فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 511 ـ 525
(511)
الوجوب ، ولذا قلنا : إنه لا يجري استصحاب العدم الأزلي بعد الزوال ، خلافا للفاضل النراقي ـ رحمه الله ـ سواء كان الزوال قيدا لوجوب الجلوس أو ظرفا ، خلافا للشيخ ـ قدس سره ـ على ما تقدم تفصيله.
    وبالجملة : لا معنى لاتصال اليقين بالشك إلا بأن لا يتخلل بينهما يقين آخر بالخلاف. وليس اتصال الشك باليقين من الأمور الواقعية التي يدخلها الشك ، بل هو من الأمور الوجدانية التي يعرفها كل أحد ، فإن الأمور الوجدانية تتبع الوجدان ، فكل شخص يعرف أن شكه متصل بيقينه أو منفصل عنه.
    نعم : انفصال الشك عن اليقين أو اتصاله به قد يكون واضحا ـ كالمثال المتقدم ـ وقد يكون خفيا ، ولا بأس بتوضيح ذلك بمثال ، وهو أنه لو كان إناء في الطرف الشرقي من الدار وإنا آخر في الطرف الغربي وعلم تفصيلا بنجاسة كل منهما ثم أصاب أحدهما المطر ، فتارة : يعلم تفصيلا بإصابة المطر لخصوص ما كان في الطرف الشرقي ، وأخرى : لا يعلم بذلك ، بل يعلم إجمالا بإصابة المطر لاحد الانائين ، وعلى الأول ـ فتارة : يكون الاناء الواقع في الطرف الشرقي متميزا عن الاناء الواقع في الطرف الغربي ومعلوما بالتفصيل حال إصابة المطر له ، بأن كان بمنظر من الشخص ثم طرء عليه الترديد والاجمال واشتبه بالاناء الغربي (1) وأخرى : لا يكون الاناء الشرقي متميزا عن الاناء الغربي حال إصابة
1 ـ أقول : لا يحتاج في بيان التفصيل بين الموارد من حيث فصل اليقين وعدمه بخياله بضرب الشرق بالغرب وعكسه ، بل نقول : بأن المعلوم بالاجمال تارة : العنوان الاجمالي المردد بينهما ، ك‍ « أحدهما » وأخرى : العنوان التفصيلي المردد انطباقه على أحدهما ، ك‍ « إناء زيد » مثلا ، وذلك أيضا تارة ، بفرض طرو الترديد بعدما علم انطباقه تفصيلا ، وأخرى : بفرض الترديد من الأول مقارنا للعلم ، وبعد ذلك نقول : فاسمع أولا بأن ما هو متعلق الانكشاف بالمقدار الذي تعلق به الانكشاف التام يستحيل وقوع الترديد فيه ، فالعلم بأي عنوان من العناوين يضاد الشك فيه ، ولذا قلنا كرارا : بأنه لابد من التمييز بين معروض العلم ومعروض الشك والترديد في جميع المقامات ، من دون فرق في ذلك بين العناوين العرضية الاجمالية أو الذاتية التفصيلية ، ومن هذه الجهة حققنا بأن متعلق العلم الاجمالي في جميع المقامات لابد

(512)

وأن يكون صورة ومعروض الشك صورة أخرى ـ وإن كانا متحدين وجودا ـ من دون سرايتهما إلى الخارج كي يستلزم عروض المتضادين على شيء ووجود واحد ، ومن ذلك نقول : إن مثل العلم وغيره من الصفات الوجدانية ظرف عروضها الذهن وظرف اتصافها خارجي ، قبال ما كان كلا الظرفين خارجية أو ذهنية.
    وبعدما كان كذلك ، فنقول : إنه إذا علم بأحد الانائين فلا جرم يصير المعلوم مثل هذا العنوان المخزون في الذهن ـ وإن لم يلتفت إلى ذهنيته ـ وأن الترديد والشك متعلق بصورة أخرى محتمل انطباق العنوان المعلوم عليه خارجا ، بمعنى اتحادهما فيه وجودا الذي هو أجنبي عن مرحلة عروض العلم أو الشك عليه ، وحينئذ صح لنا دعوى أن ما هو معروض اليقين يستحيل أن يكون معروض الشك ، وكذا بالعكس. فلا مجال في مثله دعوى احتمال انطباق العنوان بوصف المعروضية للعلم على العنوان الآخر ، إذ جهة المعروضية إنما هو من لوازم ذهنيته المحال انطباقه بهذه الحيثية مع عنوان آخر خارجا ، إذ هو فرع قابلية مجيئه في الخارج ، وليس كذلك ، وإلا ينقلب الذهن خارجا. نعم : لا بأس في عالم الاتصاف من دعوى احتمال انطباق ما هو المتصف بالمعلومية بما هو بإزاء معروضه من العنوان على المشكوك ، لان مرحلة الاتصاف من تبعات خارج العنوانين ، وفي هذا العالم يصلح انطباق أحدهما على الآخر ، فيحتمل ذلك في كل واحد من الطرفين.
    وحيث اتضح حال العناوين الاجمالية العرضية فلننقل الكلام إلى العناوين الذاتية التفصيلية ، كاناء زيد أو الاناء الشرقي بقوله ، فان العلم فيه أيضا في عالم العروض إذا تعلق بمثله يستحيل عروض الشك إلا بصورة أخرى المنتزعة عن وجوده ، وإحدى الصورتين في عالم العروض يستحيل أن يتحد مع الآخر في هذا العالم ، لأنهما متبائنان ذهنا ، وإنما احتمل انطباق أحدهما على الآخر في عالم الاتصاف الذي يكون ظرفه خارجا ، وهو ظرف اتحادهما أيضا ، كما أشرنا.
    فإذا عرفت ما ذكرنا ، فنقول : إن الغرض من احتمال الفصل باليقين في هذه الفروض إن كان احتماله في عالم الاتصاف والانطباق خارجا ، فهذه الجهة لا يختص بخصوص الأمثلة المزبورة ، بل يجري في كل علم إجمالي بالنسبة إلى طرفه ولو كان المعلوم العنوان العرضي ، كعنوان « أحدهما ». وإن كان الغرض من الفصل احتمال عروض صفة اليقين على ما عرض عليه الشك ، فذلك غير معقول بالنسبة إلى اليقين والشك الفعليين. نعم : لا بأس بالنسبة إلى اليقين الزائل بالشك الساري اللاحق على معروض اليقين ، وفي ذلك أيضا ـ مضافا إلى عدم الفرق بيه وبين العلم بالعنوان الاجمالي كأحدهما ـ أن العلم الزائل لا اعتبار به أصلا ، لان مدار الناقضية والمنقوضية في باب الاستصحاب على


(513)
المطر له ولم يكن بمنظر من الشخص ، بل مجرد أنه علم بإصابة المطر لما كان في الطرف الشرقي ، فهذه فروض ثلاثة :
    الأول : ما إذا كان متعلق العلم من أول الامر مجملا مرددا بين ما كان في الطرف الشرقي وما كان في الطرف الغربي.
    الثاني : ما إذا كان متعلق العلم من أول الامر معلوما بالتفصيل ثم طرء عليه الاجمال والترديد ، لوقوع الاشتباه بين الاناء الشرقي والاناء الغربي.
    الثالث : ما إذا كان متعلق العلم مجملا من جهة ومبينا من جهة أخرى ، وهو ما إذا علم بإصابة المطر لخصوص ما كان في الطرف الشرقي مع عدم تميزه عما كان في الطرف الغربي ، فالفرض الثالث متوسط بين الفرض الأول والفرض الثاني. ولا إشكال في أنه في جميع الفروض الثلاثة يشك في بقاء النجاسة في كل من الانائين اللذين كانا معلومي النجاسة قبل إصابة المطر لأحدهما.
    أما في الفرض الأول والثالث : فواضح. وأما في الفرض الثاني : فلانه وإن كان ما أصابه المطر معلوما بالتفصيل في أول الامر فلا شك في طهارته ، كما لا شك في نجاسة الآخر ، إلا أنه لما اشتبه الطاهر بالنجس فبالأخرة يشك في بقاء النجاسة في كل منهما. فالفروض الثلاثة تشترك في الشك في بقاء النجاسة المتيقنة في كل من الانائين ، ولكن في الفرض الأول يتصل الشك في بقاء النجاسة في كل منهما باليقين بالنجاسة ، ولم يتخلل بين الشك واليقين في كل من الانائين يقين آخر بالخلاف ، والعلم الاجمالي بإصابة المطر لأحدهما يكون
اليقين الفعلي كما هو ظاهر ، وحينئذ مثل هذا التفصيل بين الأمثلة لا يجدي إلا في إلقاء ذهن المبتدي المظلوم إلى الشرق والغرب ! وإلا فلا محيص منه بأن يقول : إما بالغاء الاستصحاب عن أطراف العلم الاجمالي بقول مطلق مع قطع النظر عن المعارضة لو كان نظره إلى احتمال الفصل في عالم الاتصاف ، أو بجريانه مطلقا لو كان نظره إلى احتمال الفصل في عالم العروض ، فتدبر فيما قال وقلت.

(514)
منشأ للشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، فاتصال الشك واليقين في الفرض الأول واضح ، فإنه لم ينقض على كل من الانائين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة وزمان الشك في بقائها ، لأنه قبل العلم الاجمالي بطهارة أحدهما كان زمان اليقين بنجاسة كل منهما ، وبعد العلم الاجمالي بطهارة أحدهما صار زمان الشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، فلم يتخلل بين زمان اليقين وزمان الشك زمان آخر يعلم فيه بالخلاف ، فلا ينبغي الاشكال في اتصال زمان اليقين بزمان الشك في الفرض الأول.
    كما لا ينبغي الاشكال في انفصال زمان الشك عن زمان اليقين في الفرض الثاني ، لان العلم بطهارة أحدهما المعين الممتاز عما عداه تفصيلا يوجب ارتفاع اليقين السابق ، فقد انقضى على ذلك الاناء المعين زمان لم يكن زمان العلم بالنجاسة ولا زمان الشك في بقائها ، وهو زمان العلم بالطهارة. والاجمال الطاري وإن كان أوجب الشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، لان كلا منهما يحتمل أن يكون هو الذي أصابه المطر والذي تعلق العلم بطهارته تفصيلا ، إلا أنه لا يعقل اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين بنجاستهما ، لأن المفروض أنه قد انقضى على أحد الانائين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة ولا زمان الشك فيها ، فكيف يعقل اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين ؟ فلا مجا لاستصحاب بقاء النجاسة في كل منهما ، لأنه في كل إناء منهما يحتمل أن يكون هو الاناء الذي تعلق العلم بطهارته ، ففي كل منهما يحتمل انفصال الشك عن اليقين ، فلا يجري الاستصحاب فيهما ، وذلك واضح.
    وأما الفرض الثالث : فالأقوى فيه أيضا عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، كالفرض الثاني ـ وإن لم يكن بذلك الوضوح ـ فإنه قد انقضى على الاناء الشرقي زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة ولا زمان الشك فيها ، وهو زمان العلم بإصابة المطر له ، لأن الشك في بقاء النجاسة فيه إنما حصل بعد


(515)
اجتماع الانائين واشتباه الشرقي بالغربي ، فقبل الاجتماع والاشتباه كان الاناء الشرقي مقطوع الطهارة والاناء الغربي مقطوع النجاسة ، فلا يجري استصحاب النجاسة فيهما ، لان كل واحد من الانائين يحتمل أن يكون هو الاناء الشرقي الذي كان مقطوع الطهارة حال إصابة المطر له.
    والحاصل : أنه فرق واضح بين العلم الاجمالي بطهارة أحد الانائين وبين العلم التفصيلي بطهارة خصوص الاناء الشرقي ، فان العلم بالطهارة في الأول إنما يصير سببا للشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، والعلم بالطهارة في الثاني ليس سببا للشك في بقاء النجاسة فيهما ، بل الشك إنما نشأ من اجتماع الانائين واشتباه الطاهر بالنجس ، فالشك في الفرض الأول إنما يكون مقارنا زمانا للعلم الاجمالي بطهارة أحد الانائين ومتأخرا عنه رتبة لكونه معلولا له ، فيكون الشك فيه متصلا باليقين بالنجاسة. وأما الشك في الفرض الثلث : فهو متأخر عن العلم بالطهارة زمانا ، لأنه بعد العلم بطهارة الاناء الشرقي واجتماع الانائين ووقوع الاشتباه بينهما يحصل الشك في بقاء النجاسة في كل من الانائين ، فلا يمكن أن يتصل فيه زمان اليقين بنجاسة الانائين بزمان الشك في بقاء النجاسة.
    فالتحقيق : أنه لا فرق بين الفرض الثاني والفرض الثالث في عدم اتصال زمان الشك باليقين ، فلا يجري الاستصحاب فيهما ، خلافا لبعض الاعلام (1).
1 ـ هو المرحوم السيد محمد كاظم اليزدي ( رحمه الله ) قال في العروة : « إذا علم بنجاسة شيئين فقامت البينة على تطهير أحدهما الغير المعين أو المعين واشتبه عنده أو طهر هو أحدهما ثم اشتبه ، حكم عليهما بالنجاسة عملا بالاستصحاب » انتهى.
    وظاهره جريان الاستصحاب في جميع الفروض الثلاثة. ولشيخنا الأستاذ ( مد ظله ) حاشية يمنع فيها عن جريان الاستصحاب والحكم بالنجاسة في جميع الفروض الثلاثة ، ولكن لا بمناط واحد ، بل في الفرض الأول لا يجري الاستصحاب لكونه من الأصول المحرزة وهي لا تجري في أطراف العلم الاجمالي مطلقا لزم منها المخالفة العملية أو لم يلزم ، وفي الفرضين الأخيرين الاستصحاب لا يجري لعدم اتصال الشك باليقين ، فتأمل جيدا ( منه ).


(516)
    ويتفرع على ذلك عدم جريان استصحاب النجاسة في الدم المردد بين كونه من المسفوح أو من المتخلف ، أو الدم المردد بين كونه من البق أو من البدن ـ بناء على نجاسة الدم مطلقا ولو قبل خروجه من الباطن بالذبح أو بمص البق ـ لعدم اتصال زمان الشك باليقين فيه ، لأنه حين ذبح الحيوان قد علم بطهارة خصوص الدم المتخلف ونجاسة الدم المسفوح بعدما كان جميعه نجسا ما دام في الباطن ، ولكن حين الخروج من الباطن بالذبح قد علم بطهارة بعضه وهو المتخلف ، فيكون نظير ما إذا علم بطهارة الاناء الشرقي في المثال المتقدم ، لان تخلف الدم في الحيوان يكون مطهرا له كإصابة المطر للاناء ، والشك في كون الدم من المتخلف أو من المسفوح إنما يحصل بعد اشتباه المتخلف بالمسفوح بأحد موجبات الاشتباه ، كما أن الشك في بقاء النجاسة في كل من الاناء الشرقي والغربي إنما يحصل بعد اشتباه الانائين ، فالشك في نجاسة الدم المردد لا يتصل باليقين بنجاسة الدم عند كونه في الباطن ، لان زمان الشك متأخر عن زمان العلم بالنجاسة ، فإنه لا يمكن حصول الشك في نجاسته في حال الذبح ، بل الشك إنما يحصل بعد زمان الذبح لأجل الاشتباه وعدم تمييز المسفوح عن المتخلف ، فيتخلل بين زمان اليقين وزمان الشك زمان العلم بطهارة الدم المتخلف ، وحيث يحتمل أن يكون الدم المردد من الدم المتخلف الذي قد علم بطهارته فلا يجري فيه استصحاب النجاسة.
    والحاصل : أن اشتباه الدم المتخلف بالدم المسفوح يتصور على وجهين :
    أحدهما : ما إذا كان الدم المتخلف ممتازا عن الدم المسفوح في أول الامر ثم حصل الاشتباه وتردد الدم الخاص بين كونه من المسفوح أو من المتخلف.
    ثانيهما : ما إذا لم يكن الدم المتخلف ممتازا عن الدم المسفوح عند الشخص ، بل كان في بدنه أو لباسه دم تردد بين أن يكون من المسفوح أو من المتخلف.
    وفي كلا الوجهين لا يجري استصحاب النجاسة فيه ، لان الوجه الأول يكون


(517)
من قبيل الفرض الثاني من الفروض الثلاثة في مثال الاناء المتقدم ، والوجه الثاني يكون من قبيل الفرض الثالث منهما ، وقد تقدم أنه لا يجري الاستصحاب فيهما.
    ولا يتوهم : أن الدم المردد يكون من قبيل الفرض الأول من تلك الفروض ، فان متعلق العلم بالطهارة في الفرض الأول إنما كان مرددا بين الانائين من أول الامر ، وأما الترديد في الدم فهو إنما حدث بعد الاشتباه والخلط بين الدم المسفوح والدم المتخلف ، وإلا ففي حال الذبح قبل الاشتباه كان يعلم تفصيلا بطهارة خصوص الدم المتخلف ، فالترديد في الدم لا يمكن أن يكون من قبيل الفرض الأول ، بل هو إما من الفرض الثاني ، وإما من الفرض الثالث. وكذا الكلام في الدم المردد بين كونه من البدن أو من البق ، فإنه لا يجري فيه استصحاب النجاسة أيضا ، بل الأقوى فيه الطهارة ، فتأمل جيدا.
    إذا عرفت الضابط لاتصال زمان الشك بزمان اليقين وانفصاله عنه ، ظهر فساد ما ذكره المحقق الخراساني ـ قدس سره ـ من عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين في باب الحادثين بعد العلم بالحدوث والشك في المتقدم والمتأخر منهما.
    وحاصل ما أفاده وجها لذلك ـ بتحرير منا ـ هو أن العلم بحدوث الحادثين والشك في المتقدم والمتأخر منهما يقتضي فرض أزمنه ثلاثة : زمان عدم كل منهما ، وزمان حدوث أحدهما ، وزمان حدوث الآخر ، فإنه لولا فرض هذه الأزمنة الثلاثة لا يمكن حصول الشك في المتقدم والمتأخر منهما ، فلابد من فرض أيام ثلاثة أو ساعات ثلاث ، ليكون اليوم الأول موطن العلم بعدم حدوث كل من الحادثين ، واليوم الثاني موطن العلم بحدوث أحدهما ، واليوم الثالث موطن العلم بحدوث الآخر منهما.
    وقد عرفت : أن الشك في حدوث كل من الحادثين تارة : يلاحظ بالإضافة


(518)
إلى نفس أجزاء الزمان ، وأخرى : يلاحظ بالإضافة إلى زمان الحادث الآخر. فان لوحظ بالإضافة إلى نفس أجزاء الزمان ، فالشك في كل منهما يتصل بيقينه ، لأن الشك في كل منهما بالإضافة إلى أجزاء الزمان إنما يحصل من اليوم الثاني لا من اليوم الثالث ، فإنه في اليوم الثاني الذي هو موطن حدوث أحدهما يشك في انتقاض العدم في كل منهما بالوجود ، للعلم الاجمالي بحدوث أحدهما والشك فيما هو الحادث ، ففي اليوم الثاني يشك في حدوث البيع أو رجوع المرتهن عن الاذن ويبقى هذا الشك مستمرا إلى اليوم الثالث الذي هو موطن وجود الآخر ، فالشك في حدوث كل منهما بالإضافة إلى أجزاء الزمان إنما يكون متصلا باليقين ، فان موطن اليقين هو اليوم الأول وموطن الشك هو اليوم الثاني ، والاستصحاب إنما يجري من اليوم الثاني ، وذلك واضح.
    وأما الشك في كل منهما بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر : فهو لا يحصل إلا في اليوم الثالث ، فإنه ما لم يعلم بحدوث كل من الحادثين لا يكاد يحصل الشك في المتقدم والمتأخر منهما ، وموطن العلم بحدوث كل منهما إنما يكون في اليوم الثالث ، والاستصحاب إنما يتبع زمان الشك ، فاستصحاب عدم كل منهما في زمان الآخر إنما يجري في اليوم الثالث أيضا ، والشك في كل منهما بهذه الإضافة لا يمكن إحراز اتصاله باليقين ، لان اليقين بعدم بيع الراهن إنما كان في اليوم الأول والشك في تقدمه على رجوع المرتهن عن الاذن إنما يكون في اليوم الثالث ، فاليوم الثاني يكون فاصلا بين زمان اليقين وزمان الشك ، ولا يمكن استصحاب عدم البيع في زمان رجوع المرتهن من اليوم الثاني ، لان اليوم الثاني لم يكن موطنا للشك في حدوث البيع بهذه الإضافة ، بل كان موطنا لحدوثه بالإضافة إلى نفس الزمان ، فاستصحاب عدم البيع إلى زمان رجوع المرتهن على تقدير جريانه إنما يجري من اليوم الثالث ، ولا مجال لجريانه ، لعدم إحراز اتصال زمان الشك في حدوث البيع بالإضافة إلى زمان حدوث الرجوع بزمان


(519)
اليقين ، لاحتمال أن يكون الحادث الأول في اليوم الثاني هو البيع ، ومع احتمال ذلك لا يمكن إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين. هذا حاصل ما أفاده ـ قدس سره ـ في وجه عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين في باب الحادثين.
    ولا يخفى ما فيه ، فإن إضافة وجود أحد الحادثين إلى زمان وجود الآخر إن كانت باعتبار أخذ زمان وجود الآخر قيدا لوجوده ، فالشك في الوجود بهذا القيد وإن كان يحدث في اليوم الثالث ، إلا أنه لا يجري فيه الاستصحاب ، لا لعدم اتصال زمان الشك باليقين ، بل لعدم اليقين بعدم الوجود المقيد في الزمان السابق ، كما تقدم (1) وإن كانت الإضافة باعتبار أخذ زمان وجود الآخر ظرفا
1 ـ أقول : في فرضنا لا إشكال وجدانا أن الزمان الأول ـ كما اعترف ـ هو زمان اليقين بعدمهما ، ولا إشكال أيضا في أن الزمان الثالث زمان اليقين بوجودهما الذي هو زمان انتقاض كل من اليقينين باليقين بوجوده. نعم : هو زمان الشك بحدوث كل واحد ، وإلا ففي هذا الزمان نعلم بوجودهما المردد بين كون حدوثه فيه أو في الزمان السابق ، وحينئذ فجر كل واحد من المتيقنين من حيث أجزاء الزمان إلى الزمان الثالث غير ممكن ، لأنه زمان اليقين بانتقاض كل واحد ، ومحض كونه زمان الشك بحدوث غيره فيه لا يجدي في إمكان جر المتيقن السابق إلى هذا الزمان الذي نقطع بانتقاض يقينه باليقين ، فبالنسبة إلى الأزمنة التفصيلية المنطبقة على الأزمنة الثلاثة لا مجال لاستصحاب كل واحد منهما إلا بالنسبة إلى الزمان الثاني لا الثالث ! كيف ! وجره إلى الزمان الاجمالي المردد بين الثالث والثاني لا يعقل الجزم بالتطبيق إلا بجر كل منهما في تمام أطراف العلم من الأزمنة التي منها الزمان الثالث المعلوم انتقاض يقين كل واحد بيقين آخر ، وإلا فلو اغمض النظر عن الجر في تمام الأطراف فكيف يعقل الجزم بتطبيق بقاء وجود كل في زمان وجود الآخر ؟.
    وبالجملة نقول : إن ما هو زمان الشك بوجود كل واحد هو الزمان الثاني ، وإلا فالزمان الثالث هو زمان اليقين بهما وإن كان حدوث كل فيه مشكوكا ولكن أصل الوجود فيه معلوم إجمالا ، ومع هذا العلم يستحيل جر المتيقن فيه ، لأنه يعلم انتقاض يقينه باليقين بالوجود ، ومجرد الشك في الحدوث مع العلم بأصل الوجود كيف يجدي في الاستصحاب ؟ فما يجدي في الاستصحاب هو الشك في الزمان الثاني ، ولكنه لا يجدي في التطبيق ، وما يجدي في التطبيق هو الجر إلى الزمان الثالث ، وهو لا يجدي في


(520)
لوجوده ، فالشك في وجود كل منهما بهذا الاعتبار إنما يكون متصلا باليقين ، فان معنى أخذ زمان أحدهما ظرفا لوجود الآخر هو لحاظ زمان وجود أحدهما من جملة الأزمنة التي يمكن فرض وجود الآخر فيها ، ومن المعلوم : أن الأزمنة التي يمكن فرض وجود كل من الحادثين فيها هي اليوم الثاني واليوم الثالث ، فزمان الشك هو كل من اليومين ، غايته أنه في اليوم الثاني لم يكن زمان وجود الآخر طرفا للإضافة وفي اليوم الثالث يكون طرفا لها ، وهذا لا يوجب تفاوتا في ناحية الشك ، ولا يقتضي انفصاله عن اليوم الأول الذي هو زمان اليقين بعدم حدوث الحادثين ، فالشك في كل من الحادثين يتصل بيقينه ويجري استصحاب عدم كل منهما من زمان الشك في وجوده إلى زمان وجود الآخر ـ أي من اليوم الثاني إلى اليوم الثالث ـ فان كان الأثر الشرعي مترتبا على عدم كل منهما في زمان وجود الآخر ، فاستصحاب عدم كل منهما في زمان وجود الآخر يجري ويسقط بالمعارضة ، وإن كان الأثر الشرعي مترتبا على عدم أحدهما في زمان وجود الآخر فقط ، فاستصحاب العدم يجري ويترتب عليه الأثر بلا مزاحم.
    وحاصل الكلام : أن المنع عن جريان استصحاب عدم كل من الحادثين في زمان الآخر إن كان مع أخذ زمان الآخر قيدا للمستصحب ، فالمنع عن جريان الاستصحاب في محله ، ولكن لا لعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، بل
الاستصحاب ، لأنه زمان اليقين بالانتقاض.
    فان قلت : إن ما أفيد صحيح بالنسبة إلى الجر في الأزمنة التفصيلية ، ولنا أن نقول : إنه بالوجدان يشك في بقاء كل منهما إلى زمان وجود الآخر بنحو الاجمال ، فنجر المتيقن إلى هذا الزمان إجمالا.
    قلت : إن المراد من الشك في البقاء إلى الزمان الاجمالي تارة : الشك في البقاء إلى زمان الشك في انطباق المجمل عليه ، وأخرى : يكون المراد الشك في بقائه إلى زمان يقطع بانطباق الزمان الاجمالي عليه ولو إجمالا ، والأول غير مثمر في تطبيق الكبرى على المورد ، والثاني يثمر في التطبيق ، ولكنه فرع إمكان الجر إلى جميع أطرافه ، ولقد عرفت : أنه لا يمكن الجر إلى الزمان الثالث الذي هو من الأطراف ، كما لا يخفى.


(521)
لعدم المتيقن. وإن كان مع أخذ زمان الآخر ظرفا للمستصحب ، فلا وجه للمنع عنه ، فإنه من بعد اليوم الأول الذي هو ظرف اليقين بعدم كل من البيع ورجوع المرتهن عن الاذن يكون كل من البيع والرجوع مشكوك الحدوث في كل آن من آنات اليوم الثاني واليوم الثالث ومنها آن حدوث البيع أو آن حدوث الرجوع ، فان آن حدوث كل منهما إنما يكون من آنات اليومين ، فيجري استصحاب عدم حدوث البيع في آن حدوث الرجوع واستصحاب عدم حدوث الرجوع في آن حدوث البيع ، فالشك في كل منهما متصف بيقينه ، لأنه لم يتخلل بين اليقين بعدم البيع في اليوم الأول والشك في حدوثه في زمان الرجوع يقين آخر يضاد اليقين السابق ، وقد عرفت : أنه ما لم يتخلل اليقين بالخلاف لا يمكن أن ينفصل زمان الشك عن زمان اليقين ، وكذا الكلام في سائر موارد الشك في تقدم أحد الحادثين على الآخر وتأخره عنه.
    فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن الشك في تقدم وجود الحادث وتأخره إن لوحظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان فاستصحاب العدم يجري في كل زمان شك في وجوده فيه ، وإن كان الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى حادث آخر ، فان كان أحدهما معلوم التاريخ فاستصحاب العدم إنما يجري في مجهول التاريخ فقط دون معلوم التاريخ ـ إلا على بعض الفروض الآتية ـ وإن كان كل منهما مجعول التاريخ فالاستصحاب في كل منهما يجري ويسقط بالمعارضة إذا كان لعدم كل منهما في زمان الآخر أثر شرعي ، وإلا فالاستصحاب يجري في خصوص ماله الأثر بلا معارض ، من غير فرض بين الحادثين اللذين يمكن اجتماعهما في الوجود ـ كإسلام الوارث وموت المورث وكبيع الراهن ورجوع المرتهن عن الاذن ـ وبين الحادثين اللذين لا يمكن اجتماعهما في الوجود كالحدث والوضوء والنجاسة والطهارة ـ فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.


(522)
    تكملة :
    عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ وجريانه في مجهول التاريخ ليس على إطلاقه ، بل قد يجري الأصل في معلوم التاريخ أيضا ويسقط بالمعارضة مع الأصل الجاري في مجهول التاريخ ، وقد لا يجري الأصل في كل من معلوم التاريخ ومجهوله ، فالفروض ثلاثة :
    الأول : عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ وجريانه في مجهول التاريخ ، كالأمثلة المتقدمة : من إسلام الوارث وموت المورث ، أو بيع الراهن ورجوع المرتهن عن الاذن في البيع ، ونحو ذلك من الموضوعات المركبة من جزئين عدميين أو وجوديين أو مختلفين مع العلم بتاريخ وجود أحد الجزئين ـ كالمثالين المتقدمين ـ فان موضوع الإرث مركب من إسلام الوارث وموت المورث ، وموضوع نفوذ بيع الراهن مركب من البيع وعدم رجوع المرتهن عن الاذن ، ففي مثل ذلك الأصل في معلوم التاريخ لا يجري وفي مجهوله يجري ويترتب عليه الأثر الشرعي حسب اختلاف المقامات.
    الفرض الثاني : جريان الأصل في كل من معلوم التاريخ ومجهوله (1) وذلك
1 ـ أقول : الاستصحاب في مجهول التاريخ تارة عدمي ، ولقد تقدم شرحه في المثال السابق ، وأخرى وجودي ، كما في استصحاب الطهارة والحدث ، وفي هذا المقام لا نحتاج إلى جر المستصحب إلى زمان وجود الآخر أو عدمه كي يحكم العقل بتطبيق المقيد ، بل المقصود استصحاب وجود كل منهما في حد نفسه.
    وحينئذ نقول : إنه لو فرض أنه ما مضى إلا زمانين نعلم إجمالا بوجود الحالتين فيهما وشك في تقدم أحدهما على الآخر ، ففي هذه الصورة لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في كل منهما ، لان في الزمان الأول لم يكن يقين بوجود كل منهما ، وفي الزمان الثاني أمر كل واحد منهما مردد بين الشك في الحدوث أو الارتفاع ، فلم يحرز موضوع الاستصحاب : من الشك في وجود ما ينطبق عليه البقاء ، فلا محيص حينئذ من فرض زمان ثالث نشك في بقاء كل من الحادثين.


(523)

وحينئذ نقول : لا شبهة في عدم اتصال هذا الزمان بزمان المتيقن ، كي يصدق بأنه زمان بقاء ما حدث ، لان ما حدث إذا كان زمانه إجماليا مرددا بين الزمان ، فالزمان المتصل بزمانه أيضا مردد بين الزمانين ، وحينئذ فهذا الزمان الاجمالي يحتمل أن يكون الزمان الأول ، فالزمان المتصل حينئذ هو الزمان الثاني المردد أمره بين الحدوث والارتفاع ، فهذا الزمان الثالث لم يحرز اتصاله بزمان المتيقن ، إلا على تقدير كون الزمان الحادث هو الزمان الثاني ، وفي هذا التقدير يقطع ببقائه.
    ولئن شئت قلت : إن ما هو موضوع الاستصحاب هو الشك في بقاء الشيء في زمان وارتفاعه فيه ، بحيث يحتمل ملازمة حدوثه مع وجوده في ثاني زمانه ويحتمل انفكاكه عنه وعدم الملازمة بينهما ، وفي المقام بالنسبة إلى الزمان الثالث وإن احتمل الملازمة ، ولكن احتمال الانفكاك بين حدوثه وفي ثاني زمانه معدوم ، إذ نقطع بعدم الانفكاك بين الحدوث وثاني زمانه في زمان الثالث ، ففي الحقيقة الشك بالبقاء في هذا الزمان يرجع إلى الشك في اتصاف بقاء الشيء من جهة الشك في الحدوث المتصل به ، لا من جهة الشك في قطع الحادث ، وما هو موضوع الاستصحاب هو الأخير ، لا مطلق الشك في البقاء. ومن هذا البيان ظهر : وجه اعتبار اتصال زمان الشك بزمان اليقين بالمعنى الذي ذكرنا في الاستصحاب المفقود في المقام ، وهذا معنى آخر من الاتصال غير ما أفاده استاذنا : من احتمال الفصل باليقين كي يرد عليه ما في التقرير. ويا ليت ! أنكر الفصل المزبور في جميع المقامات ، على ما شرحناه سابقا ، وحينئذ فلا مجال لجريان الاستصحاب في المقام أصلا كي ينتهي أمره إلى التعارض.
    بل ولئن شئت أيضا نقول : بأن المنصرف من أخبار الاستصحاب كون الزمان المشكوك فيه بمثابة لو تمشي القهقرى تضع قدمك على زمان اليقين من زمان الشك ، وفي المقام ليس الامر كذلك ، إذ لو تمشي القهقرى في الأزمنة التفصيلية ما تنتهي إلا إلى زمان اليقين بالعدم لا بالوجود. نعم : لا بأس بتصور هذا المعنى في المقام بالنسبة إلى الأزمنة الاجمالية ، ولكن قد عرفت : أنه غير قابل للانطباق على الأزمنة التفصيلية ، لعدم إحراز الانطباق على زمان خاص كذلك ، فلو كان الأثر مترتبا على وجود شيء في الأزمنة التفصيلية لما يكاد يترتب مثل هذا الأثر. نعم : لو كان في البين أثر يترتب على مجرد بقائه في الزمان الاجمالي بلا احتياج إلى التطبيق على الأزمنة التفصيلية لا بأس بترتبه.
    ومن هنا ظهر : دفع نقض من بعض المعاصرين ـ رحمه الله ـ وهو الفاضل الكلبايكاني « الشيخ عبد الله » من أن لازم اعتبار الاتصال بالمعنى الأخير جريان الاستصحاب حتى في الشك البدوي في الرافع الوارد على المعلوم بالاجمال من حيث الزمان ، مع أنه لم يلتزم به أحد. وتوضيح الجواب : أن عدم التزامهم به ليس من جهة إجراء الاستصحاب في الأزمنة التفصيلية كي يصير نقضا ، وإنما هو من


(524)
في كل مقام كان الشك في بقاء أحد الحادثين في زمان حدوث الآخر ، لا الشك في حدوث أحدهما في زمان حدوث الآخر ، كما إذا علم بالحدث والوضوء وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، وكما إذا علم بنجاسة الثوب وطهارته وشك في المتقدم منهما والمتأخر ، فإنه في مثل ذلك الأصل في معلوم التاريخ أيضا يجري ويسقط بالمعارضة.
    فلو علم المكلف أنه قد توضأ في أول النهار وعلم أيضا بالحدث ولكن شك في تقدم الحدث على الوضوء أو تأخره عنه ، كان الأصل في مرحلة البقاء في كل من الوضوء والحدث جاريا ، ويتعارض الأصلان من الجانبين ، فيستصحب بقاء الوضوء إلى زمان الشك وبقاء الحدث أيضا إلى زمان الشك ، فلو كان زمان الشك في تقدم الحدث على الوضوء وتأخره عنه هو أول الزوال ، فاستصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال يعارض استصحاب بقاء الحدث إليه. ودعوى : عدم اتصال زمان الشك في بقاء الوضوء والحدث بزمان اليقين ، قد عرفت ضعفها.
جهة جريانه في الأزمنة الاجمالية المستتبع في الزمان الثاني التفصيلي الذي هو طرف العلم ، للعلم الاجمالي إما بالطهارة الوجدانية أو التنزيلية ، وهذا المعنى غير جار في المقام ، لما عرفت : من أن في الزمان الثاني الامر مردد بين الحدوث والارتفاع ، فكيف ينطبق عليه الزمان الاجمالي ؟ كما أن في الزمان الثالث أمره ينتهي إلى الشك في البقاء من جهة الشك في الحدوث المتصل به ، لا من جهة الشك في قطع الامر الحادث ، وحينئذ فكم فرق بين مقامنا والفرض المزبور ! فتأمل في المقام ، فإنه مما زلت فيه الاقدام.
    ومن التأمل فيما ذكرنا كله اتضح أيضا وجه التفصيل بين المعلوم تاريخه ومجهوله : من جريان الاستصحاب في معلومه دون مجهوله ، كالمسألة السابقة ، وإن كان الفرق بينهما في وجودية المستصحب وعدميته. والعجب من المقرر ! حيث إنه في المقام التزم بجر المستصحب من الزمان الاجمالي إلى الزمان التفصيلي والتزم بالتعارض بين المعلوم والمجهول ، ولم يلتزم بجره من الزمان التفصيلي إلى الاجمالي بوجود غيره في المسألة السابقة كي يلتزم هناك أيضا بالتعارض. وتقدم أيضا بطلان ما اعتذر في وجه عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ ، فراجع وتدبر فيه.


(525)
    وتوهم : أن استصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال لا يجري ـ لان استصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء يقتضي تأخر الحدث عن الوضوء ـ فاسد ، فان استصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء لا يثبت تأخره إلا على القول بالأصل المثبت ، فاستصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء لا أثر له ، لان الأثر المترتب على الحدث إنما هو كونه رافعا للطهارة وناقضا لها ، وهذا إنما يكون إذا تأخر الحدث عن الوضوء ، واستصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء لا يثبت التأخر ، فلا يجري في الحدث استصحاب بقاء العدم ، بل يجري فيه استصحاب بقاء الوجود إلى الزوال الذي هو زمان الشك في المتقدم والمتأخر ، ويعارض مع استصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال ، غايته أن الاستصحاب في طرف الوضوء إنما يكون شخصيا من حيث الزمان للعلم بزمان وجوده ، وفي طرف الحدث يكون كليا لعدم العلم بزمان حدوثه ، وهذا لا يوجب فرقا بين الاستصحابين ، فالأقوى أن الاستصحاب في مرحلة البقاء يجري في كل من الوضوء والحدث ويسقط بالمعارضة وإن علم تاريخ أحدهما وجهل تاريخ الآخر. وقياس مسألة الوضوء والحدث بمسألة إسلام الوارث وموت المورث ـ حيث إنه لا يجري فيها الاستصحاب في معلوم التاريخ ـ في غير محله ، فان الشك في تلك المسألة إنما كان في الحدوث وفي مسألة الوضوء والحدث انما يكون في البقاء ، فما يظهر من الشيخ ـ قدس سره ـ من اتحاد حكم المسألتين ، ليس على ما ينبغي ، فان الفرق بينهما في غاية الوضوح.
    هذا كله في الطهارة الحدثية ، وكذا الكلام في الطهارة الخبثية ، فلو غسل الثوب في مائين : أحدهما طاهر والآخر نجس ، فاستصحاب بقاء الطهارة والنجاسة في الثوب يجري ويسقط بالمعارضة ، من غير فرق بين كون الماء المغسول به الثوب قليلا أو كثيرا ، أو كان أحدهما قليلا والآخر كثيرا ، غايته أنه لو كان الماء قليلا فزمان حدوث النجاسة معلوم بالتفصيل دون زمان الطهارة ،
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس