فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: 451 ـ 456
(451)
الإجمالي كعدمه لا أثر له ولا يقتضي التنجيز ، فوجود المزية أيضا كعدمها (1) فان المزية إنما توجب الأخذ بصاحبها بعد الفراغ من تنجز التكليف ولزوم رعايته وامتثاله ، والتكليف في دوران الأمر بين المحذورين غير لازم الرعاية.
    ثم على تقدير كون المزية توجب تعين الأخذ بصاحبها ، فهل نفس احتمال الحرمة يكفي في ترجيح جانبها على احتمال الوجوب فيتعين ترك الفعل وترتيب آثار الحرمة عليه ؟ أو أن مجرد كون طرف احتمال الوجوب هو احتمال الحرمة لا يكفي في ترجيح جانب الحرمة ما لم تكن الحرمة من حيث الاحتمال أو المحتمل أقوى من الوجوب ؟.
    فقد قيل : إن مجرد كون طرف احتمال الوجوب هو احتمال الحرمة يكفي في ترجيح جانب الحرمة ، بدعوى : أن في احتمال الحرمة احتمال المفسدة وفي احتمال الوجوب احتمال النفع ، ودفع المفسدة المحتملة أولى من جلب النفع المحتمل ، كما أن دفع المفسدة المتيقنة أولى من جلب المنفعة المتيقنة ، وعلى ذلك يبتني القول بتغليب جانب الحرمة على جانب الوجوب في مسألة اجتماع الأمر والنهى.
    وفيه أولا : أن المنافع والمفاسد تختلف بحسب القلة والكثرة ، فرب نفع يكون جلبه أولى من دفع المفسدة ، وعلى فرض التساوي من حيث القلة والكثرة لم يقم برهان على أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، ولم يظهر من طريقة العقلاء أن بنائهم على ذلك.
    وثانيا : أن دعوى أنه ليس في الواجبات إلا جلب المنافع فلا يكون في تركها مفسدة بل مجرد فوات النفع ، ممنوعة ، فلم لا يكون في ترك الواجب مفسدة كفعل الحرام ؟.
1 ـ أقول : لو قيل بأن مناط حكم العقل بالتخيير في المقام عدم الترجيح بين الاحتمالين أمكن دعوى توقفه عنه عند وجود المزية لأحد الطرفين ويحكم بالأخذ بذى المزية ، لاحتمال تعينه ، فافهم وتدبر.

(452)
    وثالثا : على تقدير تسليم أن يكون دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة مطلقا وتسليم أن ترك الواجب ليس فيه مفسدة ، فإنما يكون ذلك في المنافع والمفاسد الراجعة إلى شخص الفاعل والمباشر لما فيه المنفعة والمفسدة. ودعوى : أن منافع الواجبات ومفاسد المحرمات راجعة إلى شخص الفاعل ، دون إثباتها خرط القتاد ! فإنه من المحتمل أن تكون المنافع والمفاسد راجعة إلى النوع بحسب ما يقتضيه النظام التام ، إلا أن يقال : إن مجرد احتمال ذلك لا يكفي مع احتمال أن تكون راجعة إلى المباشر ، فتأمل جيدا.
    الأمر الثالث : يعتبر في دوران الأمر بين المحذورين أن يكون كل من الواجب والحرام توصليا أو يكون أحدهما الغير المعين توصليا ، فلو كان كل منهما تعبديا أو كان أحدهما المعين تعبديا فليس من دوران الأمر بين المحذورين ، لأن المكلف يتمكن من المخالفة القطعية بالفعل أو الترك لا بقصد التعبد والتقرب وإن لم يتمكن من الموافقة القطعية ، فبالنسبة إلى المخالفة القطعية العلم الإجمالي يوجب التأثير ويقتضي التنجيز وإن لم يقتض ذلك بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، وذلك واضح.
    الأمر الرابع :
    دوران التكليف بين الوجوب والحرمة بالنسبة إلى الفعل الواحد ، تارة : يكون مع وحدة الواقعة ، كما لو دار الأمر بين كون المرأة المعينة محلوفة الوطي أو محلوفة الترك في ساعة معينة.
    وأخرى : مع تعدد الواقعة ، كالمثال إذا فرض أن الحلف على الفعل أو الترك كان في كل ليلة من ليالي الجمعة.
    فان كان على الوجه الأول : فلا إشكال في كون الحالف مخيرا بين


(453)
الوطي وعدمه في الساعة التي تعلق الحلف بها ، ولا موقع للنزاع في كون التخيير بدويا أو استمراريا ، لأنه لا تعدد في الواقعة حتى يتصور فيها التخيير الاستمراري.
    وإن كان على الوجه الثاني : فللنزاع في كون التخيير بدويا أو استمراريا مجال. فقيل : إن التخيير بدوي ، فما اختاره المكلف في ليلة الجمعة الأولى من الفعل أو الترك لابد أن يختاره أيضا في الليالي اللاحقة ، وليس له أن يختار في الليلة اللاحقة خلاف ما اختاره في الليلة السابقة ، فإنه لو اختلف اختياره في الليالي لزم منه المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال ، فأنه يعلم بتحقق الحنث ، إما في الليلة السابقة ، وإما في الليلة التي هو فيها ، فلأجل الفرار عن حصول المخالفة القطعية لابد من أن يكون التخيير بدويا ، هذا.
    ولكن للنظر في ذلك مجال ، فان المخالفة القطعية لم يتعلق بها التكليف التحريمي شرعا بحيث تكون المخالفة القطعية كسائر المحرمات الشرعية قد تعلق بها النهى المولوي الشرعي ، بل قبح المخالفة القطعية كحسن الطاعة من المستقلات العقلية التي لا تستتبع الخطاب المولوي ، وحكم العقل بقبح المخالفة القطعية فرع تنجز التكليف ، وإلا فنفس المخالفة بما هي مخالفة لا يحكم العقل بقبحها ما لم يتنجز التكليف.
    وبالجملة : مخالفة التكليف المنجز قبيحة عقلا ، وأما مخالفة التكليف الغير المنجز فلا قبح فيها ، كما لو اضطر إلى الاقتحام في أحد أطراف المعلوم بالإجمال واتفق مصادفة ما اضطر إليه للحرام الواقعي ، فأنه مع حصول المخالفة يكون المكلف معذورا ، وليس ذلك إلا لعدم تنجز التكليف (1) ففي ما نحن فيه
1 ـ أقول : عمدة شبهة من التزم بتقديم حرمة المخالفة وكون التخيير بدويا ، هو أن حكم العقل بلزوم الموافقة التدريجية بنحو الاقتضاء وبحرمة المخالفة القطعية التدريجية بنحو العلية ، ومع التزاحم تقدم العلية على الاقتضاء ، فيحكم بالحرمة دون لزوم الموافقة. وذلك البيان لا ينافي عدم التنجيز بالنسبة إلى كل آن آن بنحو الدفعية ، وإنما تجئ الشبهة من منجزية العلم الإجمالي بالحرمة بنحو التدريج ، وهذا المعنى وإن كان متحققا

(454)
لا يكون التكليف منجزا في كل ليلة من ليالي الجمعة ، لأنه في كل ليلة منها الأمر دائر بين المحذورين ، فكون الواقعة مما تكرر لا يوجب تبدل المعلوم بالإجمال ولا خروج المورد عن كونه من دوران الأمر بين المحذورين ، فان متعلق التكليف إنما هو الوطي أو الترك في كل ليلة من ليالي الجمعة ، ففي كل ليلة يدور الأمر بين المحذورين. ولا يلاحظ انضمام الليالي بعضها مع بعض ، حتى يقال : إن الأمر فيها لا يدور بين المحذورين لأن المكلف يتمكن من الفعل في جميع الليالي المنضمة ومن الترك في جميعها أيضا ومن التبعيض ففي بعض الليالي يفعل وفي بعضها الآخر يترك ومع اختيار التبعيض تتحقق المخالفة القطعية لأن الواجب عليه إما الفعل في الجميع وإما الترك في الجميع ، وذلك : لأن الليالي بقيد الانضمام لم يتعلق الحلف والتكليف بها ، بل متعلق الحلف والتكليف كل ليلة من ليالي الجمعة مستقلة بحيال ذاتها ، فلابد من ملاحظة الليالي مستقلة ، ففي كل ليلة يدور الأمر فيها بين المحذورين ويلزمه التخيير الاستمراري.
    والحاصل : أن التخيير البدوي في صورة تعدد الواقعة يدور مدار أحد أمرين : إما من حرمة المخالفة القطعية شرعا ليجب التجنب والفرار عن حصولها ولو بعد ذلك فيجب على المكلف عدم ايجاد ما يلزم منه المخالفة القطعية ، وإما
بالنسبة إلى الوجوب أيضا إلا أن تنجزه بنحو الموافقة التدريجية كان ملغى ، فيبقى تنجزه بالنسبة إلى المخالفة القطعية على حاله.
    وحينئذ الأولى في الجواب أن يقال : إن عدم الجمع بين امتثال لزوم الموافقة وحرمة المخالفة القطعية إذا كان بمناط « لا يطاق » فالعقل في هذا المقام لا يفرق بينهما بالاقتضاء والعلية ، وإنما الفرق في الاقتضاء والعلية في قابلية العلم للرخص الشرعي في أحد الطرفين بمناط البراءة الشرعية وعدمه ، بلا نظر إلى مناط « لا يطاق » والترخيص في المقام هو بمناط « لا يطاق » وفي هذا المقام نسبة حكم العقل علية واقتضاء بمناط واحد ، كما لا يخفى فتدبر.
قد تم والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا باطنا
في شهر شوال المكرم سنة 1362

(455)
من ملاحظة الوقايع المتعددة منضما بعضها إلى بعض في تعلق التكليف بها حتى يتمكن المكلف من مخالفة التكليف بتبعيض الوقايع واختياره في البعض ما يخالف اختياره في الآخر. وكل من الأمرين اللذين يبتني على أحدهما التخيير البدوي محل منع ، فلا محيص من التخيير الاستمراري وإن حصل العلم بالمخالفة ، فتأمل جيدا.
    الأمر الخامس :
    لو دار أمر الشيء بين كونه شرطا للعبادة أو مانع عنها أو دار الأمر بين الضدين ـ كما إذا دار الأمر في القراءة بين وجوب الجهر بها أو وجوب الإخفات ـ فالأمر وإن كان يدور بين المحذورين بالنسبة إلى العبادة الواحدة ، فإنه لا يمكن أن تكون العبادة الواحدة واجدة للشئ وفاقدة له فيما إذا تردد بين كونه شرطا لها أو مانع عنها ، وكذا لا يمكن أن تكون القراءة الواحدة جهرية وإخفاتية ، إلا أنه حيث يتمكن المكلف من الموافقة القطعية ـ ولو بتكرار الصلاة تارة مع ما يحتمل كونه شرطا وأخرى بدون ذلك ، أو بتكرار القراءة فقط بقصد القربة المطلقة ـ فلا محالة يجب الاحتياط بتكرار العمل أو الجزء ، فلا يندرج في باب دوران الأمر بين المحذورين.
    هذا تمام الكلام في « الجزء الثالث » من الكتاب ، ويتلوه « الجزء الرابع » إن شاء الله تعالى.
والحمد الله أولا وآخرا
والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الأربعاء التاسعة والعشرين من شهر شوال
المكرم سنة ألف وثلاثمأة واثنين وأربعين


(456)
تنبيه
    قد اكتفينا في كثير من المباحث الراجعة إلى هذا الجزء من الكتاب بالإشارة إليها ـ خصوصا ما يرجع إلى مباحث القطع والبرائة ـ اعتمادا على ما سيأتي ـ في الجزء الرابع ـ من استقصاء الكلام فيها وتفصيلها بما لا مزيد عليه ، وحرصا على نشر ما أفاده حضرة شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في مسألة اللباس المشكوك : من الكنوز والنفائس العلمية التي لم تصل إليها أفهام أولى الألباب وكانت تحت الخبا ، حتى من الله تعالى على حملة العلم بطلوع الشمس العلم من مركزه ، أعني به حضرة « شيخنا الأستاذ متع الله المسلمين بطول بقاه » فحق على حملة العلم أن يقدروا ويشكروا ما أنعم الله تعالى عليهم من شريف وجوده ، وحق علينا نشر ما أفاده في ذلك أداء المقدار من حقوقه وخدمة لأهل العلم ، سائلين منه ( سبحانه وتعالى ) قبول ذلك ، وأن يجعله في صحيفة حسناتنا
ويكفر به سيئاتنا ، إنه أرحم الراحمين
فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: فهرس