فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 31 ـ 45
(31)
    إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن القول بالتخيير في باب تعارض الأصول مما لا شاهد عليه ، لا من ناحية الدليل والكاشف ، ولا من ناحية المدلول والمنكشف.
    أما انتفاء الشاهد من ناحية الدليل : فهو مما لا يكاد يخفى ، فان دليل اعتبار كل أصل من الأصول العملية إنما يقتضي جريانه عينا سواء عارضه أصل آخر أو لم يعارضه ، وليس في الأدلة ما يوجب التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين (1)
    وأما انتفاء الشاهد من ناحية المدلول : فلان المجعول في باب الأصول العلمية ليس هو إلا الحكم بتطبيق العمل على مؤدى الأصل ، إما بقيد أنه الواقع ، وإما لا بقيد ذلك ـ على اختلاف المجعول في باب الأصول التنزيلية وغيرها ـ ولكن الحكم بذلك ليس على إطلاقه ، بل مع انحفاظ رتبة الحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثة المتقدمة ، وهي الجهل بالواقع ، وإمكان الحكم على المؤدى بأنه الواقع ، وعدم لزوم المخالفة العملية ، بالتفصيل المتقدم ، فعند اجتماع هذه القيود الثلاثة يصح جعل الحكم الظاهري بتطبيق العمل على المؤدى ، ومع انتفاء أحدها لا يكاد يمكن جعل ذلك ، وحيث إنه يلزم من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي مخالفة عملية فلا يمكن جعلها جمعا ، وكون المجعول أحدها تخييرا وإن كان بمكان من الامكان ، إلا أنه لا دليل عليه ، لا من ناحية أدلة الأصول ، ولا من ناحية المجعول فيها (2).
1 ـ أقول : يكفي دليلا ملاحظة أجمع بين إطلاق دليل الحلية لكل واحد من الفردين على أي حال ، وبين حكم العقل بعدم إمكان الجمع بين الشكين في هذا الحكم ، فيدور الامر بين تخصيص الفردين ، أو تقيد كل واحد بحال عدم ارتكاب الآخر ، ومعلوم : أن التقيد المزبور أولى من التخصيص ، وذلك أيضا هو الوجه في تقييد إطلاق كل واحد من الخطابين في باب المتزاحمين ، ولا يرى بينهما فرقا بين المقامين ، إذ في الصورتين يستكشف من الاطلاق دخول كل واحد في حال دون حال ، فالمستكشف حكم ملازم مع التخيير واقعا والتعبد بإطلاق الكاشف حكم ظاهري. وتوهم الفرق بين التقريب في المثال وباب المتزاحمين بالواقعية والظاهرية في غير محله.
2 ـ أقول : فيه ما فيه ! ولا يكفيه من التوجيه ، إذ الدليل عليه كالنار على المنار ، ولا يبطله إلا تعلق


(32)
    والحاصل : أن مجرد عدم صحة الجمع في إجراء الأصلين المتعارضين لا يوجب الحكم بالتخيير بينهما ، فان الحكم التخييري كسائر الاحكام يحتاج إلى قيام الدليل عليه. وقياس باب الأصول العملية بباب الامارات على القول بالسببية فيها ليس في محله ، لما عرفت من أن التخيير في العمل بإحدى الامارتين المتعارضتين على ذلك القول إنما هو لأجل أن المجعول في الامارات يقتضي التخيير في صورة التعارض لاندراجها في باب التزاحم الذي قد عرفت أن التخيير فيه ينشأ من ناحية المجعول ، بالبيان المتقدم ، وأين هذا من باب الأصول العملية المجعولة وظيفة للشاك في الحكم أو الموضوع ؟.
    فظهر : أن القول بالتخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين مما لا دليل عليه ، وإنما أطلنا الكلام في ذلك ، لان شبهة التخيير قد غرست في أذهان بعض طلبة العصر ، وبعد البيان المتقدم لا أظن بقاء الشبهة في الأذهان (1) وسيأتي في آخر الاستصحاب مزيد توضيح لذلك.
    فتحصل مما ذكرنا : أن القاعدة في مورد تعارض الأصول تقتضي السقوط ، ويبقى التكليف المنجز المعلوم بالاجمال على حاله (2) والعقل يستقل بوجوب
الإرادة السببية على خلافه.
1 ـ أقول : ولكن لاكل ما يتمنى المرء يدركه ! إذ قد تقدم بطلانه بما لا مزيد عليه.
2 ـ أقول : بعدما كان العلم الاجمالي في ظرف عدم الانحلال لا قصور في سببيته ، لاشتغال ذمة المكلف بالمعلوم ، وفي هذه المرحلة لا يكون قابلا لمنع المانع بشهادة ارتكاز الذهن من التناقض بين الالزام المعلوم وترخيصه على ترك هذا المعلوم بنحو الاجمال ، بعين التناقض الذي يرى العقل في هذا الترخيص في العلم التفصيلي ، فلا محيص من الالتزام بأن العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي علة تامة للاشتغال. ولئن شئت فعبر بأن حكم العقل بثبوت التكليف في عهدة المكلف حكم تنجيزي غير قابل لورود ترخيص شرعي مانع عن أصل الاشتغال ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي ، وحيث ثبت به الاشتغال المزبور ، ينتهي النوبة إلى مرحلة الفراغ ، وفي هذه المرحلة أيضا نقول : إنه لا شبهة في اكتفاء العقل بالفراغ الجعلي ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي ، وحينئذ فكل أمارة أو أصل يوجب تعيين مصداق التكليف


(33)
موافقته والخروج عن عهدته ، إما بالوجدان ، وإما بالتعبد من الشارع. ولا ينحصر
الموجب لكونه مصداقا جعليا يكتفى به ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي أيضا ، فلا إشكال ولا شبهة في هذا المقدار. وإلى مثله يرجع موارد الاكتفاء بجعل البدل في أطراف المعلوم بالاجمال ، ففي الحقيقة مرحلة جعل البدل يرجع إلى التصرف في مرحلة الفراغ ، سواء تحقق بعد العلم أو قبله أو مقارنه ، بخلاف مرحلة الانحلال ، فإنه ـ كما حققناه في محله ـ تصرف في مرحلة الاشتغال ، ولا يوجب منعا عنه ، إلا في ظرف تقارنه مع العلم لا تقدمه أو تأخره ، وتمام الكلام في محله. والغرض في المقام الإشارة الاجمالية بالفرق بين مقام جعل البدل وبين مرحلة الانحلال ، وأن أحدهما غير مرتبط بالآخر. وبالجملة : لا كلام لنا في هذا المقدار ، وإنما الكلام وعمدة الاشكال في صورة عدم اقتضاء أصل أو أمارة لتعين مصداق المأمور به الذي نسميه بالفراغ الجعلي ، وكنا ممحضا بفرض الشك في الفراغ في ظرف تحقق الاشتغال بأن في هذه الصورة هل للشارع أن يرخص بالارتكاب واكتفاء بمحض الشك في الفراغ أم ليس له ذلك ؟.
    وبعبارة أخرى : تمام الكلام في أن حكم العقل في ظرف الاشتغال بتحصيل القطع بالفراغ هل هو حكم تنجيزي ؟ أو تعليقي ؟ فعلى الثاني يلزم إمكان مجيء الترخيص بالاكتفاء بالمشكوك حتى في العلم التفصيلي ، وإلا فلو كان حكم العقل المزبور تنجزيا فلا يعقل الترخيص في بعض أطراف العلم الاجمالي ، ولو بلا معارض ، وحينئذ مركز الكلام من حيث إمكان جريان الأصل في أحد الطرفين في هذه الصورة ، وإلا ففي فرض الانحلال أو جعل البدل بالمعنى المزبور فلا إشكال من أحد فيه ، إذ محط البحث بعد ثبوت الاشتغال بالعلم الاجمالي من دون وجود مانع فيه في هذه المرتبة وبعد عدم دليل يدل على تعين مصداق المأمور به الذي يعبر عنه بالفراغ الجعلي وبجعل البدل. يبقى الكلام في أنه هل يجوز للشارع أن يرخص في ارتكاب ما هو مشكوك المصداق ؟ كي يكون حكم العقل بتحصيل الجزم به حكما تعليقيا قابلا لمنع المانع ، أو أن هذا الحكم العقلي أيضا تنجيزي غير قابل لورود الترخيص على خلافه ؟ كي يلزمه عدم جريان الأصل في أحد الطرفين ولو بلا معارض ، وحيث عرفت محط الاشكال فليس لك الاستشهاد للجريان بمسألة جعل البدل وموارد الانحلال ، إذ تمام الكلام بعد الفراغ عن أصل الاشتغال وعدم العلم بالمصداق ولو جعليا وكان الشك ممحضا بالشك في المصداق والفراغ ، فإذا كان الامر كذلك فنقول : إنه لا يتم جريان الأصل المزبور إلا مع الالتزام بتعليقية حكم العقل بالفراغ اليقيني عند الاشتغال اليقيني بالتكليف ، وإلا فمع فرض تنجيزيته لا يبقى مجال جريان الأصل ولو بلا معارض ، وإن كانت مرتبة الحكم الظاهري فيه محفوظا.
    وعليه نقول : لا شبهة ولا ريب في تنجيزية حكم العقل المزبور ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي ، إذ


(34)
طريق الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالاجمال بالقطع الوجداني ، ضرورة أن التكليف المعلوم بالاجمال لا يزيد على التكليف المعلوم بالتفصيل ، وهو لا ينحصر طريق امتثاله بالقطع الوجداني ، بل يكفي التعبد الشرعي ، كموارد قاعدة الفراغ والتجاوز وغير ذلك من الأصول المجعولة في وادي الفراغ (1) فان كان هذا حال العلم التفصيلي فالعلم الاجمالي أولى منه في ذلك ، لان الواقع لم ينكشف فيه تمام الانكشاف ، فيجوز للشارع الترخيص في بعض الأطراف والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر ، سواء كان الترخيص واقعيا كما إذا اضطر إلى ارتكاب
لم يكتف أحد باتيان العمل مع الشك في تحققه ؟ مع كونه معنا بسيطا ، فضلا عما لو كان مقيدا أو مركبا مع الشك في تحقق شرطه أو جزئه ، بعد الفراغ عن أصل الشرطية والجزئية حكما.
    وتوهم أن الأصل لا يقتضي الاكتفاء به لعدم عموم يجري فيه بخلاف العلم الاجمالي ، مدفوع : بأنه يكفي فيه عموم « حديث الرفع » الشامل لرفع استحقاق المؤاخذة على ترك الموافقة المشكوكة أو المخالفة الغير المعلومة المستتبع إنا للترخيص على تركه المانع عن حكم العقل الملزم بعدم الاكتفاء بالمشكوك ، وهكذا بقية الأصول الجارية في الترخيص على ترك مشكوك الوجوب.
    ولعمري ! انه لا يرفع هذه الغائلة إلا تنجيزية حكم العقل بالفراغ وعدم الاكتفاء بالمشكوك على وجه لا يبقى محال الجريان لهذه الأصول ، وإذا كان كذلك ، فنقول : بعين هذا الوجه الذي لا يجري الأصول في فرض الشك في الفراغ في العلم التفصيلي لا يجري هذه الأصول في فرض الشك في الفراغ بعد ثبوت الاشتغال في العلم الاجمالي أيضا ، لان تنجيزية حكم العقل في تحصيل الجزم بالفراغ لا يفرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي ، كما هو واضح.
1 ـ أقول : الظاهر بقرينة ذيل كلامه أن غرضه من الفراغ هو تحصيل المؤمن ، ولو أنه كان كذلك فلم لا يكتفي بالشك بالموافقة بحديث الرفع ـ بالتقريب المتقدم في العلم التفصيلي أيضا ـ وأي فرق بينه وبين قاعدة التجاوز والفراغ ؟ فلا محيص حينئذ إلا أن يقول بالفرق بين ما كان لسانه لسان تعين مصداق المعلوم وبين غيره ، فيجوز في الأول الاكتفاء ، لان موضوع الفراغ الذي راجع إلى تحصيل الامتثال أعم من الحقيقي والجعلي ، وأن الغرض من تحصيل الفراغ ذلك ، لا مطلق الترخيص المؤمن بخياله ، ولو مع الشك بالمصداق والامتثال ، وحينئذ فما قرع سمعك : من تحصيل الفراغ ، هو ما ذكرنا الراجع إلى تحصيل الامتثال.


(35)
بعض الأطراف ، أو ظاهريا كما إذا كان في بعض الأطراف أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله ، على ما سيأتي تفصيله.
    والحاصل : أن الذي لابد منه عقلا هو القطع بالخروج عن عهدة التكليف ، والعلم بحصول المؤمن من تبعات مخالفته ، وهذا كما يحصل بالموافقة القطعية الوجدانية بترك الاقتحام في جميع الأطراف ، كذلك يحصل بالموافقة القطعية التعبدية بترك الاقتحام في بعض الأطراف مع الاذن الشرعي في ارتكاب البعض الآخر (1) ولو بمثل أصالة الإباحة والبرائة إذا فرض جريانهما في بعض الأطراف بالخصوص ولم يجريا في الطرف الآخر ليقع المعارضة بينهما.
    نعم : لا يجوز الاذن في جميع الأطراف ، لأنه إذن بالمعصية ، والعقل يستقل بقبحها ، وأما الاذن في البعض فهو هما لا مانع عنه ، فان ذلك يرجع في الحقيقة إلى جعل الشارع الطرف الغير المأذون فيه بدلا عن الواقع (2) والاكتفاء بتركه عنه لو فرض أنه صادف المأذون فيه للواقع وكان هو الحرام المعلوم في البين.
    ودعوى : أنه ليس للشارع الاكتفاء عن الواقع ببدله مما لا شاهد عليها ، وإلى ذلك يرجع ما تكرر في كلمات الشيخ ـ قدس سره ـ من إمكان جعل بعض الأطراف بدلا عن الواقع ، فإنه ليس المراد منه تنصيص الشارع بالبدلية ، بل نفس الاذن في البعض يستلزم بدلية الآخر قهرا.
1 ـ أقول : مجرد ترك الاقتحام في البعض لا يكون إلا موافقة احتمالية ، إذ لا معنى للموافقة إلا إتيان مصداق المعلوم ، ولا يكون إلا بجعل الشارع مصداقيته ، لا بصرف تركه مع الاذن بارتكاب الطرف ، إذ لا يكون ذلك إلا الاذن بالاكتفاء بمحتمل المصداقية وهو الذي نمنعه أشد المنع.
2 ـ أقول : الغرض من البدلية إن كان جعله مصداقا للمعلوم فهو متين لو كان له طريق آخر غير هذا الترخيص ، وإلا فلو كان الطريق منحصرا بعموم دليل الترخيص فيدور ، لان شمول دليل الترخيص فرع العلم بالمصداقية ، فكيف يحصل العلم من عموم دليل الترخيص ؟ وإن كان الغرض من البدلية الاكتفاء بتركه مع احتمال كونه مصداقا ، فليكن دليل الترخيص يثبت ذلك في العلم التفصيلي أيضا.


(36)
    ومما ذكرنا ظهر الوجه فيما أفاده الشيخ ـ قدس سره ـ من أن العلم الاجمالي يكون علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ومقتضيا لوجوب الموافقة القطعية فان عليته لحرمة المخالفة القطعية إنما هي لأجل عدم جواز الاذن فيها ، بخلاف الموافقة القطعية ، فإنه يجوز الاذن بتركها بالترخيص في البعض ، فدعوى التلازم بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية وأن العلم الاجمالي إما أن يكون علة لهما معا وإما أن لا يكون علة لهما ، في غاية الضعف (1) لما عرفت : من أن العلم الاجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي ، فكيف يكون العلم الاجمالي علة تامة لوجوب موافقته القطعية مع أن العلم التفصيلي لا يكون علة تامة له ؟!
    نعم يصح أن يقال : إن العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي يكون علة تامة لوجوب الموافقة القطعية بتعميم الموافقة القطعية إلى الوجدانية والتعبدية لا خصوص الوجدانية. وذلك كله واضح لا يهمنا إطالة الكلام فيه ، وإنما المهم بيان ما يوجب الترخيص الواقعي أو الظاهري في بعض الأطراف دون الآخر. أما الترخيص الواقعي : فموجبه حدوث أحد الأسباب الرافعة للتكليف واقعا من اضطرار ونحوه ، وسيأتي البحث عنه في بعض التنبيهات.
    وأما الترخيص الظاهري : فينحصر موجبه بما إذا كان في بعض الأطراف أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله : وذلك إنما يكون بقيام ما يوجب ثبوت
1 ـ أقول : الانصاف أن لنا مجال دعوى عدم وصولك إلى الغرض من علية العلم للتنجز تفصيليا أم إجماليا ، إذ نقول بأنه ليس المقصود من علية العلم عدم انفكاكه عن العقوبة ، بل المقصود هو عليته لوجوب الامتثال في ظرف الاشتغال ، ولا نعني من التنجز إلا هذا ، لا استحقاق العقوبة على مطلق المخالفة ، وتمام الخلط من هنا. ومن العجب أنه صرح في قوله : « نعم يصح أن يقال الخ » بكون العلمين علة تامة للموافقة القطعية ! ومع هذا التصريح يلتزم بجريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض ، حتى مع عدم قيام دليل على كون الطرف مصداقا للمعلوم بالاجمال وإطاعة له ، وذلك هو الذي نحن نقول به ، ولا نلتزم بجريان الأصل بهذا المعنى في واحد من الأطراف ولو بلا معارض ، كما هو ظاهر.

(37)
التكليف في بعض الأطراف المعين : من علم أو أمارة أو أصل شرعي أو عقلي ، لكن يبقى الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر بلا معارض ، من غير فرق بين أن يكون الموجب لثبوت التكليف في البعض حاصلا قبل العلم الاجمالي أو بعده ، غايته : أنه في الأول يوجب عدم تأثير العلم الاجمالي ، وفي الثاني يوجب انحلاله (1).
    وتفصيل ذلك : هو أن المثبت للتكليف في بعض الأطراف المعين قد يكون هو العلم ، وقد يكون أمارة ، وقد يكون أصلا شرعيا تنزيليا أو غير تنزيلي ، وقد يكون أصلا عقليا ، وعلى جميع التقادير قد يكون ذلك حاصلا قبل العلم الاجمالي ، وقد يكون حاصلا بعده ، وأمثلة الكل وإن كانت لا تخفى على المتأمل ، إلا أنه لا بأس بذكرها تشريحا للذهن.
    أما أمثلة ما إذا كان المثبت للتكليف في البعض حاصلا قبل العلم الاجمالي ، فيجمعها ما إذا علم تفصيلا بحرمة شيء معين لنجاسته أو غصبيته أو غير ذلك من أسباب الحرمة ، أو قامت أمارة على حرمته ، أو كان مستصحب الحرمة ، أو كان مما تجري فيه أصالة الحرمة لكونه من الدماء والفروج والأموال ، أو كان مما يجب الاجتناب عنه عقلا لكونه من أطراف العلم الاجمالي ، ثم بعد ذلك حدث موجب آخر للحرمة من سنخ السبب السابق وتردد متعلقها بين أن يكون هو ذلك الشيء المعين الذي كان يجب الاجتناب عنه سابقا أو شيئا آخر ، ففي جميع هذه الصور العلم الاجمالي الحادث مما لا أثر له ، لسبق التكليف بوجوب
1 ـ أقول : ولا يخفى ما فيه من الخلط ، حيث إنه جعل باب جعل البدل والانحلال من واد واحد ، مع أنك قد عرفت أن الأول تصرف في مرتبة الفراغ بعد تأثير العلم في الاشتغال ، والثاني تصرف في مرتبة تأثير العلم في الاشتغال ، بل وقد ذكرنا أن ذلك لا يكون منتجا لاقتضاء العلم الاجمالي في التنجيز ، وإنما المنتج فيه جواز الترخيص في أحد الطرفين بلا جعل بدل أو انحلال ، كما لا يخفى. وتوهم عدم مورد له ، مدفوع بما سيجيء من وجود المورد له ( إن شاء الله تعالى ).

(38)
الاجتناب عن بعض أطرافه ، ويحتمل أن يكون متعلق الحادث هو الذي كان يجب الاجتناب عنه سابقا ، ومعه لا يعلم بحدوث تكليف فعلي آخر : والعلم الاجمالي إنما يقتضي وجوب الاجتناب عن أطرافه إذا كان علما بالتكليف (1).
    وبتقريب آخر : العلم الاجمالي إنما يقتضي وجوب الموافقة القطعية إذا كانت الأصول النافية للتكليف الجارية في الأطراف متعارضة ، وفي جميع الفروض المتقدمة لا تكون الأصول متعارضة ، لان أحد طرفي العلم الاجمالي لا يجري فيه الأصل النافي للتكليف ، لوجوب الاجتناب عنه على كل حال ، فيبقى الطرف الآخر جاريا فيه الأصل النافي بلا معارض ، فلا موجب للاجتناب عنه (2).
    نعم : لو كان الموجب الحادث يقتضي أثرا زائدا عما كان يقتضيه السبب السابق ، كما إذا كان السبب لوجوب الاجتناب عن الشيء المعين هي النجاسة التي لا يجب التعدد في غسلها كالدم وكان الموجب الحادث مما يجب فيه التعدد كالبول ، فالعلم الاجمالي يؤثر بمقدار الأثر الزائد ، والأصول بالنسبة إليه متعارضة ، وسيأتي توضيحه.
    هذا كله لو علم بحدوث سبب آخر للتكليف غير ما كان سابقا. وقس عليه ما إذا احتمل ذلك ، كما إذا قامت البينة على نجاسة أحد الانائين بلا ذكر
1 ـ أقول : ولو لم يعلم بحدوث التكليف حينه ، بشهادة أنه لو حدث مثل هذا العلم مع احتمال سبق التكليف بلا علم به فإنه يتنجز بلا شبهة ، مع أنه يصدق بعدم العلم بحدوث تكليف جديد ، فعنوان العلم بحدوث التكليف لغو في المقام ، وتمام المدار على العلم بوجود تكليف حين وجوده ، وهو حاصل في المقام ، فلابد من منع تنجزه من بيان آخر ، لا بهذا البيان.
2 ـ أقول : وأوهن من التقريب السابق هذا التقريب ، لان جريان الأصل في ظرف عدم جعل الموافقة والمصداق تعبدا فرع إسقاط العلم عن تأثيره في الاشتغال ، وإلا فبعد ثبوت الاشتغال العقل يحكم حكما جزميا بلزوم تحصيل الجزم بالامتثال وعدم القناعة بالشك فيه ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي أيضا ، كما تقدم. وحينئذ جريان الأصل من توابع العلم بالانحلال لا العكس ، والفرض أن هذا العلم أيضا لا يحصل باطلاق أدلة الترخيص للدور ، كما هو الشأن في جعل البدل أيضا.


(39)
السبب بعد العلم بنجاسة أحدهما المعين أو ما يلحق بالعلم واحتمل أن يكون سبب النجاسة التي قامت عليه البينة غير النجاسة التي علم بها سابقا ، فإنه أيضا لا يكون العلم الاجمالي الحاصل من قول البينة علما بتكليف زائد عما علم به أولا ، كما لا يخفى وجهه.
    وأما أمثلة ما إذا حصل المثبت للتكليف في بعض الأطراف بعد العلم الاجمالي ، فيجمعها أيضا ما إذا علم إجمالا بحرمة أحد الشيئين لا على التعيين ثم بعد ذلك علم تفصيلا بحرمة أحدهما المعين ، أو قامت أمارة على حرمته ، أو شك في بقاء حرمته السابقة لكي يجري فيه استصحاب الحرمة التي كانت ثابتة فيه قبل العلم الاجمالي ، أو تبين أن أحد الشيئين المعين كان من الدماء والأموال والفروج لكلي تجري فيه أصالة الحرمة ، أو ظهر أن أحدهما المعين كان طرفا لعلم إجمالي سابق على العلم الاجمالي بحرمة أحدهما.
    ففي جميع هذه الصور ينحل العلم الاجمالي ولا يجب الاجتناب عن غير ما ثبت التكليف به ، لان الأصل النافي للتكليف يجري فيه بلا معارض (1) كما في صورة ثبوت التكليف به قبل العلم الاجمالي.
    فان قلت : كيف ينحل العلم الاجمالي بذلك مع سبق تأثيره في وجوب الاجتناب عن أطرافه ؟ نعم : لو ثبت أن متعلق التكليف المعلوم بالاجمال هو ذلك المعين لكان للانحلال وجه ، وأما لو لم يثبت ذلك فالعلم الاجمالي لا ينحل ، ومجرد ثبوت التكليف في المعين لا يقتضي انحلاله ، فان ذلك لا يزيد على العلم التفصيلي بحدوث سبب التكليف في البعض المعين بعد العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين أن يكون متعلقا بذلك المعين أو بغيره ، كما لو وقعت قطرة من الدم في أحد الانائين المعين بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما ، ولا إشكال في عدم
1 ـ أقول : هذا التعليل عليل ، كما أشرنا.

(40)
انحلال العلم الاجمالي في هذا الفرض ، وليس وجهه إلا سبق تأثير العلم الاجمالي ، وهذا الوجه يجري فيما إذا ثبت نجاسة أحد الانائين المعين بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما لا على التعيين ، فان العلم الاجمالي أيضا قد سبق في التأثير ، فلا أثر لثبوت نجاسة المعين بعد ذلك ما لم يثبت أنها هي المعلومة بالاجمال ، كما هو مفروض الكلام.
    قلت : مجرد حدوث العلم الاجمالي بالتكليف في زمان لا يكفي في التأثير في وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف ، بل يعتبر أيضا بقائه على صفة حدوثه ، وإذا تبدل العلم وانقلب عن كونه علما بالتكليف لاحتمال سبق التكليف عليه ـ كما في الأمثلة المتقدمة ـ فلا محالة ينحل ويسقط عن التأثير قهرا ، إذ لم يعتبر العلم الاجمالي بما أنه صفة قائمة في نفس العالم لعدم أخذه موضوعا في أدلة التكاليف ، بل إنما اعتبر لأجل كونه طريقا إلى متعلقه وكاشفا عنه ، فلابد من ملاحظة المعلوم والمنكشف به ، فان كان هو من التكاليف فالعلم الاجمالي به يوجب تنجزه والخروج عن عهدته بالاجتناب عن جميع أطرافه ، وإن لم يكن المعلوم والمنكشف من التكاليف فالعلم الاجمالي به لا يقتضي شيئا ولا يؤثر أثرا ، ومع سبق التكليف في بعض الأطراف على العلم الاجمالي ـ وإن تأخر العلم به عن العلم الاجمالي ـ يخرج العلم الاجمالي عن كونه طريقا وكاشفا عن التكليف ، لاحتمال أن يكون المنكشف به قد تعلق بما سبق التكليف به.
    وحاصل الكلام : أنه إذا وجب الاجتناب عن بعض الأطراف المعين في الزمان السابق على العلم الاجمالي وثبت ذلك بأحد الوجوه المتقدمة بعد العلم الاجمالي فالعلم الاجمالي يتبدل ويتغير عما كان عليه ويخرج عن كونه علما بالتكليف وهذا بخلاف ما إذا حدث سبب وجوب الاجتناب عن المعين بعد العلم الاجمالي ، كما إذا أصاب أحد الانائين المعين نجاسة بعد العلم الاجمالي بنجاسته أو نجاسة الاناء الآخر ، فإن العلم الاجمالي في المثال لم يتبدل عما كان عليه ، لان


(41)
المنكشف به غير النجاسة الحادثة في المعين : ومعه كيف يعقل أن تكون النجاسة الحادثة رافعة لاثر العلم الاجمالي ؟ بل الامر بالعكس ، فان العلم الاجمالي يكون رافعا لاثر النجاسة الحادثة لأنها حدثت في محل كان يجب الاجتناب عنه بسبب آخر سابق عليها ، فقياس حدوث العلم الاجمالي بعد وجود سبب الاجتناب عن المعين على حدوث سبب الاجتناب عنه بعد العلم الاجمالي ليس في محله ، لان المقيس والمقيس عليه متعاكسان في الحكم ، فإنه في المقيس عليه لا أثر للسبب الحادث في المعين بعد العلم الاجمالي ، وفي المقيس لا أثر للعلم الاجمالي الحادث بعد سبق التكليف في المعين ، وحق القياس أن يقاس ما نحن فيه على ما إذا كان العلم بوجوب الاجتناب عن المعين حاصلا قبل العلم الاجمالي ، لما عرفت من أنه لا فرق بينهما سوى أن ذلك يوجب عدم تأثير العلم الاجمالي ، وما نحن فيه يوجب انحلاله ، وهذا مجرد اصطلاح ، والنتيجة لا تختلف ، وهي ثبوت التكليف في المعين من غير ناحية العلم الاجمالي ، فلا يكون العلم طريقا إلى إحرازه ، ويلزمه انحلال العلم حقيقة (1).
1 ـ أقول : حيث انجر الكلام إلى باب انحلال العلم الاجمالي ، فلا بأس ببسط الكلام ، كي يرتفع به ما وقع من الأوهام ، فنقول ـ وعليه التكلان ـ إن موجب الانحلال تارة قيام العلم بالتكليف في أحد الطرفين أو أمارة كذلك أو أصل مثبت شرعي أو عقلي ولو قاعدة الاشتغال ، كما أن محط البحث أيضا صور قيام الطريق أو الأصل على وجود التكليف في الطرف المعين بلا عنوان ، وإلا فلو قام الطريق على تعين المعلوم بالاجمال فيه فهو خارج عن باب الانحلال وداخل في باب جعل البدل المعين لمصداق المعلوم بالاجمال ، ويكتفى به ولو قام بعد العلم الاجمالي أيضا. ثم في فرض قيام الطريق على التكليف بلا عنوان سواء كان قبل العلم أو بعده أو مقارنه لا يوجب انحلال العلم الاجمالي حقيقة ، ولو كان الطريق علميا ، لان ميزان وجود العلم الاجمالي وجود لازمه من الشكين التفصيليين في الطرفين ، وهذا الشك مع وجود العلم المزبور موجود بعينه بملاحظة احتمال كون المعلوم بالتفصيل غيره ، وذلك يلازم احتمال عينيته ، وهو ملازم لاحتمال وجود المعلوم في كل واحد من الطرفين ، غاية الامر على تقدير عين المعلوم بالتفصيل وعلى تقدير غيره.

(42)
    وما ربما يظهر من بعض : من تسمية ما نحن فيه بالانحلال التعبدي ، فليس
    ومن هذه الجهة نقول : إنه لا معنى لانحلال العلم الاجمالي في المقام حقيقة ، وإنما كان كذلك في انحلال العلم في باب الأقل والأكثر. فإنه لا مجال لتوهم بقاء العلم على إجماله ، لعدم احتمال كونه غير المعلوم تفصيلا ، فلا محيص في مثله بأن كان من قبيل ضم مشكوك بمعلوم.
    ثم لا يخفى أن كل علم أو طريق إنما يتنجز التكليف في ظرف وجوده ، لا أنه بحدوثه يحدث التنجز إلى الأبد وإن زال العلم أو الطريق ، وحينئذ سبق العلم التفصيلي بالتكليف مثلا لا يجدي شيئا في المقام ، لان تأثيره السابق في تنجز معلومه غير مرتبط بتنجز العلم الاجمالي ، وما هو مضر به هو بقاء تأثيره إلى حين العلم الاجمالي ، ومن هذه الجهة يجري عليه حكم المقارن ، كما أن المدار في باب الانحلال العلم بالتكليف الفعلي المردد بين كونه عين المعلوم تفصيلا أم غيره وإن لم يعلم بحدوث التكليف من قبل العلم بسببه ، إذ المدار ليس على العلم بحدوث التكليف جديدا ، بل تمام المدار بالعلم بوجود التكليف حين حدوث السبب ، وذلك بعينه موجود حينه ، وحينئذ لا يبقى في البين مجال توهم ذهاب العلم الاجمالي بوجود العلم التفصيلي وانقلابه إليه حقيقة ، وعليه فلا محيص من الالتزام بمنع العلم التفصيلي علن تأثير العلم الاجمالي ، لا عن نفسه ، كما هو الشأن في الانحلال بالامارة والأصل المثبت للتكليف ، ولا نعني من الانحلال الحكمي إلا ذلك : وحيث اتضح لك ذلك نقول :
    إن عمدة وجه المنع عن تأثير العلم الاجمالي ليس إلا جهة منجزية العلم التفصيلي الحاصل من حين وجوده حال العلم الاجمالي ، وإلا فتأثيره في الزمان السابق غير مضر بالعلم ، كما عرفت. وعليه فنقول أيضا : إن من المعلوم أن لتكليف واحد لا يتصور إلا تنجز واحد ، ومع قيام العلم التفصيلي مقارنا للعلم الاجمالي يحتمل اتحاد التكليف الغير القابل لتأثير العلم ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال لحكم العقل بمنجزية العلم الاجمالي ، إذ معنى منجزية العلم الاجمالي كونه مؤثرا في المعلوم على الاطلاق ، وهذا المعنى غير معقول ، فلا يبقى في البين إلا كون العلم موترا على تقدير ، ومن المعلوم : أن التكليف على تقدير لا يكون متعلق العلم ، بل هو مشكوك تفصيلا ، فما هو معلوم ليس إلا معنى قابلا للانطباق في كل طرف ، وهذا المعنى يستحيل تنجزه من قبل العلم الاجمالي ، وما هو قابل للتنجز هو التكليف المحتمل في الطرف الآخر ، وهو ليس معلوما إجمالا ، لعدم قابلية انطباقه على الطرف المعلوم تفصيلا ، ومن هذه الجهة يسقط العلم عن السببية في الاشتغال وجعل المعلوم في عهدة المكلف ، فصار وجوده كالعدم ، فلا بأس حينئذ بجريان الأصول النافية في الطرف الآخر ، ففي الحقيقة وجه جريان الأصل النافي في المقام من جهة سقوط الأصل عن التأثير ، لا من جهة صرف عدم المعارضة ، كما توهم. وهذا معنى كون الانحلال موجبا للتصرف في مرتبة الاشتغال ، كما أشرنا إلى الفرق بينه وبين جعل


(43)
كما ينبغي : إذ لا معنى للتعبد بالانحلال ، فان الانحلال وعدمه يدور مدار كون
البدل الذي هو تصرف في مرتبة الفراغ.
    ثم إنه بعدما عرفت ذلك ترى هذا الوجه بعينه في الامارة المثبتة وأصله ، من دون فرق بين الجميع في المنع عن تأثير العلم ، كما أن المدار في المنع المزبور مقارنة العلم الاجمالي مع التفصيلي في الوجود ، ولو كان العلم التفصيلي متأخرا فقهرا يحصل في البين علمان إجماليان : أحدهما دفعيا ، والآخر تدريجيا بين الطرف قبل العلم والطرف الآخر بعده ، ومن المعلوم : أن العلم الدفعي أيضا يسقط عن التأثير حين العلم التفصيلي ، لان تأثير السابق ملغى ، والتأثير حين العلم مستند إليهما لا إلى الاجمالي. وبعده يستحيل أيضا تأثر المعلوم القابل للانطباق على كل طرف من قبل العلم الاجمالي ، وأما العلم التدريجي يبقى على تأثيره بلا انحلال ، كما هو الشأن في التلف بعد العلم ، فان المنجز فيه أيضا هو العلم التدريجي الموجود فعلا ، لا أن العلم بحدوثه أثر في التنجز إلى الأبد ، كما توهم.
    ومن هذه الجهة نفرق بين العلم التفصيلي الحاصل قبل العلم الاجمالي وبعده من دون فريق أيضا بين أن يكون متعلق العلم التفصيلي الحادث التكليف السابق على المعلوم بالاجمال أو مقارنه أو اللاحق له ، إذ ليس المدار في منجزية العلم الاجمالي على العلم بحدوثه من قبله كي ينقلب بعد العلم بالتكليف السابق ، بل المدار على العلم بوجود التكليف حينه وإن احتمل حدوثه قبله ، ولذا لو لم يكن في البين علم تفصيلي لاحق لا شبهة ـ حتى عند الخصم ـ بمنجزية هذا العلم الاجمالي مع احتمال عدم حدوث التكليف حينه ، فذلك كاشف جزمي بأن تمام المدار في منجزية العلم الاجمالي هو وجود التكليف حينه لا حدوثه ، ومعلوم : أن هذا المعنى لا ينقلب إلى يوم القيامة ، كان في البين علم تفصيلي أو لم يكن ، وحينئذ فالعلم المزبور بالنسبة إلى الطرف قبل العلم والطرف الآخر بعده بنحو التدريج باق بحاله بلا قيام طريق مثبت بالنسبة إلى طرفي هذا العلم ، فلا مانع عن بقاء منجزيته بلا صلاحية العلم التفصيلي للمنع عن تأثيره ، لعدم قيامه على أحد طرفيه ، وسيجئ ( إن شاء الله تعالى ) أنه لا فرق في منجزية العلم بين الأطراف الدفعية أو التدريجية ، وعليك بالتأمل في المقام ، ترى ما في كلمات الماتن مواقع النظر والاشكال.
    ولئن تأملت ترى نقطة البحث بيننا وبينه في هذه المسألة هو أن منشأ جريان الأصل في الطرف الآخر هل هو من جهة نقص في العلم الاجمالي في المنجزية ولو من جهة انعدامه حقيقة أو تنزيلا ؟ أو من جهة نقص في المعلوم من حيث التنجز من قبله ؟ فتمام نظر الماتن إلى الأول ولذا لا يفرق بين العلم التفصيلي بعده أو مقارنه لاشتراط بقاء العلم على ما هو عليه في المنجزية. وتمام نظرنا إلى الثاني ، ولذا نفرق بين الصورتين.


(44)
العلم الاجمالي طريقا إلى ثبوت التكليف وعدمه ، فان كان العلم طريقا إليه فلا يعقل انحلال العلم الاجمالي ، وإن لم يكن طريقا إليه وكان ثبوت التكليف في أحد الأطراف من طريق آخر غير العلم الاجمالي ـ ولو كان هو علما إجماليا سابقا عليه ـ فلا يعقل عدم انحلاله ، بل ينحل لا محالة انحلالا خارجيا ، لعدم بقاء العلم على حاله وجدانا : فالانحلال لا يكون إلا حقيقيا.
    نعم : ما يتحقق به الانحلال قد يكون هو العلم الوجداني ، وقد يكون أمارة أو أصلا شرعيا أو عقليا ، كما عرفت ذلك كله في الأمثلة المتقدمة : والاختلاف إنما يكون في المحقق للانحلال لا في نفس الانحلال ليكون الانحلال على قسمين : حقيقا وتعبديا. وعلى كل حال : الامر في ذلك سهل ، لان البحث يرجع إلى التسمية لا إلى النتيجة.
    فتحصل مما ذكرنا : أنه مهما كان في بعض أطراف العلم الاجمالي أصل مثبت لوجوب الاجتناب عنه ، فالطرف الآخر لا يجب الاجتناب عنه ويجري فيه الأصل النافي للتكليف بلا معارض.
    ثم إنه لا فرق فيما ذكرنا من انحلال العلم الاجمالي إذا كان في بعض الأطراف أصل مثبت للتكليف دون الآخر ، بين أن يكون الأصل المثبت للتكليف في البعض موجودا من أول الامر كما إذا كان أحد الانائين قبل تعلق العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما أو بعده مستصحب النجاسة ، وبين أن يوجد أصل مثبت للتكليف في البعض بعد سقوط الأصول النافية للتكليف الحاكمة عليه كما إذا علم بعد الفراغ من الصلاة بفوات سجدتين وشك في أنها من ركعة واحدة أو ركعتين ، فيعلم إجمالا بوجوب أحد الامرين : من إعادة الصلاة أو قضاء السجدتين ، والأصول النافية للتكليف في المثال كلها ساقطة.
    أما قاعدة الفراغ الجاري في مجموع الصلاة : فلان مفادها نفي التكليف رأسا عن كل من إعادة الصلاة وقضاء السجدتين ، خصوصا إذا كانت قاعدة الفراغ


(45)
من الأصول المحرزة ، فان مفادها يكون حينئذ وقوع المشكوك فيه وعدم فوات السجدتين من الصلاة ، وهذا كما ترى ينافي العلم بفواتها ، فمؤدى قاعدة الفراغ في المثال يضاد نفس المعلوم بالاجمال ، نظير أصالة الإباحة في دوران الامر بين المحذورين.
    وأما قاعدة التجاوز الجارية في كل من الركعتين اللتين يعلم بفوات السجدتين منهما : فلانه يلزم من جريانها فيهما مخالفة عملية. هذا إذا لم نقل بأنها من الأصول المحرزة ، وإلا فهي لا تجري وإن لم يلزم منها مخالفة عملية ـ كما تقدم بيانه ـ فإذا سقطت الأصول النافية للتكليف تصل النوبة إلى الأصل المحكوم بها وهو استصحاب عدم الاتيان بالسجدة من كل ركعة واستصحاب عدم الاتيان بالسجدتين من الركعة الواحدة ، والاستصحابان يقتضيان إعادة الصلاة وقضاء السجدتين معا ، وهو وإن لم يلزم منه مخالفة عملية ، إلا أنه لما كان الاستصحاب من الأصول التنزيلية وهي لا تجري في أطراف العلم الاجمالي مطلقا وإن لم يلزم منها مخالفة علمية ، فالاستصحابان يسقطان أيضا بالتعارض ، وتصل النوب إلى الأصول الحكمية المحكومة بالاستصحاب ، وهي أصالة بقاء الاشتغال بالصلاة عند الشك فيها في الوقت المقتضية لإعادة الصلاة وأصالة البراءة عن وجوب قضاء السجدتين ، فينحل العلم الاجمالي ببركة قاعدة الاشتغال المثبتة للتكليف بالإعادة.
    وبالجملة : لو فرض أن في الأطراف أصولا متعددة نافية للتكليف وكان في أحد الأطراف أصل مثبت للتكليف محكوم بالأصول النافية السابقة في الرتبة عليه ، فعند سقوط الأصول النافية ووصول النوبة إلى الأصل المثبت ينحل العلم الاجمالي ، كما إذا كان من أول الامر في أحد الأطراف أصل مثبت للتكليف غير محكوم بالأصل النافي.
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس