كتاب فقه الحضارة ص 12 ـ ص 23


الفصل الأول
« الطبُّ الحديث وظواهر الاكتشاف المختبري »


1ـ أحكام التشريح في منظور عصري
2ـ الترقيع بالأعضاء والواقع الطبيّ
3ـ التلقيح الصناعي والتخصيب
4ـ أطفال الأنابيب وعملية الاستنساخ
5ـ تحديد النسل وموانع الحمل
6ـ مرض الإيدز أو فقدان المناعة المكتسبة
7ـ أخطار التدخين .. ونوادر علمائنا الأعلام
8 ـ وباء المخدّرات وأضرار الخمور
9ـ فتاوى فقهية ذات أبعاد طبّية


( 13 )

(1)
أحكام التشريح في منظور عصري

التشريح عملية يفرضها الواقع الطبي كشفاً عن الجرائم حيناً ، وتعليماً لطلاب الدراسات الطبية حيناً آخر ، وتوصلاً إلى حقائق الأشياء المجهولة بعض الأحايين ، وهو بعد مادة تدريسية على منتسبي كلية الطب اجتيازها بنجاح.
والمشكلة المعاصرة التي يعاني منها الطب في البلدان الإسلامية والعربية هي حرمة الإنسان حياً وميتاً عند المسلمين في ضوء تعليمات الدين الحنيف ، فالمسلمون لا يسلمون موتاهم للتشريح لهذا الملحظ من وجه ، وللعاطفة المتأصلة في النفوس من الشفقة والعطف بهذا الميت أو ذاك لقربه منهم ، ولحبهم له ، ولحرمته عندهم ، فكيف يسلمونه استسلاماً ، وهم يستطيعون الحفاظ عليه من كل غائلة وهو واجبهم الشرعي الذي لا محيص عنه.
والطب العدلي ، والغرض العلمي يتطلبان معاً توفير الجثث للتشريح ، وقد اضطرت جملة من المؤسسات الطبية إلى استيراد


( 14 )

الجثث من الخارج ، أو شرائها من الذين يبيعون جثثهم في حياتهم ، وذلك لتحقيق الجانب العلمي والتعليمي والعدلي الذي توفره نتائج التشريح في هذه المستويات بخاصة.
ولمّا كانت ضرورة التشريح قائمة بذاتها ، ولا خلاص منها ، ولا مناص عنها ، فقد استفرغ الفقه الحضاري جهده التشريعي ، وأعطى الحلول الكفيلة بتقليص حجم المشكلة إلى أدنى مستوى ممكن . فلا يجوز تشريح بدن الميّت المسلم ، ويجوز تشريح بدن الميّت الكافر ما عدا محقون الدم ، ومع هذا فيجوز تشريح بدن الميت الكافر محقون الدم في حالتين هما : إذنه في حال الحياة بذلك ، أو إذن وليّه بعد وفاته . وعند الضرورة القصوى يجوز تشريح بدن المسلم في حالة توقف حياة أحد المسلمين عليه ضمن تدرج سيأتي فيما بعد. وإليك في هذا الضوء معالجة سماحة السيد السيستاني دام ظله الوارف للموضوع من خلال ما توافر لدينا من فتاواه الشرعية :
1ـ لا يجوز تشريح بدن الميّت المسلم ، فلو فعل ذلك لزمته الديّة على تفصيل مذكور في كتاب الديّات.
2ـ يجوز تشريح بدن الميّت الكافر بأقسامه إذا لم يكن محقون الدم في حال حياته ، وإلا ـ كما لو كان ذميّاً ـ فالأحوط لزوماً الاجتناب عن تشريح بدنه ، نعم إذا كان ذلك جائزاً في شريعته ـ مطلقاً أو مع إذنه في حال الحياة ، أو إذن وليّه بعد الوفاة ـ فلا يبعد جوازه حينئذٍ. وأما المشكوك كونه محقون الدم في حال الحياة ، فيجوز تشريح بدنه إذا لم تكن أمارة على كونه كذلك.


( 15 )

3ـ لو توقف حفظ حياة مسلم على التشريح ، ولم يكن تشريح الكافر غير محقون الدم ، أو مشكوك الحال ، جاز تشريح غيره من الكفار ، وإن لم يكن ذلك أيضاً ، جاز تشريح المسلم ،
* ولا يجوز تشريح المسلم لغرض التعلم ونحوه ما لم تتوقف عليه حياة مسلم(1).
بالإضافة إلى ما تقدم فقد تطلب بعض الدوائر في بعض الحالات تشريح جثة المتوفى لمعرفة سبب الوفاة . فمتى يجوز السماح لها بذلك ؟ ومتى لا يجوز.
وقد أفتى سماحة السيد دام ظله بقوله :
* لا يجوز لولي الميّت المسلم أن يسمح بتشريح جسد الميّت للغرض المذكور ونحوه ، ويلزمه الممانعة منه مع الإمكان(2).
____________
(1) السيد السيستاني | منهاج الصالحين 1| 457 ـ 458 + المستحدثات من المسائل الشرعية | 73 ـ 74 طبعة لندن.
(2) فتوى خطية مصورة في حوزة المؤلف + فقه المغتربين 242 وما بعدها.

( 16 )

(2)
الترقيع بالأعضاء والواقع الطبِّي

الترقيع بالأعضاء بنقلها من إنسان إلى إنسان حياً أو ميتاً ظاهرة متطورة من ظواهر الطب الحديث ، وقد أحرزت الجراحة المتخصصة نصراً هائلاً في زراعة الكلى والقلب والعيون وحتى الأطراف ، وبذلك تمت عمليات الإنقاذ للإنسان من أخطار مرضيّة كانت تعتبر مستحيلة إلى عهد قريب ، وبذلك يكون الطب قد تقدم خطوة جريئة في ميدان الجراحة المبرمجة والنموذجية ، وهذه الظاهرة إحدى أطاريح الطب التي فرضتها الحضارة المعاصرة ضمن واقع طبيّ له أبعاده المستقبلية في قادم الأيام ، وكان لزاماً على الفقه الإمامي وهو يخوض معركته العلمية في ظل التحضر المتنامي أن يطرح على الساحة الطبية ، أحكام هذه الظاهرة الفريدة.
وكان لسماحة السيد مد ظله العالي الميدان الرحب في هذا الانبثاق الجديد ، فقد أعطى الحلول المناسبة ضمن الفتاوى الآتية :


( 17 )

1ـ لا يجوز قطع عضو من أعضاء الميّت المسلم كعينه أو نحوها لإلحاقه ببدن الحي ، فلو قطع فعلى القاطع الدية.
وهل يجوز الإلحاق بعد القطع أو يجب دفن الجزء المبان ؟
لا يبعد الثاني. نعم ، لا يجب قطعه بعد الإلحاق وحلول الحياة فيه.
2ـ إذا توقف حفظ حياة المسلم على قطع عضو من أعضاء الميّت المسلم لإلحاقه ببدنه جاز القطع ، ولكن تثبت الدية على القاطع على الأحوط ، وإذا أُلحق ببدن الحي ترتبت عليه بعد الإلحاق أحكام بدن الحيّ ، نظراً لأنه أصبح جزءاً منه.
3ـ هل يجوز قطع جزء من الميت المسلم لإلحاقه ببدن الحي إذا كانت عضوه متوقفة عليه ؟ .
* الظاهر عدم الجواز.
4ـ إذا أوصى بقطع بعض أعضائه بعد وفاته ليلحق ببدن الحيّ من غير أن تتوقف حياة الحي على ذلك ، ففي نفاذ وصيته وجواز القطع حينئذٍ إشكال ، ولكن الأظهر عدم وجوب الدية على القاطع.
5ـ هل يجوز قطع جزء من إنسان حيّ للترقيع إذا رضي به ؟
* في هذا الشأن تفصيل :
إذا كان قطعه يلحق ضرراً بليغاً به ـ كما في قطع العين واليد والرجل وما شاكلها ـ لم يجز ، وإلا جاز ـ كما في قطع قطعة جلد أو لحم أو جز من النخاع ونحوه ـ.


( 18 )

وهل يجوز أخذ المال إزاء ذلك ؟
* الظاهر جوازه.
6ـ يجوز قطع عضو من بدن ميّت كافر غير محقون الدم ، أو مشكوك الحال لترقيع بدن المسلم ، وتترتب عليه بعده أحكام بدنه ، لأنه صار جزءاً له ، كما أنه لا بأس بالترقيع بعضو من أعضاء بدن نجس العين من الحيوان ـ كالكلب ونحوه ـ وتترتب عليه أحكام بدنه ، وتجوز الصلاة فيه باعتبار طهارته بصيرورته جزءاً من بدن الحيّ بحلول الحياة فيه(1).
7ـ هل التبرع بالعضو الحي لحي كما في الكلية ، ومن الميت للحي بالوصية ، سواء من المسلم للكافر ، أم العكس جائز ؟ وهل تختلف الأعضاء في هذا المسألة عن بعضها البعض ؟
* أما تبرع الحي ببعض أجزاء جسمه لإلحاقه ببدن غيره فلا بأس به ، إذا لم يكن يلحق به ضرراً بليغاً ، كما في التبرع بالكلية لمن لديه كلية أخرى سليمة. وأما قطع عضو من الميت بوصية منه لإلحاقه ببدن الحي فلا بأس به إذا لم يكن الميت مسلماً أو من بحكمه أو كان مما يتوقف عليه إنقاذ حياة مسلم ، وأما في غير هاتين الصورتين ، ففي نفوذ الوصية وجواز القطع إشكال. ولكن لا تثبت الديّة على المباشر للقطع مع الوصية على كل تقدير(2).
____________
(1) السيد السيستاني | منهاج الصالحين 1| 458 ـ 459 + المستحدثات من المسائل الشرعية 74 وما بعدها.
(2) فقه المغتربين | 243.

( 19 )

(3)
التلقيح الصناعي والتخصيب

تطورت وسائل الإخصاب والإنجاب في معطيات الطب الحديث وهي تواجه عنت العقم ، وعدم استقرار الرحم ، والإنزال المبكر ، وعدم تلاقح الحويمن ببيضة المرأة ، وردود الفعل المعاكس ، وسوى هذا ، مما حدا بكبار الأطباء في العالم إلى إيجاد البديل المناسب ، فكان البديل هو التلقيح الصناعي من وجه. والعمل على إنجاح مشروع أطفال الأنابيب من وجه آخر.
وسواء أحقق الطب مشروعه ، أم لم يكتب له النجاح فيه ، إلا أن متغيرات الزمن ، وقطع المسافات الهائلة في شتى الأبعاد بحكمة ورويّة ، قد تضافرا لإسماع الصوت الحديث في التلقيح وطلب الأبناء مما جعل الفقه الإسلامي أمام توجهاته الإفتائية وجهاً لوجه ، وقد نهد سماحة السيد دام ظله الوريف لهذا العبء ، ملخصاً أبرز معالمه وفق منظور الشريعة الغراء في البرنامج الآتي :
1ـ « لا يجوز تلقيح المرأة بماء غير الزوج ، سواءً أكانت


( 20 )

ذات زوج ام لا ، رضي الزوج والزوجة بذلك أم لا ، أكان التلقيح بواسطة الزوج أم غيره.
2ـ لو تمّ تلقيح المرأة بماء غير الزوج فحملت منه ثم ولدت ، فإن حدث ذلك اشتباهاً ـ كما لو أريد تلقيحها بماء زوجها فاشتبه بغيره ـ فلا إشكال في لحوقه بصاحب الماء ، فإنه نظير الوطء بشبهة.
وأما إن حدث ذلك مع العلم والعمد ، فلا يبعد لحوقه به أيضاً ، وثبوت جميع أحكام النسب بينهما حتى الإرث ، لأن المستثنى من الإرث هو الولد عن زناً ، وهذا ليس كذلك وإن كان العمل الموجب لانعقاد نطفته محرّماً.
وهكذا الحال في لحوقه بأمّهِ فإنه يلحق بها حتى في الصورة الثانية على الأقرب ، ولا فرق بينه وبين سائر أولادها أصلاً.
ومن قبيل هذه الصورة ما لو ألقت المرأة نطفة زوجها في فرج امرأة أخرى بالمساحقة أو نحوها ، فحملت المرأة ثم ولدت ، فإنه يلحق بصاحب النطفة وبالتي حملته ، وإن كان العلم المذكور محرماً.
3ـ لو أخذت بويضة المرأة وماء الرجل ، فلُقّحت به ووضعت في رحم صناعية ، وتمّت تربيتها لغرض التوليد حتى أصبحت ولداً . فالظاهر أنه ملحق بصاحب الماء وصاحبة البويضة ، ويثبت بينه وبينهما جميع أحكام النسب حتى الأرث.
نعم : لا يرث الولد ممن مات منهما قبل التلقيح.


( 21 )

4ـ لو نقلت بويضة المرأة الملقحة بماء الرجل إلى رحم أمرأة أخرى ، فنشأ وتولد ، فهل هو ملحق بالأولى أو الثانية ؟ ففيه وجهان ، لا يخلو أولهما عن وجه ، وإن كان الأحتياط لا يترك.
5ـ يجوز تلقيح الزوجة بنطفة زوجها. نعم ، لا يجوز أن يكون المباشر غير الزوج إذا كان ذلك موجباً للنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه ، أو مسّ ما لا يجوز مسّه ، وحكم الولد منه حكم سائر أولادها بلا فرق أصلاً »(1).
6ـ رجل لقح بويضة امرأة خارج رحمها بمنيّه ثم وضعت البويضة المخصّبة داخل رحم زوجته فولدت ولداً فهل عملية التلقيح هذه محرمة ؟
الجواب : لا بأس بها في حد ذاتها مع الغض عن المقارنات.
7ـ إذا كان ترك تلقيح المرأة بماء زوجها يعرض حياتها الزوجية للأنفكاك مما يوقعها في الحرج فهل يجوز لها الكشف أمام الطبيب ليقوم بالعملية ؟
الجواب : إذا كان الحرج بحيث لم تجر العادة بتحمله فهو رافع للتكليف ويجوز معه ذلك ، وإذا جاز لها ذلك جاز للطبيب أو الطبيبة النظر بقدر الضرورة.
8 ـ هل يجوز أن تلقح بويضة الزوجة بخليّة حيّة مأخوذة من خصية الزوج ثم تعاد البويضة الملقحة إلى الرحم ؟
الجواب : لا بأس بالعملية المذكورة ولكن في عدّ صاحب
____________
(1) ظ السيد السيستاني | منهاج الصالحين | 459 ـ 460.
( 22 )

الخلية أباً للمولود شوب إشكال ، وإن كان هو الأرجح.
وفيما يتعلق بتخصيب بيضة المرأة بحُويمِن الرجل في أنابيب الاختبار فهناك صورتان :
الأولى : أن تنقل بويضة المرأة ، ونطفة الرجل ، ويتم تلاقحهما خارج الجسم الإنساني ، وبعد التخصيب ينقلان داخل الجسم مرة أخرى.
وقد وجه إلى سماحة السيد دام ظله الشريف السؤال الآتي :
9ـ هل تجوز زراعة الأنابيب ، أي أن تنقل بويضة الزوجة ونطفة الرجل ، وتلقح البويضة خارج الجسم ، ثم تنقل إلى داخل الجسم بعد ذلك ؟
وقد أفتى سماحته بقوله : يجوز ذلك في حد ذاته(1).
الصورة الثانية : إن عملية التلقيح هذه خارج الرحم ، قد ينجم عنها تعدد الأجنّة ، فلو أعيدت إلى رحم المرأة ثانية ، وتحقق التعدد ، فهذا يعني أن حياتها مهددة بالخطر ، وفي مثل هذه الحال لا بدّ من اختيار واحدة منها وطرح البقية حفاضاً على حياة الأم ، إذ لا يجب زرع الأجنة في رحم المرأة ، وإنما هو أمر جائز.
وقد توجه إلى سماحة السيد دام ظله الوريف السؤال الآتي :
____________
(1) الفتوى في فقه المغتربين 244| وهي مخطوطة في حوزة المؤلف بختم سماحته.
( 23 )

10ـ في عملية التلقيح داخل الأنابيب قد تتكون عدة أجنّة في آنٍ واحد ، مما يصبح زرعها كلها في رحم الأم مسألة خطرة على حياة الأم ، أو مُمِيتَة.
فهل يحق لنا انتقاء جنين واحد وإتلاف الأجنة الباقية ؟ وقد أجاب سماحته دام عزه العتيد بقوله:
البويضة المُخصّبة بالحويمن في أنبوبة الاختبار لا يجب زرعها في الرحم ، ففي مفروض السؤال يجوز انتقال واحدة منها وإتلاف البقية(1).
ولسماحة السيد زاد الله في شرفه آراء أخرى لم نعرض لها في الموضوع ، لأن البحث قائم على أساس النموذج والتمثيل ، لا على نحو الاستقصاء والاستيعاب.
____________
(1) الإجابة في فقه المغتربين 245| وهي مخطوطة في حوزة المؤلف بختم سماحته.