المسألة الثالثة والثلاثون
زراعة الخلايا والانسجة داخل المخ
1 ـ هل هناك ما يسمى بزراعة المخ؟
أما وقد تم الآن زراعة كل شيء بشري في جسم الانسان تقريباً من اطراف كالايدي والاَرجل ومن أعضاء كالقلب والكبد والرئة.. (والكلية) فانه لم يبق ما لم يزرع إلاّ المخ.
إننا نعرف انه من مبادئ علم زراعة الاَعضاء إن العضو الذي ينقل للزراعة لا بد ان يكون عضواً حياً سليماً لنقله مكان عضو تلف واشرف صاحبه على الوفاة، ونحن نعلم أيضاً إنّ وفاة الانسان تكون لتلف مخه واستئصال مخ سليم من شخص ما، هو قتل له، فتكون الترجمة الحرفية لهذا العمل هو «قتل انسان لنقل مخّه لانسان توفى فعلاً».
فالانسان الحي هو الذي يملك مخاً حياً مهما تلفت بعض اعضاء جسمه لان ايها يمكن تعويضه بطريقة أو اُخرى، فمثلاً الكلى يمكن الاستعاضة عنها بالكلى الصناعية أو بنقل كلى حية من متبرع، ولا يمكن أنْ يقال: نفس الشيء عن المخ، لاَنّ الذي توفى بتلف مخه لا يمكن لبشر ان يبعثه بان ينقل مخ حي إليه. إنّ ما يقال عن نقل المخ ما هو إلاّ من قبيل الخيال العلمي، وعلى الفرض الجدلي إذا أمكن نقل مخ انسان حي إلى انسان متوفى ففي هذه الحالة يقال: إنّ جسد المتوفى قد نقل الى المخ وليس العكس(1).
____________
(1) ص55 وص56 رؤية اسلامية لزراعة بعض الاَعضاء البشرية.

( 281 )
2 ـ منذ عدّة سنوات ابتدأت فكرة زراعة أنسجة وخلايا داخل المخ في بحوث أكاديمية مختلفة على حيوانات المعامل من فئران وغيرها، وذلك لتجربة تأثير عقاقير مختلفة عليها، وكذلك لدراسة تصرف هذه الخلايا في الظروف البيئية المختلفة، كما في مجال دراسة الاَورام السرطانية سلوكياً وعلاجياً.
وحيث إنّ زراعة المخ غير ممكنة فماذا عن زراعة خلايا أو أنسجة سليمة في مكان آخر تالفة فيما يشبه عمليات الترقيع في الجلد مثلاً؟ إنّ نجاح مثل هذه الزراعة العلاجية في حيوانات التجارب قد تكون مرحلة توطئة لتطبيقها على الاِنسان.
ولقد تم ذلك بالفعل، وكان لبلاد مثل السويد والمكسيك قصب السبق في هذا المجال، وصدر عن مراكز ابحاثهم المئات من التقارير والبحوث، بل والاَكثر من ذلك أنه قد تمت بالفعل بعض التطبيقات على الاِنسان.
ومن هذا الكم الكبير للبحوث والتجارب التي صدرت حتى الآن من عدد كبير من الدول في أوروبا الشرقية والغربية والولايات المتحدة الاَمريكية وأمريكا الجنوبية، يمكننا أن نتبين أن هذه الاَبحاث قد تشعبت وتعددت اتجاهاتها وبالتالي الاَغراض التي تهدف إليها، وبصفة عامة يمكننا الآن أن نقوم بتقسيمها إلى قسمين رئيسين:
أولاً: أبحاث تهدف إلى توفير هرمونات معينة داخل المخ، وذلك لتعويض نقص بها مما يعتقد أنه السبب في ظهور عوارض أو أمراض عصبية، وهي ما يسمى بالهرمونات العصبية (Neurotransmitters) مثل الدوبامين، والكولين، والكاتيكولامين، والهدف من الزراعة هو توفيرها
( 282 )
بصفة مستمرة من إفراز هذه الاَنسجة.
ثانياً: أبحاث تهدف إلى تعويض عن أنسجة تلفت لاَسباب مختلفة كالاِصابات في الحوادث أو نتيجة الالتهابات أو أمراض الشرايين وكل ما ينتهي إلى تليف يؤدي إلى توقف تنبيهات الحس والحركة داخل الجهاز العصبي المركزي والغرض من الزراعة هنا هو محاولة إعادة سريان هذه التنبيهات عن طريق قنوات الاتصال الجديدة والتي ستنشأ من هذه الخلايا عبر الاَنسجة التالفة المتليفة، وقد أظهرت التجارب أنّ النتائج تختلف كثيراً اعتماداً على عوامل عدة، منها نوعيات الاَنسجة المستخدمة في الزراعة، مصادرها، أسلوب نقلها وأماكن زراعتها بالمخ، كما تعتمد أيضاً على عمر الخلايا المستخدمة وبالتالي مرحلة نضجها.

زراعة الاَنسجة بغرض توفير الهرمونات العصبية
1 ـ (ربما كان هذا أول الاَهداف التي قصدت من الزراعة وبالذات لعلاج مرض باركنسون أو الشلل الرعاش)(1).
أقول: الغرض من زراعة الخلايا والانسجة داخل المخ أُمور منها ماعرفته، ومنها تحسين مظاهر شيخوخة المخ، ومنها علاج ضعف الذاكرة، ومنها شفاء مرض السكر الكاذب، ومنها اعادة دورة الطمث والتبويض مرة أُخرى، ومنها احتمال علاج امراض عصبية مستعصية لا يوجد لها علاج حتى الآن.
يقول طبيب في هذا المقام: ثم هناك تساؤل آخر بل انه حلم البشرية
____________
(1) ص61 وص62 نفس المصدر.

( 283 )
الازلي الذي طالما داعب خيالها من مئات الاجيال وهو هل لهذه الجراحات المقدرة الصحة والشباب فتعالج المخ الذي هرم والجسم الذي وهن؟! وهل يمكن للمرأة العجوز ان تعود إلى نضارتها وإلى انجاب الاولاد من جديد؟
أقول: إذا حصلت للطب هذه المقدرة بحيث يصبح قادراً على ما ذكرناه هنا على غيره لكان كل تلك الاعمال جائزة شرعاً لا مانع منها، وقد تقدم في مسألة رفع الموت عن الانسان جواب بعض الاسئلة المتعلقة بالمقام أيضاً، نعم لا بد من التوجه الشديد إلى عدة أُمور:
1 ـ لزوم اعتبار الخبرة الكافية للمتصدي، فإنّ جهاز المخ معقد فوق ما يتصور، فلا بد من ادامة التجربة العلمية على مخ الحيوانات أو غيرها حتى حصول اليقين بالنتائج لئلا يضر الانسان بتلف في مخه.
2 ـ عدم جواز اجهاض الجنين لزراعة خلاياه في مخ المريض، فان اجهاضه حرام كما مر، نعم فيما استثنى الاجهاض من الحرمة، سواء جاز أو وجب لا مانع منها إذا لم تحله الحياة أو زالت حياته، وذلك مع مراعاة ما يتعلق بالجنين من التجهيز حسب ما فصّل في الفقه.
3 ـ عدم سلب اختيار الانسان وارادته فانا نعلم بعدم رضي الشارع بذلك، والحق أنّ تكليف الانسان بالشريعة واستحقاقه الثواب والعقاب كليهما موقوفان على اختيار الاِنسان وارادته.
وقد يتخيل أنّ كل نشاط اختياري يقوم به الانسان هو اثر من آثار الروح بواسطة البدن والبدن جندي مطيع للروح وليس الفكر والشعور والارادة ناشئة عن الدماغ نتيجة تفاعلات كيميائية وفيزيائية كما يتوهمها الماديون، فيمكن ان يبقى ارادة الانسان وان تصرفوا في مخّه، ولكنه تخيّل خاطيء، فان الامر وان كان كذلك إلاّ ان له تاثيراً كبيراً في اعمال الروح
( 284 )
وتفكره، فيمكن سلب ارادة الروح بالتصرف في بعض مواضع المخ وان لم يكن معلوماً قطعياً.
واما عملية المخ لتغيير الفكر وبالتالي لتغيير السلوك ولو في حدود اختيار الفاعل وارادته فهي على قسمين:
الاَُولى: التغيير إلى الشر والفساد، وهذا لا يجوز لانه تعاون على الاثم والعدوان.
الثاني: التغيير إلى الخير والصلاح، وهو يجوز. وهنا يتوجه سؤال صعب، وهو انه ما هو المعيار للخير والصلاح؟ وما هو المناط للشر والفساد؟ وجوابه يختلف باختلاف الاديان بل المذاهب والحضارات والاَقوام ولا ضابط له.
لا يقال: مع تشخيص الخير والصلاح من نظر الفقه تدخل عملية تغيير الفكر والصفات في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي حسنة بل واجبة.
فإنّه يقال: الامر والنهي المذكوران تشريعيان لا تكوينيان، وبعبارة أُخرى أنّهما لاحداث الداعي في نفس المكلف لاتيان المعروف وترك المنكر ولا يجب على المكلف من باب الامر بالمعروف إيجاد العمل بالقوة بتوسط المتخلف وتارك الواجب، ولا يجب أخذ الدارجة من يد السارق ولا وضع اليد على فم من يغتاب أو يسب أو يفتري أو يغني ونحو ذلك وإنْ شئت فقل: إنّ الامر والنهي المذكورين غير الدفع والردع، وهذا واضح. نعم فيما علم من مذاق الشرع ذلك جاز أو وجب الدفع كما في الزنا واللواط والقتل مثلاً. والمقام من قبيل الدفع ولا يدخل في باب الارشاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
( 285 )
المسألة الرابعة والثلاثون
نزع عضو من ناقص الخلقة
لا يجوز انتزاع عضو من مولود ناقص الخلقة ظاهراً أو باطناً كالوليد عديم الدماغ، ويراد بعديم الدماغ الذي يولد وليس له قبو رأس وليس له فصان مخيان، وانما له جزع مخ يقوم على الوظائف الحيوية الاساسية من دورة دموية وتنفس بعد الانفصال حياً بالميلاد ولكنها حياة محدودة موقوتة، ثم يموت بعد ساعات أو أيام أو اسابيع.
وذلك أنه انسان حي فلا يجوز قتله ولا الاِضرار به بوجه حتى لوالديه فضلاً عن غيرهما، ولا فرق في عدم الجواز بين قصر العمر وطوله جزماً.
ومن الاطباء مَن يدعو لجعل غياب المخ مساوياً لموت المخ حتى وان كانت منطقة الجذع حية، ولكن قام الاعتراض على ذلك، لان أخذ عضو حيوي من انسان حي يعتبر قتلاً، وزاد الامر تعقيداً ان التشريح الدقيق اثبت وجود بقايا نسيج مخي متلبسة بجذع المخ وان جذع المخ في بعض الاحيان يكتسب القدرة على القيام ببعض وظائف المخ النائب(1).
وقد يقال: إنّ تشخيص حالة اللادماغية يمكن التوصل إليه بصورة مؤكدة بمجرد النظر إلى رأس المولود وبناء على المعايير، كعدم وجود جزء كبير من الجمجمة، وكعدم وجود فروة رأس في منطقة الجزء الغائب من الجمجمة، وكوجود انسجة ليفية نازفة مكشوفة، وكعدم وجود نصفي كرتي
____________
(1) ص178 وص179 رؤية اسلامية لزراعة بعض الاعضاء البشرية.

( 286 )
الدماغ(1).
لكن قال بعضهم: إنّه تبيّن أنّ تشخيص موت المخ في الوليد عديم الدماغ من الصعوبة بمكان...(2).
____________
(1) ص202 نفس المصدر.
(2) ص179 نفس المصدر.

( 287 )
المسألة الخامسة والثلاثون
هل هو شخص سابق أو جديد؟
إذا قدر الطب أنْ يحتفظ جسد المريض بالتبريد قبل موته قليلاً أو بعد موت الدماغ بدقائق فيحفظه خمسين أو مائة سنة مثلاً ثمّ اعاده إلى وضعه الذي كان عليه قبل التبريد وازال مرضه السابق فصار حياً سليماً(1)، فهل هو انسان جديد أو انسان سابق؟
وهنا سؤال ثان وهو أنّ مثل هذا التبريد ما هو حكمه شرعاً؟
أما جواب السؤال الاَوّل فالواقع أنّ حقيقة الانسانية ليست بهذا الهيكل المحسوس وإنْ كان له دخل في أفعال الروح وتصوراتها وافكارها الى حد، وانما قوامها بروحها الناطقة فان كان هذا الحي بالفعل من حيث عقائده وعلومه وذاكراته مثل ما كان في الحياة السابقة فهو ذاك الانسان السابق، ويترتب عليه جميع أحكامه الشرعية وما يتعلق بروابطه الاجتماعية والحقوقية والاخلاقية، وان لم يكن مثل السابق فيمكن أن يقال بأنّه شخص جديد.
هذا هو التصور الابتدائي في هذا المقام لكن الامر لا يخلو عن صعوبة، وذلك أولاً، مَن يعلم أنّ روحه ـ في الحياة الثانية ـ جديدة بعد إمكان زوال ذاكرته وتغير معلوماته وعروض النسيان عليه، كما يقول بعض
____________
(1) كما امكن ذلك في حق البييضة الملقحة على ما مرّ في بعض المباحث السابقة، فيمكن غرسها في رحم المرأة بعد خمسين سنة من الانجماد مثلاً.

( 288 )
العلماء بمثله في موضوع عالم الذر والميثاق، بل وكل من يقول بتقديم خلق الروح على البدن يلتزم بنسيان الروح مشاهداته في تلك المرحلة قبل الولادة، ومن الممكن نسيان ذكره وتغير ملكاته بعد التبريد أو بعد الحياة المجددة.
وثانياً: أنّه لا شاهد من التاريخ والتجربة على توارد روحين على بدن واحد متعاقباً.
وعلى كلّ فمع الشكّ في الوحدة والتعدد يجري استصحاب بقاء الشخصية وعدم تعلق روح آخر به وبقاء تعلق الروح السابقة بالنسبة إلى الاحكام الشرعية.
هذا كله بناء على أنّ التبريد المذكور يوجب موته، وعليه يبطل زوجيته لزوجتها بالموت كما سبق بحثه وفي لزوم رد ما أخذه الورثة إليه بحث.
وأمّا إذا كان الشخص في حال تبريده حياً بنوع من الحياة فالفرد المذكور هو الفرد السابق بعينه وحال تبريده كحال نومه. وهل يجب عليه قضاء صلواته وصيامه؟ فيه وجهان.
وأما جواب السؤال الثاني وحكم هذا التحفظ فأقول: الظاهر عدم وجوبه لعدم دليل على وجوب حفظ النفس بهذا النحو، فهو أمر جائز بناء على بقاء حياته، واما بناء على موته فلا يبعد تحريمه، فتأمّل ثمّ إذ قبل التبريد حرماً ـاي ثبت أنّ التبريد حالة موت وانقطاع روح عنه فهو محكوم بالموت، فإنّ شكّ الورثة في عودة حياته فيجوز لهم تقسيم ماله ويجوز لزوجته الزواج بعد عدة الوفاة ولزوجها نكاح اختها مثلاً، وكذا يجب العمل ببقية أحكام الموت كقضاء عباداته وقضاء ديونه والعمل بوصاياه وان علموا بعودة حياته ـ ولو بحسب التجربة ـ فالحكم بموته لا يخلو عن إشكال بل منع، والله اعلم.

( 289 )
المسألة السادسة والثلاثون
توضيح حول مرض الايدز
وفيه مطالب اثنا عشر:
(الاَوّل): أصبحت عدوى الاَمراض الجنسية عامة منتشرة في العالم على نطاق واسع، إذ تصاب الآن في كل عام أكثر من مائتين وخمسين مليون حالة جديدة، وأمّا عدوى الايدز وحده فقد أصابت خلال السنوات القليلة الماضية عدداً يقارب أربعة عشر مليوناً من البشر، وينتظر أنْ يرتفع هذا العدد بحلول سنة ألفين إلى أربعين مليوناً أو يزيد(1) (لله الاَمر من قبل ومن بعد)(2).
وأهم طرق العدوى بفيروس الايدز هو ما يأتي:
1 ـ الاتصال الجنسي الذي يكون أحد طرفيه مصاباً بالعدوى سواء بين أفراد الجنس الواحد أو الجنسين، هذا الطريق يمثل أكثر من 90% من حالات العدوى، وهناك ممارسات جنسية معينة تزيد من خطر انتقال العدوى مثل تعدد القرناء الجنسين واللواط والمخالطة الجنسية للبغايا وكذلك وجود امراض تناسلية أُخرى(3).
وقيل: إنّه إذا جامع الرجل المريض بالايدز زوجته فاحتمال الاصابة نصف في المئة: لكن قيل: إنّ معنى ذلك إذا كان الرجل في شبابه قوياً
____________
(1) ص42 رؤية اسلامية للمشاكل الاجتماعية لمرض الايدز.
(2) الروم آية 4.
(3) ص61 نفس المصدر.

( 290 )
يجامع في الاَُسبوع مرتين وثماني مرات في الشهر و96 مرة في السنة كان احتمال الاصابة أكثر من 40 أو من 50% في السنة الواحدة، فتصبح النسبة ضخمة(1).
2 ـ الحقن بمحاقن ملوثة بفيروسات المرض كما يحدث عند اشتراك مدمني المخدرات في حقن انفسهم بمحاقن وإبر ملوثة.
3 ـ الدم ومشتقاته، سواء بنقل الدم العلاجي أو باستخدام الابر والمحاقن الملوثة بالفيروس.
4 ـ انتقال العدوى من الام للجنين: دل استعمال أحدث طريقة لكشف جزئيات الفيروس، على أنّ نسبة إصابة الجنين وهو في داخل الرحم بالعدوى هي نسبة ضئيلة لا تتجاوز عشرة بالمائة، وتحدث معظم حالات العدوى للجنين في أثناء الولادة من جراء تلوث الجنين بالمفرزات التناسلية المعدية بمعدل ثلاثين بالمائة، ولا تنتقل العدوى من الام إلى الجنين في ستين بالمئة من الحالات(2).
وقال بعض الاَطباء: إنّ الدورة الدموية للام والجنين لا اتصال بينهما، والدورة الدموية للجنين مستقلة تماماً عن الدورة الدموية للاُم، لكن بعض العوامل المرضية قد تخترق المشيمة، ولكن هذا لم يثبت فيما يتعلق بالنسبة للايدز(3).
(الثاني): كلمة الايدز مركبة في الاَحرف الاَُولى بالانجليزية لاسم مرض خطير يدعى «متلازمة العوز المناعي المكتسب» وهو متلازمة أي
____________
(1) ص535 نفس المصدر.
(2) ص62 نفس المصدر.
(3) ص328 نفس المصدر.

( 291 )
مجموعة من الاَعراض المرضية تتلازم وتتزامن، وهو مكتسب لاَنّ الانسان يكتسبه إكتساباً بالعدوى.
ولما كان الجهاز المناعي في هذا المرض يتم تدميره تدميراً كبيراً فإنّ الانسان يصاب بعوز مناعي ـ أي نقص شديد في عناصر المناعة ـ ينجم عنه عجز الانسان عن مجابهة سائر أنواع الجراثيم بما في ذلك تلك الجراثيم التي ليس من عادتها أن تحدث المرض في الانسان، ولكنها تنتهز فرصة العوز المناعي لتحدثه ولذلك تدعى الجراثيم الانتهازية.
ومرض الايدز هذا يسببه فيروس وهو كائن دقيق لا يرى إلاّ بالمجهر الالكتروني، يطلق عليه اسم «فيروس العوز المناعي البشري» وهو ينتقل من الانسان الى الانسان بواسطة سوائل البدن التي تحتوي عليه (المني وسوائل عنق الرحم وسائل المهبلي والدم)(1).
(الثالث): العدوى نزول الجرثوم بساحة البدن، أي دخوله إليه وتكاثره فيه، وليس تعني العدوى حتماً حدوث المرض، لاَنّ الله سبحانه قد زوّد الانسان بجهاز مناعي يتولّى مسؤولية الدفاع عن البدن ضد كل عدوى تسومه، ويقوم الجهاز المناعي بواسطة أصناف متعددة من الخلايا منها ما يهاجم الجرثوم بذاته فيلتهمه أو يقتله، ومنها ما يهاجم الجرثوم بمفرزاته (التي نسميها الاجسام المضادة أو الاضداد)، ومنها ما يساعد الاصناف الاَُخرى من الخلايا في الهجوم فيقوم بدور المؤازر والمساعف ومن أجل ذلك إذا حدثت العدوى فيمكن أن تتطور الاَُمور في أحد اتجاهات أربعة:
____________
(1) ص60 وص61 نفس المصدر.

( 292 )
أولها: أنْ تتغلب وسائل المقاومة في البدن على الجرثوم وتقضي عليه، فلا تظهر أعراض المرض.
وثانيها: أنْ يتغلّب الجرثوم ابتداء على وسائل دفاع البدن فيحدث مرض عدوائي (أي ناجم عن العدوى) قد تكون مدته قصيرة وقد تطول، وفي النهاية إما يتغلب الجسم فيحدث الشفاء، أو يتغلب الجرثوم فتحدث الوفاة.
وثالثها: أنّ تقوم وسائل المناعة بتعويق الجرثوم المعتدي وتضيق عليه الخناق ولكنه يبقى حياً متربصاً ينتهز الفرصة للانقضاض.
ورابعها: أنْ تصل الحرب بين وسائل الدفاع وبين الجرثوم إلى مرحلة هدنة مسلحة لا يقضي فيها الجسم على الجرثوم ولا يؤذي الجرثوم الجسم، ولكن الشخص يمكن أنْ ينقل الجرثوم إلى جسم آخر فيسبب فيه العدوى وربما المرض ويسمى الشخص في هذه الحالة بحامل الجرثوم.
(الرابع): بعد أنْ تتم العدوى بهذا الفيروس فإنّه يختفي بسرعة داخل بعض الخلايا ويأخذ في التكاثر تدريجاً وفي تدمير هذه الخلايا.
وتمر العدوى في الجسم بمراحل من أهمها مرحلة الكمون، يهاجم خلايا الجهاز المناعي مما يؤدي إلى تناقص عددها شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى المستوى الحرجي الذي لا يستطيع معه الشخص المصاب مقاومة جراثيم الاَمراض أو الخلايا الضارة مثل الخلايا السرطانية، فيحدث ما هو معروف بمرض الاِيدز (أي الاتصاف باعراض وعلامات مرضية ظاهرة ترافقها أمراض الجراثيم الانتهازية والاورام الخبيثة)(1)، والغالب أنّ
____________
(1) ص63 نفس المصدر، في فترة ما بعد عام 1983م عرف ان للمرض فيروساً واعراضاً منها ارتفاع في درجة الحرارة، هزال، وفقدان للشهية والوزن تضخم في

=


( 293 )
المريض الذي يصل إلى هذه المرحلة يموت خلال فترة قصيرة قد تكون أشهراً قليلة ولا تتعدّى السنتين.
وتكون مرحلة الكمون ـ أي ما بين العدوى وبين ظهور الاَمراض المميزة للمرض ـ قصيرة نسبياً في الاطفال (أقل من سنتين) وتتراوح في البالغين ما بين 7 ـ 10 سنوات، وتقصر هذه المدة بحدوث أمراض أُخرى مصاحبة أو سوء التغذية أو الحمل في المرأة، ولذلك فإنّ متوسّطها في افريقيا خمس سنين لما فيها من سوء التغذية والملاريا، مثلاً في حين يكون متوسطها في أمريكا عشر سنين بفضل التغذية الجيدة والعلاج المناسب للاَمراض المرافقة، ويكون الشخص معدياً طوال هذه المدة(1).
(الخامس): لا توجد شواهد بينة على إنتقال العدوى من طريق الحشرات أو الطعام أو الشراب أو المراحيض أو المسابح (حمامات السباحة) أو المقاعد، أو ادوات الطعام المشتركة أو حتى الملابس المستعملة، وقد ذكرت حالات معدودة في العالم كله، يعتقد فيها أنّ العدوى فيها انتقلت من طريق لبن الام ويظن ظناً أنّ المص الذي يمارسه الرضيع مع ما يرافقه من ضغط شديد على الغشاء المخاطي الرقيق في فمه قد يؤدي إلى انتقال العدوى إذا كانت حلمة الثدي متشققة دامية لكن الاحتمال ضئيل جداً(2)، وقيل: إنّ الطعام والشراب الملوث والمستقذر لا يبعد أنْ يكون سبباً لهذه المرض(3).
____________
=
الغدد الليمفاوية (السهال) ضعف في البنية، سهولة الاصابة بامراض أُخرى نتيجة للميكروبات الانتهازية.
(1) ص59 وص60 وص63 رؤية اسلامية للمشاكل الاجتماعية لمرض الايدز.
(2) ص62 نفس المصدر.
(3) ص508 نفس المصدر.

( 294 )
(السادس): مدة العزل هي طوال الحقبة التي يكون الشخص فيها معدياً، وهي محدودة في معظم الاَمراض، إما في الايدز فهي العمر كله(1).
(السابع): إنّ نسبة الاصابة حتّى تتطور إلى مرض خلال خمس سنوات من العدوى تتراوح ما بين 25 إلى 30% من المصابين يصبحون في حالات مرضية، وخلال عشر سنوات ما بين 50 إلى 60% يصابون بالمرض، وكلما طالت المدة ارتفعت نسبة التحول من حامل الجراثيم إلى مريض، خلال 14 سنة يمكن لحوالي 95% من الناس الذي أُصيبوا أنْ يتحولوا إلى حالات مرضية.
(الثامن): وأمّا نقل الاَعضاء ففي نقل القرنية ثبت أنّها تنقل العدوى، كذلك نقل السعار في إحدى الحالات، وكذلك نقل الكلى في حالات كثيرة، والآن قلّت احتمالات العدوى بهذه الطريقة لانّه يتم الفحص قبل نقلها.
واما التشريط والحلاقة والحجامة فيمكن نقل العدوى بشرط أنّ يستخدم نفس الموسى، وعليه الدم موجود، ويتم الحلق لشخص آخر قبل أن يجف هذا الدم، فهذا محتمل معه نقل العدوى(2).
(التاسع): استقرت كلمة العقلاء من الغربيين على أنّ هذا المخلوق المدمر للحياة انما نشأ أوّل ما نشأ ثمّ ترعرع في احشاء الشواذ والبغايا ودمائهم وأنّه أطل رأسه أوّل ما ظهر من مستنقع الاباحة التي تسود العالم الغربي حتّى أطلقوا عليه طاعون الشواذ، ولم ينشأ عن القرود ولا من المصانع الحربية ولا من افريقية.
____________
(1) ص65 نفس المصدر.
(2) ص107 نفس المصدر.

( 295 )
هذا بالنسبة للعوامل الرئيسية التي أدّت إلى ولادة هذا المرض، وأمّا بالنسبة إلى طرق انتشاره واحتلاله لمواقع جديدة من اجساد بني البشر فانّ أخطر قنواته هي الممارسات الجنسية الشاذة والادمان على المخدرات والبغاء، واما نقل الدم والتبرع بالاَعضاء والحمل وغيرها لا تشكل في فاعليتها سوى نسبة ضئيلة، وهي قنوات يمكن الاحتياط لها بالمراقبة والضبط(1).
(العاشر): فيروس الايدز لا ينتقل بسهولة كالامراض المعدية الاَُخرى مثل الملاريا والتيفوئيد والكوليرا والحمى الشوكية والسل (الدرن) والتهاب الكبد الفيروسي وغير ذلك من الامراض الجلدية الاَُخرى.
(الحادي عشر): فيروس الايدز لا يدخل جميع خلايا الجسم ولكن ما يصاب من الخلايا يسرع اليه الوصف، فلا يمكن استخراج الفيروس منه إلاّ بموت هذه الخلية، لكن من فضل الله أنّ خلايا المناعة الاَُخرى مثل الخلايا الطبيعية القاتلة، والخلايا الآكلة الكبيرة منها مما لم تصب بالفيروس، وهذه الخلايا إذا أُعيدت إلى حالتها الصحيحة يمكن أنْ تقتل الخلايا الملوثة بالفيروس إذا ما وصلت إلى حالتها الطبيعية. وهذا ما نجد مبشراته الآن لذلك التوازن(2).
(الثاني عشر): نقص المناعة الذي يصاحب مرض الايدز يرشح المريض لعدة مصائب مهلكة لعدم القدرة على المقاومة، ولتوضيح ذلك أقول مختصراً: إنّ الجراثيم أربعة:
1 ـ فيروسات، وهذه يسهلها الاِيدز بجميع أنواعها وأمراضها
____________
(1) ص474 نفس المصدر.
(2) ص522 نفس المصدر.

( 296 )
ومخاطرها ما تعرّض المريض لاستقبالها وهو في الحقيقة كذلك.
2 ـ فطريات، وهذه يساعد الايدز على انتشارها ببعض الطفيليات.
3 ـ ونوع واحد من البكتريا وهي جرثومة السل، وهي تعتمد في انتشارها على الخلية اللمفاوية التي يدمرها ميكروب الايدز لدرجة ان سل الطيور الذي لا يجرؤ على اصابة الانسان السليم يستطيع أنْ يصيب مريض الايدز، وهناك حلف بيلوجي بين جرثومة السل وجرثومة الايدز(1).
نعم إنّ لمرض الايدز خطورة كبيرة على الجهاز العصبي الذي هو مكون من حوالي 100 مليون خلية، هذه الخلايا إذا دخل اليها المرض فإنّه يصيب القشرة السطحية للمخ وتتليف، ويوماً بعد يوم يتكون مثل الحمص من الخلايا التي تموت وتتجمع ثم يصيب الخلايا «البيزل جانجلي» ومعناه (خلايا في قراع المخ) ثمّ يبدأ فيصيب الخلايا الاَُخرى المختلفة في المخ.....

خاتمة مؤسفة
نشرت مجلّة «زد ماغازين» حول الايدز ودعارة الاَطفال والاَسواق الحرة في مملكة تايلند...: وازدادت صناعة الجنس في تايلند بعد ابرام معاهدة في العام 1967م والتي كانت تقضي بالسماح للجنود الاَمريكيين بالاتيان إلى تايلند من فيتنام لاَجل الراحة والاستحمام، وبحلول عام 1974م وصلت أماكن اللهو والدعارة إلى أكثر من عشرين ألف مكان فيما رصدت دراسة دوائر الشرطة أكثر من 400 ألف مومس وعاهرة في ذلك
____________
(1) ص449 المصدر.

( 297 )
العام بالذات... وفي يونيو 1989 وجد باحثون بأنّ نسبة 3،17% من المومسات... يحملن فيروس الايدز الايجابي، وبحلول ديسمبر لعام 1989 قفزت إلى أكثر من 4،20%، وفي العام 1990 قدرت نسبة الاطفال العاملين في صناعة الدعارة الذين اصيبوا بفيروس الايدز الايجابي على صعيد البلاد كلها بحوالي 60%، وفي العام الجاري (1993) بلغ عدد المصابين بالايدز حوالي 600 ألف مصاب، ويزداد عدد المصابين بالايدز حوالي 1200 شخص تايلندي في اليوم الواحد. وفي العام 1993 يولد 3000 طفل مصاب بمرض الايدز... وتقدر منظمة الصحة العالمية أنّه بحلول عام 1997 فإنّ عدد الاشخاص المتوقع أن يموتوا بمرض الايدز يتراوح ما بين 12500 و150000 شخص(1).
أقول: وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.
ثمّ إنّ المستفاد من هذا ومما مر في المطلب التاسع وغيره(2) أنّ سبب فيروس الايدز هو اللواط ومباشرة البغايا مع تعدد القرناء، والمستفاد من غيرها أنهما سبب الانتقال دون سبب الوجود، وعلى هذا فلم يذكر سبب وجود هذا الفيروس في كلام الاطباء، وكأنه لعدم علمهم به حتى الآن.
____________
(1) ص281 نفس المصدر.
(2) ص181 المصدر.

( 298 )
المسألة السابعة والثلاثون
الاَحكام الفقهية المتعلقة بمريض الايدز وبكل مرض معد
1 ـ يحرم على المريض بالايدز ـ وبكل مرض معدٍ كجملة ما اسميناها في المطلب العاشر من المسألة السابقة ـ نقل مرضه إلى غيره من المسلمين وأهل الذمة والمعاهدين لحرمة الاضرار بهم جزماً، ويعاقب المخالف المتعمد بما يراه الحاكم الشرعي صلاحاً، ويمكن تحريم نقل الجرثومة إلى الغير وان لم تكن بالفعل مرضاً له.
وعلى كل الاِضرار حرام بأي وجه اتفق حتى بمثل السحر ونحوه، بل العقل يقبّح حرمة الاضرار بالجن والحيوان وكل ما يحس الاَلم، وبمقتضى قاعدة الملازمة يمكن أنْ نقول بحرمة ذلك شرعاً، وكذا باطلاق قوله صلى الله عليه وآله «لا ضرر ولا ضرار» فيحرم الاِضرار مطلقاً إلاّ فيما دل الدليل الشرعي على الجواز كذبح الحيوان واستثماره.
2 ـ إذا نقل المريض فيروس الايدز ـ أو أي مرض معد آخر ـ إلى غيره فمات به ذلك الغير ولو بعد مدة وثبت علمياً استناد موته إلى نقل العدوى، فان كان الناقل متعمداً جاز لولي الميت قصاص الناقل إذا كان المرض مهلكاً، وإذا كان الناقل جاهلاً أو غافلاً يجب عليه الدية على ما تقرر في كتاب الديات.
3 ـ يستحق المنتقل اليه أخذ الغرامة عن الناقل وحيث إنّه لا دية مذكورة له ففيه الارش، وتكميل البحث فيه بذكر فصول ثلاثة:

( 299 )
(الاَوّل): في اصل لزوم الارش في غير ما ورد فيه الدية:
قال صاحب الجواهر رضي الله عنه في بحث ديات الاَعضاء(1) في شرح قول ماتنه (كل ما لا تقدير فيه ففيه الارش): المسمّى بالحكومة، وفيه يكون العبد أصلاً للحر كما هو ـ أي الحر ـ أصل له (أي للعبد) فيما فيه مقدر بلا خلاف أجده فيه، بل الاجماع بقسميه عليه، مضافاً إلى إمكان استفادته من النصوص بالخصوص فضلاً عن استفادة عدم بطلان الجناية وكونها هدراً حتى ارش الخدش من الكتاب والسنة، فليس مع عدم تقديره إلاّ الحكومة، وإلاّ كانت جناية لا استيفاء لها ولا قصاص ولا دية، وهو مناف لما يمكن القطع به من الادلة كتاباً وسنةً وإجماعاً.
أقول: فليكن حكم الارش مقطوعاً بما ذكره، وببناء العقلاء عليه، وما ورد من عدم سقوط حق مسلم(2)، وما في أحاديث الجامعة المذخورة عند الائمة عليهم السلام من ثبوت الارش حتّى على الخدش والغمز.
(الثاني) في كيفية الارش:
في الشرائع والجواهر: كل موضع قلنا فيه الارش أو الحكومة فهما واحد اصطلاحاً، والمعنى أنّه يقوّم المجروح صحيحاً لو كان مملوكاً تارة ويقوّم مع الجناية أُخرى وينسب إلى القيمة الاَُولى ويعرف التفاوت بينهما ويؤخذ من الدية للنفس لا للعضو بحسابه، أي التفاوت بين القسمين...
وكيف كان، فهذا في الحر الذي يكون العبد أصلاً له في هذا الحال ضرورة توقف معرفة الفائت على ذلك بعد عدم التقدير من الشارع له،
____________
(1) ص168 ج43.
(2) الكافي ج 7 ص 302 والتهذيب ج 10 ص 232 والفقيه ج 4 ص 114 نسخة الكامبيوتر.

( 300 )
والفرض كون الجملة مضمونة بالدية فتضمن الاَجزاء منها، فيستكشف بذلك كما يستكشف تفاوت المعيب والصحيح ثم يرجع بعد إلى ثمن الذي ضمن به المبيع، فكذلك هنا، وهو واضح(1).
(الثالث): ما يمكن أن يقال في المقام وبالله الاعتصام:
لا يبعد أنْ يلزم الجاني بدفع جميع ما يحتاج المريض إلى صرفه في علاجه من ثمن الاَدوية وأجر الاَطباء وما يصرف في مقدمات التداوى حتّى أجرة السيارة وكذا ما يفوت على المريض من منافعه اليومية لاَجل المرض، وهذا هو طريق العقلاء في أخذ الغرامة من المعتدي، ولاحظ الفصل الثالث من كتاب إجارة العروة الوثقى (المسألة الثالثة)، ولا يحصل لنا علم من اجماع الجواهر، فلا يكون حجة لنا.
على انّه لا سبيل لنا في مثل هذه الاعصار إلى قيمة العبد ولا وجود له في بلادنا(2). ولا أدري رأي أهل الاستنباط ـ أيدهم الله ـ في هذا العصر، غير أن ما ذكرنا هو الارجح.
واما في الاَمراض التي لا علاج لها فتعيين ارشها موكول إلى نظر الحاكم بمشورة أهل الخبرة منهم الاَطباء، مضافاً إلى غرامة منافع المريض اليومية الفائتة لاَجل المرض عليه.
ويمكن أنْ نقول في نقل فيروس الايدز إنّه يهدم مناعة البدن وهي واحدة، فاتلافها يوجب الدية كاملة. لكن قيل: إنّ هذه القاعدة في خصوص الاعضاء دون المنافع، ففي صحيح هشام بن سالم المروي في
____________
(1) لاحظ ج 43 من الجواهر.
(2) بل المسلمون اليوم اسراء بيد الكفار في العالم وثله منهم يسعون لفكاك رقابهم منهم.

( 301 )
الفقيه عن أبي عبدالله عليه السلام قال: كلما كان في الانسان اثنين (اثنان ـ يب) ففيهما الدية في احداهما (احدهما ـ يب) نصف الدية، وما كان (فيه ئل) واحداً ففيه الدية(1).
أقول: تقييد الخبر أو انصرافه إلى خصوص الاعضاء محتاج إلى دليل قرينة كقوله عليه السلام في أولّ الخبر: «اثنين»، وإلاّ فالخبر يشمل الصفات النفسية أيضاً مضافاً إلى قواه البدنية، لاَنّ الموضوع هو الانسان، وهو مركب من البدن والنفس دون خصوص البدن.
وربما يورد على ما ذكره صاحب الجواهر أيضاً، أنّ الاَجزاء في الحر ليست قيمتها منسوبة إلى قيمة الانفس كما هو كذلك في السلعة فتشبيه السلعة بالنفس غير ظاهر الوجه بل قد يكون قيمة الاجزاء عشرين أضعاف قيمة الكل، واللازم في الارش هو التقدير حسب المناسبات العرفية المستفادة من حكم الشارع بمقادير الدية، ويمكن أنّ يجاب عنه بأنّه أهمل في باب الديات، مثلاً يد الخطاط الماهر وبعض اهل الصنعة لها منافع كثيرة مع عدم الاختلاف في دية قطع اليد.
4 ـ على الحكومة أنْ تراقب كل المرضى بالاَمراض المعدية على أنْ لاينقلوا العدوى إلى الاصحاء مراقبة بمقدار اللازم لا أزيد، والاَمراض في العدوى مختلفة، وقد تقدم في المسألة السابقة أنّ مرض الايدز أخف الامراض المعدية، فلا بأس بذهاب المريض به إلى معاهد التعليم والتعلم والمعامل والمؤسسات الحكومية وغيرها، وإنما يراقبون في خصوص الطرق الاَربعة الناقلة إلاّ إذا ثبتت العدوى بغيرها أيضاً، فتتسع المراقبة.
____________
(1) ص378 ج26 جامع احاديث الشيعة.

( 302 )
فائدة طبية حول الاَمراض المعدية
الامراض المعدية التي تنتقل من المريض إلى آخر تختلف طرق ووسائل انتقالها من مرض إلى آخر، فمنها ما ينتقل بواسطة التنفس كأمراض الجهاز التنفسي كالانفلونزا الرئوي، ومنها ما ينتقل بواسطة الفم كامراض الجهاز الهضمي مثل الدوسنتاريا والتيفوئيد، ومنها ما ينتقل عن طريق المعاشرة الجنسية مثل الزهري والسيلان، ومنها ما ينتقل بطريق الملامسة كالجدري والجذام، وبعضها ينتقل بواسطة الحقن أو نقل الدم كالالتهاب الكبدي الفيروسي، أو بواسطة وخز الحشرات كالملاريا التي تنقلها البعوضة أو الطاعون الذي تنقله الفئران والبراغيث، وقد يكون للمرض الواحد اكثر من وسيلة لانتقاله كالايدز، إذْ تحقق أنّه ينتقل بالاتصال الجنسي وعن طريق الدم ومشتقاته كزراعة الاعضاء والمخدرات التي تؤخذ عن طريق الحقن(1).
5 ـ إذا احتمل الطبيب عند نقل دم أحد ولو بتوسط زرع عضو منه في بدن الغير إنّ صاحب الدم مبتلى بالايدز أو مرض معدٍ آخر فهل يجب عليه الفحص حتّى الاطمئنان بعدمه أو لا يجب عملاً باصالة الصحة أو إصالة عدم حدوث المرض المعدي أو إصالة البراءة عن وجوب الفحص؟ فيه وجهان.
وربما يقال: إنّ الاَصل في النفوس والفروج والاَموال الكثيرة هو الاحتياط دون البراءة ومقامنا داخل في الاَوّل فانّ مرض الايدز مهلك لا
____________
(1) ص145 رؤية اسلامية للمشاكل الاجتماعية لمرض الايدز.

( 303 )
علاج له لحدّ الآن، لكن هذا القول باطلاقه لا دليل له ويجري الاستصحاب وإصالة البراءة في كثير من جزئيات تلك الموارد الثلاثة كما أوضحه سيدنا الاستاذ الحكيم رحمه الله في الجملة في بعض مجالس دروسه المباركة.
نعم إذا اشترط عليه المريض أو الحكومة الاسلامية الفحص وجب لقوله عليه السلام : «المؤمنون عند شروطهم»(1) ولقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الاَمر منكم)، وأمّا إذا علم الطبيب بأنّه في فرض ترك الفحص يبتلى جمع من المرضى بفيروس الايدز لا محالة، فلا يبعد وجوب الفحص عليه، فتأمل.
** 6 ـ لا يجوز للمريض بالمرض المعدي التزويج أو التزوج بالصحيح الغافل فإنّه إضرار به وهو واضح، وإذا كان المرض مهلكاً ولا يتيسر التحفظ منه للسالم من الزوجين لا يجوز للسالم إجابة المريض للزواج ـ بل لكلّ مصاحبة مؤدية إلى انتقال المرض المهلك إليه ـ لاَنه من الالقاء في التهلكة. نعم إذا تباينا على ترك المجامعة ـ في مثل مرض الايدز ـ جاز النكاح ولم يحرم(2)، وعلى كل إذا رضيا بالنكاح صح النكاح وان حرم إنْ أوجب الاضرار بالنفس، فالحكم الوضعي غير الحكم التكليفي، فتدبّر فيه.
7 ـ إذا تزوّج أو زُوّج جهلاً، بالمريض المعدي ثمّ علم فهل له فسخ العقد إذا كانت العدوى مهلكة أو مضرة إلى درجة كبيرة ولم يتيسر التحفظ منها إلاّ بحرج شديد؟
ج: أما للزوج فثبوت الخيار له في غاية الاشكال لما يستفاد من
____________
(1) تقدم مصدره .
(2) ويمكن أنْ يقال بعدم حرمة النكاح في مثل الايدز دائماً وانما المحرم هو الجماع فإنه الطريق إلى الانتقال، نعم هو من مقدمات الحرام.

( 304 )
الحصر الوارد في بعض الروايات الواردة في العيوب على ما يأتي في المسألة الآتية، فإنها ظاهرة في نفي الخيار في غير العيوب المذكورة في الرواية، نعم له أنْ يطلقها بل يجب عليه في الفرض المذكور. وأما للزوجة فلا يبعد ثبوت الخيار له لقاعدة لا ضرر التي استدل بها لثبوت بعض الخيارات في باب المعاملات، ولقاعدة نفي الحرج(1).
وأي ضرر من ابتلائها بالمرض المهلك أو تدهور صحتها شديداً وفي مرض الايدز بحرمانها من لذّة الجماع ما دام العمر، إلاّ أنْ تلتذ بالدخول ولو مع استعمال الزوج الرفال والعازل الذكري، وقلنا بكفاية ذلك لحقها، فلا خيار لها حينئذٍ. إلاّ أنْ يقال: إنّ زوجها في معرض الموت فلها الخيار من هذه الجهة ويلحق بالايدز كل مرض مهلك سريع، فتأمل.
وغاية ما في الباب أنْ يأمر الحاكم الشرعي الزوج بالطلاق احتياطاً فان عصى تفسخ هي النكاح ويطلقها الحاكم ولاية احتياطاً.
وعدم ذهاب مشهور فقهائنا إلى ثبوت الخيار بالاَمراض المعدية أولاً غير ثابت، لاَنّ كثيراً منهم لا تصنيف لهم أو لم تصل إلينا مصنفاتهم وتأليفاتهم. وثانياً أنّ ضرر الاَمراض المعدية لم يكن واضحة للناس والفقهاء. وثالثاً أنّه غير مانع عن الفتوى بالدليل، وهو قاعدتا نفي الحرج
____________
(1) هذا بناء على عدم شمول صحيح الحلبي الآتي المروي في الفقيه في المسألة الآتية لعيوب الرجل كما عن جماعة، وعليه فالحصر فيه ثابت في الرجل وانه لا يرد النكاح إلاّ من عيوب، وأمّا بناءً على الارجح من شموله لعيوب كل من الزوجين وجواز رد النكاح لكلّ منهما فالحصر ثابت لكليهما، فيمكن أنْ يرفع اليد عنه هنا لقاعدتي نفي الحرج والضرر كما رفع اليد عنه في بعض الموارد الاَُخر كما ستعرف، وهاتان القاعدتان جاريتان في حق الرجل والمرأة. إلاّ أنْ يقال: إنّ جواز الطلاق من طرف الزوج يمنع عن جريان قاعدة الحرج والضرر، فتأملّ.

( 305 )
والضرر الرافعتان للزوم العقد بالنسبة إليها وأمّا ما في الجواهر من قول مؤلفه الكبير رحمه الله : على أنّ العدوى مع اقتضائها التعدية إلى كل مرض معدٍ مما لا يقول به الخصم يمكن رفعه بايجاب التجنب(1)، فهو ضعيف فإنّ الزوجية التي يجب تجنب أحدهما عن الآخر فيهما حرجية أشد الحرج، وأي فائدة لهذا الزواج الفاقد للسكون والمودة والرحمة؟! وليس هو من الامساك بالمعروف.
وربما يتمسك لخيارها بقوله تعالى: (الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان)(2).
وبمكن أنْ نتمسك له أيضاً بقوله تعالى: (وإذا طّلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا)(3). إذ لا فرق بين الامساك المسبوق بالطلاق بعد الرجوع وبين الامساك الابتدائي المسبوق بالنكاح في الحكم، ومعلوم أنّ إمساك الزوجة من قبل الزوج المبتلى بالعدوى أو المريض بالمرض المهلك قريباً في أول الزواج ليس بمعروف. وإذا قصد الزوج المريض بامساكها إضرارها فهو مدول قوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا).
لكن الكلام أولاً أنّ هذا كله يوجب الخيار لها أو أنه يسبب جواز إجبار الحاكم الزوج على الامساك بالمعروف وعدم الامساك للاعتداء، وثانياً
____________
(1) الجواهر ج 30 ص 330.
(2) ويحتمل أنّ المراد من الامساك بالمعروف هو الامساك لسكون النفس اليها لا لاخذ المهر منها كلاً أو بعضها كما قال تعالى بعد ذلك (ولايحل لكم أن تاخذوا مما آتيتموهن شيئاً)، إلاّ ان يقال ان الاطلاق لا يقيد بالاحتمال وقوله لا يحل لكم حكم آخر لا عين الامساك بالمعروف فانه خلاف الظاهر.
(3) البقرة آية 231.

( 306 )
في أنّه لو لم يقبل الزوج أمر الحاكم ولم يطلقها أو لم يصلح شأنه ـ إذا كانت المشكلة اختيارية غير قهرية كالامراض المعدية ـ فما هو الموقف؟ هل يثبت الخيار للزوجة أو يطلقها الحاكم ولايةً عليه؟
ثمّ إذا لم يتم الاستدلال بالآيات ولا بقاعدتي نفي الضرر والحرج بل ولا بقاعدة نفي العسر على ثبوت الخيار لها يمكن أنْ نثبته لاَجل التدليس، فإنّ المرأة لو علمت بحال خاطبها وأنّه مبتلى بالعدوى والمرض المهلك لما رضيت بالزواج منه قطعاً(1)، اللّهم إلاّ بعض النساء لاغراض خاصة، وهو نادر، والسلامة من مثل هذه الامراض وان لم تشترط صريحة في العقد لكنها مما يبنى الزوجان عليها ويجريان عقد النكاح عليها، ولا فرق على الاَظهر بين الشرط المذكور صريحاً في العقد وبين الشرط المبني عليه العقد، وسيأتي في المسألة الآتية بعض الكلام حول التدليس إن شاء الله.
** 8 ـ لا يجب على الزوجة التمكين من الزوج المريض إذا احتملت الضرر المهم بالمباشرة وربما لا يجوز إذا كان الضرر مهلكاً أو شبهه، كما لا يجب على الزوج وطء الزوجة المريضة بالايدز ونحوه لذلك إذا كان احتمال الضرر بعد تثبيته راجحاً عند العقلاء، وبالجملة: حرمة الاضرار بالنفس أهم من وجوب أداء حق الزوجين، فتقدم عليه عند التزاحم، نعم لا مانع من سائر الاستمتاعات في مرض الايدز لما سبق من عدم نقل العدوى بها. وكذا يجب أداء حق الزوجين في الوطء إذا اطمأنا بقول الطبيب الثقة الماهر بعدم العدوى مع استعمال الرفال والعازل الذكري.
وعلى الجملة: ليس البحث في الصغريات وكيفية العدوى وإنّما
____________
(1) وسكوت الزوج عن مرضه مع بناء الناس على اصالة الصحة وغفلة الزوجة عن احتمال مرضه تدليس.

( 307 )
البحث في أصل كلي وأنّ حفظ الضرر المهم مقدم على حقوق الزوجين، وتشخيص الضرر كماً وكيفاً موكول إلى الطب.
** 9 ـ لا يجوز دخول المرضى بالامراض المعدية في المدارس والمعامل والدوائر، ويجب على أولياء الاَطفال منعهم عن المدارس، وأما المصابون بالايدز فلا بأس بذهابهم بين الناس مع الرقابة على مسألة الدم والمباشرة.
10 ـ لا يجب عزل الصبي عن أُمه المصابة بالايدز، بل لا يجوز، لحق الحضانة، وذلك لما مر من عدم نقل العدوى باللبن مع التحفظ على مسألة الدم، والاَحسن عدم إيجار المرضعة المصابة بالايدز، نعم يجب عزله عن الاَُم المصابة بمرض يعدي باللبن أو بالتماس الجسمي ويسقط حق حضانتها.
11 ـ لا يجوز إجهاض الجنين المصاب بالايدز بعد تعلق الروح به قطعاً، واما قبله فان كانت الاصابة به مظنونة فكذلك، وإنْ كانت مقطوعة طباً فالحكم بجواز اجهاضه مشكل جدّاً، وان فرض موته أثناء سنة بعد ولادته.
12 ـ إذا فرضنا قيام فئة ـ من الرجال أو النساء ـ بأمر حكومات كافرة عدوة للمسلمين بنشر الايدز بين المسلمين، فحكم هؤلاء الفئة حكم الساعين في الارض فساداً.
13 ـ ليس كل مصاب بالايدز مجرماً، لاَنّه قد ينتقل المرض إليه من دون تقصير له ولا تخلف عن حكم شرعي، فلا يجوز بهم سوء الظن.
14 ـ هل يجوز اشتراط السلامة من الايدز وكل مرض معدي في النكاح؟ الظاهر عدم المانع منه.
( 308 )
15 ـ هل يحق للدولة تحتم الفحص عن الايدز بل عن كل مرض معد عن كل من يريد التزويج والتزوج، وان استلزم مؤنة كثيرة على الزوجين؟ الاَُولى إحالة هذا الحكم إلى الحاكم الشرعي فيحكم باللزوم أو عدمه حسب شرائط الظروف والوضع الصحي، وقيل: إنّ في خلال الاشهر الثلاثة الاَُولى من العدوى يمكن أنْ لا يظهر الايدز.
16 ـ قيل: إنّه لا مانع من زواج المصاب والمصابة بالايدز لعدم الضرر عليها حنيئذٍ، وقيل: إنّ جماعهما يمكن أن يساعد على اضعاف صحة كل منهما، وبالتالي يمكن ان تظهر ذرية جديدة مصابة بالايدز، وتظهر وحدات جديدة للفيروس، إنّ فيروس الايدز يغير جلده من آن إلى آخر(1).
أقول: إذا كان احتمال الضرر المزيد ثبت طبياً وكانت الزيادة خطيرة فلا يبعد تحريم الوطء عليهما.
ثم إنّه يمكن أنْ يقال: إنه لا فرق في الحكم بين نقل فيروس الايدز إلى انسان سالم وبين توليد انسان مريض بالايدز من الاَوّل، فإنّ العقل يقبّح كليهما، وعليه فلا يحل للزوجين ما يوجب حمل الزوجة بجنين يعلمان ابتلائه بالايدز ونحوه من الامراض المهلكة، والله العالم.
17 ـ هل يضمن الطبيب إذا نقل العدوى إلى سالم عمداً أو سهواً؟ تقدم بحثه مفصلاً في المسألة الثالثة في أوائل الكتاب فلا نعيده هنا، فلاحظ.
18 ـ هل يجوز للمصاب أو المصابة الاحبال والحمل إذا لم يعلما
____________
(1) ص327 رؤية اسلامية للمشاكل الاجتماعية لمرض الايدز.

( 309 )
بابتلاء الجنين بالمرض والاَصل عدم ابتلائه به بعد ما تقدم في المسألة السابقة من كون نسبة إصابة الجنين بالايدز غير عالية؟ فيه وجهان.
19 ـ ولو اختلف الزوجان فرغب أحدهما في الحمل وامتنع الآخر عنه، فالظاهر أنّه لا وجه لاجبار الممتنع لا سيما في مثل الايدز، فتفطر القلب حزناً وأسىً على الوليد الذي يتمزق ويحترق، ولا علاج له ولا دواء.
** 20 ـ هل مرض الايدز مرض الموت؟ ومرض الموت يمنع فيه المريض عن التبرعات المنجرة الزائدة عن الثلث في ماله عند جمع كثير من فقهائنا المحققين رضي الله عنهم(1)، فتشخيصه مهم ومفيد.
قال بعض الفضلاء من أهل السنة(2): إنّ الفقهاء اختلفوا في التعريف بمرض الموت اختلافاً كثيراً لا يرجع إلى نصّ من كتاب وسنة وإنّما مردّه إلى الاجتهاد والنظر، فقال بعضهم: مرض الموت هو الذي يقعد الانسان عن عمله المعتاد في حال الصحة... وعن ابن عابدين ـ إنْ علم أنّ به مرضاً مهلكاً غالباً وهو يزداد إلى الموت فهو المقبر، وإنْ لم يعلم أنه مهلك يعتبر العجز عن الخروج للمصالح... (رد المختار 2|716) وقيدته مجلّة الاَحكام العدلية (1595م) بأنْ يموت المريض قبل مرور سنة من الاصابة به، وقيل غير ذلك.
وقال أيضاً: والذي يستخلص من كلام جمهور الفقهاء وتقريرات محققيهم أنّ مرض الموت هو المرض المخوف الذي يتصل بالموت ولو لم يكن الموت بسببه (الام للشافعي 4|35 ـ مغني المحتاج 3|50) فعلى هذا يشترط لتحققه أنْ يتوافر فيه وصفان:
____________
(1) الجواهر ج 26 ص 63.
(2) ص461 رؤية اسلامية للمشاكل الاجتماعية لمرض الايدز.

( 310 )
أحدهما: أنْ يكون مخوفاً، أي يغلب الهلاك منه عادة أو يكثر... ويكفي الآن وقد تقّدّم علم الطب أنْ يرجع إلى الاَطباء الخبراء في طبيعة المرض وأعراضه.
ثانيهما: أنْ يتّصل المرض بالموت سواء وقع الموت بسببه أم بسبب آخر خارجي عن المرض كقتل أو غرق أو حريق أو تصادم أو غير ذلك.
وألحقوا بالمريض مرض الموت في الحكم اشخاصاً في حالات مختلفة ليس فيها مرض أو اعتلال صحة وإنما توافر فيها الوصفان المشترطان.
1 ـ ما إذاكان الشخص في الحرب والتحمت المعركة واختلطت الطائفتان في القتال، قالوا: فإنّ توقع التلف هنا كتوقع المرض أو أكثر.
2 ـ ما إذا قدم الشخص للقتل سواء أكان ذلك قصاصاً أو غير ذلك.
3 ـ الاسير والمحبوس إذا كانا من العادة أنْ يقتلا.
4 ـ ما إذا ركب البحر وتموج واضطرب وهبت الريح وخاف الغرق فهو مخوف.
أقول: يلحق به راكب السيارة والطائرة في بعض الحالات.
5 ـ المراة الحامل إذا اتاها الطلق (بناء على شرائط الظروف القديمة).
ويشترط في هذه الحالات كلها وما أشبهها أنْ يتّصل حال خوف الهلاك الغالب أو الكثير بالموت حتّى تلحق بمرض الموت.
وقال: بناء على هذا فإنّه يمكننا اعتبار المصاب بمرض الايدز في مرض الموت نظراً لتوفر مناط التعليل فيه (كونه مخوفاً واتّصاله بالموت).
وقال بعض آخر من أهل العلم من أهل السنة(1): مرض الموت هو
____________
(1) ص523 نفس المصدر.

( 311 )
المرض الذي يعقبه الموت... ومرض الايدز يمر بمراحل مرحلة الاصابة، مرحلة الكمون، مرحلة التهيج والقضاء... وفي هذه المرحلة فقط يمكن اعتباره مرض الموت (فإنّه يصل إلى حد انهاك الجسم وقتل قوة المناعة في الجسم أو ظهور أمراض عصبية قاتلة).
أقول: الظاهر أنّ كل مَن يقول بأنّ مرض الايدز مرض الموت يقصد هذه المرحلة، ولا بد أنْ يكون كذلك.
وأما إلحاق الاشخاص الآخرين الذين ذكرنا اسماءهم في الموصوفين بمرض الموت ففيه بحث فان ما استدل به لمنع نفوذ التبرعات الزائدة عن الثلث في المال من الاحاديث الواردة من طريق الشيعة ليس الموضوع فيها مرض الموت، بل في جملة منها «عند موته»، وفي بعضها «حضره الموت» وفي بعضها ـ في حق المرأة ـ «في مرضها» وعلى هذا فلا يبعد شمول قوله عليه السلام «عند موته» أولئك الاَشخاص ومن يشابههم بلا حاجة إلى الالحاق. والعمدة في المقام هو البحث عن دلالة تلك الاَحاديث على منع التبرعات المذكورة ولكنها لا تخلو عن نظر، ولذا ذهب الآخرون إلى صحتها، وتحقيقه لا يناسب هذا الكتاب فارجع إلى الكتب المبسوطة.
وعلى كلّ ليس عنوان مرض الموت مذكوراً في الاَحاديث المعتبرة ظاهراً، فإنْ قلنا بحجر المريض عن التبرعات المذكورة فلابدّ من الاكتفاء على القدر المتيقن، وفي غيره يرجع إلى صحتها لبطلان القياس عندنا.