المسألة الرابعة والعشرون
عمليات تجوز أم لا تجوز شرعاً
1 ـ العلم توصل الى تنمية حيوانات بأضعاف حجمها العادي... وليس من المستغرب أنْ نرى ادخال D.N.A المجمع الى جسم الانسان بحيث يتولّد منها أمثال الجبابرة والمردة التي نسمع عنها في قصص ألف ليلة وليلة(1).
أقول: أولاً إنْ قلنا بجوازه فانما هو على مستوى فرد أو أفراد معدودة، وأما على مستوى العموم فالحكم ـ جوازاً وتحريماً ـ موقوف على ملاحظة ما يترتب على هذا العمل من اللوازم والآثار، واذا علمنا من مذاق الشرع بأن الله لا يرضى بذلك على وجه يتغير النوع الانساني عن أحسن تقويمه الذي خلقه الله عليه فنحكم بحرمته.
وثانياً إنّ تغيير حجم الاَولاد اذا لم يرض به الاَولاد بعد بلوغهم ويكون موهناً لهم عند الناس ومؤذياً لاَنفسهم لا دليل على جوازه إذ لا ولاية للاَب والجد ـ فضلاً عن الاَُم ـ على أولادهم بهذا النحو جزماً، وليس الاَمر يخص نفس الوالدين حتّى يقال إنّ الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم، بل هو راجع إلى غيرهم ولا فرق في الحكم ظاهراً بين تنقيص السليم الموجود وتعييبه وإيجاد الموجود معيباً ناقصاً.
2 ـ زوج لا يقدر على إزالة بكارة زوجته بالطريق العادي فهل يجوز
____________
(1) ص210 الرؤية الاسلامية لبعض الممارسات الطبية.

( 206 )
له أن يطلب من الطبيب ازالتها؟ وما هو وظيفة الطبيب والزوجة؟
أقول: في صحيح عبدالله بن سنان عن الصادق عليه السلام في امرأة افتضت جاريتها بيدها، قال: عليها مهرها وتجلد الثمانين(1).
وفي صحيح معاوية عنه عليه السلام في حديث طويل: إنّ امرأة دعت نسوة فامسكن يتيمة بعدما رمتها واُخذت عذرتها بإصبعها، فقضى أمير المؤمنين عليه السلام أنْ تضرب المرأة حد القاذف وألزمهن جميعاً العقر وجعل عقرها أربعمائة درهم(2).
وقد ذكرنا بحث الموضوع في كتابنا حدود الشريعة (ج4 ص349 وج1 ص282) وخلاصة الكلام أنّ الحديثين ينصرفان عن فرض قصور الزوج عن الافتضاض بالدخول، ولا يبعد أنْ نقول بالجواز في المقام بدليل نفي العسر والحرج، ولوجوب التمكين على الزوجة، ولوجوب وطء الزوجة على الزوج في الجملة.
ثم إذا أمكن للزوج افتضاض زوجته في هذا الفرض بطريق صحي ولو بهداية الطبيب فلا يجوز الذهاب عند الطبيبة ولا يجوز للطبيبة ـ فضلاً عن الطبيب ـ النظر الى عورتها ولمسها، وأمّا اذا لم يمكن فيجوز للطبيبة مباشرة العمل، وقيل يوجب تقديم الطبيبة المحرم على غير المحرم في مس العورة والنظر إليها اذا امكن، ولا شكّ أنّه أحوط.
3 ـ أب لا يريد علاج ابنه أو ابنته ولا يأذن للطبيب به لداع من الدواعي فيتركه حتى يموت، فهل يجوز للطبيب أنْ يعالجه من دون إذن الاَب المذكور؟
____________
(1 و2) ص238 وص239 ج14 الوسائل.

( 207 )
أقول: في فرض خوف الموت على الابن والبنت يجب العلاج على الطبيب ولو بالقوة ويحرم على الاَب منعه، ومعنى ولاية الاَب هو العمل حسب مصلحة المولى عليه لا ملكية رقابه. ولا يبعد ذلك في علاج الاَمراض الخطرة الاُخرى أيضاً كشلل اليدين أو الرجلين أو السرطان أو العمى وأمثال ذلك، والاَحوط الاستيذان من الحاكم الشرعي. وأمّا في الاَمراض الجزئية فان كانت البنت بالغة فلا ولاية لاَحد عليها في أمثال الموارد، وأمّا ان كانت صغيرة ففي علاجها دون اذن وليها إشكال ولا بد من مراجعة الحاكم الشرعي
4 ـ يرفض بعض الرجال فحص الطبيب للنساء اللآتي هنّ من محارمه وبعضهم يمنعون من إجراء عملية جراحية بتوسط الطبيب والمفروض أنه لا يوجد طبيبة؟
أقول: يفهم حكمه مما سبق في البند الثالث ومما مضى في بعض المسائل المتقدمة، على أن ليس لكل محرم ولاية على محرمه، بل لا ولاية للاَخ والاُمّ والجد لاُمّ في مذهبنا فضلاً عن غيرهم. ولمنع المتحكم المغتلب يرجع الى الحكومة. وعلى كل في الامراض الجزئية لا يجوز مباشرة الجنس المخالف كما سبق، كما لا يجوز علاجها من دون إذن من به المرض.
5 ـ يستنكر بعض الرجال من عمليات تتعلق ببعض أعضاء بدنه فما هو وظيفة الطبيب؟
أقول: يمكن أنّ يفهم حكم هذا السؤال مما سبق بتفاوت جزئي.

فرعان:
1 ـ في كل مورد يجب العلاج رغم كراهية المريض أو وليه يقع
( 208 )
الكلام في مؤنة العلاج وانه هل يجوز أخذها من مال المريض ـ اذا كان له مال ـ أم لا؟ فيه وجهان، والاحسن الرجوع الى الحاكم الشرعي.
واما اذا لم يكن له مال ففي فرض خطر موته يجب على الناس كفاية ايتاء مؤنة العلاج.
2 ـ اذا أراد أحد ان يقطع يده أو رجله أو أنفه أو أن يقلع عينه لاي سبب كان فهل يجب على الناس منعه بالقوة زائداً على النهي عن المنكر كما يجب ذلك في فرض اقدامه على قتله؟ فيه وجهان، من عدم دليل لفظي شرعي عليه، ومن إمكان فهم ذلك من مذاق الشرع.
وعلى الثاني يجب على الطبيب معالجة المريض وحفظ أعضائه المهمة وان لم يأذن المريض، وعلى الاَول لا يجب عليه بل لا يجوز اذا لم ياذن لحرمة التصرف في بدن الغير وماله من دون رضاه.
6 ـ اذا احتاجت المريضة لعملية أو لعلاج، لا يأذن لها زوجها بالخروج كما لا يأذن زوج الطبيبة لها ايضاً بالخروج من بيتها ولا يتيسر إجراء العملية الطبية في البيت، فماذا يصنع؟
أقول: يحرم على زوج المريضة منعها من الخروج للعلاج فإنه ظلم وإيذاء وربما قتل لها، ويجوز لها الخروج مع التمكن، ومع عدمه اذا تمكنت الطبيبة من الخروج من دون اذن زوجها وجب عليها الخروج لحفظ النفس المحترمة. واما اذا كان المرض جزئياً لم يجز للمريضة والطبيبة الخروج من بيتهما من دون إذن زوجيهما، نعم في الاَمراض الموجبة للحرج جاز للمريضة الخروج من بيتها مع نهي الزوج لقاعدة نفي العسر والحرج، ولا يجوز ذلك للطبيبة فتأمل، إلاّ اذا كان مرض المريضة حرجاً لها أيضاً لقرابة ونحوها.
( 209 )
7 ـ اذا أصرّ زوج المريضة على حضور الطبيبة ولا يأذن للطبيب للعلاج، ويمنع زوج الطبيبة زوجته عن الخروج من البيت كما في الليل مثلاً، فما هو الحكم الفقهي؟
أقول: لتوضيح الحال لا بد من بيان فروع وأحكامها:
أولاً: يجب على الطبيب أو الطبيبة علاج مَن كان في معرض التلف وجوباً عينياً اذا لم يوجد معالج آخر، واذا لم يتيسر حفظ النفس إلاّ في مكان مخصوص كالمستشفى أو بيت المريضة يجب على الطبيبة الخروج من بيتها حتّى مع نهي زوجها عنه، وذلك لوقوع التزاحم بين حرمة خروجها من بيتها من دون إذن زوجها ووجوب حفظ النفس المحترمة، ولا شكّ في أهمية الثاني من الاَوّل فتسقط الحرمة المذكورة، ويحرم على زوجها منعها من الخروج وكذا لزوج المريضة يحرم منعها من الخروج. ولا يجوز للمريضة والطبيبة في هذا الفرض قبول نهي زوجيهما عن خروجهما.
ثانياً: اذا وجد طبيب لعلاج المريضة فهل يجب على الطبيبة مباشرة العلاج والتداوي ـ وجوباً عينياً ـ لعدم تحقق النظر والمس المحرمين.
الظاهر عدم الوجوب لعدم الدليل عليه، ولا فرق في ذلك بين كون المرض مهلكاً أو غير مهلك، ولا بين كون الطبيبة مزوجة أم خلية، نعم مع نهي زوجها أو عدم اذنه يحرم خروجها وأما المريضة فلا يجوز لها ولوليها اختيار الطبيب مع امكان الطبيبة، كما لا يجوز للمريض أو وليه اختيار الطبيبة مع امكان الطبيب اذا كان العلاج مستلزماً للنظر والمس المحرمين، كما لا يجوز للطبيب والطبيبة لمس الجنس المخالف والنظر إليه مع امكان المماثل له.
ثالثاً: لا يجب على الطبيب أو الطبيبة الذهاب الى بيت المريض إلاّ
( 210 )
في فرض توقف حفظ النفس المحترمة عليه.
رابعاً: يجب الذهاب الى الطبيب عند حفظ النفس، واذا لم يوجد المماثل يجب الذهاب الى الجنس المخالف، سواء رضى الوالد والزوج أم لا.
وهل للزوج حق لينهى زوجته عن التداوي او العملية عند غير المماثل مع امكانه فتستحق مع التخلف عقابين لمخالفة الحكم الشرعي ولترك حق الزوج أو معصية واحدة كما اذا لم يستلزم العلاج نظرا ومسا محرماً؟ فيه وجهان، والارتكاز يدلّ على الاَول.
خامساً: اذا كان مرضها مهلكاً ولكن زوجها يمنعها من الخروج كما يمنع زوج الطبيبة إياها من الخروج فحينئذٍ يتدخل الحاكم الشرعي فيخرج أحديهما من بيتهما حسب المصلحة أو كلتيهما الى المستشفى مثلاً.


( 211 )
المسألة الخامسة والعشرون
حكم نزع الاَعضاء وبيعها
أما حكم نزع الاَعضاء فقد مرّ في المسألة الحادية والعشرين، وملخص المقال أنّه لا يجوز نزع أعضاء يوجب الموت آجلاً أو عاجلاً فإنه من قتل النفس وألقائها الى التهلكة وقد حرمهما القرآن المجيد حتّى وإنْ انقذ به نفساً محترمة من الهلاك، فان هذا النحو من الاِيثار لم يثبت جوازه في الشرع فضلاً عن رجحانه.
ويلحق به في الحرمة نزع اليدين أو الرجلين أو العينين أو اللسان وأمثال ذلك مما يفهم عدم جوازه من مذاق الشرع، وكذا الابتلاء بأمراض خطيرة مضرة بحياته وأهله كالشلل مثلاً أو مسرية مضرة لغيره من المسلمين وهو لا يقدر على ضبطها وعدم نشرها.
بل لا يجوز قطع الاَنف وإنْ فرض عدم ضرره طباً، لكونه إهانة للقاطع عند الناس، ولا يجوز للمسلم اذلال نفسه حتى اذا قصد به إهداءه لغيره بعوض أو بلا عوض، فتأمل.
وهنا قسم ثالث لا يتضح حكمه الشرعي كل الاتضاح كقلع احدى العينين فإنه وان لم يضر بحياة صاحبها لكنها عضو مهم، وكقطع كلية واحدة لاحتمال فساد الاُخرى لسبب من الاسباب في المستقبل القريب أو البعيد ولا يطمئن بتمكنه من الحصول على كلية غيره حين الاحتياج إليها ـ ولا فرق في وجوب حفظ النفس من التلف الحالي والاستقبالي.
( 212 )
والحال إنّ حفظ النفس المؤمنة أيضاً واجب عقلاً وله ثواب كثير، لقوله تعالى : (ومن أحياها فكأنّما أحيى الناس جميعاً)(1).
وكقطع إحدى اليدين أو الرجلين لزرعها في بدن الغير بعوض أو بغير عوض، حتى اذا كان ذلك للاحتياج الى مال لاَجل أداء النفقة الواجبة أو دين الناس أو لاَداء حق الله كالزكاة والخمس حيث قصر في أدائهما ولا قدرة له اليوم إلاّ بذلك؛ فإنّ أداء دين الله تعالى ودين الناس وحقوقهم لا يجب بهذا النحو قطعاً. بل هو عاجز غير مكلف به فعلاً.
نعم اذا توقّف أصل حياته على ذلك جاز أو وجب ذلك سواء كان القطع لزرعه في بدن نفسه أو في بدن غيره بعوض يتوقف عليه حياته، والله أعلم.
وهنا قسم رابع لا شكّ في جوازه، يقول السيّد الاَستاذ الخوئي رضي الله عنه : لا يجوز قطع عضو من أعضائه الرئيسية التي يضر بحياته أو يوجب نقصاً وعيباً(2)، نعم يجوز قطع الجلد ولحم الفخذ مما ينبت مكانه ثانياً، ويجوز له أخذ المال لاَجل القطع(3).
اقول: ومن هذا القسم بيع لبن الاِنسان وإجارة المرضعة واخراج الدم وبيعه على الاَقوى، فإنّ له منفعة محلّلة مقصودة في مثل اعصارنا، ولا نقبل دعوى الاجماع المنقول على عدم صحة بيعه، وكذا يجوز قص الشعر وبيعه اذا فرض له منفعة محلّلة مقصودة.
____________
(1) المائدة آية 32.
(2) لا دليل على حرمة كل ما يوجب العيب والنقص وإلاّ لبطل استدراكه واستثناءه بقوله نعم يجوز...
(3) أي لا لاجل صحة البيع (والله العالم) وعلى كل أخذ المال لاجل القطع لا اشكال فيه ان جاز القطع كما يجوز لاعراضه عن حقه على العضو المقطوع.

( 213 )
فرع:
اذا توقّف حياة مسلم على قطع عضو من بدن الانسان فهل يجب عليه قطعه وايتائه له بعوض أو بغير عوض اذا لم يكن له خطر على حياته عاجلاً أو آجلاً، أو لا تجب بدعوى أنّ مثل هذا النحو من حفظ النفس المحترمة غير ثابت شرعاً ولا اطلاق يتمسك به؟ فيه وجهان. نعم اذا أعطى أحد عضوه للمريض وكان المريض فقيراً يجب على الناس دفع مؤنة العملية الطبية وإجرة الطبيب وعوض العضو ان اراده صاحبه وجوباً كفائياً.
وأما حكم بيع الاَعضاء فأقول مستعيناً بالله تعالى:
اعلم أنّ الملك على قسمين: تكويني واعتباري، والاَول كملكيته تعالى للكائنات، وعليها تحمل الآيات الدالة على أنّ له تعالى ملك السموات والاَرض، وامثالها، فالله سبحانه وتعالى أوجد الكائنات وألبسها وجودها، وهي تفتقر إليه تعالى حدوثاً وبقاءاً، فملكيته تعالى لها ليست باعتبار معتبر كملوكية الملوك ومالكية المالكين.
والثاني: كملكية الانسان لاَمواله مثلاً، وقوام هذه الملكية هو الاعتبار ـ أي اعتبار العرف العام أو الخاص أو الشرع، ولا واقع لها سواه ـ وهي تحصل بالعمل الحر كالاِحياء والحيازة، أو بالعمل المعاوضي الجعلي كالاجارة والجعالة والمزارعة والمساقاة ونحوها، أو بالاِرث والهبة والدية والوصية ونحو ذلك، أو بالبيع والشراء والمضاربة وغيرها.
ثم إنّ للانسان الانتفاع باعضائه بكلّ تصرف مقدور ما لم يمنعه مزاحم أقوى، وهذا محسوس. وهل الروح مالك لاَعضاء بدنها أم لا؟
( 214 )
وعلى الاَول هل ملكيتها تكوينية أو تشريعية فيه احتمالات.
وجه عدم الملكية مطلقاً أنّ الروح (النفس) ليست بعلة موجدة وسبب فاعلي للبدن بل هي مدبّرة باذن الله، فلا تملك البدن ملكية تكوينية، ولم يدل دليل شرعي على أنّ البدن ملك للنفس فلا تملكها ملكية اعتبارية.
ووجه الملكية التكوينية أو شبهها أنّ النفس علّة قريبة لحياة البدن، ولولا الحياة لتلاشى البدن كما هو محسوس، فهي علّة لوجود البدن، وكل علة موجدة مالكة لمعلولها تكويناً.
ووجه الملكية الاعتبارية أنها ناشئة عن الملكية التكوينية، فبثبوتها كما عرفت تثبت. إلاّ أنْ يقال: إنّ المتيقن أنّ الملكية الاعتبارية انما تنشأ عن الملكية التكوينية الذاتية فقط، وهي خاصة بالله الواحد القهّار ولا أحد غيره تثبت له هذه الملكية التكوينية الذاتية لدلائل التوحيد، فكلّ علة تملك معلولها فانما تملكه بتمليك الله تعالى إياها، فلا موجب للملكية الاعتبارية سوى اعتبار الخالق الواجب، ولا يعقل اعتباره إلاّ من طريق الشرع وقواعده عامة أو خاصة.
واذن لا بد من الرجوع الى نصوص الشريعة وأُصولها.
ويمكن أنْ نثبت ملكية الانسان لاعضائه ـ ملكية اعتبارية يصح بيعها بعد قطعها حلالاً أو حراماً بقول الصادق عليه السلام في صحيح عبدالله بن سنان: كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه(1)
____________
(1) ص59 ج12 الوسائل.

( 215 )
وعن موضع من التهذيب: كلّ شيء يكون منه حرام وحلال...(1).
لكن الحديث لا يدلّ على المراد أمّا أولاً فلاختصاصه بالشبهات الموضوعية ظاهراً دون الشبهات الحكمية التي منها المقام كما هو غير خفي، وأمّا ثانياً فلاَنه من جملة ما دلّ على إصالة البراءة، وهو أصل ينفي الحكم وليس بمثبت لحكم تكليفي ولا لحكم وضعي كما في المقام، حيث يُراد إثبات الملكية الاعتبارية.
فان قلت: البراءة تنفي العقاب بأخذ الثمن وأكله ـ وهذا هو المقصود ـ وان لم تثبت الملكية.
قلت: استصحاب عدم انتقال مال المشتري مقدم على البراءة، وهو يقتضي حرمة التصرف في المال المذكور.
واذا بلغ الكلام الى هذا فينبغي أن ندع الاَُصول العملية نتمسك باطلاق ما دلّ على صحّة البيع والتجارة، كقوله تعالى: (أحلّ اللهُ البيعَ وحرّم الربا)(2)، وقوله تعالى: (إلاّ أنّ تكون تجارة عن تراض)(3)، ولا يعتبر في المبيع إلاّ التمول أو الملك.
قال الشيخ الاَنصاري ـ قدس الله روحه الطيبة ـ في بحث شرائط العوضين من مكاسبه: يشترط في كلّ منهما كونه متمولاً لاَنّ البيع لغةً مبادلة مال بمال، وقد احترزوا بهذا الشرط عمالا ينتفع به منفعة مقصودة للعقلاء محلّلة في الشرع: لاَنّ الاَوّل ليس بمال عرفاً كالخنافس والديدان... والثاني ليس بمال شرعاً كالخمر والخنزير، ثمّ قسموا عدم الانتفاع الى ما
____________
(1) ج 7 ص 226. نسخة الكامبيوتر.
(2) البقرة آية 275.
(3) النساء آية 29.

( 216 )
يستند الى خسة الشيء كالحشرات والى ما يستند الى قلته كحبة حنطة، وذكروا أنّه ليس مالاً وان كان يصدق عليه الملك ولذا يحرم غصبه إجماعاً..، والاولى أن يقال: إنّ ما تحقق أنّه ليس بمال عرفاً فلا اشكال ولا خلاف في عدم جواز وقوعه أحد العوضين اذ لا بيع إلاّ في ملك، وما لم يتحقق فيه ذلك، فان كان أكل المال في مقابله أكلاً بالباطل عرفاً فالظاهر فساد المقابلة، وما لم يثبت فيه ذلك فان ثبت دليل من نص أو إجماع على عدم جواز بيعه فهو، وإلاّ فلا يخفى وجوب الرجوع الى عموم صحّة البيع والتجارة...
ثم إنّهم احترزوا باعتبار الملكية في العوضين من بيع ما يشترك فيه الناس كالماء والكلاء والسموك والوحوش قبل اصطيادها، وتكون هذه كلها غير مملوكة بالفعل، واحترزوا به أيضاً عن الاَرض المفتوحة عنوة..، انتهى ما اردنا نقله من كلامه رحمه الله (1).
والمفهوم من مجموع كلامه صحة بيع الاَعضاء المقطوعة، فإنها مال عند العقلاء إنْ لم يدل دليل آخر على خلافها.
فإن قلت: الانسان الحر غير مملوك وغير مال ولذا لا يجوز بيعه وهبته ولا تصح معاوضته بوجه، فكذا اعضاؤه.
قلت: لا دليل على جريان حكم الكل على البعض المقطوع لا شرعاً ولا عرفاً، ولا سيما أنّ الحرية والكرامة راجعتان الى النفس دون البدن.
فان قلت: جعل الدية على الاَعضاء دليل واضح على ملكية الانسان لاعضائه.
قلت: ليست الدية أرشاً وقيمة لها لاَمكان أنّها غرامة لشيء ينتفع به،
____________
(1) أول كتاب البيع من مكاسبه رضي الله عنه.

( 217 )
ولذا قال الشيخ الانصاري قدس سره في كلام له حول حكم كلب الماشية في مكاسبه المحرمة بأنّ الدية لو لم تدلّ على عدم التملك ـ وإلاّ لكانت الواجب القيمة كائنة ما كانت ـ لم تدلّ على التملك، لاحتمال كون الدية من باب تعيين غرامة معينة لتفويت شيء ينتفع به لا لاتلاف مال كما في اتلاف الحر، ومما يؤكد كون الدية غرامة هو أنّ الاَصل الاَوّل في قطع الاعضاء عمداً القصاص وهو غرامة قطعاً، وفي فرض الخطأ أو المصالحة تنتقل الغرامة الى الدية.
اذا عرفت ذلك كله فنختم البحث بذكر أُمور:
1 ـ بناء العقلاء على سلطة الناس على أنفسهم وأموالهم في الجملة، وهذا يثبت ملكية الشخص على أجزاء بدنه المقطوعة فيجوز له بيعها وهبتها، فما لم يثبت من الشرع المنع نكشف منه إمضاءه لبنائهم على هذا الاَصل، وهذا هو أرجح ما يعتمد عليه في الملكية الاعتبارية للاَعضاء، ولكن الاَحوط ترك البيع والشراء.
2 ـ جواز أكل العوض لا يتوقف على اثبات الملكية وصحة المعاملة وضعاً، فان الانسان أولى بأعضاء بدنه وبخمره وخنزيره وان لم يكن بمالك لها؛ ويصح أخذ مال لاعراضه عن حقه هذا حتى اذا كان نزع العضو حراماً، فإنه لا يسقط حقّه هذا عليه.
ويجوز أيضاً أخذ المال على قطع العضو اذا كان القطع جائزاً وكذا على مقدماته كالذهاب الى المستشفى والجراح ونحو ذلك، فان ذلك عمل محترم يجوز أخذ المال بازائه.
3 ـ أمّا المريض فيجب عليه دفع المال لاعراض صاحب العضو أو على قطعه اذا كان جائزاً أو على مقدماته وجوباً مؤكداً اذا كانت حياته في معرض التلف أو في معرض الابتلاء بالامراض المزمنة كما سبق تفصيلها،
( 218 )
وفي غير الفرضين يحسن دفع المال لاحراز الصحة والفراغ للعبادة. ولا شيء عليه اذا كان القطع حراماً على صاحب العضو، نعم لايجوز له تشويقه عليه، لان التشويق على الحرام حرام كما ذكرناه في محله.
4 ـ يدعي بعض الباحثين من أهل السنة اتفاق المحققين ـ وفي موضع آخر اتفاق الفقهاء ـ على أنّه لا يجوز للانسان أنْ يبيع عضواً من أعضاء جسده أياً كان هذا العضو(1)، واستدلّ عليه أوّلاً بأنّ جسد الانسان وما يتكون منه من أعضاء ليس محلاً للبيع والشراء وليس سلعة من السلع التي يصح فيها التبادل التجاري، وثانياً أنّ جسد الانسان ليس ملكاً له على الحقيقة وانما المالك الحقيقي خالقه، والانسان ما هو إلاّ أمين على هذا الجسد.
أقول: دعوى اتفاق فقهاء أهل السنة على بطلان بيع الاعضاء ممنوعة بعدما لم تعنون المسألة في الاَزمنة السابقة وانما هي من المسائل المستجدة، هذا أوّلاً.
وثانياً: إنّ العضو المقطوع مال يميل إليه العقلاء، فيتمسك باطلاق قوله تعالى: (أحلّ اللهُ البيع)، أو ببناء العقلاء على تسلط الناس على أموالهم وابدانهم كما سبق، فالوجه الاَوّل في كلامه مجرّد دعوى غير صحيح لكن ذكرنا أنه مطابق للاحتياط عندي.
وثالثاً: بأنّ ملكيته تعالى لا تنافي ملكية الانسان لاَنها في طولها لا في عرضها، والله مالك كل شيء، فلا بد من البحث حول إن الانسان هل هو مالك لعضوه أم لا وما هو دليل لملكيته كما مر، وهذا القائل لم يهتد إليه، مع أنّه لو تم ما ذكره في الوجه الثاني لمنع من صحة هبة العضو أيضاً
____________
(1) ص308 وص309 الرؤية الاِسلامية لبعض الممارسات الطبية.

( 219 )
للمريض في حين أنّ هذا الباحث ذهب الى صحتها في الجملة ونسب جواز التبرع به الى جمع من فقهاء أهل السنة وفي آخر كلامه الى جمهور الفقهاء بشروط وضرورة، وهذا منه تناقض، وقد عرفت أيضاً أنّ نسبة الحكم الى جمهور فقهائهم حدسية واجتهاد منه.