فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: 406 ـ 420
(406)
الاحتياط (1) وإلا لم يكن من الاحتياط بشيء ، بخلاف الأمر المتعلق بالعمل المحتاط فيه ، فإنه على تقدير وجوده الواقعي إنما تعلق بذات العمل ، فلم يتحد متعلق الأمرين حتى يكتسب الأمر بالاحتياط العبادية من الأمر المتعلق بالعمل لو فرض أنه كان مما تعلق الأمر العبادي به ، وقد عرفت : أنه ما لم يتحد متعلق الأمر الغير العبادي مع متعلق الأمر العبادي لا يمكن أن يصير الأمر الغير العبادي عباديا.
    وبالجملة : الأمر الذي يتعلق بالعمل الذي يحتمل وجوبه لا يخلو : إما
1 ـ أقول : والأوضح أن يقال : إن الأمر الواقعي العبادي إنما تعلق بالذات في الرتبة السابقة عن احتمال وجوبها والأمر بالاحتياط تعلق بها في الرتبة المتأخرة عن احتمال الأمر بالذات ، وهذا على المختار يوجب مغايرة الأمرين لا محالة ، ولكن مثل « المقرر » الملتزم بعدم منافاة الطولية مع التأكد ـ كما صرح بأن في صورة موافقة الأمر الطريقي مع الواقع لا إشكال فيه للتأكد ـ له أن يلتزم في المقام أيضا بتأكد الأمرين الطوليين المستتبع لاكتساب أحدهما من الآخر العبادية ، كما هو الشأن في الأمر بالوفاء بالنذر مع أمره الاستحبابي ، فإنه لا محيص من تأكدهما على زعمه ، وأن هذا التأكد موجب لاكتساب أحدهما العبادية من الآخر ، هذا مع أن الالتزام بعدم عبادية الأمر بالاحتياط عند مخالفته مع الأمر بالذات مما لا نرى له وجها ، إذ مرجع عبادية الأمر صيرورته داعية وموجبة للتقرب ، وفي هذا المقدار لا قصور في الأمر بالاحتياط.
    نعم : الذي يمتاز عن الأمر العبادي سقوطه بدون دعوته ، بخلاف أوامر العبادي ، ولكن في المقام لو فرضنا عدم كفاية احتمال الأمر في العبادة واحتياجه إلى قصد التمييز ، فالأمر المحتمل الواقعي لا يجدى في تحصيل الغرض ، فينحصر تحصيل الغرض حينئذ بأوامر الاحتياط ، إذ بها أيضا يحصل التقرب والتميز ، كما في أوامر الطرق. نعم : لو لم يعتبر قصد التمييز في العبادة أو كان مورده توصليا لا يحتاج في سقوط الأمر بالاحتياط إلى التقرب ، فيصير حينئذ توصليا ، وأما مع الاحتياج إلى قصد التمييز في سقوط الأمر في حصول الغرض ، فلا يكاد يسقط الأمر بالاحتياط إلا بدعوته الموجب لقربه وتميزه ، ولا نعنى من عبادية الأمر بالاحتياط إلا هذا المقدار ، وفي هذا المقدار لا يحتاج إلى دعوى وحدته مع الأمر الواقعي ، مع أن النظر الدقيق أيضا يرى بأن مجرد الوحدة بنحو التأكد أيضا لا يقتضي الاكتساب ، لأن مثل هذا الأمر ينحل إلى قطعتين : أحدهما عبادي ، والآخر غير عبادي ، ومجرد اتصالهما لا يقتضي الاكتساب ، كما هو ظاهر.
    ومن التأمل في ما ذكرنا ظهر مواقع النظر فيما أفاده في المقامين من أوله إلى آخره. ولعمري ! أن الناظر في هذا الأساس لا يرى إلا كونه سفسطة محضة ، ومفاهيمها لا محصل له أو مصادرات محضة لا حقيقة لأمثاله ، فتدبر فيها وفيما ذكرنا بعين الإنصاف.


(407)
أن يتعلق به مطلقا سواء قصد به التقرب أو لم يقصد ، وإما أن يكون مقيدا بقصد التقرب ، وإما أن يكون مقيدا بقصد احتمال الأمر ، سبيل إلى الأول والثاني ، فان الأول ينافي كون العمل عباديا ، والثاني يتوقف على إحراز الأمر ليمكن التقرب به والمفروض أنه غير محرز ، فيتعين الثالث ، فلابد أن يؤخذ الإتيان بداعي احتمال الأمر في متعلق الأمر بالاحتياط ، وحينئذ فان كان إتيان العمل بداعي الاحتمال كافيا في العبادية فلا يحتاج إلى أوامر الاحتياط ، وإن لم يكن كافيا فأوامر الاحتياط لا توجب عبادية العمل.
    فان قلت : أوامر الاحتياط تعم التوصليات والتعبديات بجامع واحد ، وفي التوصليات لا يعتبر أن يكون العمل بداعي احتمال تعلق الأمر به ، بل يكفي الإتيان بنفس العمل الذي يحتمل تعلق الأمر به ، فلابد وأن يكون الأمر متعلقا بذات العمل بلا قيد إتيانه بداعي الاحتمال ، والا فيلزم التفكيك بين التوصليات والتعبديات مع وحدة الدليل ، وإذا كان الأمر بالاحتياط متعلقا بذات العمل بلا أخذ قيد قصد احتمال الأمر ، فان كان العمل من الأعمال العبادية فلا محالة أوامر الاحتياط تكشف عن تعلق الأمر العبادي به ، وحينئذ يمكن قصد الأمر القطعي المستكشف من أوامر الاحتياط ، بل يمكن قصد التعبد بنفس الأمر بالاحتياط ، لاتحاده مع الأمر المتعلق بالعمل ، فيكون عبادة بلا حاجة إلى قصد احتمال الأمر ليستشكل بأن قصد احتمال الأمر لا يكفي في العبادية ، وهذا ما وعدناه به سابقا من الوجه.
    قلت : وحدة الدليل لا ينافي استفادة قيد قصد امتثال الأمر المحتمل في العبادات من الخارج ـ كساير القيود التي يستفاد اعتبارها لبعض أصناف العام من دليل خارجي آخر ـ مثلا لو ورد « أكرم العلماء » فقد تعلق وجوب الإكرام بالنحوي والفقيه بجامع واحد ، ومع ذلك يمكن أن يعتبر في الفقيه العدالة ويستفاد ذلك من الخارج ، وكذلك نقول في المقام : إن أوامر الاحتياط قد تعلقت بالتوصليات والعباديات بجامع واحد ، ولكن قد استفيد


(408)
من دليل خارجي اعتبار قصد امتثال احتمال الأمر في العباديات ، والدليل الخارجي الذي يستفاد منه القيد هو ما ذكرناه من البرهان ، وحاصله : أنه لا يمكن أن تكون أوامر الاحتياط مهملة ، بل لابد إما من كونها مطلقه بالنسبة إلى قصد الامتثال وعدمه ، وإما أن تكون مقيدة بقصد امتثال الأمر ، وإما أن تكون مقيدة بقصد امتثال احتمال الأمر ، لا سبيل إلى الأول والثاني بالبيان المتقدم ، فيتعين الثالث.
    هذا كله مضافا إلى ما عرفت : من أن حقيقة الاحتياط هو قصد امتثال احتمال الأمر ، فلو الغى هذا القيد لم يكن من الاحتياط بشيء ، بل كان العمل بنفسه مستحبا نفسيا كسائر الأفعال المستحبة.
    فالإنصاف : أن ما يحكى عن المشهور : من الفتوى باستحباب العمل الذي يحتمل وجوبه من غير تقييد إتيانه بداعي احتمال المطلوبية ، لا ينطبق على القواعد ، إلا أن يكون نظر المشهور إلى مسألة التسامح في أدلة السنن ، وذلك على إطلاقه أيضا لا يستقيم ، فان التسامح في أدلة السنن يختص بما إذا قام خبر ضعيف على استحباب الشيء أو وجوبه ـ لو قلنا : بأن الخبر الضعيف القائم على وجوب الشيء يندرج في أخبار « من بلغ » ولا تختص بالخبر القائم على الاستحباب ـ والكلام في استحباب الاحتياط أعم من ذلك ، فان فتوى المشهور باستحباب العمل الذي يحتاط فيه تشمل ما إذا كان منشأ الشبهة فقدان النص ، وأخبار « من بلغ » التي هي المدرك في مسألة التسامح في أدلة السنن لا تشمل صورة فقدان النص.
    وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، فلا بأس بالإشارة إلى مدرك ما اشتهر في الألسن : من التسامح في أدلة السنن.
    فنقول : المدرك في ذلك هو ما ورد من الأخبار ، وهي كثيرة.
    منها : صحيحة هشام بن سالم ، عن الصادق ـ عليه السلام ـ قال : من بلغه عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له


(409)
وإن كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يقله (1).
    ومنها : ما عن « الكليني » عنهم ـ عليهم السلام ـ من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما فعله (2).
    ومنها : ما عن « الإقبال » عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك (3).
    ومنها : ما عن محمد بن مروان قال : سمعت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ يقول : من بلغه ثواب من الله تعالى على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه (4).
    إلى غير ذلك من الأخبار المتقاربة بحسب المضمون ، ويغنى عن التكلم في سندها عمل المشهور بها والفتوى على طبقها ، مع أن بعضها من الصحاح ، فلا إشكال من حيث السند ، إنما الإشكال من حيث الدلالة. والوجوه المحتملة فيها ثلاثة :
    أحدها : أن يكون مفادها مجرد الأخبار عن فضل الله سبحانه من غير نظر إلى حال العمل وأنه على أي وجه يقع ، وبعبارة أخرى : يمكن أن تكون هذه الروايات ناظرة إلى العمل بعد وقوعه وأن الله تعالى حسب فضله ورحمته يعطى الثواب الذي بلغ العامل وإن تخلف قول المبلغ عن الواقع ولم يكن الأمر كما أخبر به (5) وحينئذ لا تكون الروايات بصدد بيان حال
1 ـ الوسائل : الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات الحديث 3
2 ـ الوسائل الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات الحديث 8 وفيه : « وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه ».
3 ـ الإقبال : في ما يختص بشهر رجب ص 627
4 ـ الوسائل : الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات الحديث 7
5 ـ أقول : لا شبهة في أن ترتب الثواب الذي هو لسان هذه الأخبار إنما هو بعد العمل ، إنما الكلام في أن هذا الثواب ثواب تفضل أو ثواب استحقاق ، وأيضا وصريح هذه النصوص ترتب الثواب وإن كان البلوغ على خلاف الواقع ، وهو لا يناسب طريقية البلوغ إلا على المختار : من استحقاق المنقاد أيضا مثل المطيع للثواب ،


(410)
العمل قبل وقوعه من العامل وأنه مستحب ، ولا بصدد بيان إلقاء شرائط حجية الخبر الواحد في المستحبات وأنه لا يعتبر فيها ما يعتبر في الخبر القائم على وجوب شيء : من الوثاقة أو العدالة.
    ولا يمكن التمسك باطلاق الموضوع ـ وهو البلوغ ـ ويقال : إن الموضوع في القضية مطلق لم يعتبر فيه شرائط الحجية ، فان الإطلاق في القضية إنما سيق لبيان حكم آخر وهو إعطاء الثواب على العمل الذي بلغ عليه الثواب ، وإذا كان الإطلاق قد سيق لبيان حكم آخر لحكم نفسه فلا يجوز التمسك به ، نظير قوله تعالى :
    « فكلوا مما أمسكن عليه » (1) فان إطلاق الأمر بالأكل قد ورد لبيان حلية
كما هو الشأن في التجري بالإضافة إلى العقوبة.
    وحيث كان كذلك نقول : إن الظاهر من بلوغ الثواب كونه كناية عن الإخبار بسببه من وجوب أو استحباب ، كيف ! وغالب الأخبار الذي هو محط هذه الروايات من هذا القبيل وقل اشتمالها على مجرد إخبار الثواب ، نظير « من سرح لحيته » وأمثاله ، وحينئذ أمكن بقرينة السياق جعل الثواب الموعود أيضا كناية عن إثبات مقتضيه خصوصا مع التعبير في بعض الأخبار بالأجر ، وحينئذ لا يناسب مثل هذا البيان للتفضل ، إذ الثواب التفضلي لا يكون أجرا ، ولا كناية عن ثبوت مقتضيه ، فلا محيص إلا من حمل هذه النصوص لبيان استحباب العمل مولويا أو الحمل على بيان طريقية الخبر لإثبات الاستحباب على المختار.
    نعم : على مذهب « المقرر » لا محيص على تقدير الكناية من حمل الروايات على الاستحباب المولوي الشامل بنصها لصورة مخالفة البلوغ للواقع ، فيصير البلوغ المزبور حينئذ مما له الموضوعية في ترتب هذا الثواب ، كما أنه على المختار يكون الأخبار قابلا للحمل على الطريقية وقابلا للحمل أيضا على محض الإتيان برجاء الواقع بلا طريقية ولا نفسية ، كما يشهد له قوله « طلب » وقوله « والتماس ذلك الثواب » ولازمه جعل هذه الأخبار إرشادا إلى حكم العقل بلا مولوية نفسية ولا طريقية ، لاستقلاله بذلك ، كما لا يخفى. ولعمري ! أن المتيقن من الأخبار هو ذلك ، لا المولوية ولا حجية قول المبلغ ، كما لا يخفى.
    وعلى أي حال : لا وجه لحمل النصوص بصورة كون خبر المبلغ واجدا لشرايط الحجية ، إذ كما أن الخبر الصحيح كان داعيا على العمل كذلك رجاء الوصول إلى الواقع أيضا ربما يكون داعيا عليه ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال الحمل على صورة وجدان الخبر لشرائط الحجية. وتوهم : أنه على هذا لا يكون البلوغ داعيا بل احتمال الثواب داعي ، مدفوع بأن البلوغ كناية عن إحتماله.
1 ـ سورة المائدة الآية 4


(411)
ما يصطاده كلب الصيد وأنه ليس من الميتة ، فلا يجوز التمسك باطلاق الأمر بالأكل لطهارة موضع إمساك الكلب ، وفي المقام إطلاق قوله ـ عليه السلام ـ « إذا بلغه شيء من الثواب فعمله كان له ذلك » لم يرد لبيان استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب حتى يؤخذ باطلاقه ، ليستفاد منه عدم اعتبار ما اعتبر في الخبر الواحد من الشرائط ، بل إنما ورد لبيان فضل الله تعالى على العباد وأن الثواب لا يدور مدار إصابة قول المبلغ للواقع ، وهذا لا ينافي أن يعتبر في قول المبلغ ما يعتبر في الخبر الواحد ، أي كان ترتب الثواب مشروطا بكون قول المبلغ واجدا لشرائط الحجية.
    والحاصل : أن مبنى الاحتمال الأول هو أن تكون هذه الأخبار بصدد بيان ما يترتب على العمل المتفرع على بلوغ الثواب عليه ، كما يرشد إلى ذلك فاء التفريع ، فان الظاهر من قوله ـ عليه السلام ـ « فعمله » هو أن يكون العمل متفرعا على البلوغ وأنه بلغ فعمل معتمدا على البلوغ ومستندا إليه ، والعامل لا يعتمد في عمله على قول المبلغ إلا إذا كان قوله واجدا لشرائط الحجية ، فكأن واجدية قول المبلغ للشرائط اخذ في القضية مفروغ الوجود وإلا لا يصح تفريع العمل على البلوغ ، فإنه إذا لم يكن قول المبلغ واجدا للشرائط فلا يصح من العامل إسناد عمله إلى قول المبلغ والاعتماد عليه ، بل لابد من أن يكون عمله بداعي الاحتمال وأنه لعل أن يكون قوله مصادفا للواقع ، وهذا ينافي ظاهر تفريع العمل على البلوغ ، فان التفريع لا يكون إلا بعد الاعتماد على قول المبلغ وفرض إصابته للواقع.
    فان قلت : الظاهر من قوله ـ عليه السلام ـ في خبر محمد بن مروان « ففعله التماس ذلك الثواب أوتيه » هو أن يكون العمل برجاء إصابة قول المبلغ للواقع واحتمال كونه مطلوبا في نفس الأمر ، فلابد أن لا يكون قول المبلغ واجدا للشرائط ، فإنه لو كان واجدا لها لا يكون العمل بداعي احتمال المطلوبية ، بل مقتضى حجية قوله هو إلقاء احتمال مخالفة قوله للواقع وإتيان


(412)
العمل بداعي كونه مطلوبا واقعا.
    قلت : تقييد العمل بالالتماس ليس لبيان وجه العمل وأنه يعتبر في إعطاء الثواب أن يكون العمل بداعي الاحتمال والتماس الثواب (1) بل التقييد بذلك إنما هو لأجل أن عبادة أغلب الناس إنما تكون لرجاء الثواب والأمن من العقوبة ، فقوله ـ عليه السلام ـ « ففعله التماس ذلك الثواب » إنما ورد مورد الغالب ولا عبرة بالقيد الوارد مورد الغالب.
    نعم : ربما يستظهر من قوله ـ عليه السلام ـ في بعض الأخبار « فعمل ذلك طلب قول النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ » كون العمل برجاء قول النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فتأمل.
    وعلى كل حال : فهذا أحد الاحتمالات التي تتحملها روايات الباب.
    ثانيها : أن تكون الجملة الخبرية بمعنى الإنشاء ويكون مفاد قوله ـ عليه السلام ـ « فعمله » أو « ففعله » الأمر بالفعل والعمل (2) كما هو الشأن في غالب الجمل الخبرية الواردة في بيان الأحكام ، سواء كانت بصيغة الماضي كقوله ـ عليه السلام ـ « من سرح لحيته فله كذا » أو بصيغة المضارع كقوله : « تسجد سجدتي السهو » وغير ذلك من الجمل الخبرية التي وردت في مقام الحث والبعث نحو الفعل ، فيكون المعنى : إذا بلغ الشخص شيء من الثواب على عمل فليعمله ، وعلى هذا يصح التمسك باطلاق البلوغ والقول باستحباب
1 ـ أقول : ذلك كذلك لو لم نقل بأن البلوغ كناية عن احتمال الثواب أو احتمال مقتضيه ، كما هو ظاهر قوله : « طلب قول النبي » وحينئذ يكون قوله : « التماس ذلك الثواب » أو « طلب قوله » مؤكدا لاحتمال المزبور الذي هو لازم البلوغ جزما ، لا أنه بيان للازم خارجي عن البلوغ ، كما لا يخفى.
2 ـ أقول : حمل الجملة الخبرية على الإنشاء في كلية الموارد في غاية البعد ، بل عمدة وجه استفادة الطلب من أمثال هذه الجمل جعلها من باب الإخبار بوجود شيء بملاحظة وجود مقتضيه في عالم التشريع ، فيصير الإخبار المزبور كناية عن الطلب الذي هو ملزومه ، لا إنه بنفسه عبارة عن إنشائه ، كما لا يخفى.


(413)
العمل مطلقا ، سواء كان قول المبلغ واجدا لشرائط الحجية أو لم يكن ، فان الموضوع في القضية هو نفس البلوغ بقول مطلق ، والإطلاق يكون مسوقا لبيان حكم نفسه لا لبيان حكم آخر ، فلا مانع من التمسك بالإطلاق.
    ثم إن كون الجملة الخبرية بمعنى الإنشاء وأنها في مقام بيان استحباب العمل يمكن أن يكون على أحد وجهين :
    أحدهما : أن تكون القضية مسوقة لبيان اعتبار قول المبلغ وحجيته ، سواء كان واجدا لشرائط الحجية أو لم يكن ـ كما هو ظاهر الإطلاق ـ فيكون مفاد الأخبار مسألة أصولية ، فإنه يرجع مفادها إلى حجية الخبر الضعيف الذي لا يكون واجدا لشرائط الحجية ، وفي الحقيقة تكون أخبار « من بلغ » مخصصة لما دل على اعتباره الوثاقة أو العدالة في الخبر وأنها تختص بالخبر القائم على وجوب الشيء ، وأما الخبر القائم على الاستحباب فلا يعتبر فيه ذلك. وظاهر عناوين كلمات القوم ينطبق على هذا الوجه ، فان الظاهر من قولهم : « يتسامح في أدلة السنن » هو أنه لا يعتبر في أدلة السنن ما يعتبر في أدلة الواجبات.
    فان قلت : كيف تكون أخبار « من بلغ » مخصصة لما دل على اعتبار الشرايط في حجية الخبر ، مع أن النسبة بينهما العموم من وجه ؟ حيث إن ما دل على اعتبار الشرائط يعم الخبر القائم على الوجوب وعلى الاستحباب ، وأخبار « من بلغ » وإن كانت تختص بالخبر القائم على الاستحباب ، إلا أنه أعم من أن يكون واجدا للشرائط أو فاقدا لها ، ففي الخبر القائم على الاستحباب الفاقد للشرائط يقع التعارض ، فلا وجه لتقديم أخبار « من بلغ » على ما دل على اعتبار الشرائط في الخبر.
    قلت : مع أنه يمكن أن يقال : إن أخبار « من بلغ » ناظرة إلى إلقاء الشرائط في الأخبار القائمة على المستحبات فتكون حاكمة على ما دل على اعتبار الشرائط في أخبار الآحاد وفي الحكومة لا تلاحظ النسبة ـ إن الترجيح لأخبار « من بلغ » لعمل المشهور بها ، مع أنه لو قدم ما دل على اعتبار الشرائط


(414)
في مطلق الأخبار لم يبق الأخبار « من بلغ » مورد ، بخلاف ما لو قدمت أخبار « من بلغ » على تلك الأدلة ، فان الواجبات والمحرمات تبقي مشمولة لها ، بل يظهر من الشيخ ( قدس سره ) ـ في الرسالة التي صنفها في مسألة التسامح في أدلة السنن ـ اختصاص ما دل على اعتبار الشرائط بالواجبات والمحرمات ، فان ما دل على اعتبار ذلك إما الإجماع وإما آية النبأ.
    أما الإجماع : فمفقود في الخبر القائم على الاستحباب ، بل يمكن دعوى الإجماع على عدم اعتبار الشرائط في المستحبات.
    وأما آية النبأ : فلا إشكال في اختصاصها بالواجبات والمحرمات ، كما يشهد بذلك ما في ذيلها من التعليل ، وعلى هذا تبقي أخبار « من بلغ » بلا معارض ، هذا.
    ولكن الإنصاف : أن ما أفاده الشيخ ( قدس سره ) لا يخلو عن ضعف ، فان ما دل على اعتبار الشرائط في أخبار الآحاد لا ينحصر بالإجماع وآية النبأ ، بل العمدة في اعتبار الشرائط هو ما تقدم من الأخبار المتظافرة أو المتواترة ، وهي تعم المستحبات.
    وعلى كل حال : لا ينبغي التأمل في ترجيح أخبار « من بلغ » على ما دل على اعتبار الشرايط ، إما للحكومة ، وإما لبقائها بلا مورد لو قدمت تلك الأدلة عليها ، مضافا إلى عمل المشهور بها ، وقد عرفت : أن هذا الوجه يقتضي أن يكون مفاد الأخبار مسألة أصولية.
    الوجه الثاني : (1) أن تكون أخبار « من بلغ » مسوقه لبيان أن البلوغ يحدث مصلحة في العمل بها يكون مستحبا ، فيكون البلوغ كسائر العناوين الطارية على الأفعال الموجبة لحسنها وقبحها والمقتضية لتغيير أحكامها ، كالضرر
1 ـ كذا في النسخة. والأنسب « ثانيهما » ( المصحح ).

(415)
والعسر والنذر والإكراه وغير ذلك من العناوين الثانوية ، فيصير حاصل معنى قوله ـ عليه السلام ـ « إذا بلغه شيء من الثواب فعمله الخ » ـ بعد حمل الجملة الخبرية على الإنشائية ـ هو أنه يستحب العمل عند بلوغ الثواب عليه كما يجب العمل عند نذره.
    والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني مما لا يكاد يخفى ، فان الوجه الثاني كان مبنيا على أن يكون مفاد أخبار « من بلغ » حجية قول المبلغ وأن ما أخبر به هو الواقع ، فيترتب عليه كل ما يترتب على الخبر الواجد للشرائط ، وهذا بخلاف الوجه الثالث ، فان مفاده مجرد إعطاء قاعدة كلية ، وهي استحباب العمل إذا بلغ عليه شيء من الثواب ، فيكون مفاد أخبار « من بلغ » قاعدة فقهية ك‍ « قاعدة لا ضرر ولا حرج » وإن كان يظهر من الشيخ ( قدس سره ) كون المسألة أصولية على كل حال ، لأنه لاحظ للمقلد فيها ولا يجوز للمفتي الإفتاء بمفاد الأخبار ، فإنه لا يمكن للعامي تطبيق القاعدة الكلية على مواردها وتشخيص جزئياتها ، لأن معرفة شرائط الحجية وأن قول المبلغ فاقد لها وأنه ليس له معارض أو التخلص عن معارضه مما يختص بالمجتهد ، فالمسألة لا تكون فقهية.
    وعلى كل حال : من كون المسألة فقهية أو أصولية يشترك الوجه الثاني والوجه الثالث في استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ، سواء كان قول المبلغ واجدا لشرائط الحجية أو لم يكن.
    ولا يبعد أن يكون الوجه الثاني أقرب ـ كما عليه المشهور ـ (1) حيث إن
1 ـ أقول : أقربية الوجه الثاني إنما يتم بناء على المختار : من استحقاق المنقاد أيضا للثواب ، وإلا فعلى مذهب « المقرر » لا مجال له إلا من التزامه بالتفضل كما هو مقتضى احتمال الأول ، أو الاستحباب النفسي كما هو مقتضى احتماله الثالث ، إذ صريح الأخبار في إعطاء الثواب حتى في صورة مخالفة البلوغ للواقع لا يناسب الاحتمال الثاني على زعمه. نعم : على المختار لا بأس به ، بل قد أشرنا سابقا أن البلوغ بعد ما كان قابلا للكناية عن الاحتمال ، فالأخبار ربما يكون المتيقن منها جعلها إرشادا إلى حكم العقل باستحقاق العامل برجاء الواقع للثواب وإن لم يكن كما بلغه.

(416)
بنائهم في الفقه على التسامح في أدلة السنن ، وقد عرفت : أن ظاهر العنوان لا ينطبق إلا على القول بالقاء شرائط الحجية في الخبر القائم على استحباب الشيء.
    هذا ملخص الكلام في مسألة التسامح في أدلة السنن. وقد ذيلها الشيخ ( قدس سره ) بتنبيهات قد تعرض لجملة منها شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) ولكن حيث لم تكن بتلك المثابة من الأهمية طوينا الكلام فيها ، من أراد الاطلاع عليها فليراجع رسالة الشيخ ( قدس سره ) التي صنفها في خصوص هذه المسألة.

    التنبيه الثاني :
    في جريان البراءة عند الشك في الواجب التعييني والتخييري.
    والشك في ذلك يتصور على وجهين :
    أحدهما : ما لو علم بوجوب الشيئين أو الأشياء وشك في كون كل منهما واجبا عينيا لا يسقط أحدهما بفعل الآخر ، أو واجبا تخييريا يسقط كل منهما بفعل الآخر (1).
    ثانيهما : ما لو علم بوجوب الشيء الخاص وتوجه الخطاب نحوه وشك في شيء آخر في أنه عدل لذلك الذي علم وجوبه فيكون من أحد فردي الواجب التخييري ؟ أو أنه ليس بعدل ذلك بل هو مباح أو مستحب ؟.
    والشيخ ( قدس سره ) قد اقتصر ـ في التنبيه الثالث من تنبيهات الشبهة الوجوبية ـ على بيان حكم الوجه الثاني ولم يذكر حكم الوجه الأول في هذا
1 ـ أقول : سيأتي ( إن شاء الله تعالى ) وجه التفصيل بين هذه الصورة والصورة الثانية في جريان البراءة وأصالة التخيير في هذه الصورة وجريان الاشتغال وأصالة التعيين في الصورة الثانية ـ عند تعرض « المقرر » حكم هاتين الصورتين فيما بعد ، وانتظر إن شاء الله تعالى.

(417)
المقام ، بل تعرض له في طي تنبيهات مبحث الأقل والأكثر ، ولعل بين الوجهين نحوا من الملازمة في النتيجة بحسب ما تقتضيه الأصول العملية.
    وعلى كل حال : تنقيح البحث في دوران الأمر بين التعيينية والتخييرية يستدعى رسم أمور :
    الأمر الأول :
    الواجب التخييري على أقسام ثلاثة :
    القسم الأول : الواجب التخييري بحسب الجعل الابتدائي الشرعي ـ أي كان الخطاب من أول الأمر خطابا تخييريا ذا أفراد في مقابل الخطاب التعييني ـ كخصال الكفارات ، فان الحكم المجعول الشرعي عند تعمد الإفطار في نهار شهر رمضان إنما هو التخيير بين الخصال الثلاث : من العتق والإطعام والصيام ، وفي كيفية إنشاء الخطاب التخييري وتصويره وجهان بل قولان :
    فقيل : إن الخطاب التخييري عبارة عن تقييد إطلاق الخطاب المتعلق بكل من الفردين أو الأفراد بما إذا لم يأت المكلف بعدله ، فيكون وجوب العتق في الخصال مقيدا بعدم الإطعام والصيام ، ووجوب الإطعام مقيدا بعدم العتق والصيام ، وهكذا ، ومن تقييد إطلاق الخطابين ينشأ التخيير.
1 ـ أقول : لا مجال للالتزام بتقيد إطلاق الخطاب بعدم الإتيان بالغير في التخييرات الواردة في الشريعة ، فان لازمه عدم تحقق الامتثال بالواجب التخييري عند إتيانهما ، ولا أظن في التخييرات الشرعية ما كانت بهذه المثابة ولم يتوهمه أحد أيضا ، فلا محيص حينئذ في تصوير الواجب التخييري من بيان آخر به تصير سنخ آخر من الخطاب قبال الواجب التعييني. و « المقرر » ما شرح هذا السنخ في المقام وإنما بينه في طي تحقيقه في جريان الأصل فيه ، وملخص ما أفاده : هو أن الوجوب التعييني عبارة عن وجوب شيء بلا جعل عدل له في طي الخطاب ، بخلاف التخييري فإنه عبارة عن ايجاب شيء مع ايجاب شيء آخر عدلا له.
    أقول : لا يخفى أن وجود كل شيء طارد لجميع أنحاء عدمه ، ومن جملة أنحاء عدمه عدمه حين وجود غيره ، وحينئذ إذا تعلق الطلب بهذا الوجود ، فان كان الطلب حاويا لشراشر وجوده المستلزم لطرد عدمه حتى مثل هذا


(418)
    وقيل : إن الخطاب التخييري بنفسه سنخ آخر من الخطاب في مقابل الخطاب التعييني ، لا أنه ينشأ من تقييد الإطلاق ، بل التخييرية والعينية سنخان متباينان بحسب الجعل والإنشاء ، ينشئان عن كيفية تعلق الإرادة الأزلية نحو المراد ، فقد تتعلق الإرادة الأزلية بشيء مخصوص لا يقوم غيره مقامه فيكون واجبا عينيا مطلقا كان أو مشروطا ، وقد تتعلق بأحد الشيئين أو الأشياء التي لم يكن بينها جامع قريب عرفي مقدور للمكلف يكون هو متعلق التكليف ـ كما في أفراد الواجب التخييري العقلي حيث إن التكليف فيه إنما يتعلق بالجامع بينها ـ فيكون واجبا تخييريا ، فالضابط في التخيير الشرعي هو أن لا يكون بين الأفراد جامع أصلا ، أو كان الجامع مجرد وحدة الملاك.
    ومحصل القول الثاني هو أن مجرد تقييد إطلاق الخطاب لا يقتضي الوجوب التخييري ما لم يكن في البين اختلاف في سنخ الإرادة وكيفية تعلقها نحو المراد ، وربما نشير إلى الثمرة بين القولين بعد ذلك.
    القسم الثاني : ( من أقسام الواجب التخييري ) هو التخيير الناشئ عن
العدم ، فمثل هذا الوجود في عالم تعلق الطلب به لا يناسب مع جعل عدل له في هذا المقام ، إذ جعل العدل ملازم لجواز تركه في ظرف وجود العدل ، وهذا ينافي مع كون الطلب قائما بشراشر وجوده الموجب لطرد جميع الأعدام ، فلا جرم جعل العديل ملازم مع خروج بعض أنحاء عدم الوجود المزبور عن حيز الطلب ، وهو ملازم لعدم كون الوجود على الإطلاق في حيز الطلب ، بل المطلوب حينئذ حفظ الوجود من سائر الجهات ، وإليه يرجع حقيقة الوجوب التخييري فيصير الامتياز بين التعيين والتخيير بطلب الفعل بنحو يمنع عن جميع أنحاء عدمه أو بنحو لا يمنع عن بعض أنحاء عدمه ، ومن لوازمه جعل بديل له دون الأول ، وحينئذ فامتياز التعيين عن التخيير ليس إلا لشمول الطلب لجهات وجوده وحدوده بأجمعها دون التخييري ، فان الطلب لا يكون حاويا لجميع حدوده الملازم لطرد تمام أنحاء عدمه.
    وحيث عرفت ذلك ، ظهر لك : أن حيثية التعينية منتزعة عن جهة وجودية ، وهو شمول الطلب الموجود لجميع حدوده ، لا أنه متقوم بأمر عدمي ، وهو عدم جعل البدل له ، كما توهم. ولعمري ! أن « المقرر » في المقام أغمض عن روح البيان واكتفى باللازم بخيال أنه روح المراد وحقيقته ، وهو كما ترى ! وسيأتي تتمة الكلام عن قريب إن شاء الله تعالى.


(419)
تزاحم الحكمين وتمانع الخطابين في مقام الامتثال إذا لم يكن أحد الحكمين أهم وأولى بالرعاية ـ على أحد الوجهين في باب التزاحم (1) وقد تقدم تفصيل ذلك ( في الجزء الأول من الكتاب ) ويأتي أيضا ( في مبحث التعادل والتراجيح ).
    وإجمال ذلك : هو أن الخطابات والتكاليف الشرعية إذا كانت بحسب أصل الجعل والتشريع مطلقا بالنسبة إلى حال اجتماع كل واحد منها مع الآخر ولم يكن بين متعلقاتها تمانع وتضاد ولكن عرض التمانع والتزاحم بينها في مقام الامتثال ـ من حيث إنه اتفق للمكلف العجز عن امتثالها جمعا وعدم القدرة على ايجاد كل من المتعلقين أو المتعلقات ـ فلابد حينئذ من تقييد الإطلاق ، لأن المفروض عدم قدرة المكلف على الجمع بينها في الامتثال ، واشتراط التكليف بالقدرة ضروري ، فلا يمكن بقاء الإطلاق بالنسبة إلى كل من الخطابين أو الخطابات المتزاحمة ، فان كان أحد المتعلقين أهم وأولى بالرعاية عقلا أو شرعا يبقى إطلاق خطابه على حاله ويقيد إطلاق خطاب غير الأهم ـ وعلى ذلك يبتني الخطاب الترتبي ـ وإن لم يكن أحد المتعلقين أهم وأولى بالرعاية من الآخر وكانا ككفتي الميزان من حيث الأهمية ومن حيث ساير مرجحات باب التزاحم التي استقصينا الكلام فيها في مبحث الضد ـ فعلى المختار لابد من تقييد إطلاق كل من الخطابين بصورة عدم امتثال الآخر ، فتكون النتيجة التخيير في الإتيان بأحد المتعلقين وامتثال أحد الخطابين.
    وهذا التخيير يعرض للخطابين بعد ما كانا عينيين ، وبذلك يمتاز عن القسم الأول.
    هذا بناء على ما قويناه ( في بيان التزاحم ) من أن منشأ التزاحم إنما هو إطلاق الخطابين بالنسبة إلى فعل متعلق الآخر وعدمه ، فلابد أن يكون هو
1 ـ أقول : مرجع هذا التخيير أيضا نقص في الطلب ، بلا احتياج إلى التقييد بعدم ضده ، وتوضيحه في محله إن شاء الله تعالى.

(420)
الساقط ، ولا موجب لسقوط أصل الخطاب ، لأن التزاحم لم ينشأ من وجود الخطابين بل من إطلاقهما. ولكن في المسألة قول بسقوط أصل الخطابين ، ولمكان تمامية الملاك في باب التزاحم العقل يستكشف خطابا تخييريا آخر بعد سقوط الخطابين الأصليين. وهذا القول وإن كان قد زيفناه في محله ، إلا أنه بناء عليه يكون الخطاب التخييري الذي استكشفه العقل من تمامية الملاك بعد سقوط الخطابين الأصليين كالخطاب التخييري المجعول ابتداء بحسب أصل التشريع ، ويندرج في القسم الأول ، وذلك واضح.
    القسم الثالث : التخيير الناشئ عن تعارض الحجتين وتنافي الطريقين ـ كتعارض فتوى المجتهدين المتساويين ومؤدى الخبرين مع تساويهما في مرجحات باب التعارض ـ فبناء على المختار في باب الطرق والأمارات : من أن المجعول فيها نفس الحجية والطريقية والوسطية في الإثبات من دون أن يحدث في مؤدى الطريق مصلحة بسبب قيام الطريق عليه بل المؤدى باق على ما كان عليه قبل قيام الطريق من الحكم ، يكون الأصل في باب التعارض التساقط وعدم حجية كل منهما بالنسبة إلى المؤدى ، والتخيير في الأخذ بأحد المتعارضين يكون لمحض التعبد من جهة الأخبار الآمرة بالتخيير عند تعارض الروايات وفقد المرجحات ، فهذا قسم آخر من التخيير أجنبي عن القسم الأول والثاني.
    وأما بناء على ما ينسب إلى المشهور من القدماء : من القول بالسببية في باب الطرق والأمارات وأن قيام الأمارة يوجب حدوث مصلحة في المؤدى غالبة على ما كان عليه من الملاك عند مخالفتها للواقع (1) فالتخيير بين الأمارتين
1 ـ أقول : لا يخفى أن مرجع التخيير في تعارض الحجتين إلى التخيير في الأخذ بالحجة والاستناد إليه ، وهذا التخيير قائم بالأخذ والاستناد وخارج عن موضوع الحكم الطريقي وعن موضوع دليل الحجية ، ولو لم
فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: فهرس