بمناسبة الذكرى المئوية الثالثة
لوفاة العلامة المجلسي
(قدس سره)
(1110 هـ )

الحديقة الهلالية
من
حدائق الصالحين

سلسلة مصادر بحار الأنوار
(9)

الـحـديـقـة الـهـلالـيـة

شـرح دعـاء الـهـلال
مـن الصحـيـفـة السّجّـاديـّـة

تأليف
المحقق الكبير العلاّمة الشيخ محمّد بن الحسين العاملي

المعروف بالشيخ البهائي

953 ـ 1030هـ

تحقيق
السيد الموسوي الخراساني
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لأحياء التراث


( 8 )

الأهـداء
الى الّذي ضحى بزهرة شبابه في سبيل مبدئه وعقيدته ..
الى السّائر على نهج الحسين عليه السلام .... الباذل نفسه ومهجته في سبيل الاسلام ..
الى من كان مثال الخلق السّامي والحنان والعطف ..
اليك أيها الشّهيد الحاج محمّد جمال علوان ..
يامن أفلت في ريعان شبابك ولمّا تبلغ السّادسة والعشرين ...
أقدّم ثواب عملي هذا عرفاناً لجميل ألطافك علينا
وانا استشهد بقول الشاّعر

يا كوكباً ما كان أقصر عمره * وكذاك عمر كواكب الأسحار

الخراساني


( 9 )

( 10 )
بسم الله الرحمن الرحيم

( 11 )
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل بريته محمد، واله الطيبين المعصومين ، واللعن على أعدائهم أجمعين .
وبعد :
لايختلف اثنان أن من أقسام المناجاة بين العبيد وخالقهم - وهي المناجاة لدقة - الدعاء، وقد أثبت علماء الأخلاق والعرفان له مراتب .
منها: أن يصدر من اللسان ، ويكون القلب ساهيا غير ملتفت إلى ما يصدر من كلام .
ومعه ، فإن الله لايستجيب الدعاء من قلب لاه (1).
ومنها: أن يصدر من القلب واللسان معاً، ومعه تنصهر الروح في حالة لايعلمها إلآ من كابد الشوق ، كما قيل ، فيكون هناك شعور بحالة من الطمأنينة، ويرى الداعي نفسه عزيزاً، يطلب من خالقه الكريم ما يشاء.
نعم ، عزيز، ولم لا؟ وخالقه كريم ، رحيم ، عطوف .
نعم ، عزيز، ولم لا؟ أليس هو القائل : (ادعوني أستجب لكم ) (2) .
نعم، وهو القائل:(وإذا سألك عبادي عني فاني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعانِ)(3).
____________
(1) اُنظر: مستدرك الوسائل 5: 190 ب 5، استحباب الاقبال بالقلب حالة الدعاء.
(2) غافر، مكية،60:40 .
(3) البقرة ، مدنية ، 2 : 186 .

( 12 )
نعم ، هو قريب ، ولكن بشرط (فليستجيبوا لي ) . إذن ، إذا دعا الله تبارك وتعالى بنية صادقة، وقلب مخلص ، استجيب له ، ولكن بعد وفائه بعهدالله عزوجل .
ولكن ، إذا دعا الله عزوجل لغير نية وإخلاص لم يستجب له ... أليس يقول الله تعالى : (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم )؟!
نعم ، أوفوا، يوف إليكم (1) .
ومن أصدق من الله عهدا ووعدا.
فالعبودية المطلقة لله موجبة للقرب منه ، والقرب منه موجب لاجابته ، وقد أطلق الاجابة والدعاء.
فكل دعاء مستجاب للمتقرب مع توفر الموجب والمصلحة .
نعم (اجيب ) ، ولكن إذا دعاني مؤمناً بي ، ولم يشرك بي ، وأخلص في الدعاء .
والشرك أنواع ، وفي الدعاء أشده وأخفاه ، ومنها الشرك في الأسباب ، والبحث طويل .
هذا،
وللدعاء شروط - ولسنا في مقام التفصيل - منها أن يكون باسلوب لائق بعظمة الخالق البارئ المنعم لفظاً وحالة .
أما الثاني : كالتذلل والتصاغر، والاعتراف بالتقصير، وعدم الاستحقاق لشيء ، وإنما هوفي حالة طلب استنزال رحمته تعالى واستدرار عطفه ظاناً أن حاجته بالباب .
وبعد كل هذا وذاك ، فلا يقنطك إبطاء إجابته ، فإن العطية على قدر النية، وربما اخرت عنك الاجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل وأجزل لعطاء
____________
(1) انظر: مستدرك الوسائل 5: 188 ب 14، استحباب حسن النية وحسن الظن بالاجابة .

( 13 )
الآمل (1) .
وأما الأول - فمن أولى من أولياء الله في الأخذ منهم ألفاظه وجواهره .
وسابقا قيل : إذا خرجت الموعظة من القلب دخلت القلب ، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الاذان .
إذن :
أليس من الحريٌ بنا أن نأخذه ممن أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً!!
أليس من الحريٌ بنا أن نأخذه ممن كلامهم نور وأمرهم رشد ووصيتهم التقوى .
أليس من الحريٌ بنا أن نأخذ الدعاء ممن :
. . . . . . . . . قولهم وحديثهم * روى جدنا عن جبرئيل عن الباري
أليس من الحريٌ بنا أن نأخذ الدعاء من أهل بيت يتصفون بالصفات قبل الأمر بها ! !
أليس من الحريٌ بنا أن نأخذ الدعاء ممن جعلهم الله الوسيلة إليه !!
نعم .
أليس من الحريٌ بنا أن نأخذ المناجاة ممن لقبه أعداؤه قبل محبيه بـ « زين العابدين » و« سيد الساجدين » ! !
أليس من الحريٌ بنا أن نأخذ اصول الدعاء وفروعه وآدابه وألفاظه من الذي يجمع المؤرخون على أنه كان أعبد أهل زمانه ، وأشخصهم ، ومن كان له قصب السبق في هذا المضمار لايجاريه أحد!!!
أليس من الحريٌ بنا أن نأخذه ممن لم ينقل عن أحد ما نقل عنه ، من عبادة وزهد حقيقيين !!
أليس من الحري بنا أن نأخذه ممن لم ينقل عن أحد ما نقل عنه من
____________
(1) انظر مستدرك الوسائل 5 : 192 ب 17، تحريم القنوط وإن تأخرت الاجابة.

( 14 )
خلق رفيع !! ولم ينقل . . . ولم . . . ولم . . . ولم . .. وهلم جراً !!
** كيف لا، وهو إلامام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، الرابع من أئمة أهل البيت عليهم السلام وخلفاء النبي في إمامة المسلمين .
إليك بعض أقوال معاصريه مثل ابن عيينة، ومصعب الزبيري ، والزهري ، وموسى بن طريف ، وهشام بن عروة، والأعرج ، وابن المسيب ، ويحيى بن سعيد، ملخصاً:
«ما رأيت أحداً كان أفقه من علي بن الحسين ، لكنه قليل الحديث ، وكان من أفضل أهل بيته ، وأحسنهم طاعة» (1) .
** «ما رأيت هاشميا أفضل منه »(2) .
«ما رأيت أورع منه » (3) .
«كان أفضل هاشمي أدركته » (4) .
«كان أقصد أهل بيته ، وأحسنهم طاعة» (5) .
«كان من أورع الناس وأعبدهم ، وأتقاهم لله عز وجل » (6) .
وأما ما ينقل من مكارم سيرته فلايحصى ، وإليك منها نماذج :
يقول ابن عيينة : «حج علي بن الحسين ، فلما أحرم واستوت به راحلته ، اصفر لونه ، وانتفض ، ووقع عليه الرعدة، ولم يستطع أن يلبي .
فقيل له :ما لك لا تلبي ؟!
فقال : (أخشى أن أقول : لبيك ، فيقال لي : لا لبيك !!) .
فقيل له : لابد من هذا.
____________
(1) تذكرة الحفاظ 1: 75.
(2) تذكرة الحفاظ : 1 :75 .
(3) تذكرة الحفاظ 1 : 76 .
(4) الطبقات الكبرى5 : 214 .
(5) الطبقات الكبرى5: 215 .
(6) البداية والنهاية5: 104 .

( 15 )
فلما لبى غشي عليه ، وسقط عن راحلته ، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه »،(1).
وموسى بن طريف يحكي : « استطال رجل على علي بن الحسين ، فأغضى عنه ، فقال له : إياك أعني . فقال : (وعنك اغضي )»(2) .
وهذا هشام بن عروة ينقل : «كان علي بن الحسين يخرج على راحلته إلى مكة ، ويرجع ، لا يقرعها » (3) .
وأما عبادته :
فيحكي الحنبلي ما لفظه : سمي زين العابدين لفرط عبادته (4) .
ويصف مالك عبادته بقوله : «بلغني أنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة إلى أن مات ، وكان يسمى زين العابدين » (5) .
وهذا عبدالله بن أبي سليمان يقول : «كان علي بن الحسين إذا مشى لا تجاوز يده فخذه ، ولا يخط بيده ، قال : وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له : مالك ؟
فقال : (ما تدرون بين يدي من أقوم ، ومن اناجي ! ! ) » (6) .
وروى ابن العماد الحنبلي عن الامام السجاد هذه الرواية، التي تدل على عظمة عبادته ورفعتها وهي : (إن لله عباداً عبدوه رهبة، فتلك عبادة العبيد؟ وآخرين عبدوه رغبة، فتلك عبادة التجار؟ واخرين عبدوه شكراً، فتلك عبادة الأحرار) (7) .
هذا أبو نعيم صاحب الحلية يصف الامام بقوله : « . . . زين العابدين ،
____________
(1) تهذيب التهذيب 7 : 268.
(2) تهذيب التهذيب 7 :268 .
(3) سيرأعلام النبلاء 4 : 388 .
(4) شذرات الذهب 1 : 104 .
(5) تذكرة االحفاظ 1 :75 .
(6) الطبقات الكبرى5 : 216.
(7) شذرات الذهب 1: 104.

( 16 )
ومنار المتقين ، كان عابدا وفياً، وجواداً حفياً، . . . كان إذا فرغ من وضوئه للصلاة، وصار بين وضوئه وصلاته ، أخذته رعدة، ونفضته ، فقيل له في ذلك .
فقال : ( ويحكم ، أتدرون إلى من أقوم ؟ ومن اريد اناجي ؟ ! ! ) » (1) .
وهذا قول ابن الجوزي في كتابه : «كان - علي بن الحسين - لايحب أن يعينه أحد على طهوره ، وكان يستقي الماء لطهوره ، وفي مره قبل أن ينام ، فإذا قام من الليل بدأ- بالسواك ، ثم يتوضأ، ثم يأخذ في صلاته . . . » (2) .
وكان الزهري إذا ذكر الامام يبكي ويقول : « زين العابدين ! ! » (3) .
هذا غيض من فيض ، ومن هنا نعلم سر ما في هذه الأدعية التي رويت عنه عليه السلام من التأثير في النفوس ، والنفوذ إلى العقول ، والسموٌ بالروح البشرية إلى العلا.
إنها الواقعية، إنها الترجمة اللفظية الحقيقية لما يريده الباري عز وجل من الانسان في سيره التكاملي ، هذا دعاء مكارم الأخلاق ، هذا دعاؤه لأبويه ، هذا دعاؤه ، هذا دعاؤه ، هذا . . . ، هذا . . . ، هذا . ..
ومن هنا نعلم سر تسميتها بإنجيل أهل البيت ، وبزبور آل محمد (4) عليهم السلام .
من نقل عنه ما نقل عن الامام من الدعاء - من معاصريه من الزهاد والفقهاء وغيرهم - بلاغة، ومعنوية، وتأثيراً في النفوس ؟ .
ما ذاك إلا للزهد الواقعي ، والطهارة الواقعية، والتقوى لله في السر والعلن واقعاً، . . . و. . . و. . . و.
والحاصل : أنه كان أفضل أهل زمانه وأعلمهم ، وأفقههم ، وأورعهم ، وأعبد هم ، وأكرمهم ، وأحلمهم ، وأصبرهم ، وأفصحهم ، وأحسنهم أخلاقاً ،
____________
(1) حلية الأولياء 3 : 133 | 229 .
(2) صفوة الصفوة 2 :95.
(3) حلية الأولياء 3: 133 .
(4) أول من أسماها بهما هو ابن شهر آشوب المتوفى سنة585في «معالم العلماء» في ترجمة متوكل بن عمير، ويحيى بن علي بن محمد الحسيني .

( 17 )
وأكثرهم صدقة، وأرأفهم بالفقراء، وأنصحهم للمسلمين (1) ، وغير ذلك مما لا يحيط به قلم ، ولا تصور، هذا عملاً وسيرة .
** أما قولاً فاليك الصحيفة، زبور آل محمد وإنجيلهم ، وكفى بها.
يقول سيد الأعيان في وصفها:
الصحيفة الكاملة في الأدعية، تحتوي على واحد وستين دعاءاً، في فنون الخير، وأنواع العبادة، وطلب السعادة، وتعاليم العباد، كيف يلجؤون إلى ربهم في الشدائد والمهمات ، ويطلبون منه حوائجهم ، ويعملون بقوله تعالى : (ادعوني أستجب لكم )(2) ، من التحميد لله تعالى، والثناء عليه ، والشكر له ، والتذلل بين يديه ، واللجوء إليه ، والتضرع والاستكانة له ، والالحاح عليه ، وغير ذلك من فنون الدعاء، وأفانين المناجاة.
وبلاغة ألفاظها، وفصاحتها التي لا تبارى، وعلو مضامينها، وما فيها من أنواع التذلل لله تعالى، والثناء عليه ، والأساليب العجيبة في طلب عفوه ، وكرمه ، والتوسل إليه ، أقوى شاهد على صحة نسبتها، وأن هذا الدر من ذلك البحر، وهذا الجوهر من ذلك المعدن ، وهذا لثمر من ذلك الشجر، مضافا إلى اشتهارها شهرة لاتقبل الريب ، وتعدد أسانيدها المتصلة إلى منشئها صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين ، فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعددة المتصلة إلى الامام زين العابدين عليه السلام .
وقد كانت منها نسخة عند زيد الشهيد رحمه الله ، ثم انتقلت إلى أولاده ، وإلى أولاد عبدالله بن الحسين المثنى ، كما هو مذكور في أولها مضافا إلى ما كان عند الامام الباقرعليه السلام من نسختها(3) .
هذا وقد اعتنى بها العلماء خاصة، والناس عامة، أتم اعتناء، رواية وضبطاً لألفاظها، ونسخها، وواظبوا على الدعاء بأدعيتها ليل نهار، وبالعشي
____________
(1) أعيان الشيعة 1: 630 .
(2) غافر، مكية ، 40 : 60 .
(3) أعيان الشيعة 1: 638 .

( 18 )
والأبكار، والغدوات والأسحار، والتضرع إليه تعالى ، وطلب الحوائج منه ، والمغفرة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار(1) .
أما شروحها فقد بلغت عناية العلماء بها حداً كبيراً حتى عد شيخ الذريعة (قدس سره ) ما يقرب من الخمسين (2) شرحاً باللغتين العربية والفارسية، منها المختصر والذي هو بنحو التعليق ، ومنها المطول والموسع .
ومنها ماهو مختص بجانب واحد، مثل : الجانب العرفاني الأخلاقي ،أو الجانب الأخلاقي ، أو الجانب اللغوي ألبلاغي ، أو الجانب العلمي .
ومنها ماهو جامع بين الاختصار والكمال ،لاحتوائه على أغلب الفنون المتعلقة بالدعاء المشروح ، مثل «رياض السالكين» للسيد علي خان المدني .
ومنها شرحنا هذا الذي نقدمه إليك عزيزي القارئ ، ألا وهو:
____________
(1) أعيان الشيعة 1: 638 .
(2) الذريعة 13 :345 .

( 19 )
حدائق الصالحين
من الشروح الموسعة على الصحيفة المقدسة شرح الشيخ البهائي المسمى بحدائق الصالحين إسماً للمجموع وسمى كل دعاء بأسم ، فهناك الحديقة الأخلاقية، والحديقة الصومية، والتحمدية . . .
والحديقة الهلالية، وهي ما نقدمه الآن ، والتي عثرنا عليها من مجموع هذا الشرح.
يذهب بعض أصحاب الفن إلى أن الشيخ البهائي لم يتم شرحه هذا لجميع أدعية الصحيفة، وإنما الذي خرج إلى البياض وأتمه هو فقط الحديقة الهلالية .
والظاهر أن الأمر ليس كذلك ، إذ هو قدس سره يحيل إلى شروح الأدعية المتقدمة بما يدل على أنه أتمها، حتى أنه ينقل عبارات تامة من تلكم الشروح فمثلأ قوله ص 19 :
** وقد قدمنا في فواتح هذا الشرح . . . كلاماً مبسوطاً في هذا الباب وذكرنا ما قيل فيه من الجانبين .
وقوله ص 47 :
والمباحث المتعلقة بالصلاة على النبي .. . وإيراد ما يرد على أن آل النبي صلى الله عليه واله حقيقة هم الأئمة المعصومون سلام الله عليهم قد مر الكلام فيها في الفواتح ، فلا معنى لاعادته .
وقوله ص 50 ، وهوأصرح من جميع ما تقدم :
وقد قدمنا في الحديقة الأخلاقية، من شرحنا هذا، وهي الحديقة العشرون ، في شرح دعائه عليه السلام في مكارم الأخلاق ، كلاما . . . ، وقلنا هناك : إنه لايحصل إلا من التام منها إلا بإخراج .. . إلى اخره .
( 20 )
فهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أنه لا أقل كتب شروح بعض الأدعية ولكن لم تصل إلينا، وإلافما معنى نقله لما قدمه هناك .
نرجو العلي القدير أن يوفقنا للعثورعلى بقية هذا الشرح القيم انه سميع مجيب .
وأما الشرح فهو غني عن التعريف لما سوف تلمسه فيه مما أبدع فيه المؤلف من تطعيمه بشتى البحوث الفلسفية والطبيعية، والكلامية، وبحوث الهيئة والنجوم ، وغيرها .
ولا غرابة فالمؤلف هو من عكف على آرائه الرياضية والنجومية علماء الشرق والغرب ، ولا زالوا ولم يتمكنوا من الوصول إلى حل قسم من مسائله .
ونظرا لأهمية الكتاب فقد اعتمده جمع ممن تأخر عنه ، منهم صاحب الرياض في شرحه للدعاء الثالث والأربعين من رياضه المتقدم .
ومنهم شيخ الإسلام العلامة المجلسي كأحد مصادر كتابه «بحار الأنوار» وأورد أغلبه فيه ، انظر بحار الأنوار 58 | 178 - 199 و 291 - 293 .

* * *

( 21 )
ترجمة المؤلف
اسمه ونسبه
هو: الفقيه المحقق ، والحكيم المتأله ، والعارف البارع ، والمؤلف المبدع ، والبحاثة المكثر المجيد، و الأديب الشاعر، والضليع في الفنون بأسرها، نابغة الامة الاسلامية في عصره :
الشيخ أبو الفضائل محمد بن الحسين بن عبد الصمد بن محمد بن علي بن الحسن بن محمد بن صالح بن إسماعيل الحارثي الهمداني العاملي الجبعي .
نعم ، هوحارثي همداني ، إذن هو من بيت المجد والشرف والولاء للعترة الطاهرة، منذ عهد جده الأعلى الحارث بن عبدالله الأعور الهمداني (1) ، الذي بشره أميرالمؤمنين عليه السلام عند وفاته بنتيجة عقيدته الصحيحة به ، وولائه المخلص له .
وصحة هذا النسب الطاهر مما تسالم عليه جميع من ترجم له ، أو لوالده ،
____________
(1) الحارث بن عبدالله الاعور، عد في الأولياء من أصحاب أميرالمومنين عليه السلام ، روى القرطبي في تفسيره الجامع ، باب ذكرجمل من فضائل القران .. . ج 1: 5 ما لفظه وكفاه : الحارث : رماه الشعبي بالكذب ، وليس بشيء ولم يبن من الحارث كذب ، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي وتفضيله له على غيره ، ومن هاهنا والله أعلم كذبه الشعبي .
وهذا ديدنهم في كل من أحب علياً وال علي .
ترجم له في تنقيح المقال 1: 245 ت 2108 | رجال البرقي : 4 | اختيار معرفة الرجال 18 ت 142 143 وسير أعلام النبلاء 4 : 152 | ت 4 5 | تهذيب الكمال 5 : 5:244 ت1025 . وغيرها كثير.

( 22 )
وكما صرح به جمع من أعلام الامة وأساطين الطائفة ممن عاصرها ، ومن تأخر عنهما في إجازاتهم (1) ، وقد عد منهم صاحب الغدير(قدس سره ) عشرين علماً(2) .
وأشاد به نظماً جمع ، منهم الشيخ جعفر الخطي البحراني (3) في قصيدة منها:
فيابن الاولى أثنى الوصي عليهم بماليس تثني وجهه يد إنكار(4)
يلتقي نسبه الشريف مع نسب علم من أعلام القرن الجامع بين ، العلم والأدب ، والناشر لألوية الحديث ، الشيخ تقي الدين إبراهيم بن الشيخ علي الكفعمي، مؤلف المصباح ، والبلد الأمين ، وشرح الصحيفة، ومحاسبة النفس ، الى غيرها. وذلك أن الشيخ البهائي حفيد أخ الشيخ الكفعمي واليك مخططاً يوضح هذا:
____________
(1) انظر البحارقسم الاجازات ج105: 146 و107 :14 و 32 و 38 وغيرها.
(2) الغدير 11 : 219، ضمن ترجمة والد الشيخ البهائي .
(3) أبو الحر جعفر بن محمد بن علي بن ناصر بن عبد الامام الخطي البحراني ينتهي نسبه الىعدنان عالم غلب عليه الادب والشعر فكان من الادباء الكاملين والشعراء المفلقين له إجازة من الشيخ البهائي وله ديوان شعر وغيره مات سنه 1208 هـ ، له ترجمة في امل الآمل 2 | 54 ت 139، سلافة العصر 524، انوار البدرين : 288 ت 4 رياض العلماء 1 | 111، الروضة النضرة : 113،نجوم السماء 1 | 79 .
(4) انظر: الغدير 11 : 221 | لؤلؤة البحرين : 16 ت 5 .

( 23 )
الشيخ إسماعيل اللويزي
________________
|
الشيخ صالح
________‎
|
الشيخ محمد
________
|
الشيخ بدرالدين الحسن
________________
|
زين الدين علي
ت: 861
|
__________________________________________________
|
الشيخ شمس الدين محمٌد ت:886
|
|
جمال الدين أحمد
|
الشيخ إبراهيم الكفعمي
|
شرف الدين
|
رضي الدين

_________________________________
|
الشيخ عبد الصمد ت:935
|
أبو المكارم هبة الله
المولود 858
|
زهرة

_______________________
|
الشيخ علي
|
|
الشيخ محمٌد ابو المحاسن


__________________________________________________

|
نورالدين أبو القاسم علي م:898
|
حسن
|
الشيخ محمٌد م:903 ت:952
|
الشيخ حسين
___________
|
|
الحاج زين العابدين المولود 909

_______________________


|
الشيخ بهاء الدين محمد
المولود 953
ت:1030
|
الشيخ عبد الصمد
المولود 966


( 24 )

إذن فالشيخ البهائي محمد بن الحسين بن عبد الصمد بن محمد أخ الشيخ إبراهيم الكفعمي .
هذا نسبه يصفه هوبنفسه قائلا: «إن اباءنا وأجدادنا في جبل عامل كانوا دائما مشتغلين بالعلم والعبادة والزهد، وهم أصحاب كرامات ومقامات » .
في هذه البيئة، ومن هذا البيت العلمي ورث المجد والسؤدد، ومن هكذا محيط خرج الى الدنيا، وليس بمنكرما للمحيط من أثر.

ولادته
تاريخها ومكانها
تاريخها :
اختلف المؤرخون فيها :
فمن ذاهب الى أنها كانت عند المغرب يوم الخميس لثلاث عشر بقين من المحرم سنة 953، واليه مال الشيخ البحراني وجمع (1) .
ومن ذاهب الى أنها كانت عند غروب شمس يوم الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة(2) .
ومن ذاهب - كالافندي وجمع - الى أنها كانت « . . عند غروب الشمس يوم الاربعاء 17 ذي الحجة سنة 953» (3) وذلك استنادا الى نص وجده بخط الشيخ البهائي على نسخة من إرشاد العلامة الحلي حكاه عن خط والده حيث سجل فيه مواليد ووفيات جمع من الاسرة.
وهناك من مال الى أنها كانت سنة 951 ولم أجد من أيده على ذلك ولعلها تصحيف 953(4) .
____________
(1) لؤلؤة البحرين : 22 .
(2) سلافة العصر: 290 | خلاصة الأثر 3: 440 | الحدائق الندية : 3، 45 .
(3) رياض العلماء 2: 110 .
(4) رياض العلماء5: 97 .

( 25 )
ولهذا فقد ضبطها الشيخ القمي في هديته وكناه بقوله : ظنج .
وبناء على نقل الشيخ المجلسي الاول فيكون مولده اما سنة 948 أو 949(1) .
وأما محلها :
فالذي يستفاد من بعض سوانحه (2)، وبعض النصوص أنها كانت في موطنه الأصلي بعلبك من جبل عامل .
وهو الحق في المقام .
وما ذهب اليه الطالوي في سانحاته من أنها في قزوين (3) .
والصنعائي من أنها في أصفهان (4) .
وأحمد رفعت (5) ، وسامي باشا (6) ، وقدري طوقان (7) من أنها في آمل المازندرانية أو الخراسانية الى غير ذلك .
فهو مما لا شاهد له ولا دليل عليه ، اللهم إلا التشابه اللفظي بين آمل وعامل .

* * *

____________
(1) انظر روضة المتقين 14 :435 .
(2) انظر الكشكول 1: 213 .
(3) سانحات دمى العصر 2 : 128 .
(4) نسمة السحر 2 : 255.
(5) لغات تاريخية 6 : 200 .
(6) قاموس الاعلام 2 : 1411 .
(7) تراث العرب العلمي : 474 .

( 26 )
أساتذته ومشايخه
«إن رحلات شيخنا البهائي لاقتناء العلوم ردحا من عمره ، وأسفاره البعيدة الى حواضر العالم الاسلامي حينذاك دون ضالته المنشودة، وتجوله دهراً في المدن والأمصار وراء امنيته الوحيدة، واجتماعه في تلكم الحواضر مع أساطين الدين ، وعباقرة المذهب ، وأعلام الامة ، وأساتذة كل علم وفن ، ونوابع الفواضل والفضائل .
تستدعي كثرة مشايخه في الأخذ والقراءة والرواية غير أن المذكور منهم في غضون المعاجم » (1) قلة لاتناسب ما سنعرف عن سياحته وتنقلاته وهم :
1 ـ والده المقدس الشيخ حسين بن عبدالصمد بن محمد، صاحب النفس الطاهرة الزكية،و الهمة الباهرة العلية، كان عالماً ماهراً، محققاً متبحراً، جامعاً أديباً منشأ شاعراً، عظيم الشأن ، جليل القدر، ثقة، من فضلاء تلامذة الشهيد الثاني قدس سره .
توفي قدس سره سنة 984 ثامن ربيع الأول ، في المصلى من قرى هجر من بلاد البحرين ، عن عمربلغ 66 سنه ، حيث كانت ولادته سنة 918 في غرة محرم الحرا م (2).
وقد قرأ عليه ابنه -الشيخ البهائي - العلوم العربية والحديث والتفسير، وروى عنه قراءة وسماعاً واجازة لجيميع ما للإجازة فيه مدخل من سائر العلوم العقلية والنقلية . . . ، بحق روايته عن شيخنا الإمام قدوة المحققين الشهيد الثاني
____________
(1) الغدير 11: 250 .
(2) ترجم له جمع منهم : البحراني في لؤلؤته : 33 رقم 6 | وألأميني في الغدير 11 : 218 | والبغدادي في هديته 2 : 273 | والأفندي في رياضه 2 :108 | والحرفي أمله 1 :74 رقم 67 | والخوانساري في روضاته 2 : 338 رقم217 | والمامقاني في تنقيحه 1 : 332 رقم 2948 \ والقمي في سفينته 1: 272، وكناه 2 : 102 ، وفوائده الرضوية :138 | والشيخ النوري في خاتمة مستدركه 3 : 421 | والسيد الأمين في أعيانه 6 : 56 .

( 27 )
طاب ثراه (1) .
2 ـ الفقيه المحقق، والمحدث المتكلم، الشيخ عبد العالي بن الشيخ علي بن عبد العالي العاملي الكركي ، نجل صاحب جامع المقاصد، المولود سنة 926 ، والمتوفى 993 باصفهان ، ونقل منها بعد ثلاثين سنة ودفن في المشهد الرضوي على من حل فيه الاف التحية والثناء(2).
** 3 ـ محمد بن محمد بن محمد بن أبي اللطف بن علي بن منصور المقدسي الشافعي الأشعري العلوي ، المولود سنة 940، برع وهوشاب حتى فضل وقدم على من هو أسن منه حتى على أخويه ، وصار مفتياً للقدس الشريف على المذهب الشافعي ، مات سنة 993(3) .
وقد أجاز الشيخ البهائي بإجازة مؤرخة سنة 992 في شهرجمادى الاولى منه (4).
ومن لطيف الأسانيد والطرق طريق الشيخ البهائي لرواية صحيح البخاري عن مؤلفه ، وهم ثلاثة عشر شيخاً جميعهم من المسمين بمحمد، إليك السند - مع حذف الألقاب والاقتصار على الإسم فقط - مع تتمته للشيخ البحراني :
. . . الشيخ محمد بن يوسف بن كنبار،عن الشيخ محمد بن ماجد البحراني ، عن الشيخ محمد باقر المجلسي صاحب البحار، عن أبيه الشيخ محمد تقي المجلسي ، عن الشيخ محمد بن الحسين البهائي ، عن محمد بن محمد بن أبي اللطف المقدسي ، عن ابيه محمد بن محمد ، عن شيخه محمد بن ابي الشريف المقدسي ، عن محمد بن ابي بكر، عن محمد المراغي ، عن محمد بن إسماعيل القرشيدي ، عن السيدمحمد بن سيف الدين قليج بن كيكذي العلائي ، عن محمد ابن مسلم بن محمد بن مالك الحنبلي ، عن أبي محمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد
____________
(1) أعيان الشيعة 9 : 243 .
(2) له ترجمة في الأمل 1 : 110 رقم 100 | ونقد الرجال : 188 رقم1 \ عالم آرا 1 : 154 | وأعيان الشيعه 8: 17 | ورياض العلماء 3 : 131 | وتكملة الأمل :265 رقم 232 | واحياء الداثر: 122 .
(3) له ترجمة في شذرات الذهب 8: 431 | والكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة 1 : 7.
(4) بحار الأنوار 106: 97 رقم69 .

( 28 )
المقدسي ، عن محمد بن عبد الواحد البزاز، عن محمد بن احمد حمدان ، عن محمد ابن اليتيم، عن محمد بن يوسف الفريري ، عن محمد بن إسماعيل البخاري بكتابه المذكور، وجميع مصنفاته .
4 ـ الشيخ الفاضل الكامل المنطقي المولى عبدالله بن الحسين اليزدي الشهابادي المتوفى سنة 981(1) في اصفهان ، كان علامة زمانه ، جليل القدر، عالي المنزلة، له مؤلفات منها: الحاشية على تهذيب المنطق للتفتازاني ، وحاشية على الأستبصار.
تلمذ عليه جمع منهم صاحب المعالم ، والمدارك ، وشيخنا المؤلف ، حيث أخذ عنه الحكمة والكلام وبعض المنقول .
5 ـ المولى علي المذهب المدرس ، تلمذ عليه في الرياضيات (2) .
6 ـ القاضي المولى أفضل القايني (3) .
7 ـ الشيخ أحمد الكجائي الكهدمي الكيلاني النهمني(4) ، المعروف ببير أحمد، قرأ عليه في قزوين (5) الرياضيات والحكمة ‎.
8 ـ النطاسي المحنك عمادالدين محمد بن مسعود الشيرازي ، قرأ عليه
____________
(1) ترجم له كل من القمي في فوائده :249 : وسفينته 2 : 132 | والحرفي أمله 2: 160 ت 465 | والأفندي في رياضه 3 : 191 | وروملوفي أحسن التواريخ : 12: 458 | والمدني في سلافته 490 | وشيخ الذريعة في إحياء الداثر: 135 | والذريعة 6 : 53 ت 268 | وكحالة في معجم المؤلفين 6 : 49 | والمحبي في خلاصته 3 : 40 | والخوانساري في روضاته 4 : 228 رقم 386 | والبغدادي في هديته 4731 .
هذا ويذهب البعض إلى أن وفاته كانت سنة 1015 منهم المحبي والبغدادي وانظر ماضي النجف وحاضره 3: 383 حيث ترجم له ولمجموعة من ذريته .
(2) عالم آرا 1 : 156 .
(3) عالم آرا 1 :156 | إحياء الداثر: 23.
(4) قال شيخ الذريعة : إن كجاء قد تسمى (نه منيه ) لأن بها قراناً كبيراً مشهوراً بـ (نه من )، حيث كان وزنه تسعه أمنان ، بخط كوفي جلي ، على جلد ظبي ، يقال أنه بخط أميرالمؤمنين عليه السلام . انظر الروضة النضرة : 34
(5) له ترجمة في الروضة النضرة : 34 | انظر الذريعة 1 : 519 ت 2533، 5: 139 ت 578.

( 29 )
الطب(1).
9 ـ الشيخ عمر العرضي ، أفاد منه في حلب (1) .
10 ـ الشيخ محمد بن محمد بن أبي الحسن علي بن محمد البكري ، اجتمع معه في مصر، وحضر دروسه في الأزهر. المتوفى سنة 993 هـ (2)، له : شرح مختصر أبي شجاع ، وديوان شعر(3) .
11 ـ محمد باقر بن زين العابدين اليزدي المتوفى حدود 1056 ، كان من أعاظم الرياضيين ، له : عيون الحساب ، مطالع الأنوارفي الهيئة، وغيرها (4) .
ومما لاشك فيه أن هذا العدد المذكور من أساتذته وشيوخه لايلائم تلك السياحة التي أخذت من عمره أكثر من الثلث ، بل ومشابهته لفنون عدة حتى ألف في أغلبها الكتب .
ولكن ما الحيلة وهذا هو المحفوظ والذي عثرنا عليه منهم .
____________
(1) ترجم له كلا من صاحب عالم ارا 1: 168 وكذلك في ضمن ترجمة البهائي 1: 156 | وإحياء الداثر: 240 | والذريعة 2 : 262 ت 1071، 11: 133 ت 830، 168ت 1054، 18: 191 ت 1359 و 21 : 258 ت 4925 .
(2) عمربن عبدالوهاب بن ابراهيم العرضي الحلبي ألشافعي ، مفتي حلب ومحدثها، له : شرح الشفا للقاضي . واسمه فتح الغفار، ذيل تاريخ ابن الحنبلي ، الدر الثمين وغيرها.
مات سنة 1024 هـ - 1615 م .
خلاصة الأثر 3 : 215 | ريحانة الألبا 1: 279 رقم 41 | كشف الظنون : 1054 | هدية العارفين 1: 796 | معجم المؤلفين 7: 296 وغيرها .
(3) ترجم له الحنبلي في شذراته 8 : 431 | والعبدروسي في نوره السافر 2: 369 | والخفاجي في ريحانته 2: 220 ت 149 وانظر هامشه | والمحبي في خلاصته 1: 145 | والمدني في سلافته : 400 .
(4) من لطيف شعره :
قدبلينا بأمير * ظلم الناس وسبح

فهوكالجزارفيهم * يذكرالله ويذبح

(5) الروضة النضرة: 75/ الذريعة15 : 387 ت 2376

( 30 )
تلامذته
إن التأريخ حفظ لنا أسماء جم غفير ممن أخذ عن الشيخ المصنف علوم الدين ، والفلسفة والأدب من العلماء الأفذاذ، ومن استجاز عنه للرواية .
وقد تجمع لدينا منهم عدد كبير، أرجأنا تعدادهم الى موعد قريب . إن شاء الله (1) .

رحلاته
كانت رحلته الاولى مع والده من مسقط رأسه إلى إيران ، وفيها تعلم الفارسية واتقنها حتى كأنه ابن بجدتها، درس وتعلم في حاضرتي العلم قزوين واصفهان على أبيه وغيره ممن مر من أساتذته ، وارتقى الى أوج الكمال ، وفي هذه الأثناء اقترن بزوجة صالحة فاضلة هي كريمة الشيخ العالم العامل شيخ الاسلام في الديار الإيرانية في حينه الشيخ زين الدين علي منشارالعاملي (2) .
ولما كانت وحيدة أبيها، اذ لم يعقب غيرها، فقد آلت اليها - واليه لا محالة- تركة أبيها، ومنها مكتبته العامرة.
حيث كانت للشيخ المنشار مكتبة عظيمة كبيرة تربو على أربعة الاف كتاب ، جلب أغلبها من الديار الهندية، إذ كان قاطناً فيها فترة من الزمن (3) .
فكانا ينتفعان منها وينهلان منها نميراً صافياً.
وعلى أية حال فقد حاز لدى سلطان وقته - الشاه عباس الكبير- أعلى المراتب وهي مشيخة الاسلام ، وله ألف الجامع العباسي في الفقه .
____________
(1) في مقدمة كتاب شرح قصيدته « سرى البرق » للشيخ جعفر النقدي إن شاء الله تعالى.
(2) الشيخ زين الدين علي منشار العاملي ، شيخ الاسلام ، فاضل جليل من المعاصرين للشاه طهماسب الصفوي ، ومن تلامذة الشيخ علي الكركي .
ترجم له في رياض العلماء 266 | 4، عالم ارا 154 | 1.
(3) الفوائد الرضوية : 510.

( 31 )
ولكن الذي يظهر جلياً لمن يسبر أحوال الشيخ قدس سره يرى وبوضوح أنه لم يكن يرى لتلك المناصب الدنيوية قيمة، بل كان يجعلها وراء ظهره ، وهذا واضح لحبه للوحدة والعزلة وللسير على طريقة أهل السلوك والعرفان والسياحة مختاراً للفقر الذي كان به يفخر فخر الكائنات صلى الله عليه وآله ومرجحا له على تمام المناصب والرتب .
هذا وبعد أن ولي في حاضرة العلم وعاصمة الحكومة مشيخة الاسلام ؛ بعد والد زوجته الشيخ علي المنشار حيث كان فيها شيخ الاسلام أيام الشاه طهماسب الصفوي ؛ «رغب في الفقر والسياحة، واستهب من مهاب التوفيق رياحه ، فترك تلك المناصب ، ومال لما هو لحاله مناسب »(1) .
وقد بدأ سياحته بحج بيت الله الحرام ، ومن ثم زيارة المدينة المنورة على من حل فيها الآف الثناء، ومن ثم شهرعصا الترحال وساح في أرض الله الواسعة ردحاً من عمره (2)، كان خلالها متخفياً مستتراً كما يظهر من الحوادث والمجريات ، مع أن شهرته كانت مطبقة في الافاق .
فقد زار خلالها كلاً من الأعتاب المقدسة في العراق ، والإمام الرضا عليه السلام في خراسان ، ومن ثم قصد هرات وعاد منها الى مشهد الامام الرضا، ومنها آذربايجان وزار خلالها مصر، والقدس الشريف ، ودمشق الشام ، وحلب ، وغيرها من البلاد.
توقف في كل بلد مدة، صاحب جمعاً كثيراً من أهل الكمال والمعرفة والفضل مما لم يكن ميسورا لكل أحد، وكان خلالها مورد احترام الاخرين ، واستفاد وأفاد كثيرا .
هذا، وقد وقعت له مباحثات علمية ومذهبية كثيرة مع علماء المذاهب الاخرى أذعن فيها الجميع له .
____________
(1) السلافة : 290.
(2) يذهب السيد المدني الى أنها طالت مدة ثلاثين سنة، وقد استبعدها العلامة المحقق الحجة السيد الخرسان ، انظر مقدمة الكشكول : 65 .

( 32 )
ومن المؤسف حقا عدم تدوين الشيخ البهائي لاخبار سياحته التي استمرت هذه المدة الطويلة، مع فضله وكثرة علومه واطلاعه ، اذ مما لاشك فيه وقوع امور لطيفه وقضايا عجيبة تظهر من ثناء بعض من تعرض لسياحته ، فلو دونت لكانت من أنفس الكتب .
إليك شطراً منها:
... كان يجتمع مدة إقامته بمصر بالاستاذ محمد بن أبي الحسن البكري (1) وكان يبالغ في تعظيمه .
فقال له الشيخ البهائي مرة : يا مولانا أنا درويش فقير فكيف تعظمني هذا التعظيم ؟!
قال : شممت منك رائحة الفضل .
فامتدح استاذه بقصيدته التي مطلعها:

يا مصر سقياً لك من جنة * قـطـوفـهـا يانعة دانية

ويصف الرضي المقدسي (2) الشيخ - عند لقائه له في القدس الشريف - ومحاولته القراءة عليه قائلاً:
« ورد علينا من مصر رجل من مهابته محترم ، فنزل في بيت المقدس بفناء الحرم ، عليه سيماء الصلاح ، وقد اتسم بلباس السياح ، وقد تجنب الناس ، وأنس بالوحشة دون الايناس ، وكان يألف من الحرم فناء المسجد الاقصى، ولم يسند أحد مدة الإقامة إليه نقصاً، فالقي في روعي أنه من كبار العلماء الأعاظم ، فما زلت لخاطره أتقرب ، ولما لا يرضيه أتجنب ، فاذا هو ممن يرحل اليه للأخذ منه ، وتشد له الرحال للرواية عنه ، يسمى بهاء الدين محمد الهمداني الحارثي ، فسألته عند ذلك القراءة عليه ...» (3).
____________
(1) تقدمت ترجمته ومصادرها في صحيفة : 12.
(2) يوسف بن أبي اللطف رضي الدين المقدسي الحنفي ، فاضل أديب ، له تعليقة على تفسير ارشاد العقل السليم ، شرح قصيدة البردة، توفي سنة 1006.
ترجم له في : معجم المؤلفين 326 | 13، هدية العارفين 565 | 2 ، خلاصة الاثر 4 | 272.
(3) خلاصة الأثر 3 : 441 | السانحات 2 :126 .