرابعة كما يعين الظن يوجب بطلان الاحتياط في إجراء الانسداد الثاني أيضا ، كما أشرنا إليه كرارا. (320)
ويفي بمعظم الأحكام الشرعية.
ولا وجه لان يكون القدر المتيقن هو الخبر الصحيح الأعلائي باصطلاح المتأخرين وهو الواجد للقيود والشروط المتقدمة ، حتى يقال : إنه لا يفي بأقل قليل من الأحكام ، مع أنه لو سلم كونه هو المتيقن ، ففيما بين الأخبار التي دلت على حجية الخبر ما يكون واجدا للقيود والشروط ، فلا محيص من البناء على كون النتيجة خصوص الخبر الموثوق به ولو لم يعمل به الأصحاب ، لأنه المتيقن الحقيقي أولا ، والمتيقن الإضافي ثانيا ، وأنه مما قام ظن واحد على حجيته ثالثا. فسواء قلنا بصحة مقدمات الانسداد أو لم نقل يكون الطريق المنصوب هو خبر الثقة ، وهو بحمد الله واف بمعظم الأحكام ، فلا محذور في الرجوع إلى الأصول العملية فيما لم يقم عليه خبر الثقة ، فتأمل جيدا. الأمر الثالث : قد وقع الإشكال في خروج العمل بالظن القياسي عن عموم العمل بالظن المستنتج اعتباره من دليل الانسداد بناء على الحكومة ، بتوهم : أن الحكم العقلي غير قابل للتخصيص ، فكيف يصح المنع عن الظن الحاصل من القياس مع استقلال العقل بكفاية الامتثال الظني في حال انسداد باب العلم وعدم جواز الاقتصار على الامتثال الاحتمالي. وقد أجيب عن الإشكال بأجوبة متعددة ، من أراد الاطلاع عليها مع ما فيها فليراجع فرائد الشيخ ( قدس سره ). ولكن الإنصاف : أنه لا وقع لأصل الإشكال ، فان حكم العقل بكفاية الامتثال الظني من أول الأمر مقيد ومعلق على عدم قيام الدليل القطعي على المنع عنه في مورد ، مع أن القياس في الأحكام الشرعية ليس من السبب (321)
العقلائي الذي يصح الاعتماد عليه (1) لعدم الإحاطة بمناطاتها ، بخلاف الأمور والأحكام العادية والعرفية ، فان ملاكاتها بيد العرف يمكن قياس بعضها على بعض ، بخلاف الأحكام الشرعية فان مبنى الشرع على تفريق المجتمعات وجمع المتفرقات ، والعقل إنما يستقل بكفاية الامتثال الظني إذا كان حاصلا من سبب عقلائي لا يكثر خطأه ، فمع قطع النظر عن قيام الدليل القطعي على المنع عن القياس ما كان العقل يحكم بكفاية الامتثال الظني الحاصل من القياس بعد التفاته إلى كثرة خطأه.
وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في خروج الامتثال الظني الحاصل من القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد. نعم : ينبغي الإشكال في صحة أصل المنع عن العمل بالقياس كلية مع قطع النظر عن دليل الانسداد مع أنه قد يصيب الواقع. وحل الإشكال انما يكون بأحد أمرين : إما الالتزام بأن الأحكام الواقعية مقيدة بما إذا لم يؤد إليها القياس ، فلا يكون الحكم الواقعي في مورد القياس على طبق ما أدى إليه القياس فيكون النهى عن العمل به من باب الموضوعية ، وإما الالتزام بالمفسدة السلوكية على عكس المصلحة السلوكية التي كانت في باب الطرق والأمارات ، فيكون النهى عنه لمكان أن في العمل بالقياس وسلوكه وأخذه طريقا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع ، فتأمل. 1 ـ أقول : الأولى الاقتصار في الجواب بالجواب الأول من تعليقية حكمه ، وإلا فلو بنينا على منجزيته لا يفي هذا الجواب في دفعه ، لأن تمام المناط في نظر العقل هو قربه إلى الواقع لا جهة عقلائية ، وربما يكون الظن القياسي أقرب من غيره إلى الواقع ، كما لا يخفى. نعم : ربما يصير الالتفات إلى كثرة خطائه موجبا لعدم حصول الظن منه وأين ذلك ومحل البحث ! (322)
الأمر الرابع :
في الظن المانع والممنوع. وفيه وجوه : والأقوى : اعتبار الظن المانع دون الظن الممنوع ، فان حال الظن الممنوع حال الظن القياسي مما قام الدليل القطعي على المنع عنه وعدم اعتباره ، وهو الظن المانع ، فإنه مما تعمه نتيجة دليل الانسداد بلا مؤنة ، بخلاف الظن الممنوع ، حيث إن اندراجه في النتيجة يتوقف على خروج الظن المانع عنها ، فيكون حال الظن المانع والممنوع حال الأصل السببي والمسببي (1) وسيأتي في محله أن الأصل السببي يمنع عن جريان الأصل المسببي ، ولا يمكن العكس ، لأن اندراج الأصل السببي في عموم قوله ـ عليه السلام ـ « لا تنقض اليقين بالشك » لا يحتاج إلى مؤنة ، بخلاف اندراج الأصل المسببي ، فان شمول خطاب « لا تنقض اليقين » له يتوقف على خروج الأصل السببي عن العموم ، ومن المقرر في محله : أنه إذا توقف شمول العام لفرد على خروج فرد آخر عنه فالعام لا يشمل ذلك الفرد ، لا أنه يشمله ويخرج ما يكون داخلا فيه بلا مؤنة ، فان العام إنما يشمل الأفراد التي تكون متساوية الأقدام بالنسبة إلى اندراجها تحت عنوان العام ، وسيأتي توضيح ذلك ( إن شاء الله تعالى ) في محله ، والظن المانع والممنوع يكونان من هذا القبيل. ودعوى : أنه لا يمكن حصول الظن بعدم حجية ظن آخر ، مخالفة 1 ـ أقول : الأولى بناء على تعليقية حكم العقل في باب الانسداد أن يقال : إن المقتضى في الظن الممنوع تعليقي وفي المانع تنجيزي ، إذ لا مانع عنه غير الظن الممنوع الذي لا يشمله الدليل باقتضائه إلا في ظرف عدم تأثير المقتضى في المانع ، وكل مورد كان من هذا القبيل يستحيل مانعيته ، لأنه دوري ، فمقتضى التنجيزي يؤثر أثره. وهذا التقريب أولى من تنظير المقام بباب الشك السببي والمسببي ، حيث هنا عموم دائر بين التخصيص ولا عموم في المقام ، كما لا يخفى. (323)
للوجدان لا ينبغي الالتفات إليها. وبما ذكرنا يظهر ضعف ما قيل في المقام ، فراجع.
ونحن نقتصر على الإشارة إليها ، لأنه قد تقدم جملة منها في المباحث السابقة ، وجملة منها لا تستحق إطالة الكلام فيها ، وإن كان الشيخ ( قدس سره ) قد أطنب البحث فيها. الأول : في حجية الظن الحاصل من قول اللغوي في معاني الألفاظ الواردة في الروايات. وقد تقدم البحث عما قيل أو يمكن أن يقال في وجه ذلك. الثاني : في حجية الظن بوثاقة الراوي الحاصل من توثيق أهل الرجال. وتقدم أن الأقوى اعتبار الظن بذلك ، لأنه يوجب حصول الوثوق بصدور الرواية ، ومعه لا حاجة إلى دعوى انسداد باب العلم غالبا بوثاقة الراوي من غير طريق إخبار أهل الرجال ولا يحصل من إخبارهم غالبا سوى الظن ، فلو لم يكن الظن حجة يلزم إهمال ما تضمنته الأخبار من الأحكام ، أو الرجوع إلى الأصول ، أو الاحتياط ، إلى آخر ما تقدم في مقدمات دليل الانسداد. وهذه الدعوى وإن كانت في محلها ـ كما تقدم سابقا ـ إلا أنه لا يتوقف اعتبار الظن الحاصل من قول أهل الرجال عليها ، بل لو فرض انفتاح باب العلم بوثاقة الرواة كان الظن بالوثاقة أيضا حجة ، لأنه يوجب الوثوق بالصدور الذي هو المناط في حجية الروايات. (324)
الثالث : انسداد باب العلم في بعض موضوعات الأحكام لا يوجب اعتبار الظن فيه (1) فإنه لا يلزم من الرجوع إلى الأصول أو الاحتياط فيها محذور ، إلا إذا تولد من الظن فيها عنوان آخر كان هو الموضوع للحكم ك « باب الضرر » فان الظن بتحقيق الضرر يلازم الخوف الذي هو الموضوع في الحقيقة ، بل قد يحصل الخوف من الشك أيضا.
الرابع : لا عبرة بالظن في باب الأصول والعقايد ، فإنه لابد فيها من تحصيل العلم ، وفي الموارد التي انسد فيها باب العلم يمكن الالتزام وعقد القلب بها على سبيل الإجمال ، بمعنى أنه يلتزم بالواقعيات على ما هي عليها. وقد أطال الشيخ ( قدس سره ) الكلام في هذا المقام بلا موجب. وليكن هذا آخر ما أردنا ذكره من المباحث المتعلقة بالظن. والحمد لله أولا وآخرا.
والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين
واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
1 ـ أقول : لا يخفى أن لازم مقالة القائل بالتبعيض في الاحتياط ومرجعية الظن في مقام الإسقاط : أن يلتزم في الموضوعات عند الاضطرار بغير المعين الأخذ بطرف المظنون لو كان ، لجريان تمام مقدماته فيه ، ولا أظن التزامه به ، وليس ذلك إلا من جهة منع تمامية المقدمة الرابعة في تعيين الظن في مقام إسقاط التكليف به ، ولعمري ! أن ذلك من الشواهد على بطلان مسلك التبعيض في باب الانسداد ، علاوة عما ذكرنا : من أن لازم التعيين في الظن والترخيص في غيره مطلقا ـ كما هو ظاهر كلامه ـ سقوط العلم عن المنجزية رأسا ، مضافا إلى أن مقتضى محذور الخروج عن الدين ـ ولو لم يكن علم إجمالي ـ وجود منجز آخر في البين ، ومعه ينحل العلم الإجمالي رأسا ولا يبقى معه أثر ، وحينئذ كان لتعيين المنجز الآخر بالمقدمة الرابعة مجال. وبهذا البيان أيضا قلنا ببطلان الاحتياط رأسا حتى تبعيضا ، كما لا يخفى ، فتدبر ، ولقد أشرنا إلى وجه التأمل في بعض الحواشي السابقة. (325)
وقبل الخوض في المباحث ينبغي تقديم أمور :
الأمر الأول : ان الشك في الشيء قد يؤخذ موضوعا للحكم الواقعي كالشك في عدد ركعات الصلاة ، حيث إنه يوجب تبدل الحكم الواقعي إلى الركعات المنفصلة. وقد يؤخذ موضوعا لحكم ظاهري ، وهو المقصود بالبحث في المقام. ومتعلق الشك قد يكون حكما جزئيا أو موضوعا خارجيا ، وقد يكون حكما كليا ـ على ما مر منا مرارا من بيان الفرق بين الحكم الجزئي والكلي ـ والغرض من البحث إنما هو بيان ما هو الوظيفة عند الشك في الحكم الكلي ، وقد يبحث عن الشك في الحكم الجزئي أو الموضوع الخارجي استطرادا. والوظيفة المقررة لحال الشك هي الأصول العملية ، وهي على قسمين : منها : ما تختص بالشبهات الخارجية كأصالة الصحة وقاعدة الفراغ والتجاوز ومنها : ما تعم الشبهات الحكمية ، وعمدتها الأصول الأربعة ، وهي : الاستصحاب والتخيير والبرائة والاحتياط ، وقد تقدم في صدر الكتاب بيان مجاريها ، وإجماله : هو أنه إما أن يلاحظ الحالة السابقة للشك ، أولا. وعلى الثاني : إما أن يكون التكليف معلوما بفصله أو نوعه أو جنسه. أولا. وعلى (326)
الأول : إما أن يمكن فيه الاحتياط ، أولا. فالأول مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى الاحتياط ، والثالث مجرى التخيير ، والرابع مجرى البراءة.
الأمر الثاني : ظاهر كلام الشيخ ( قدس سره ) في المقام وفي مبحث « التعادل والتراجيح » أن الوجه في التنافي بين الأمارات والأصول العملية هو الوجه في التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ، وما هو المناط في الجمع بين الأمارات والأصول هو المناط في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري. والتحقيق : أن التنافي بين الإمارات والأصول غير التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ، وطريق الجمع بينهما غير طريق الجمع بين هذين ، فان التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري إنما كان لأجل اجتماع المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة والوجوب والحرمة وغير ذلك من المحاذير الملاكية والخطابية المتقدمة ، وقد تقدم طريق الجمع بينهما ، وأين هذا من التنافي بين الأمارات والأصول ؟ فإنه ليس في باب الأمارات حكم مجعول من الوجوب والحرمة حتى يضاد الوظيفة المجعولة لحال الشك ، بل ليس المجعول في باب الأمارات إلا الطريقية والوسطية في الإثبات وكونها محرزة للمؤدى ، ووجه التنافي بينها وبين الأصول إنما هو لمكان أنه لا يجتمع إحراز المؤدى في مورد الشك فيه مع إعمال الوظيفة المقررة لحال الشك إذا كانت الوظيفة المقررة على خلاف مؤدى الأمارة ، ورفع التنافي بينهما إنما هو لحكومة الأمارات على الأصول (1) وسيأتي 1 ـ أقول : ما هو صريح كلمات « شيخنا العلامة » في المقام وفي باب « التعادل والتراجيح » هو أن مفاد الأصول حكم ثابت في ظرف الشك بالحكم الواقعي ومفاد الأمارة نفس الحكم الواقعي ، فقهرا يكون مفاد الأصول بحسب الرتبة متأخرة عن مفاد الأمارة ، ولازم هذا التأخير : أنه لو فرض قيام دليل على الأمارة كان رافعا لموضوع الأصل إن كان علميا وجدانيا ، وإلا كان حاكما عليه ، ومن هذا البيان ظهر : أنه ( قدس سره ) ما التزم بالتنافي بين مفاد الأصل ومفاد نفس الأمارة وبين الحكم الواقعي والظاهري من جهة اختلاف الرتبة وأن هذا (327)
تفصيل ذلك ( إن شاء الله تعالى ) في آخر الاستصحاب.
وإجماله : هو أن الأمارات إنما تكون رافعة للشك الذي اخذ موضوعا في الأصول العملية ، لا رفعا وجدانيا بنفس التعبد بالأمارة ، بل رفعا تعبديا بثبوت المتعبد به ، وبذلك تفترق « الحكومة » عن « الورود » كما يفترق « الورود » عن « التخصيص » بأن خروج فرد عن موضوع الحكم في « الورود » إنما يكون بعناية التعبد ، وفي « التخصص » بلا عناية التعبد ، بل بالتكوين ، كخروج الجاهل عن العالم ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاستصحاب ، وبينا الوجه في حكومة الأمارات بعضها على بعض ، وحكومتها على الأصول ، وحكومة الأصول بعضها على بعض ، فراجع. الأمر الثالث : لا يجوز إعمال الوظيفة المقررة لحال الشك إلا بعد الفحص واليأس عن وجود أمارة على أحد طرفي الشك ، لما عرفت : من أن الأمارات تكون حاكمة على الأصول ، فلا يجوز الاعتماد على الأصول مع احتمال وجود أمارة في مورد الشك إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالأمارة ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك. الأمر الرابع : قد عرفت : أن الوظيفة المقررة للشاك إنما هو الأصول العملية ، والتي الاختلاف يوجب « الحكومة » أو « الورود » بين دليلهما ، فجعل وجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري نفس اختلاف الرتبة ، ووجه الجمع بين دليلهما حكومة أحدهما على الآخر بلا اشتراك بين المقامين في وجه الجمع وتناف بين المدلولين بنفسهما مع قطع النظر عن دليلهما ، فمن أين ظهر : أن وجه التنافي بين المقامين واحد ووجه الجمع واحد ؟ إذ صريح كلامه منع التنافي بين المدلولين لمحض اختلاف الرتبة وأن هذا الاختلاف الرتبي موجب للجمع بين دليلهما بالحكومة أو الورود ، فتأمل في كلماته ، لعمري ! أن هذا المقدار واضح لا يستأهل ردا. (328)
تجرى في الشبهات الموضوعية والحكمية وتعم بها البلوى وتطرد في جميع أبواب الفقه تنحصر في الأصول الأربعة ، وهي : البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ، وحيث إن مباحث التخيير قليلة لا يستحق إفراد فصل يخصه ، فالأولى التعرض لمباحثه في ضمن مباحث البراءة ، وعقد فصول ثلاثة للبرائة والاشتغال والاستصحاب.
الأمر الخامس : قد تقدم : أن مجرى البراءة إنما هو الشك في التكليف ، وهو على أقسام : لأن الشك قد يكون في التكليف النفسي الاستقلالي وقد يكون في التكليف الغيري ، وعلى كلا التقديرين قد تكون الشبهة حكمية وقد تكون موضوعية ، والشبهة الحكمية قد تكون وجوبية وقد تكون تحريمية ، ومنشأ الشك في الشبهة الحكمية تارة : يكون فقد النص ، وأخرى : يكون إجمال النص ، وثالثة : يكون تعارض النصين ، ومناط البحث في جميع هذه الأقسام وإن كان متحدا ، إلا أنه قد يكون لبعض هذه الأقسام خصوصية تقتضي إفراد البحث عنه ، فالأولى : إفراد البحث عن كل واحد من هذه الأقسام بخصوصه ، وسيأتي أن محل النزاع بين الأصولي والأخباري خصوص الشبهات التحريمية الحكمية ، دون سائر الإقسام. الأمر السادس : قد يتوهم : أن البحث عن مسألة كون الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة يغنى عن البحث عن مسألة البراءة والاشتغال ، بل البحث عن إحدى المسألتين عين البحث عن الأخرى ، فلا وجه لعقد مسألتين يبحث في إحديهما عن الحظر والإباحة وفي الأخرى عن البراءة والاشتغال. ولكن التحقيق : أن البحث عن إحديهما لا يغني عن البحث عن (329)
الأخرى ، لأن جهة البحث عن كون الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة تغاير جهة البحث عن أصالة البراءة والاشتغال من وجهين :
أحدهما : ان البحث عن الحظر والإباحة ناظر إلى حكم الأشياء من حيث عناوينها الأولية بحسب ما يستفاد من الأدلة الاجتهادية ، والبحث عن البراءة والاشتغال ناظر إلى حكم الشك في الأحكام الواقعية المترتبة على الأشياء بعناوينها الأولية ، فللقائل بالإباحة في تلك المسألة أن يختار الاشتغال في هذه المسألة وبالعكس. ثانيهما : أن البحث عن الحظر والإباحة راجع إلى جواز الانتفاع بالأعيان الخارجية من حيث كونه تصرفا في ملك الله تعالى وسلطانه ، والبحث عن البراءة والاشتغال راجع إلى المنع والترخيص في فعل المكلف من حيث إنه فعله وإن لم يكن له تعلق بالأعيان الخارجية كالتغني ، فتأمل. وقد يقال : إن البحث عن مسألة الحظر والإباحة ناظر إلى حكم الأشياء قبل ورود البيان من الشارع ، والبحث عن البراءة والاشتغال بعد ورود البيان. وهذا بظاهره فاسد إن أريد من القبلية والبعدية الزمانية ، إلا أن يكون المراد أن البحث عن مسألة الحظر والإباحة إنما هو بلحاظ ما يستقل به العقل مع قطع النظر عن ورود البيان من الشارع في حكم الأشياء ، والبحث عن البراءة والاشتغال إنما يكون بعد لحاظ ما ورد من الشارع في حكم الأشياء ، وعلى كل تقدير : لا تلازم بين المسألتين فضلا عن عينية إحديهما للأخرى. نعم : من قال في مسألة الحظر والإباحة بالحظر ، عليه إقامة الدليل على انقلاب الأصل إلى البراءة ، ومن قال في تلك المسألة بالإباحة فهو في فسحة عن إقامة الدليل على البراءة ، بل على الطرف إقامة الدليل على الاشتغال ، فالذي اختار في مسألة الحظر والإباحة أحد الطرفين قد يستغنى عن إقامة الدليل على ما يختاره في مسألة البراءة والاشتغال ويكون على الخصم إقامة الدليل على مدعاه ، وقد لا يستغنى ذلك ، فتأمل جيدا. (330)
الأمر السابع :
قد يتوهم : أنه بعد ما كان حكم الشبهة قبل الفحص هو الاحتياط ، فعلى الأصولي القائل بالبرائة إقامة الدليل على انقلاب حكم الشبهة بعد الفحص إلى البراءة والأخباري في فسحة عن ذلك. ولكن لا يخفى عليك فساد التوهم ، فان لزوم الاحتياط في الشبهات قبل الفحص إنما يكون بمناط تكون الشبهة فاقدة له بعد الفحص ، فان استقلال العقل بوجوب الفحص في الشبهات إنما يكون لوجهين : أحدهما ثبوت العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية فيما بين الشبهات. ثانيهما حكم العقل بوجوب إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته : من السؤال والفحص عن مرادات المولى وعدم الاعتماد على أصالة العدم ، فان الطريقة المألوفة بين العبيد والموالي العرفية هي ذلك ـ وقد تقدم في بعض المباحث السابقة توضيح ذلك ـ وهذان الوجهان لا يجريان بعد الفحص ، لانحلال العلم الإجمالي بالفحص وإعمال العبد على ما تقتضيه وظيفته ، فعلى الإخباري أيضا إقامة الدليل على اتحاد حكم الشبهة قبل الفحص وبعد الفحص ، كما أنه على الأصولي إقامة الدليل على البراءة. إذا عرفت ذلك ، فلنشرع فيما يتعلق بالفصل الأول من المقام الثالث من المباحث. في حكم الشك في التكليف في الشبهة التحريمية لأجل فقدان النص. والأقوى : أنه تجرى فيه البراءة وفاقا لقاطبة الأصوليين خلافا لقاطبة |
|||
|