فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 136 ـ 150
(136)
    الامر الثاني :
    يظهر من الشيخ ـ قدس سره ـ التفصيل بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي في كيفية النية إذا كان المحتمل أو المعلوم بالاجمال من العبادات ، فإنه في الشبهات البدوية يكفي مجرد قصد احتمال الامر والمحبوبية ، فينوي من احتمل الجنابة عند الغسل امتثال الامر الاحتمالي ، فان هذا هو الذي يمكن في حقه.
    وأما في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي : فلا يكفي ذلك ، بل لابد من قصد امتثال الامر المعلوم بالاجمال على كل تقدير ، وذلك يتوقف على أن يكون المكلف حال الاتيان بأحد المحتملين قاصدا للاتيان بالمحتمل الآخر ، إذ مع عدم قصد ذلك لا يتحقق قصد امتثال الامر المعلوم بالاجمال على كل تقدير ، بل يكون قصد امتثال الامر على تقدير تعلقه بالمأتي به ، وهذا لا يكفي في تحقق الامتثال مع العلم بالامر ، لأنه يعتبر في حسن الطاعة والامتثال قصد امتثال الامر المعلوم تعلقه بأحد المحتملين. هذا حاصل ما أفاده ـ قدس سره ـ في وجه التفصيل في كيفية النية بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي.
    ولكن للنظر فيه مجال ، فان العلم بتعلق الامر بأحد المحتملين لا يوجب فرقا في كيفية النية في الشبهات (1) فان الطاعة والامتثال في كل من المحتملين.
1 ـ أقول : بناء على مبناه : من لزوم الامتثال الجزمي في العبادة مهما أمكن ـ خصوصا لو بنينا على الاشتغال في مثل هذه القيود عند الشك فيها وفي كيفيتها ـ فمع العلم بوجود عبادة في البين يجب إتيانه بداعي أمره الجزمي الملازم لان يكون إتيانه بما هو معلوم في البين عبادية ، بلا نظر إلى كل واحد من المحتملين إلا من باب احتمال انطباق عنوان العبادة المعلومة عليه لا أنه بما هو عبادة محتملة ، ففي الحقيقة الداعي على إتيان المحتمل احتمال انطباق العبادة المعلومة المأتية بجزم أمره عليه ، لا أن الداعي على إتيانه احتمال أمره ، وكم فرق بين الأمرين ! وحينئذ الأولى منع اعتبار الجزم بالنية حتى مع

(137)
ليست إلا احتمالية ، كما إذا لم يعلم بتعلق الامر بأحدهما وكانت الشبهة بدوية ، إذ المكلف لا يمكنه أزيد من قصد امتثال الامر الاحتمالي عند الاتيان بكل من المحتملين ، وليس المحتملان بمنزلة فعل واحد مرتبط الاجزاء ، حتى يقال : العلم بتعلق التكليف بالفعل الواحد يقتضي قصد امتثال الامر المعلوم.
    وبالجملة : لا إشكال في أن فعل كل من المحتملين لا يمكن إلا بداعي احتمال تعلق الامر به ، فلا يتوقف تحقق الامتثال في كل منهما على قصد الامر المعلوم بالاجمال ، بل لو أتى المكلف بأحد المحتملين من دون أن يكون قاصدا للاتيان بالمحتمل الآخر يحصل الامتثال ويصح العمل على تقدير تعلق الامر بذلك المحتمل.
    نعم : يكون متجريا في قصده ، حيث إنه لم يقصد امتثال الامر على كل تقدير ، إلا أن تجريه في ذلك لا دخل له في تحقق الطاعة والامتثال على تقدير مصادفة المأتي به للواقع.
    والحاصل : أنه يمكن أن يكون للمكلف رغبة في فعل أحد المحتملين بحيث يحب طاعة أمره الاحتمالي ، ولا يكون له رغبة في فعل المحتمل الآخر فلا يطيع أمره الاحتمالي ، ولا ملازمة بين الاطاعتين ولا ارتباط بين الامتثالين ، فلا يتوقف حصول الامتثال لأحدهما على قصد امتثال الآخر ، فتأمل جيدا.

    الامر الثالث :
    لو كان المعلوم بالاجمال أمرين مترتبين شرعا كالظهر والعصر المردد بين الجهات الأربع عند اشتباه القبلة ، فلا إشكال في عدم جواز استيفاء جميع محتملات العصر قبل استيفاء جميع محتملات الظهر ، للعلم بفوات الترتيب ، كما
التمكن ، كما لا يخفى.

(138)
لا إشكال في عدم جواز فعل العصر إلى جهة مغايرة لجهة فعل الظهر ، لفوات الترتيب أيضا.
    وفي جواز الاتيان ببعض محتملات العصر قبل استيفاء جميع محتملات الظهر وعدم جوازه وجهان : مبنيان على أن الامتثال الاجمالي في عرض الامتثال التفصيلي ؟ أو في طوله ؟.
    بيان ذلك : هو أنه بعد الفراغ عن اشتراط الترتيب بين الظهر والعصر ولزوم إحراز وقوع العصر عقيب الظهر ـ كسائر الشرائط التي لابد من إحرازها في مقام الامتثال ـ يقع الكلام في أنه هل يعتبر في حصول الطاعة وحسن الامتثال إحراز تحقق الترتيب حين الاتيان بصلاة العصر ؟ بحيث يكون المكلف حين اشتغاله بالعصر محرزا لفراغ ذمته عن صلاة الظهر لكي يكون محرزا للترتيب في ذلك الحال ، أو أنه لا يعتبر ذلك ؟ بل يكفي العلم بتحقق الترتيب ووقع العصر عقيب الظهر ولو بعد الفراغ عن صلاة العصر.
    فان قلنا : إنه يعتبر إحراز الترتيب حين الاتيان بصلاة العصر ، فلا يجوز أن يأتي ببعض محتملات العصر قبل استيفاء جميع محتملات الظهر ، لأنه حين الاتيان بذلك البعض لا يعلم بفراغ الذمة عن صلاة الظهر ، لاحتمال أن لا تكون القبلة في تلك الجهة التي صلى الظهر إليها.
    وإن قلنا : إنه لا يعتبر إحراز الترتيب حين الاتيان بصلاة العصر ، بل يكفي إحرازه ولو بعد الفراغ عن صلاة العصر ، فيجوز فعل كل واحد من محتملات العصر عقيب كل واحد من محتملات الظهر إلى أن يستوفي جميع المحتملات ، لأنه بعد استيفاء جميع المحتملات يعلم بوقوع العصر عقيب الظهر وإن لم يعلم بذلك حين الاتيان بكل من محتملات العصر ، لاحتمال أن لا تكون القبلة في تلك الجهة التي صلى الظهر والعصر إليها.
    فإن قلت : لا فرق بين الصورتين ، فإنه على كل حال لا يعلم بوقوع العصر


(139)
عقيب الظهر حين الاتيان بها ، لو أخر استيفاء محتملاتها عن محتملات الظهر ، فإنه حين الاتيان بكل واحد من محتملات العصر لا يعلم بكون تلك الجهة جهة القبلة ، فيحتمل أن لا تكون هذه الصلاة هي صلاة العصر المأمور بها ، والترتيب إنما يعتبر بين الظهر والعصر المأمور بهما واقعا ، لا الظهر والعصر المأتي بهما من باب المقدمة العلمية ، والعلم بتحقق الترتيب بين الظهر والعصر المأمور بهما واقعا لا يكاد يحصل إلا بعد استيفاء جميع المحتملات لكل منهما ، فلا فرق بين أن يؤخر محتملات العصر عن محتملات الظهر وبين أن يأتي بكل من محتملات العصر عقيب كل من محتملات الظهر.
    قلت : الفرق بينهما في غاية الوضوح ، فإنه عند تأخير محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر يعلم حين الاتيان بكل من محتملات العصر أن الصلاة المأتي بها واقعة عقيب الظهر الواقعي وإن كان لا يعلم بكونها عصرا واقعا ، لاحتمال أن لا تكون إلى القبلة ، إلا أن هذا لمكان الجهل بالقبلة لا لمكان الجهل بالترتيب ، فإنه يعلم بالترتيب ووقوع كل من محتملات العصر عقيب الظهر الواقعي حال الاشتغال بالمحتملات ، وهذا بخلاف ما إذا أتى بكل من محتملات الظهر والعصر عقيب الاخر (1) فإنه حال الاشتغال بكل من
1 ـ أقول : الفرق المزبور مبني على كون المعتبر في الصلاة القطع بوقوع محتمل العصرية بما هو محتمل عقيب الظهر ، وإلا فلو كان المعتبر فيه حين الاتيان القطع بوقوع العصر الواقعي عقيب الظهر في كل محتمل فهو حاصل في الأخير أيضا ، غاية الامر هذا المعنى في غير المحتمل الأخير تعليقي وفيه تنجيزي.
    ولئن شئت تقول : بأن الشك في جميع المحتملات متعلق بالقبلة ، وإلا فمن حيث الترتيب يقطع بالترتيب في فرض الفراغ عن كونه قبلة ، ومن هنا ظهر أن المكلف ليس له جهلان : أحدهما متعلق بالترتيب والآخر بالقبلة ، إذ لازم الجهلين بقاء أحدهما على حاله مع رفع الآخر ، نظير الجهل بالقبلة واللباس. والامر فيما نحن فيه ليس كذلك ، إذ مع رفع الجهل عن القبلة لا يبقى جهل بالترتيب ، وحينئذ صح لنا دعوى عدم جهل بالترتيب أصلا بين الظهر الواقعي وعصره ، وإنما الجهل ممحض بكون المأتي به.


(140)
محتملات العصر غير الأخير منها لا يعلم بوقوع العصر عقيب الظهر الواقعي ، للشك في وقوع الظهر المأتي بها إلى جهة القبلة ، فالمكلف حال الاشتغال بكل واحد من محتملات العصر كما يكون جاهلا بالقبلة يكون جاهلا بالترتيب ووقوع العصر عقيب الظهر الواقعي ، فلا يحصل الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى كل من شرطية القبلة وشرطية الترتيب ، وبناء على اعتبار الامتثال التفصيلي وتقدم رتبته على الامتثال الاجمالي يجب تحصيل الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى كل شرط يمكن فيه ذلك.
    ولا ملازمة بين الشروط ، بحيث لو سقط اعتبار الامتثال التفصيلي في شرط لعدم إمكانه يسقط بالنسبة إلى سائر الشروط ، بل الامتثال التفصيلي يجب بأي مقدار أمكن ، وفي المقام يمكن حصول الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى شرط الترتيب بتأخير جميع محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر وإن لم يمكن تحصيله بالنسبة إلى شرطية القبلة ، فما نحن فيه نظير ما إذا تردد كل من القبلة واللباس بين أمور محصورة مع إمكان رفع الترديد بالنسبة إلى اللباس ، فإنه لا إشكال في وجوب رفع الترديد بالنسبة إلى اللباس تحصيلا للامتثال التفصيلي فيه.
    فإن قلت : فرق بين ما نحن فيه وبين المثال ، فإنه في المثال يلزم زيادة في المحتملات عند عدم رفع الترديد عن اللباس ، فإنه يجب تكرار الصلاة في كل من الثوبين المشتبهين إلى كل من الجهات الأربع ، فتكون المحتملات في كل من الظهر والعصر ثمانية مع إمكان تقليلها بجعلها أربعة عند رفع الترديد عن اللباس ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فان المحتملات في كل من الظهر والعصر لا تزيد على الأربعة ، سواء قدم جميع محتملات الظهر عن محتملات العصر أو
إلى القبلة أم لا ، كما لا يخفى. وحينئذ فلو بنينا على تقديم الامتثال التفصيلي على الاجمالي ، لا يجب في المقام اختيار الشق الأول ، فضلا عن التحقيق من عدم تقديمه ، كما سيأتي عند تعرضه ( إن شاء الله تعالى ).

(141)
لا ، ومن المعلوم : أن تقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاجمالي على القول به إنما هو فيما إذا لزم من الامتثال الاجمالي تكرار في العمل ، لا مطلقا ، كما سيأتي بيانه ( إن شاء الله تعالى ) فلا موجب لرفع الجهل عن قيدية الترتيب بعدما لم يلزم منه زيادة في المحتملات.
    قلت : تأخر رتبة الامتثال الاجمالي عن الامتثال التفصيلي هو الذي أوجب المنع عن التكرار ، لا أن المنع عن التكرار أوجب تأخر رتبة الامتثال الاجمالي عن الامتثال التفصيلي ، فالمانع إنما هو لزوم الامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي وإن لم يلزم منه زيادة في المحتملات.
    فتحصل مما ذكرنا : أن وجوب تأخير محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر مبني على اعتبار الامتثال التفصيلي وتقدم رتبته على الامتثال الاجمالي ، وسيأتي ( إن شاء الله تعالى ) أن الأقوى : اعتبار الامتثال التفصيلي مع التمكن منه ، وعليه يجب تأخير محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر ، فتأمل جيدا.

    الامر الرابع :
    قد تقدم في الشبهة التحريمية عدم تأثير العلم الاجمالي إذا كانت الأطراف غير محصورة ، لعدم التمكن من المخالفة القطعية فيها عادة ، بالبيان المتقدم (1)
1 ـ أقول : قد تقدم بما لا مزيد عليه أن مجرد عدم التمكن عن تحصيل بصدور المخالفة منه خارجا لا يستلزم جريان النافية من الأصول ولا جواز الارتكاب وترك الموافقة ، وإنما المانع عن جريان الأصول نفس منجزية العلم بنحو العلية ولو لم يكن معارضا ، وذلك حاصل في ظرف ترك المحتملات ، إذ في هذا الظرف يقطع بالقدرة على المخالفة الواقعية فيحرم ، فجريان الأصل حينئذ لا مجال له ولو لم تكن يتعارض لمكان وجود العلم المنجز في هذا الظرف ، فيجب حينئذ بحكم العقل الموافقة القطعية ، وحينئذ فلو بنينا على عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور حتى في التحريمية ، فلابد وأن يكون من إجماع على الترخيص الكاشف عن جعل البدل ، بناء على ما هو التحقيق : من علية العلم ، ولا رمه

(142)
وهذا بخلاف الشبهة الوجوبية ، فإن المخالفة القطعية بترك جميع المحتملات بمكان من الامكان ، فلابد من تأثير العلم الاجمالي بالنسبة إلى المخالفة القطعية وعدم جواز ترك جميع المحتملات.
    نعم : لا يمكن الموافقة القطعية بفعل جميع المحتملات لكثرة الأطراف ، فلابد من التبعيض في الاحتياط والآتيان بالمقدار الممكن من المحتملات.
    ولا وجه للاكتفاء بفعل أحد المحتملات وترك الباقي ، بدعوى : أن تعذر الموافقة القطعية يوجب التنزيل إلى الموافقة الاحتمالية ، وهي تحصل بفعل أحد المحتملات ، لان المانع من وجوب الموافقة القطعية ليس هو إلا لزوم العسر والحرج من الجمع بين المحتملات ، والضرورات إنما تتقدر بقدرها ، فلابد من سقوط ما يلزم منه العسر والحرج ، ولا موجب لسقوط الزائد عن ذلك ، فلا محيص من وجوب الاتيان بالمقدار الممكن من المحتملات.
    هذا تمام الكلام في الشك في المكلف به عند دورانه بين المتباينين ، وقد بقي منه بعض التنبيهات لم يتعرض لها شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ لأنها قليلة الجدوى
الالتزام في الشبهة الوجوبية أيضا بمناط واحد ، نظرا إلى إطلاق معاقد الاجماعات ، وإلى هذا البيان نظر شيخنا الأعظم : من الاكتفاء بفعل واحد وترك الباقي. وبمثل هذا البيان ينبغي أن يفهم كلمات شيخنا الأعظم ، فتدبر.

(143)
    وأقسامه كثيرة ، فان الترديد بين الأقل والأكثر
    تارة : يكون في نفس متعلق التكليف من الفعل أو الترك المطالب به.
    وأخرى : يكون في موضوع التكليف فيما إذا كان للتكليف تعلق بالموضوع الخارجي.
    وثالثة : يكون في السبب والمحصل الشرعي والعقلي أو العادي.
    وعلى جميع التقادير ، تارة : يكون الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل ، وأخرى : يكون من قبيل الشرط والمشروط ، وثالثة : يكون من قبيل الجنس والنوع.
    ثم ما كان من قبيل الشرط والمشروط ، تارة : يكون منشأ انتزاع الشرطية أمرا خارجا عن المشروط مباينا له في الوجود ، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، وأخرى : يكون داخلا في المشروط متحدا معه في الوجود ، كالايمان بالنسبة إلى الرقبة.
    وفي جميع هذه الأقسام ، تارة : يكون الأقل والأكثر ارتباطيين ، وأخرى : يكون غير ارتباطيين
    وعلى التقديرين : تارة : تكون الشبهة وجوبية ، وأخرى : تكون تحريمية.
    ومنشأ الشبهة : إما فقد النص ، وإما إجمال النص ، وإما تعارض النصين ، وإما الاشتباه في الموضوع الخارجي.
    فهذه جملة الأقسام المتصورة في باب الأقل والأكثر ، وسيأتي مثال كل قسم عند البحث عن حكمه.
    وكأن الشيخ ـ قدس سره ـ غفل عن إمكان تردد نفس متعلق التكليف بين


(144)
الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية ، وأبدل هذا القسم بما يرجع إلى الشك في المحصل ، ولكن سيأتي ( إن شاء الله تعالى ) أن ذلك بمكان من الامكان ، ومنه تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم أو غيره.
    وعلى كل حال : ينبغي إفراد كل واحد من هذه الأقسام بفصل يخصه ـ إلا ما كان منها متحد الحكم مع الآخر ـ لاختلاف أحكامها ، فان منها ما تجري فيه البراءة بلا كلام ، ومنها مالا تجري فيه البراءة بلا كلام ، ومنها ما هو مختلف فيه.

الفصل الأول
في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الأسباب والمحصلات
    والأقوى : عدم جريان البراءة عن الأكثر مطلقا في الأسباب العادية والعقلية والشرعية.
    أما في الأسباب العادية والعقلية : فواضح (1) فان المجعول الشرعي فيها ليس إلا المسبب ولا شك فيه ، والمشكوك فيه ليس من المجعولات الشرعية
1 ـ أقول : بعدما كان الامر البسيط معلوما بجميع حدوده ، فلا يكون الشك فيه راجعا إلى الشك في متعلق التكليف ، وحينئذ لا قصور فيه من ناحية الاشتغال ، ولازمه استلزام الشك في دخل شيء في المحقق الشك في حصول الفراغ منه بدونه ، وحينئذ فعلى التحقيق : من كون حكم العقل بالفراغ تنجيزيا ، لا شبهة في عدم جريان الأصول النافية فيه ، ولو كانت حرمة شيء في المسبب مجعولا بجعل مستقل. وإن قلنا بأن حكم العقل المزبور تعليقي ، فلا قصور في جريان البراءة عن حرمة مخالفة التكليف بالبسيط من قبل ترك مشكوك الحرمة ، وإن كانت سببيته عادية أم عقلية. فما أفيد من التفصيل في المقام بين المجعولات وغيرها غير تام ، إلا على القول بالأصول المثبتة ، بدعوى أن رفع جزئية المشكوك يثبت مؤثرية الأقل ، فيتحقق المسبب ، فيصير الأصل المزبور مثبتا للفراغ الجعلي الظاهري ، ولكن أنى لنا بذلك ! كما لا يخفى.

(145)
ولا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، فلا يعمه أدلة البراءة (1) فالشك في جزئية شيء للسبب أو شرطيته يرجع إلى الشك في حصول متعلق التكليف وتحقق الامتثال عند عدم الاتيان بالأكثر ، والعقل يستقل بوجوب إحراز الامتثال والقطع بالخروج عن عهدة التكليف ، ولا يحصل ذلك إلا بالاتيان بكل ما يحتمل دخله في السبب ، وذلك واضح.
    وأما في الأسباب الشرعية : كالغسلات في باب الطهارة الحدثية والخبثية ، بناء على أن يكون المأمور به هو التطهير والغسلات محصلة له ، لا أنها هي المأمور بها ـ كما ربما يدل عليه الامر بالتطهير في جملة من الأدلة الواردة في باب الطهارة الحدثية والخبثية ـ فقد يتوهم : جريان البراءة عن الأكثر ، لأن الشك فيها يرجع إلى الشك في المجعول الشرعي ، فيعمه أدلة البراءة.
    هذا ، ولكن قد تقدم في مبحث البراءة فساد التوهم ، ونزيده في المقام وضوحا ، فنقول : إن شمول أدلة البراءة للمحصلات الشرعية يتوقف على أن تكون المجعولات الشرعية هي الأسباب لا المسببات ، وأن تكون أجزاء السبب وشرائطه أيضا مجعولة بجعل مستقل مضافا إلى جعل الأسباب ، وقد بينا في محله استحالة ذلك.
    بيان الملازمة : هو أنه لو كانت المجعولات الشرعية نفس المسببات وترتبها على أسبابها ـ كترتب الطهارة على الغسلات الثلاث ، والنقل والانتقال على البيع والشراء ـ فالأسباب تكون خارجة عن دائرة الجعل ، ولا تنالها يد الوضع والرفع التشريعي ، إذ لا تعقل أن تتعلق الجعل الشرعي بكل من السبب والمسبب ، لان جعل أحدهما يغني عن جعل الآخر ، فبناء على تعلق الجعل
1 ـ أقول : لو كان المراد من المجعول الأعم من الأصلي والتبعي قد يشكل أمر التفكيك بين جعلية المسبب وعدم جعلية السبب ولو تبعا ، إذ لا معنى لجعل المسبب إلا منوطا بالامر العقلي أو العادي ، وإلا لو لم يلحظ في مقام جعله هذه الإناطة لا يتصور سببية الامر العادي للامر الجعلي ، ومع تصوره فيرجع إلى جعل السببية ولو تبعا ، لجعل المسبب منوطا بالمطلق أو المقيد ، كما لا يخفى.

(146)
بالمسببات تكون الأسباب الشرعية كالأسباب العقلية والعادية غير قابلة للوضع والرفع ، وإطلاق السبب الشرعي عليها إنما هو باعتبار أن الشارع حكم بترتب المسبب عليه من دون أن يكون في البين ترتب عادي أو عقلي ، فالشك في جزئية شيء للسبب أو شرطيته يرجع إلى الشك في ترتب المسبب على الفاقد لذلك الجزء أو الشرط (1) وبالآخرة يشك في حصول المكلف به في باب التكاليف وفي حصول المسبب في باب الوضعيات عند عدم الاتيان بما يشك في جزئيته أو شرطيته ، ولا يكاد يحصل العلم بذلك إلا بالاتيان بكل ما يحتمل دخله في السبب. هذا إذا لم نقل بجعل السببية.
    وإن قلنا بجعل السببية ولكن لم نقل بجعل الجزئية والشرطية بجعل مغاير لجعل السببية ، فالشك في جزئية شيء للسبب أو شرطيته يرجع إلى الشك في جعل الشارع سببية الأقل ، للقطع بسببية الأكثر ، ورفع السببية عن الناقص يقتضي عدم تعلق الجعل الشرعي به ، ولازم ذلك عدم ترتب المكلف به على الناقص ، وهذا ينتج عكس المقصود ، لان المقصود من إجراء البراءة هو ترتب المكلف به على الناقص.
    فمجرد القول بجعل السببية لا يكفي في شمول أدلة البراءة لموارد الشك في المحصل ما لم ينضم إليه القول بجعل الجزئية والشرطية مستقلا ، فإنه حينئذ يصح أن يقال : إن أدلة البراءة تقتضي رفع ما يشك في جزئيته أو شرطيته.
    فإن قلت : يكفي في شمول أدلة البراءة لموارد الشك في المحصل كون الجزء
1 ـ أقول : ويمكن القول بأنه يرجع إلى الشك في تعلق الجعل بالزائد الذي هو منشأ انتزاع الجزئية في المجعولات الوضعية ، فمن حيث كون أمر وضع الجزئية ورفعه بيد الشارع بتوسيط المنشأ لا فرق بين التكليفيات والوضعيات. نعم : الذي يسهل الخطب في المقام هو أن أصالة عدم الجزئية لا يثبت سببية الأقل ومؤثريته في البسيط ، فلا يثمر مثل هذا الأصل على فرض تنجيزية حكم العقل بالفراغ. نعم : على تعليقيته يكفي هذا الأصل ، بل ويكفي البراءة عن حرمة المخالفة من قبل المشكوك ، من دون فرق في الفرضين بين كون الجزئية مجعولة بجعل مستقل أم لا ، فتدبر.

(147)
والشرط مجعولا بتبع جعل السبب المركب منه ومن غيره ، كما هو الشأن في جزء متعلق التكليف وشرطه ، فإن جزئية السورة مثلا للصلاة ليست مما تنالها يد الجعل مستقلا بل هي منتزعة عن الامر بالصلاة المركبة منها ومن غيرها ، ومع ذلك تجري فيها البراءة ويعمها حديث الرفع عند الشك فيها ، وبعد البناء على جعل السببية تكون أجزاء السبب وشرائطه كأجزاء الصلاة وشرائطها منتزعة عن نفس تعلق الجعل بالسبب المركب ، فيعمها حديث الرفع وتجري فيها البراءة عند الشك فيها ، ولا يتوقف على أن تكون الجزئية مجعولة بجعل مغاير لجعل السبب.
    قلت : فرق بين الأسباب وبين متعلقات التكاليف ، فإن المشكوك فيه في متعلقات التكاليف إنما هو تعلق الامر بالأكثر الواجد للجزء أو الشرط المشكوك فيه ، ورفع الجزئية أو الشرطية إنما يكون برفع الامر عن الأكثر ، فان رفع الانتزاعيات إنما يكون برفع منشأ انتزاعها ، ومنشأ انتزاع الجزئية في متعلقات التكاليف ليس هو إلا تعلق الامر بالأكثر ، وهذا بخلاف الأسباب ، فإن منشأ انتزاع الجزئية المشكوك فيها إنما هو سببية الأكثر ، وسببيته وترتب المسبب عليه مما لا شك فيها ، وإنما الشك في سببية الناقص وترتب المسبب عليه ، ورفع سببية الناقص ينتج عدم سببيته وعدم ترتب المسبب عليه.
    والحاصل : أن حديث الرفع إنما يرفع المشكوك فيه ، والمشكوك فيه في متعلقات التكاليف هو تعلق التكليف بالأكثر ، وفي الأسباب هو جعل سببية الأقل ورفع سببيته يوجب عدم ترتب المسبب عليه ، فالقائل بالبراءة في باب الأسباب والمحصلات يلزمه القول باستقلال الجزئية والشرطية في الجعل ، ليكون الجزء المشكوك فيه مما تناله يد الرفع بنفسه ، ولا يكفي في إثبات مدعاه مجرد جعل السببية ، فتأمل (1).
1 ـ وجهه : هو أنه قد يختلج في البال عدم الفرق بين متعلقات التكاليف وبين الأسباب بعد البناء على جعل

(148)
    بل هذا أيضا لا يثبت المدعى إلا على القول بالأصل المثبت ، فإن مجرد رفع المشكوك لا أثر له ما لم تثبت سببية الناقص وترتب المسبب عليه ، وذلك مبني على الأصل المثبت.
    فتحصل : أنه في موارد الشك في المحصل وتردده بين الأقل والأكثر لابد من الاحتياط ، ولا تجري البراءة مطلقا وإن كان المحصل شرعيا (1).

    كتردد الغناء بين أن يكون هو مطلق ترجيع الصوت ، أو بقيد كونه مطربا.
    والظاهر : أن تكون الشبهات التحريمية على عكس الشبهات الوجوبية ، فإنه في الشبهات الوجوبية يكون الأقل متيقن الوجوب والأكثر مشكوكا ، وفي
السببية ، فإن تعلق التكليف بالأكثر في باب متعلقات التكاليف وإن كان مشكوكا ، إلا أن تحقق الامتثال وحصول البراءة عن التكليف عند الاتيان بالأكثر يكون معلوما ، وفي باب الأسباب يكون الامر كذلك ، فان جعل الأكثر سببا وإن كان مشكوكا إلا أن ترتب المسبب عليه يكون معلوما ، وكذا الحال في طرف الأقل ، فإنه كما يكون متعلق التكليف بالأقل في باب متعلقات التكاليف يكون معلوما ، كذلك دخل الأقل في ترتب المسبب في باب الأسباب يكون معلوما ، فلا فرق بينهما في كل من طرفي الأقل والأكثر ، وحينئذ يصح أن يقال : إنه يمكن رفع الجزئية المشكوك فيها برفع منشأ انتزاعها وهو جعل الأكثر سببا كما في متعلقات التكاليف ، ولا يحتاج إلى جعل الجزئية بجعل مغاير لجعل المسبب ، فتأمل ( منه )
1 ـ أقول : على مختاره : من كون حكم العقل بالفراغ تعليقيا ـ كما هو أساس بنائه على اقتضاء العلم بالنسبة إلى الموافقة القطعية وأن الأصول إنما يتساقط من أطراف العلم بالتعارض ـ لا وجه لالتزامه في المقام بالاحتياط ، لما مر من عدم قصور في جريان أدلة الترخيصات الظاهرية بالنسبة إلى الفراغ المشكوك من ناحية المشكوك الدخل في السبب ، فتدبر بعين الدقة.


(149)
الشبهات التحريمية الأكثر متيقن الحرمة والأقل مشكوكا.
    والأقوى : جريان البراءة عن حرمة الأقل مطلقا ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، وسواء تردد الأقل والأكثر في نفس متعلق التكليف أو في موضوعه ، وسواء كان الأقل والأكثر من الارتباطيين أو غيره.
    والذي خالف في جريان البراءة في الشبهات الوجوبية ينبغي أن لا يقول بجريانها في الشبهات التحريمية أيضا ، لاتحاد ملاك النزاع في المقامين (1) ولكن الأكثر لم يتعرضوا لحكم الشبهات التحريمية.
    ثم إن الارتباطية في المحرمات إنما هي على حذو الارتباطية في الواجبات لابد وأن تكون حرمة الأقل في ضمن حرمة الأكثر على تقدير أن يكون الأكثر هو متعلق الحرمة من دون أن تكون للأقل حرمة تخصه ، وهذا إنما يكون بانبساط الحرمة النفسية على الاجزاء بحيث يكون لكل جزء حظ من تلك الحرمة ليصدق الشروع في فعل الحرام بالاتيان بأول جزء منه ، والأمثلة التي تخطر بالبال لا تنطبق على هذا المعنى.
    نعم : يمكن أن يكون حرمة تصوير ذوات الأرواح مثالا لذلك على بعض المحتملات ، بأن يشك في أن المحرم هو تصوير الصورة التامة أو بعضها ، وعلى فرض أن يكون متعلق الحرمة هو التصوير التام يكون الشروع في التصوير محرما
1 ـ أقول : لا يخفى أن عصيان الحرام المركب لا يكاد يتحقق إلا بايجاد مجموع الاجزاء ، فالعقل ملزم بترك واحد منها ولو كان آخر وجودها ، فمع الشك في دخل شيء آخر يمكن كونه آخر الوجودات ، فمع تركه يجتزي به العقل من جهة شكة في حرمة البقية ، وهذا بخلاف الواجب المركب ، فان ترك أول وجود منه يوجب عصيانه ، فالقائل بالاحتياط فيه له أن يدعي بأن الاشتغال بوجوب الأقل يقتضي تحصيل الفراغ عنه ، ولا يحصل إلا بالاتيان بالأكثر ، وهذا بخلاف الحرمة ، فان الاشتغال بالحرام لا يقتضي إلا الفراغ عن المجموع ، ومع الشك في دخل شيء آخر يشك في الاشتغال بالأقل ، وحينئذ كيف للقائل بالاحتياط في الواجبات أن يقول به في المحرمات ؟ ولابد له من بيان واف بما أفيد كي نفهم مقصوده.

(150)
بشرط تعقبه بسائر الاجزاء. وعلى كل حال : الامر في المثال سهل بعد وضوح المقصود.

    ولا إشكال ولا كلام في جريان البراءة في الأكثر ، للشك في وجوب الزائد عن الأقل ، فتعمه أدلة البراءة.
    وتوهم : أن الزائد من أطراف العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر فيجب الاحتياط فيه واضح الفساد ، فإن الضابط في تأثير العلم الاجمالي : هو أن تكون نسبة المعلوم بالاجمال إلى كل واحد من الأطراف على حد سواء ، بحيث تتولد من العلم الاجمالي قضية منفصلة على سبيل منع الخلو ، والمقام ليس من هذا القبيل ، فإن القضية المعلومة بالاجمال تنحل إلى قضيتين : قضية معلومة بالتفصيل وهي وجوب الأقل ، وقضية مشكوكة وهي وجوب الأكثر ، بل لا يصح إطلاق العلم الاجمالي على مثل ذلك ، كما لا يخفى.

    كالشك في جزئية السورة للصلاة. وكان ينبغي أن يبحث في هذا الفصل
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس