فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: 361 ـ 375
(361)
    وعلى ذلك يبتني الخلاف المعروف في باب الوضوء : من أنه هل يعتبر في الوضوء مع عدم القصد إلى إحدى الغايات الواجبة أو المستحبة قصد رفع الحدث أو الكون على الطهارة ؟ أو لا يعتبر قصد ذلك ؟ بل يكفي مجرد قصد أفعال الوضوء من الغسلات والمسحات بقصد امتثال الأمر المتعلق بها ، فان قلنا : إن المأمور به هو نفس الغسلات والمسحات ، فلا يعتبر قصد رفع الحدث أو الكون على الطهارة. وإن قلنا : إن المأمور به هو الطهارة وتلك الأفعال محصلات لها ، فلابد مع عدم قصد إحدى الغايات من قصد الكون على الطهارة ، لأن قصد حقيقة المأمور به مما لابد منه في كل عبادة.
    ومنشأ الخلاف : هو وقوع كل من التطهير والأفعال في حيز الطلب في « القرآن المجيد ».
    فمن الأول : قوله تعالى : « وإن كنت جنبا فاطهروا » (1) بضميمة عدم الفرق بين الوضوء والغسل في ذلك.
    ومن الثاني قوله تعالى : « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم » الآية (2).
    فمن قال : بأنه يعتبر في الوضوء قصد الكون على الطهارة وأنها من المسببات التوليدية للأفعال حمل الأمر بالأفعال في آية الوضوء على أن الأمر بها لأجل كونها محصلة للطهارة لا من حيث هي هي ، فإنه في المسببات التوليدية يصح تعلق الأمر بكل من المسبب والسبب لكن لا بما هو هو ، بل بما أنه يتولد منه المسبب ، وهذا إذا كان الربط بين السبب والمسبب على وجه يكون الأمر بالسبب عين الأمر بالمسبب عرفا ، كما لو أمر بالإلقاء في النار ، فان الأمر به عرفا أمر بالإحراق. والظاهر أن تكون جميع الأسباب والمسببات التوليدية من هذا القبيل.
1 ـ سورة المائدة الآية 6
2 ـ سورة المائدة الآية 6


(362)
    ومن قال : إنه لا يعتبر في الوضوء قصد الكون على الطهارة (1) حمل الأمر بالتطهير في آية الغسل على أن المراد منه نفس الأفعال لا المعنى الحاصل منها ويكون التطهير من قبيل الحكم والمصالح ، ويؤيد ذلك ما ورد في بعض الأخبار : من « أن الله تعالى إنما أمر بالوضوء ليكون العبد متطهرا بين يدي الله تعالى » (2) فان الظاهر منه هو أن تكون الطهارة من الخواص والآثار المترتبة على أفعال الوضوء ، لا أنها من المسببات التوليدية ، وذكرنا ـ في مبحث الاشتغال ـ الفرق بين المسببات التوليدية والمقدمات الإعدادية ، وأن باب المصالح والمفاسد ليست من المسببات التوليدية ، بل إنما هي من الخواص والآثار المترتبة على متعلقات التكاليف ، فراجع ذلك المبحث ، فإنه قد استوفينا الكلام فيه بما لا مزيد عليه ، وغرضنا في المقام مجرد الإشارة ، فلا فائدة في تكرار الكلام في ذلك ، مع أنه أمامنا مباحث مهمة ينبغي صرف عنان الكلام فيها ، ولعل الله يوفقنا للتعرض إلى جملة مما يتعلق بلباس المشكوك من المباحث النفيسة التي أفادها شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) ما لم تخطر ببال من سبقه من الأعلام.
    وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن دلالة قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ « رفع ما لا يعلمون » على ما هو محل البحث بين الأصوليين والأخباريين ـ وهو جواز الاقتحام في الشبهات التحريمية ـ في غاية الوضوح.
1 ـ أقول : لو قلنا في باب الوضوء : إنه من المطلوبات النفسية علاوة عن مطلوبيتها غيريا ـ كما قيل به في الغسل ـ فما أفيد من ابتناء النزاع في لزوم قصد الغاية وعدمه في غاية المتانة ، وحينئذ يكون الوضوء بنفسه عبادة وقعت مقدمة لعبادة أخرى. وأما لو قلنا بأنه ممحض في المطلوبية الغيرية وأن عباديته من جهة دعوة أمره الغيري إليه بلا أمر آخر نفسي فيه ، فربما يكون منشأ النزاع السابق شيء آخر ، وهو أن دعوة الأمر الغيري هل يمكن بلا قصد التوصل به إلى الغير ؟ أو لا يمكن إلا مع القصد المزبور ؟ فعلى الأول : لا يجب قصد الغاية ، بخلافه على الثاني ، فإنه لا يمكن الامتثال به إلا مع قصد الغاية ، حتى بناء على كون الوضوء مقدمة لا الكون على الطهارة ، فراجع المسألة في محله وتدبر.
2 ـ الوسائل : الباب 1 من أبواب الوضوء الحديث 9 ولفظ الحديث « إنما امر بالوضوء وبدئ به لأن يكون العبد طاهرا إذا قام بين يدي الجبار ) الحديث


(363)
    وقد استدل للبرائة بأخبار أخر ، أظهرها دلالة قوله ـ عليه السلام ـ « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى » (1).
    والاستدلال به مبنى على أن يكون « الورود » بمعنى الوصول إلى المكلفين ، لا الورود المقابل للسكوت ، وإلا كان مفاده أجنبيا عن محل البحث ، فان الورود المقابل للسكوت هو بمعنى الجهل بالتشريع ، فيكون مفاد الحديث المبارك : « كل شيء مطلق والناس منه في سعة ما لم يبين الله تعالى حكمه » أي ما دام مسكوتا عنه ، كما ورد في الخبر : « إن الله تعالى سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا » الخبر (2) وأين هذا مما هو مورد البحث من الشك في التكليف بعد تبين الأحكام وتبليغها إلى الأنام وعروض الاختفاء لبعضها لبعض موجبات الاختفاء !.
    وقد استدل على البراءة بقوله ـ عليه السلام ـ « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » أو « حتى تعرف الحرام منه بعينه » على اختلاف النسخ (3).
    وقوله ـ عليه السلام ـ : « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه (4).
    ولا يخفى : ظهور كلمة « فيه » و « منه » و « بعينه » في الانقسام والتبعيض الفعلي ـ أي كون الشيء بالفعل منقسما إلى الحلال والحرام ـ بمعنى أن يكون قسم منه حلالا وقسم منه حراما واشتبه الحلال منه بالحرام ولم يعلم أن المشكوك من القسم الحلال أو الحرام ، كاللحم المطروح المشكوك كونه من الميتة أو المذكى ، أو المايع المشكوك كونه من الخل أو الخمر ، فان اللحم أو المايع
1 ـ الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 60
2 ـ نهج البلاغة قصار الحكم 105
3 ـ الوسائل : الباب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديث 1
4 ـ الوسائل : الباب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديث 4


(364)
بالفعل منقسم إلى ما يكون حلالا وإلى ما يكون حراما ، وذلك لا يتصور إلا في الشبهات الموضوعية.
    وأما الشبهات الحكمية : فليس القسمة فيها فعلية وإنما تكون القسمة فيها فرضية ، ـ أي ليس فيها إلا احتمال الحل والحرمة ـ فان شرب التتن الذي فرض الشك في كونه حلالا أو حراما ليس له قسمان : قسم حلال وقسم حرام ، بل هو إما أن يكون حراما وإما أن يكون حلالا ، فلا يصح أن يقال : إن شرب التتن فيه حلال وحرام ، إلا بضرب من التأويل والعناية التي لا يساعد عليها ظاهر اللفظ.
    فكلمة « فيه » ظاهرة في اختصاص الحديث في الشبهات الموضوعية ، وكذا كلمة « بعينه » فان معرفة الشيء بعينه إنما يكون في الموضوعات الخارجية (1) ولا معنى لأن يقال : حتى تعرف الحكم بعينه.
    ومن ذلك يظهر : اختصاص قوله ـ عليه السلام ـ « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » بالشبهات الموضوعية ، فإنه لولا كلمة « بعينه » كان الخبر عاما للشبهات الحكمية والموضوعية ، كقوله ـ عليه السلام ـ « كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر » ولكن لفظة « بعينه » توجب ظهور الخبر في الشبهات الموضوعية.
    وقد استدل للبرائة بقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ « الناس في سعة ما لا يعلمون » (2) وفي دلالته تأمل إلا على بعض الوجوه.
1 ـ أقول : معنى معرفة الحرام بعينه تشخيص الحرام من الحلال ، لا تشخيصه خارجا ، فلا قصور في شمول الحديث ـ لولا الأمثلة في ذيله ـ للشبهات الحكمية ، هذا مع إمكان حمل « بعينه » على بيان التأكيد لموضوع الحرمة وأنه حقيقة معروضها ، لا أنه من توابع المعروض ، فيرتفع حينئذ الإشكال رأسا.
    نعم : العمدة في هذه الرواية الأمثلة الواقعة في ذيلها ، والذي يسهل الخطب أن هذه الأمثلة لا يناسب « قاعدة الحلية » حتى على اختصاصها في الشبهات الموضوعية ، فلابد من التفصي عنها على كلا التقديرين ، كما لا يخفى.
2 ـ مستدرك الوسائل : الباب 12 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 4. لفظ الحديث فيه « .. ما لم يعلموا »


(365)
    والإنصاف ، أن أظهر ما استدل به على البراءة من الأخبار هو « حديث الرفع » وفيه الكفاية.
    وأما الإجماع :
    فقد أفاد الشيخ ( قدس سره ) في تقريره وجوها.
    ولكن الذي ينفع منه في المقام هو إجماع العلماء كافة من الأصوليين والأخباريين على البراءة ، والإجماع على هذا الوجه لم ينعقد ، بل هو مقطوع العدم ، كيف ! وجل الأخباريين ذهبوا إلى وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية التي هو مورد البحث ، ولا يمكن دعوى عدم قدح مخالفتهم في تحقق الإجماع مع أن جملة منهم من أجلاء الأصحاب وأعيانهم. وأما بقية تقريرات الإجماع : فلا يمكن الركون إليها والاعتماد عليها ، بحيث تقدم أو تعارض ما سيأتي من الوجوه التي تمسك بها الأخباريون على وجوب الاحتياط ، لو تمت دلالتها وسلمت عن المناقشة في حد نفسها.
    وأما العقل :
    فحكمه بالبرائة مما لا يكاد يخفى ، لاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته من الفحص عن حكم الشبهة واليأس عن الظفر به في مظان وجوده ، ولا يكفي في صحة المؤاخذة واستحقاق العقوبة مجرد البيان الواقعي مع عدم وصوله إلى المكلف ، فان وجود البيان الواقعي كعدمه غير قابل لأن يكون باعثا ومحركا لإرادة العبد ما لم يصل إليه ويكون له وجود علمي.
    فتوهم : أن البيان في موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو البيان الواقعي ـ سواء وصل إلى العبد أو لم يصل ـ فاسد ، فان العقل وإن استقل بقبح العقاب مع عدم البيان الواقعي ، إلا أنه استقلاله بذلك لمكان أن مبادئ الإرادة الآمرية بعد لم تتم ، فلا إرادة في الواقع ، ومع عدم الإرادة لا مقتضى لاستحقاق العقاب ، لأنه لم يحصل تفويت لمراد المولى واقعا ، بخلاف البيان


(366)
الغير الواصل فإنه وإن لم يحصل مراد المولى وفات مطلوبه واقعا ، إلا أن فواته لم يستند إلى المكلف بعد إعمال وظيفته ، بل فواته إما أن يكون من قبل المولى إذا لم يستوفى مراده ببيان يمكن وصول العبد إليه عادة ، وإما أن يكون لبعض الأسباب التي توجب اختفاء مراد المولى عن المكلف ، وعلى كل تقدير : لا يستند الفوات إلى العبد ، فلأجل ذلك يستقل العقل بقبح مؤاخذته ، فمناط حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان واقعي غير مناط حكمه بقبح العقاب من غير بيان واصل إلى المكلف.
    فان قلت : يكفي في البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فان الشك في التكليف يلازم الشك في الضرر ، والعقل يستقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، فيرتفع موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.
    قلت : قد تقدم الكلام في كل من الصغرى والكبرى بما لا مزيد عليه ـ في مبحث الظن قبل دليل الانسداد ـ وإجماله : أن المراد من الضرر في حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، إما أن يكون هو الضرر الدنيوي من نقص في الأنفس والأطراف والأعراض ، وإما أن يكون هو الضرر الأخروي من العذاب والعقاب ، وإما أن يكون هو المصالح والمفاسد التي تبتنى عليها الأحكام من القرب والبعد ونحو ذلك مما لا يرجع إلى الضرر الدنيوي ولا إلى العقاب الأخروي ، فإنه يمكن أن تكون مناطات الأحكام أمورا اخر غير المضار الدنيوية والعقاب الأخروي.
    وحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل في هذه الوجوه الثلاثة ليس بمناط واحد ، بل حكمه بوجوب دفع الضرر الدنيوي بالنسبة إلى خصوص الأنفس والأطراف أو الأعراض أيضا يمكن أن يكون لأجل ما في الضرر الواقعي من المفسدة التي أدركها العقل فاستقل بقبح الإقدام عليه ، ويتبعه حكم الشرع بحرمته لقاعدة الملازمة ، فان الحكم العقلي في ذلك واقع في سلسلة علل الأحكام ، وكلما كان الحكم العقلي واقعا في هذه السلسلة يكون مورد


(367)
القاعدة الملازمة فيستتبعه الحكم الشرعي.
    فعلى هذا يكون حكمه بقبح الإقدام على ما يحتمل فيه الضرر أو يظن طريقا محضا للتحرز عن الوقوع في الضرر الواقعي ، فلا يترتب على موافقته ومخالفته غير ما يترتب على نفس الواقع عند موافقة الظن أو الاحتمال للواقع أو مخالفته.
    ويمكن أن يكون تمام موضوع حكم العقل هو الإقدام على ما لا يأمن معه من الوقوع في الضرر الواقعي ، من غير فرق بين صورة القطع بالضرر أو الظن أو الاحتمال ، نظير حكمه بقبح التشريع ، على ما تقدم بيان ذلك.
    وعلى كل تقدير : سواء كان حكم العقل في باب الضرر الدنيوي بهذا الوجه أو بذلك الوجه يستتبع الحكم الشرعي المولوي على وفقه (1).
    هذا كله إن كان المراد من الضرر في حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل هو الضرر الدنيوي.
    وإن كان المراد منه الضرر الأخروي ، فحكمه بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل بل الموهوم إنما يكون إرشادا محضا ليس فيه شائبة المولوية ، ولا يمكن أن يستتبع حكما شرعيا ، لأن حكم العقل في ذلك إنما يكون واقعا في سلسلة معلولات الأحكام فلا يكون موردا لقاعدة الملازمة ـ كما أوضحناه في محله ـ ولكن ذلك فرع احتمال العقاب ، ومع عدم وصول التكليف بوجه لا تفصيلا ولا إجمالا يحتمل العقاب ، لقبح العقاب بلا بيان ، فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يكون حاكما وواردا على حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل.
    وبالجملة : بعد استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف ، تختص « قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل » بأطراف العلم الإجمالي
1 ـ أقول : في الضرر الواقعي على الأول ، وفي محتمله على الثاني.

(368)
أو الشبهة البدوية قبل الفحص ، وأما الشبهة البدوية بعد الفحص فلا يحتمل فيها العقاب ، لأن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يوجب القطع بعدم العقاب.
    والحاصل : أن حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل لا يصلح أن يكون بنفسه بيانا للتكليف المشكوك (1) لأنه لا يكون رافعا للشك ، وتمام الموضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو نفس الشك في التكليف ، فإنه بمجرده يستقل العقاب بقبح العقاب عليه فينقطع بعد العقاب ، فيرتفع موضوع قبح الإقدام على ما لا يأمن معه من الضرر. هذا إذا كان المراد من الضرر في القاعدة الضرر العقابي.
    وإن أريد منه المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الأحكام ، فالشك في التكليف وإن كان يلازم الشك في المصلحة والمفسدة ، إلا أن التحرز عن احتمال المفسدة وفوات المصلحة ليس مما يستقل العقل بلزومه ، بل إن أدرك العقل المصلحة والمفسدة التامة وأحاط بجميع الجهات ولم ير مزاحما لها حكم بقبح تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة. وأما مجرد احتمال وجود المصلحة والمفسدة مع احتمال وجود المزاحم فلا سبيل إلى دعوى استقلال العقل بقبح الاقتحام على ما فيه احتمال المفسدة وترك ما فيه احتمال المصلحة.
    نعم : قد تكون المفسدة أو المصلحة المحتملة بمثابة من الأهمية يلزم التحرز عن الوقوع في مخالفتها ولو احتمالا ، إلا أنه لو كانت بهذه المثابة فعلى الشارع جعل المتمم وايجاب الاحتياط ، كما أوجبه في باب الدماء والفروج والأموال ، ومع الشك في ايجاب الاحتياط كان المرجع هو البراءة ، لأنه كأحد التكاليف المجهولة ، فيعمه « حديث الرفع ».
    ومما ذكرنا يظهر : ما في كلام الشيخ ( قدس سره ) من الخلل ، حيث
1 ـ أقول : لو اقتصر بالبيان الأول لكان أولى ، لأن في بيانية التكاليف الطرقية لا يحتاج إلى رفع الشك ، نظير ايجاب الاحتياط في الشبهات البدوية.

(369)
قال ( قدس سره ) : « ودعوى أن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي فلا يقبح بعده المؤاخذة مدفوعة بأن الحكم المذكورة على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمت عوقب على مخالفتها » إلى أن قال : « وإن أريد بها مضرة أخرى غير العقاب التي لا يتوقف ثبوتها على العلم ، فهو وإن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلا أن الشبهة من هذه الجهة موضوعية » إلى آخر ما أفاده.
    والإنصاف : أنه ما كنا نترقب من الشيخ ( قدس سره ) ذلك (1) فان حكم العقل بقبح الإقدام على ما يحتمل فيه الضرر العقابي إنما يكون إرشادا محضا لا يمكن أن يستتبع حكما مولويا شرعيا ، فكيف يمكن أن يكون العقاب على مخالفته وإن لم يكن في مورده تكليف واقعي ؟ وكيف صار هذا الحكم العقلي من القواعد الظاهرية ؟ مع أن مخالفة الأحكام الظاهرية لا تستتبع
1 ـ أقول : لا نفهم من كلمات الشيخ ( قدس سره ) أزيد مما أخذت بقوله : والحاصل إلى آخره ، وأن قوله : « وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية » مبنى على تسليم البيانية ولا يكون إرشادا ، لا أنه مسلم عنده ، كيف ! وصريح كلماته في الشبهة المحصورة وغيرها إرشادية هذا الحكم بالنسبة إلى احتمال العقاب ، كما أن لازم كونه حكما مولويا ظاهريا الالتزام بالعقوبة على نفسه ولو لم يكن في الواقع تكليف ، كما هو شأن موضوعية الطريق عند المخالفة.
    وتوهم : أن الأحكام الظاهرية لا يعاقب عليها عند مخالفتها للواقع ، صحيح في الأوامر الطرقية لا في الأوامر النفسية المجعولة نفسيا في ظرف الجهل بالحكم.
    وما أفيد أيضا بأن في الأصول الغير المحرزة يعاقب على مخالفتها بشرط وجود التكليف في موردها ، كلام ظاهري ، إذ الأمر في هذه القاعدة إن كان طريقيا يعاقب على الواقع ، وإن كان نفسيا يعاقب على نفسها وإن خالف الواقع. ولا نرى وجها لهذا الشرط الضمني ولا طعنا على مثل هذا « المؤسس » بعدم ترقبه منه صدور هذا الكلام ، ولقد صدر نظيره في ايجاب الاحتياط الشرعي ردا على الأخباريين أيضا.
    نعم : الذي يرد عليه هو الذي أشرنا في ذيل قول المقرر « والحاصل الخ » وهو أن مجرد كونه حكما في ظرف الشك لا يقتضي أن يكون ايجابا نفسيا موجبا للعقوبة على نفسه مطلقا ، بل من الممكن كون أمره طريقيا حاكيا عن الإرادة الواقعية في ظرف الجهل بها وترخيصا محضا عند مخالفته للواقع ، وبه أجبنا عما أفاده في منع بيانية ايجاب الاحتياط الشرعي أيضا ، كما لا يخفى.


(370)
استحقاق العقاب مع عدم مصادفتها للواقع ، بل العقاب يدور مدار مخالفة الواقع مع وجود طريق إليه ، وفي جميع موارد القواعد الظاهرية يكون العقاب على مخالفة الواقع أو على مخالفة القاعدة عند إدائها إلى مخالفة الواقع لا مطلقا ، على اختلاف فيها : من كونها محرزة للواقع كالأمارات والأصول التنزيلية فالعقاب على الواقع ، أو غير محرزة كأصالة الاحتياط فالعقاب على مخالفة القاعدة ولكن بشرط كونه مؤديا إلى مخالفة الواقع ، ويأتي بيان ذلك ( إن شاء الله تعالى ) في خاتمة الاشتغال.
    وعلى كل حال : ما أفاده الشيخ ( قدس سره ) من أن العقاب على مخالفة نفس القاعدة الظاهرية وإن لم تؤدى إلى مخالفة الواقع مما لا يستقيم.
    وأغرب من ذلك : ما أفاده أخيرا : من أنه لو كان المراد من الضرر غير العقاب من المصالح والمفاسد فاحتماله لا يرتفع بقاعدة قبح العقاب بلا بيان. وهذا الكلام منه ( قدس سره ) يعطى أن المصالح والمفاسد من أفراد الضرر (1) وتعمها قاعدة « قبح الإقدام على ما لا يأمن معه من الضرر » ولكن الشارع رخص في الاقتحام في موارد احتمال المفسدة.
    وأنت خبير بما فيه ، فان باب المصلحة والمفسدة غير باب الضرر الذي يستقل العقل بلزوم التحرز عن محتمله. وعلى كل تقدير : فقد ظهر لك : أن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وارد على حكمه بقبح الاقتحام على ما لا يأمن معه عن الضرر العقابي ، وهذا الحكم العقلي يعم جميع الشبهات الحكمية والموضوعية التحريمية والوجوبية.
    ثم إنه ربما يستدل للبرائة باستصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر ، وسيأتي البحث عن حال هذا الاستصحاب وأن استصحاب البراءة مما لا يجرى في شيء من المقامات ، سواء كان المراد من العدم المستصحب العدم
1 ـ أقول : ظاهر كلامه بيان أن مراده لو كان ذلك ، وذلك لا يدل على اختياره ، كما لا يخفى.

(371)
حال الصغر قبل البلوغ ، أو العدم قبل الوقت في الموقتات ، فانتظر ما يأتي في مبحث الاشتغال ، فإنه قد استوفينا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في ذلك المقام.
    وقد استدل للبرائة بوجوه أخر لا تخلو عن ضعف ، فلا يهمنا التعرض لها وفيما ذكرناه كفاية.
    فلنشرع في أدلة الأخباريين
    وقد استدلوا بالأدلة الثلاثة :
    فمن الكتاب قوله تعالى : « فاتقوا الله حق تقاته » (1) وقوله تعالى : « واتقوا الله ما استطعتم » (2) وقوله تعالى : « ولا تقف ما ليس لك به علم » (3) فان الاقتحام في الشبهة ينافي التقوى المأمور بها. وكذا الحكم بالترخيص وجواز الاقتحام فيها قول بغير علم.
    ولا يقال : إن الحكم بحرمة الاقتحام فيها أيضا قول بغير علم ، فان الأخباريين لا يقولون بالحرمة ، وإنما قالوا بترك الاقتحام فيها لاحتمال الحرمة ، فتأمل.
    ولا يخفى : أن الآيات الشريفة بمعزل عن الدلالة على مذهب الأخباريين. أما آيات التقوى : فمع أنها لا تدل على الوجوب ، لا تنافى الاقتحام في الشبهة اعتمادا على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واتكالا على قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ « رفع ما لا يعلمون » ومنه يظهر : أن القول بجواز الاقتحام ليس قولا بغير علم ، لدلالة حكم العقل والشرع على عدم استحقاق العقاب على التكليف الغير الواصل ، فيكون القول بالجواز قولا عن علم.
1 ـ سورة آل عمران الآية 102
2 ـ سورة التغابن الآية 16
3 ـ سورة الأسراء الآية 36


(372)
ومن السنة طوائف :
    منها : أخبار التوقف كقوله ـ عليه السلام ـ « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (1) وهي كثيرة مستفيضة ، بل تبلغ حد التواتر ، وظاهر التوقف هو السكون وعدم الحركة فالتوقف في الشبهات عبارة عن الاحتياط فيها وترك المضي فيها.
    ومنها : الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط ، وهي كثيرة أيضا تبلغ حد الاستفاضة ، ففي الصحيح : عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء ؟ قال لا ، بل عليهما أن يجزى كل واحد منهما الصيد ، قلت : إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسئلوا عنه فتعلموا (2).
    وفي موثقة عبد الله ، قال : كتبت إلى العبد الصالح ـ عليه السلام ـ يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا وتستتر عين الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون فأصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائما أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الليل [ الجبل ] فكتب إلى : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائط لدينك ، الخبر (3).
    وعن « المفيد الثاني » قال : إن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قال لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت.
    وقوله ـ عليه السلام ـ ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط (5).
1 ـ الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 13
2 ـ الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 1
3 ـ الوسائل الباب 52 من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث 2
4 ـ الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 41
5 ـ قال الشيخ (ره) في « الفرائد » أرسله الشهيد.


(373)
    إلى غير ذلك من الروايات الدالة على حسن الاحتياط ووجوبه.
    ومنها : أخبار التثليث ، كقوله ـ عليه السلام ـ في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة : وإنما الأمور ثلاثة : أمر بين رشده فيتبع ، وأمر بين غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله تعالى وإلى رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم (1).
    وتقريب الاستدلال بها : هو أن « المقبولة » دلت على وجوب ترك الشاذ معللا بأنه فيه الريب ، ومقتضى عموم العلة هو وجوب ترك كل ما كان فيه الريب والشك ، ومنه ما هو المبحوث عنه من الشبهات التحريمية ، بل مورد الرواية مختص بما كان الشك فيه لأجل احتمال الحرمة ، كما يظهر من قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ « حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك » أي بين الحلال والحرام.
    فدلالة أخبار التثليث على وجوب التحرز عن الشبهات التحريمية وحرمة الاقتحام فيها أوضح من الأخبار السابقة ، هذا.
    والجواب أما عن الطائفة الأولى : فالأمر بالتوقف فيها لا يصلح إلا للإرشاد ، ولا يمكن أن يكون أمرا مولويا يستتبع الثواب والعقاب ، فان المراد من « الهلكة » في قوله ـ عليه السلام ـ « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » هي العقاب ولا يمكن أن يكون المراد منه العقاب الجائي من قبل مخالفة الأمر بالتوقف ، لأن الظاهر أن يكون قوله ـ عليه السلام ـ ذلك لبيان الملازمة بين الاقتحام والوقوع في الهلكة ، فلابد وأن تكون الهلكة مفروضة الوجود والتحقق مع قطع النظر عن الأمر بالتوقف ، لتكون في البين ملازمة بين
1 ـ الوسائل الباب 12 الحديث 9

(374)
عدم التوقف والهلكة ، ولا يمكن فرض وجود الهلكة إلا بعد فرض تنجز التكليف ، وذلك لا يكون إلا في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، فيكون حاصل مفاد قوله ـ عليه السلام ـ « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة « هو أن ترك التعرض للشبهة التي يحتمل انطباق التكليف عليها خير من الوقوع في عقاب مخالفة التكليف إذا صادفت الشبهة متعلق التكليف ، فعلى هذا يكون الأمر بالتوقف للإرشاد وهو تابع للمرشد إليه ، فان صادفت الشبهة متعلق التكليف يستحق المكلف العقوبة لفرض تنجز التكليف ، وإن خالفت الشبهة متعلق التكليف لم يكن في البين شيء إلا التجري.
    ويحتمل قريبا أن تكون روايات التوقف لإفادة معنى آخر ، وهو أن الاقتحام في الشبهات يوجب وقوع المكلف في المحرمات ، لا أن نفس الاقتحام في الشبهة حرام إذا صادف الحرام المعلوم بالإجمال ـ كما هو مفاد الوجه الأول ـ بل ترك الوقوف عندها والاقتحام فيها مظنة الوقوع في المحرمات ، فان الشخص إذا لم يجتنب عن الشبهات وعود نفسه على الاقتحام فيها هانت عليه المعصية وكان ذلك موجبا لجرئته على فعل المحرمات ، وقد ورد نظير ذلك في باب المكروهات (1) فإنه لو لم يعتنى المكلف بالمكروهات وأكب على فعلها أدى ذلك إلى الجرئة على فعل المحرمات ، كما أن الشخص لو لم يعتنى بالمعصية الصغيرة هانت عليه الكبيرة ( أعاذنا الله من ذلك ) وأما إذا لم يعود الشخص نفسه على الاقتحام في الشبهات بل عود نفسه على التجنب عنها والوقوف عندها حصلت ملكة التجنب عن المعاصي ، وإلى ذلك يشير قوله ـ عليه السلام ـ « والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها » (2).
    وعلى هذا فالأمر بالوقوف عند الشبهة يكون استحبابيا ، كما هو الظاهر
1 ـ لم أجده بعد الفحص والسؤال ( المصحح )
2 ـ الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 22


(375)
من قوله ـ عليه السلام ـ في بعض أخبار التوقف « أورع الناس من وقف عند الشبهة » (1) وقوله ـ عليه السلام ـ « لا ورع كالوقوف عند الشبهة » (2).
    وعلى كل حال : من راجع أخبار التوقف وتأمل فيها يقطع بأن الأمر فيها ليس أمرا مولويا بنفسه يستتبع الثواب والعقاب ، فلا يصلح للأخباري الاستدلال بها على مدعاه.
    وأما الطائفة الثانية : وهي الأخبار الواردة في الأمر بالاحتياط ، فأظهرها دلالة ما تقدم منها ، وهي لا تصلح للاستدلال بها على وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية.
    أما الصحيحة الأولى : فلعدم العمل بها في موردها ، فان الشك في وجوب الجزاء على كل من اللذين اصطادا ، إما أن يرجع إلى الأقل والأكثر الارتباطيين ، وإما أن يرجع إلى الأقل والأكثر الغير الارتباطيين ، لأن في صورة اشتراك الشخصين في الصيد ، إما أن نقول بوجوب إعطاء نفس البدنة ، وإما ان نقول بوجوب إعطاء قيمة البدنة.
    فان قلنا : بوجوب إعطاء القيمة فالشك في مورد السؤال يرجع إلى الأقل والأكثر الغير الارتباطيين ، لأن اشتغال ذمة كل منهما بنصف قيمة البدنة متيقن ويشك في اشتغال الذمة بالزائد ، نظير تردد الدين بين الأقل والأكثر.
    وإن قلنا : بوجوب إعطاء نفس البدنة فالشك في مورد السؤال يرجع إلى الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأنه يدور الأمر بين وجوب إعطاء تمام البدنة على كل منهما أو نصفها ، وعلى تقدير كون الواجب هو تمام البدنة لا يجزى الأقل ولا يسقط به التكليف (3) نظير تردد أجزاء الصلاة بين الأقل والأكثر ،
1 ـ الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 24
2 ـ الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 20
3 ـ أقول : من الممكن على هذا التقدير أن الواجب عليه البدنة بما لها من المالية في ضمن خصوصية العين ، فإنه حينئذ لو أعطى نصف البدنة مشاعا في تمامها يجزى عن تكليفه بمقداره ولو كان الواجب عليه تمام
فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: فهرس