حديث الطير ::: 46 ـ 58
(46)
    الثاني : تحريف اللفظ
    وهذا هو الطريق الثاني لردّ هذا الحديث ، قد قرأنا بعض الالفاظ ، وعرفتم كيف يكون التحريف.
    أمّا أحمد بن حنبل ، فقد قرأنا لفظ الحديث من كتاب فضائله أو مناقبه ، فلنقرأ لفظ الحديث في مسنده فلاحظوا :
    قال : سمعت أنس بن مالك وهو يقول : أُهديت لرسول الله ثلاثة طوائر ، فأطعم خادمه طائراً ، فلمّا كان من الغد أتت به ـ كلمة الخادم تطلق على المرأة والرجل ـ فقال لها ( صلى الله عليه وسلم ) : « ألم أنهك أن ترفعي شيئاً ، فإنّ الله عزّوجلّ يأتي برزق كلّ غد ».
    هذا هو الحديث في مسند أحمد (1).
    ولك أن تقول : لعلّ هذا الحديث في قضيّة أُخرى لا علاقة لها بحديث الطير.
    لكنْ عندما نراجع ألفاظ الحديث نجد بعض ألفاظه بنفس هذا اللفظ وبنفس السند الذي أتى به أحمد ، وفيه ما يتعلّق بعليّ ( عليه السلام ) وكونه أحبّ الخلق إلى الله إلى آخره ، نعم ، كنت أتصوّر أنّ هذا
1 ـ مسند أحمد 4/52 رقم 12631.

(47)
الحديث وارد في قضيّة لا علاقة لها بحديث الطير الذي نحن نبحث عنه ، هذا تبادر إلى ذهني لاوّل وهلة ، لكنّني دقّقت النظر في الاحاديث فوجدت الحديث حديث الطير ، إلا أنّه جاء به بهذا الشكل ، وهل الذي جاء في مسند أحمد من أحمد نفسه أو النسّاخ أو الطابعين لكتابه ؟ الله أعلم.
    وأبو الشيخ الاصفهاني الذي ذكرناه مراراً ، يروي هذا الحديث وفيه ما يتعلّق بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، إلا أنّ ما يتعلّق بأنس ، وكذب أنس ، وخيانة أنس ، هذا محذوف ومحرّف ، لاحظوا :
    عن أنس بن مالك قال : أُهدي لرسول الله طير فقال : « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير » ، فجاء علي فأكل معه ، ثمّ هو يقول : فذكر الحديث انتهى (1). وكأنّه يريد أنْ يحفظ الامانة فلا يخون يضع كلمة : فذكر الحديث.
    ومن العجيب إسقاط بعضهم كلا الفقرتين ، ما يتعلّق بعلي وما يتعلّق بأنس ، فأسقط كلتا الفقرتين وجاء فقط بذلك العذر الذي ذكر أنس في آخر القضية :
    عن أنس عن النبي قال : « لا يلام الرجل على حبّ قومه ».
1 ـ طبقات المحدّثين باصبهان 3 / 454.

(48)
    حينئذ يقول ابن حجر العسقلاني : هذا طرف من حديث الطير (1).

    الثالث : تأويل الحديث وحمل مدلوله على خلاف ما هو ظاهر فيه
    فيحملون أوّلاً لفظ الحديث الذي يقول : « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك » ، يحملونه على أنّ المراد اللهمّ ائتني بمن هو من أحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ، فحينئذ لا اشكال ، لانّ مشايخ القوم أحبّ الخلق إليه أيضاً ، فيكون علي أيضاً من أحبّ الخلق إليه. « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك » ، أي اللهمّ ائتني بمن هو من أحبّ خلقك إليك وإلى رسولك.
    راجعوا شروح مصابيح السنّة ، راجعوا شروح المشكاة (2) وكتاب التحفة الاثنا عشرية (3) لوجدتم هذا التأويل موجوداً في كتبهم حول هذا الحديث.
    وهل توافقون عليه ؟ وهل هناك مجال لقبول هذاالتأويل بلا
1 ـ لسان الميزان 5 / 58.
2 ـ المرقاة في شرح المشكاة : 212.
3 ـ التحفة الاثنا عشرية : 212.


(49)
أيّ دليل ؟
    وقال صاحب التحفة الاثني عشرية : إنّ القضيّة إنّما كانت في وقت كان الشيخان في خارج المدينة المنوّرة ، فلذا لم يحضرا فحضر علي.
    راجعوا كتاب التحفة الاثنا عشرية (1) ، وهذا الكتاب عندهم من أحسن الكتب في باب الامامة ، أو في أبواب العقائد كلّها ، وطبع مراراً وتكراراً طبعات مختلفة ، وطبعوا خلاصته باللغة العربية مع تعاليق ذلك العدو من أعداء الدين ، مراراً وتكراراً في البلاد المختلفة.
    أقول :
    هل كانت هذه القضية في وقت كان أبو بكر وعمر في خارج المدينة المنوّرة ؟ والله لو كانا في خارج المدينة المنوّرة لما كان عندنا أي كلام ، فنحن ما عندنا أي غرض في إثبات شيء أو في نفي شيء ، لكنْ ماذا نفعل مع حديث النسائي ، مع حديث أبي يعلى : إنّه جاء أبو بكر فردّه ، جاء عمر فردّه ، وأضاف صاحب المسند فقال : بأنّ عثمان أيضاً جاء وردّه ؟! فهؤلاء كانوا في المدينة المنوّرة ، وأيّ ذنب لنا لو كان النسائي وغيره ورواة خبر حضورهم
1 ـ التحفة الاثنا عشرية : 212.

(50)
في المدينة كاذبين عليهم ؟!

    الرابع : المعارضة
    المعارضة لها وجه علمي ، نحن نوافق على هذا ، لانّ المعارضة هي الاتيان بحديث معتبر ليعارض به حديث معتبر آخر في مدلوله ، فتلاحظ بينهما قواعد الجرح والتعديل لتقديم البعض على البعض الاخر ، تلك القواعد المقررة في كتب السنّة ، فهذا أُسلوب علمي للبحث والمناظرة ، وأيُّ مانع من هذا ، المعارضة وإلقاء التعارض بين الحديثين ، ثمّ دراسة الحديثين بالسند والدلالة وإلى آخره عمل جميل وعلى القاعدة ، وله وِجهةٌ علمية ، ونحن مستعدون لدراسة ما يذكرونه معارضاً لحديث الطير بلا أيّ تعصّب ، لكنْ أيّ شيء ذكروا ليعارضوا به حديث الطير ؟
    في كتاب التحفة الاثنا عشرية استند إلى حديث : « إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » في مقابلة حديث الطير.
    فوالله لو تمّ هذا الحديث سنداً ودلالة ، حتّى لو ثبت اعتباره عندهم واتّفقوا على صحّته ، فنحن نغضّ النظر عن انفراد القوم به ، وقد قلنا منذ الاوّل أنّ الحديث الذي يريد كلّ طرف من الطرفين أن يستند إليه لابدّ وأن يكون مقبولاً عند الجانبين ، نحن نغضّ النظر


(51)
عن هذه الناحية ، وندرس الحديث على ضوء كتبهم وأقوال علمائهم هم فقط ، ولو تمّ لوافقنا ولرفعنا اليد عن حديث الطير المقبول بين الطرفين بواسطة حديث : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ».
    ولكنْ ماذا نفعل وهم لا يقبلون بحديث الاقتداء بالشيخين ، وسنقرأ ما يقولونه حول هذا الحديث بالتفصيل في موضعه إن شاء الله تعالى.

    الخامس :
    بعد أنْ أعيتهم السبل العلمية في الظاهر وهي : المناقشات في السند أو الدلالة ، يلجأون إلى طريقة أُخرى ، وماذا نسمّي هذه الطريقة ؟ لا أدري الان ، لاقرأ لكم ما وجدته تحت هذا العنوان الذي عنونته أنا ، فأنتم سمّوا ما فعلوا بأيّ تسمية تريدون !!
    أذكر لكم قضيّة الحافظ ابن السقا الواسطي المتوفى سنة 373 هـ :
    يقول الذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء (1) بعد أن يصف ابن
1 ـ سير أعلام النبلاء 16/351 ـ 352 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1404 هـ.

(52)
السقا بما يلي : الحافظ الامام محدّث واسط ، بعد أن يلقّبه بهذه الالقاب ينقل عن الحافظ السلفي يقول :
    سألت الحافظ خميساً الجوزي عن ابن السقا ؟ فقال : هو من مزينة مضر ولم يكن سقّاءً بل لقب له ، من وجوه الواسطيين وذي الثروة والحفظ ، رحل به أبوه فأسمعه من أبي خليفة وأبي يعلى وفلان وفلان وبارك الله في سنّه وعلمه ، واتفق أنّه أملى حديث الطائر فلم تحتمله نفوسهم ، فوثبوا عليه فأقاموه وغسلوا موضعه ، فمضى ولزم بيته لا يحدّث أحداً من الواسطيين ، فلهذا قلّ حديثه عندهم.
    أقول :
    ولم يذكر الراوي كلّ ما وقع على هذا المحدّث من ضرب وشتم وإهانة وغير ذلك ، يكتفي بهذه العبارة : وثبوا عليه فأقاموه عن مجلسه وغسلوا موضعه ، كأنّ الموضع الذي كان جالساً فيه تنجّس لاملائه طرق حديث الطير ، وغسلوا موضعه ، فمضى ولزم بيته ولم يخرج.
    فماذا تسمّون هذه الطريقة ؟ لا أدري.
    هذا ما ذكره الذهبي في ترجمة هذا الرجل في سير أعلام


(53)
النبلاء ، وفي كتاب تذكرة الحفّاظ (1).
    أمّا الحاكم النيسابوري ، فقد كان مصرّاً على صحّة حديث الطير ، وعلى تصحيح حديث الطير.
    يقول في كتابه علوم الحديث (2) : حديث الطير من مشهورات الاحاديث ، وكان على أصحاب الصحاح أن يخرّجوه في الصحاح.
    ويقول : ذاكرت به كثيراً من المحدثين.
    ويقول : كتبت فيه كتاباً ، أي كتب في جمع طرقه كتاباً.
    ثمّ إنّه في المستدرك (3) يروي هذا الحديث ويقول : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زيادة على ثلاثين نفساً.
    وقد قلت لكم أنّ الرواة عن أنس هم أكثر من ثمانين شخصاً لا ثلاثين شخصاً.
    يقول : ثمّ صحّت الرواية عن علي وأبي سعيد الخدري وسفينة.
1 ـ تذكرة الحفاظ 3/966 ـ دار احياء التراث العربي ـ بيروت.
2 ـ معرفة علوم الحديث : 93 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1397.
3 ـ مستدرك الحاكم 3/131.


(54)
    واضطرب القوم تجاه تصحيح الحاكم ، وإخراج الحاكم هذا الحديث في مستدركه ، وإصراره على صحّة هذا الحديث ، وأصبحت قضيّة حديث الطير والحاكم قضيّة تذكر في أكثر الكتب المتعلّقة بالحاكم وبحديث الطير ، أي حدثت هناك ضجّة من فعل الحاكم هذا ، وقام القوم عليه وقامت قيامتهم ، ولاجل هذا الحديث رماه بعضهم بالرفض فقال : الحاكم رافضي. لكن الذهبي وابن حجر العسقلاني يقولان : الله يحبّ الانصاف ، ما الرجل برافضي. فراجعوا لسان الميزان ، وراجعوا سير أعلام النبلاء ، وغير هذين الكتابين (1).
    ثمّ جاء بعضهم وجعل يرمي كتاب المستدرك بأنّ هذا الكتاب ليس فيه ولا حديث واحد على شرط الشيخين.
    وحينئذ يقول الذهبي : هذه مكابرة وغلو (2).
    ثمّ نسبوا إلى الدارقطني أنّه لمّا بلغه أنّ الحاكم قد أخرج حديث الطير في المستدرك انتقد فعل الحاكم هذا.
1 ـ سير أعلام النبلاء 17/174 ، وفيه : قلت : كلاّ ليس هو رافضياً ، بل يتشيّع.
    لسان الميزان 6/251 وفيه : قلت : إنّ الله يحبّ الانصاف ، ما الرجل برافضي بل شيعي فقط.
2 ـ سير أعلام النبلاء 17/175.


(55)
    لكن الذهبي يقول : إنّ الحاكم إنّما ألّف المستدرك بعد وفاة الدارقطني بمدة (1).
    وحينئذ ، إذا راجعتم كتاب طبقات الشافعية للسبكي (2) رأيتموه ينقل عن الذهبي إنّ الحاكم سُئل عن حديث الطير فقال : لا يصحّ ولو صحّ لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول الله. ثمّ قال شيخنا : وهذه الحكاية سندها صحيح ، فما باله أخرج حديث الطير في المستدرك. يعني : إذا كان الحاكم يعتقد بأنّ الشيخين أفضل من علي ، فلماذا أخرج الحديث في المستدرك ؟ ولماذا صحّحه ؟
    حينئذ يقول السبكي : قد جوّزت أنْ يكون زيد في كتابه.
    يعني : حديث الطير زيد في كتاب المستدرك !! لاحظوا إلى أي حدٍّ يحاولون إسقاط حديث من الاحاديث ، قد جوّزتُ أن يكون زيد في كتابه ، أنْ لا يكون من روايات الحاكم.
    يقول السبكي : وبحثت عن نسخ قديمة من المستدرك فلم أجد ما ينشرح الصدر بعدمه [ أي وجدت الحديث في كلّ النسخ ] وتذكّرت الدارقطني إنّه يستدرك حديث الطير ، فغلب على ظنّي إنّه لم يوضع عليه [ أي إنّ الحديث لم يوضع على الحاكم ، ولم يزده
1 ـ نفس المصدر 17/176.
2 ـ طبقات الشافعية 4/168 ـ 169 ـ دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة ـ 1418 هـ.


(56)
أحد في المستدرك ] ثمّ تأمّلت قول من قال : إنّه [ أي الحاكم ] أخرجه من الكتاب ، فإنْ ثبت هذا صحّت الحكايات ، ويكون خرّجه في الكتاب قبل أن يظهر له بطلانه ، ثمّ أخرجه منه لاعتقاده عدم صحّته كما في هذه الحكاية التي صحّح الذهبي سندها ، ولكنّه بقي [ أي الحديث ] في بعض النسخ ، إمّا لانتشار النسخ بالكتاب ، أو لادخال بعض الطاعنين في الشيخين إيّاه [ أي الحديث ] فيه [ أي في المستدرك ] فكلّ هذا جائز ، والعلم عند الله تعالى.
    هذا نصّ عبارة السبكي.
    أقول :
    هذه نماذج من محاولات القوم لاسقاط الحديث ، ولاثبات أنّ الحاكم لم يروه في مستدركه ، وذلك يكشف عن اضطراب القوم أمام تصحيح الحاكم وإخراجه هذا الحديث في كتابه.
    وهل اكتفوا بهذا ؟ لا ، وهل استفادوا من هذه الاساليب شيئاً ؟ لا.
    فما كان عليهم إلا أنْ يهجموا على الحاكم داره فيضربوه ويكسروا منبره الذي كان يجلس عليه ويحدّث ، ويمنعوه من الخروج من داره.
    وهلاّ فعلوا هذا من أوّل يوم ، وقبل أن يتعبوا أنفسهم في


(57)
التحقيق عن كتاب المستدرك باحتمال أنْ يكون هذا الحديث قد أدرجه بعض الطاعنين ، فما أحسن هذا الطريق لاثبات الخلافة لاسيادهم !!
    وهكذا فعلوا مع غير الحاكم ، مع كثير من أئمّتهم !! أما فعلوا مع النسائي في دمشق ؟ أما بقروا بطن الحافظ الكنجي في داخل المسجد لانّه كان يملي فضائل علي ؟ وأما فعلوا ؟ وأما فعلوا ؟ أمّا بعلماء الطائفة الشيعيّة ، وبالائمّة الاثني عشر ، فأيّ شيء فعلوا ؟ وكيف عاملوا ؟
    وهكذا ثبتت الامامة والخلافة للشيخين وللمشايخ.
    فأيّ داع لكلّ ما قاموا به من المناقشة في السند ، من المناقشة في الدلالة ، من المعارضة ، من تحريف اللفظ ؟ من ضرب وهتك لابن السقا والحاكم ؟ لماذا لا يقلّدون إمامهم وشيخ إسلامهم الذي قال : حديث الطير من الموضوعات المكذوبات (1). فأراح نفسه من كلّ هذا التعب ؟
    وهذه فتوى ابن تيميّة ، وتلك فتوى ابن كثير ، وتلك أفعالهم وأعمالهم مع أئمّتهم كالحاكم وغيره ، وتلك تحريفاتهم لالفاظ الحديث النبوي ، وتلك خياناتهم تبعاً لخيانة صاحبهم أنس بن
1 ـ منهاج السنة 7 / 371.

(58)
مالك ، وتلك إمامة مشايخهم التي يريدون أن يثبتوها بهذه السبل !!
    وعلى كلّ منصف ، كلّ محقّق ، وكلّ حرّ أنْ يستمع القول فيتّبع أحسنه ، والله على ما نقول شهيد ، ونعم الحكم الله ، والخصيم محمّد ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
حديث الطير ::: فهرس