حقيقة الإعتقاد بالإمام المهدي المنتظر ::: 256 ـ 270
(256)
الشعوب يزرعون في قلوب أبناء الشعوب الأرض وقبائله الرعب والهلع والخوف ، فمصير الذي لا يسير بركابهم الموت الزؤام ، أو قطع رزقه وحرمانه من حقوقه ، وتجويعه حتى الموت البطيء تلك الأساليب الإجرامية التي عممها الظالمون في الأرض طبعت أبناء الجنس البشري بطابع الذل ، ووسمتهم بسمة العبودية وأبطلت في نفوسهم عناصر المقاومة ، وجعلت الرعب والخوف مقيماً دائماً بلاشعور كل واحد من ضحايا الظلم والظالمين. وتحول كل واحد من رعاياهم إلى آلة بأيديهم أو مطية من مطاياهم أو عبد من عبيدهم.

    أئمة الضلالة يتقنون لغة واحدة وهي لغة القوة ، والغلبة ، والبطش والقهر ، والإذلال ، والرعب ، والخوف ، هذه هي مقومات وجودهم ، وأساس ملکهم ، وضمانة استمراره ، وهم لا يعرفون الدين إلا بالقدر الذي يروي شهوة الحکم عندهم ، ويخدم هذه الشهوة و هم لايعرفون الرحمة الا كأداة من أدوات ضحكهم على عباد الله. إن أئمة الضلالة وأعوانهم لا دين لهم ولا أخلاق ، ولا مبادىء ، ولا يقرون بوجود أية حواجز تقف بوجه ظلمهم ، أو ما يريدون ، لقد حولوا الكرة الأرضية إلى غابة يحكم القوي فيها الضعيف ، ويفترس ذو الأنياب من لا ناب له ، حولوها إلى مسرح لا شرعية عملية فيه الا الظلم وفقه الهوى. فالقوة أولاً والقوة هي الحياة وناموسها.

    أئمة الضلالة الذين يحكمون العالم عند ظهور الإمام المهدي لن يتركوا الحكم بالرضا ، لانهم لا يفهمون الرضا ، ولا وجود لهذه الكلمة في قواميسهم ومن جهة أخرى ، فغن أئمة الضلالة قد أدمتوا شهوة الحكم ، وباعتقادهم ان حياتهم ستنتهي إن هم تخلوا عنه ، ويخيل اليهم أن الكرة الأرضية ستخرب إن لم يحكموها ، عنه ، ومن جهة ثالثة ، فان القوة والقوة وحدها هي الحكم الفصل بين أئمة الظلم ومن ينازعهم الحكم. والأخطر من ذلك كله أن أئمة الضلالة قد حولوا


(257)
الشعوب إلى عبيد أو رقيق وسلبوا منهم روح المقاومة ، واسكنوا بلاشعورهم الرعب والخوف والقلق ، فصار الأفراد أدوات ، مجرد أدوات بيد الانظمة الظالمة ، يتبنون تماماً ما يتبناه المجرمون الظالمون ، يحاربون إذا حارب الظالمون ، ويسالمون إذا سالم الظالمون ، يتکلمون إذا أمروا بالکلام و سصمتون إن أمروا بالصمت !!

    رأينا أن الإمام المهدي مکلف إلهياً بتحقيق غايات کبرى لا بد من تحقيقها ومن هذه الغايات تطهير الأرض من أعداء الله ، والظالمون هم أشرس و أقذر أعداء الله ، ومن مهام المهدي أن يملأ الأرض بالعدل و القسط کما ملأها الظالمون المجرمون بالظلم و العدوان والجور ، وتلک غايات لا يمکن تحقيقها دون القضاء التام على الظالمين ، وقصمهم وبمنتهى العنف والقسوة ، أئمة الظلالة يرفضون التخلي عن الحکم طوعاً ، ويرفضون رفع فقههم الفاسد من واقع الحياة ، ويرفضون أن يعطوا الحرية للشعوب لتختار ما تريد ، وهم يلوحون بالقوة والقهر باعتبارهما أساس حکمهم وعماد وجودهم ، وهم يقبلون بالقوة کحکم فصل بينهم وبين الإمام المهدي ، الذي لا يخفي أهدافه ، المتمثلة بالقضاء على حکم الظالمين وتأديبهم ، ومحاکمتهم علي جرائمهم ، و تحرير البشرية من سطوتهم. والمهدي لن يتراجع عن تحقيق أهدافه ، لإنه ملزم إلهياً بتحقيقها. وأئمة الظلالة لن يتراجعوا عن مواقفهم المتزمتة ، فمعنى ذلک کله حدوث ووقوع المواجهة ، ونشوب حرب ضروس تُطعن فيها الکلي ، وتقطع فيها الرقاب. حرب حقيقية بين المهدي وجند الله من جهة ، وبين أئمة الضلالة في العالم و من والاهم رغبة أو رهبة من جهة أخرى.

    الإمام المهدي يمثل قمة الوعي البشري ، فهو إمام زمانة المؤهل والمعد إعداداً الهياً لسيادة العالم كله ، وهو مرجع بذاته ، فما من سؤال على مستوى العالم


(258)
إلا ويعرف جوابه ، وما من مشكلة إلا ويعرف الحل الأنسب لها. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن المهدي كإمام وكوارث لعلمي النبوة والكتاب على علم يقيني بتاريخ الظلم والظالمين الأسود في العالم ، ومواقف الظالمين المخزية من الرسل والأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين ، ومن جهة ثالثة فإن الإمام المهدي بوصفه خاتم أئمة أهل بيت النبوة على علم يقيني بحجم الظلم والتشريد والقتل والتطريد الذي اقترفه الظالمون بحق آبائه وأجداده الأكرمين وبحق مواليهم الصادقين ، ثم إن الإمام المهدي نفسه أحد ضحايا الظلم والتطريد والتشريد ، ثم إن أي محاكمة عادلة ومنصفة ستدين الظالمين ، وستحملهم مسؤولية إجهاض الدعوة الإسلامية وصرفها عن مسيرتها ، تلك المسيرة التي لو بقيت في مسارها الصحيح لتغير مجرى التاريخ ، ولكان العالم بغنى عن قرون من الهول والاضطهاد والظلم ، ثم أن الظالمين هم الذين أذولوا الجنس البشري ، وألبسوه أزياء الذل والهوان والعبودية ، وصادروا منه كافة الحقوق التي وهبها الله تعالى له ، كل هذه الأسباب جعلت من الظالمين العدو الأول لله ولرسوله ، ولأهل بيته ولمن والاهم ، وقد عهد الله لرسله ولأوليائه بأن لا يركنوا إلى الظالمين ، ثم إن الظالمين رجس ، وقد أمر المهدي بأن يطهر الأرض من أعداء الله ومن رجسهم ، وأن يفرغها تماماً من ظلمهم ، وأن يملأها بالعدل كما ملأها الظالمون بالجور والظلم والعدوان. هذه طبيعة ومستندات ومصادر العقيدة القتالية للإمام المهدي وأعوانه ، وهي طبيعة خاصة تفرض على الإمام المهدي وأعوانه ، أن يضربوا الظالمين وأعوانهم بكل وقسرة وبدون رحمة ولأن قسوة مع الظالمين مهما اشتدت لن تبلغ معشار الجرائم القذرة التي ارتكبوها بحق الله ورسوله والمؤمنين والجنس البشري عامة ، فالظالمون مجرمون عتاة ، لا يكمن إصلاحهم أو استصلاحهم ، لقد مردوا على الظلم ، وكفروا بالله ورسوله ، وعبدوا مصالحهم وشهواتهم من دون الله ، وسخروا كل ما طالته أيديهم لإشباع تلك المصالح والشهوات ، إنهم أساتذة بالكفر والفسوق والنفاق فما طالت أيديهم النجسة شيئاً إلا لوثته وأفسدته ، فالحل الجذري يكمن بالقضاء عليهم وتهديم أركانها ، وتقليع أظافرهم بشكل لا تنمو بعده أبداً.


(259)
    1 ـ قال الإمام علي : « بأبي ابن خيرة الإماء « يعني المهدي » يسومهم خسفاً ، ويسقيهم بكأس مصبرّة ، ولا يعطيهم إلا السيف ، فعند ذلك تتمنى فجرة قريش لو أن لها مفاداة من الدنيا وما فيها ليغفر لها ، لا يكف عنهم حتى يرضى الله ». [ راجع الحديث رقم 656 ، وراجع المصادر المدونة تحته ].
    2 ـ ومثل قول الإمام علي ... « أما والله لو قام قائمنا لأخرج من هذا الموضع اثني عشر الف درع ، واثني عشر الف بيضة لها وجهان ، ثم ألبسها اثني عشر الف رجلاً من ولد العجم ، ثم ليتأمر بهم ، ليقتلن كل من كان على خلاف مات هم عليه ، اني لأعلم ذلك وأراه كما أعلم هذا اليوم » ، [ الحديث رقم 657 ج‍ 3 ].
    3 ـ ومثله حديث الإمام على : « ويبقى المنتظر المهدي من آل محمد فيسير في الدنيا وسيفه على عاتقه » ... [ الحديث رقم 659 ج‍ 3 ].
    4 ـ ومثله حديث الإمام الحسين : « ... يظهر الله قائمنا فينتقم من الظالمين ... ». [ الحديث رقم 704 ].
    5 ـ وقول الإمام الحسين لابنه على : « ... يا ولدي يا على والله لا يسكن دمي حتى يبعث الله المهدي فيقتل على دمي من المنافقين الكفرة الفسقة سبعين ألفا ». [ الحديث رقم 705 ].
    6 ـ قال الإمام الحسين لمحدثه : « يا بشر ما بقاء قريش إذا قدم القائم المهدي منهم خمسمائة رجل فضرب أعناقهم صبراً ، ثم قدم خمسمانة فضرب أعناقهم صبراً ، قال بشر : فقلت له : أصلحک الله ، أيبلغون ذلك ؟ فقال الحسين : أن موالي القوم منهم ... ». [ الحديث رقم 706 ].
    7 ـ ومثله حديث الإمام الحسين : « أما والله لا تذهب الدنيا حتى يبعث الله مني رجلاً يقتل منكم الفا ومع الألف ألفاً مع الألف ألفاً قال الراوي فقلت : جعلت فداك ان هؤلاء أولاد كذا وكذا لا يبلغون هذا ، فقال : ويحك في ذلك


(260)
الزمان يكن الرجل من صلبه كذا وكذا رجلاً وان مولى القوم من أنفسهم » .. [ الحديث رقم 707 ].

    بطون قريش ال‍ 23 هي التي وقفت وقفة رجل واحد ضد النبي ، وضد بني هاشم وضد من والاهم طوال فترة ال‍ 13 سنة التي سبقت الهجرة و هي التي تآمرت على قتل النبي مرات متعددة ، وحصرته وبني هاشم وقاطعتهم ثلاث سنين في شعب أبي طالب ، وهي التي استعدت عليه العرب وجيّشت الجيوش وحاربته بعدالهجرة بكل سهم ، وبكل وسائل الحرب ، ولم تتوقف بطون قريش عن القتال إلا بعد أن أَحاط بها النبي ، ودخل عاصمة الشرك ، فاستسلمت واضطرت مكرهة لإعلان اسلامها ، فسمى رسول الله ابناءها بالطلقا ، وعفى عنهم ، وبعد العفو اختلط المهاجر من بطون قريش بالطليق ، ورتبوا امر الانقلاب على الشرعية الإلهية ، ورفعوا شعار أن الهاشميين قد أخذوا النبوة ولا ينبغي لهم أن يأخذوا الملك أيضاً ، وبموجب هذا الشعار أخذت بطون قريش الأئمة الذين أختارهم الله لحكم الأمة ، ووضعت بدلاً منهم خلفاء موالين للبطون ومن أبنائها ، فكانت بطون قريش هي التي وضعت اللبنة الأولى للنظام الوضعي ، وهي أول من رفع الحكم الإلهي من الأرض ، وهي التي حلت عرى الإسلام بدءاً من الحكم وانتهاء بالصلاة والطلقاء منهم هم أول من اخترع فقه الهوى ، فهم معدن الظلم ومنبته الأول ، ومنهم انطلق كل شيء ، وبطون قريش هي التي شرعت قوانين التطريد والتشريد والتقتيل لآل محمد ، وهي التي نفذت بأيديها كل تلك الجرائم ، فأحرقت وقتلت ، وشردت وهددت ، وأذلت آل محمد ، وجرأت الناس عليهم ، وأخرتهم وهم المتقدمون ، وقدمت عليهم كل متأخر ، فتخرجت على يد أبنائها كوادر الظالمين وعتاة الطغاة ، فهل تعجب بربک ان قتل الإمام المهدي منهم ألفاً وخمسمائة أو ثلاثة آلاف !! من ذريتهم السالكين درب أبائهم وأجدادهم !! إن أبادة تلك النوعية هي الجزاء المناسب لجرائمها ![ راجع كتابنا المواجهة تجد التوثيق والتفضيل ].


(261)
    8 ـ قال الإمام الباقر : « حديثنا صعب مستصعب ، لا يحتمله إلا ملك مقرب ، أو نبي مرسل ، أو مؤمن ممتحن ، أو مدينة محصنة ، فإذا وقع أمرنا ، وجاء مهدينا ، كان الرجل من شيعتنا أجرأ من ليث ، وأمضى من سنان ، يطأ عدونا برجليه ، ويضربه بكفيه ، وذلك عند نزول رحمة الله وفرجه على العباد ». [ راجع الحديث رقم 822 ج‍ 3 ].
    9 ـ وروى الإمام الباقر : « اسمه اسمي » ، قال الراوي : أيسير بسيرة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟ فقال الباقر : « هيهات هيهات يا زرارة ما يسير بسيرته ، قلت : جعلت فداك لم ؟ قال : أن رسول الله سار في أمته بالمن ، كان يتألف الناس ، والقائم يسير بالقتل ، بذلك أمر في الكتاب الذي معه أن يسير بالقتل ولا يستتيب أحداً ، ويل لمن ناوأه ». [ الحديث رقم 840 ج‍ 3 ].
    10 ـ وروى الإمام الباقر أيضاً : « لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحب أكثرهم أن لا يروه مما يقتل من الناس ، أما إنه لا يبدأ إلا من قريش ، فلا يأخذ منها إلا السيف ولا يعطيها إلا السيف ، حتى يقول كثير من الناس ، ليس هذا من آل محمد ، ولو كان من آل محمد لرحم ». [ الحديث رقم 841 ج‍ 3 ].
    11 ـ روى الإمام الباقر أيضاً : « ... لما قتل الحسين ضجت عليه الملائکة إلى الله تعالى بالبكاء والنحيب وقالوا : إلهنا وسيدنا ، أتغفل عمن قتل صفوتك وابن صفوتك ، وخيرتك من خلقك » ، فأوحى الله عز وجل اليهم : « قروا ملائكتي فوعزتي وجلالي لأنتقمن منهم ولو بعد حين ثم كشف الله عن الأئمة من ولد الحسين للملائكة ، فسرت الملائكة بذلك ، فاذا أحدهم قائم يصلي ، فقال عز وجل : بذلك القائم أنتقم منهم ». [ الحديث رقم 849 ] فالإمام المهدي إحدى مهماته هي ثأر الحسين.
    12 ـ وروى الإمام الصادق ... « ويملأ الأرض قسطأ وعدلأ كما ملئت جوراً وظلماً ، ويقتل حتى يقول الجاهل لو كان هذا من ذرية محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لرحم ». [ الحديث رقم 1108 ].
    13 ـ وروى الإمام الصادق أيضا : « ... إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين


(262)
العرب وقريش إلا السيف ما يأخذ منها إلا بالسيف ، وما يستعجلون بخروج القائم ، والله ما لباسه إلا الغليظ ، وما طعامه إلا الشعير الجشب ، وما هو إلا السيف والموت تحت ظل السيف ». [ الحديث رقم 1106 ج‍ 4 ].

    روى الإمام الصادق : « يقتل القائم حتى يبلغ السوق ، فيقول له رجل من ولد أبيه ، إنك لتجفل الناس اجفال النعم فبعهد من رسول الله أو بماذا ؟ قال : وليس في الناس رجل أشد منه بأسا ، فيقوم إليه رجل من الموالي فيقول له : لتسكنن أو لأضربن عنقك ، فعند ذلک يخرج القائم عهداً من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ». [ راجع الحديث رقم 1109 ج‍ 4 ].


(263)
    الفصل الخامس :
معارك الإمام المهدي
وحروبه
    ليس لدينا تاريخاً مدوناً ، ومنهجاً يحتوي على المعارك الحربية والحروب التي سيخوضها الإمام المهدي ، ولا نعرف على وجه اليقين التسلل الزمني لتلك المعارك والحروب ، ويكمن السبب في أن التاريخ يتناول حوادث وقعت ، ويخرج عن دائرة اختصاصه الحوادث التي لم تقع ، ثم إن المعلومات إلى وردتنا عن معارك المهدي وحروبه ، معلومات غيبية لا يعلمها إلا الله ورسوله ، ولا مجال للأجتهاد أو التخمين بها ، فهي جميعها تسند للرسول أو لأولئک الذين سمعوه وهو يتحدث بها ، وقد تبيّن أن الحديث النبوي قد تعرض لمحنة هائلة ، حيث منعت سلطات دولة الخلافة التاريخية رواية وكتابة الأحاديث النبوية من اليوم الثالث لوفاة الرسول واستمر هذا المنع قرابة مائة عام وبعد المائة عام اقتنع المسلمون بخطأ وفساد قرار دولة الخلافة القاضي بمنع رواية وكتابة الأحاديث النبوية فأقبل علماء دولة الخلافة على كتابة ورواية أحايث الرسول بعد قرابة مائة عام من صدروها عنه ، ولم تر دولة الخلافة آنذاك ضرراً من رواية وكتابة أحاديث النبي ، لأن ثقافة التاريخ قد استقرت نهائياً ، ولان فقه دولة الخلافة التاريخية قد ألقى أجرانه في الأرض وفي النفوس رغبة أو رهبة ، واكتشف علماء دولة الخلافة من الأحاديث النبوية التفاصيل الكلية « لنظرية المهدي المنتظر » فرووا وأخرجوا كل ما سمعوه حول هذا الموضوع بما لا يتعارض مع الثقافة التاريخية ، والسنن التي اخترعها الخلفاء بعد وفاة النبي ، ومع الخط العام إلتي سارت عليه دولة الخلافة


(264)
التاريخية ، والذي يقوم على تأخير أهل بيت النبوة ، والحط من شأنهم ، وعدم الاعتراف بمكاتنهم المميزة في الأمة ، وعدم تصديق ادعائهم بأنهم ورثة النبي ، وأصحاب الحق الشرعي بقيادة الأمة وإظهارهم وأظهار من والاهم بصورة من ينازع الأمر أهله ، وبصورة الطامعين بالسلطة ، المتربصين بشق عصا الطاعة ، وتفريق الأمة والجماعة ، ولا نبالغ إذا ما قلنا بأن ثقافة تاريخ دولة الخلافة مكرسة لإثبات تلك المزاعم ولإثبات شرعية حکم أُولئك إلتي استولوا على منصب الخلافة بالقوة والتغلب وكثرة الأتباع !!
    هذا المناخ القائم على تحريف الحقائق أدى إلى عزل أهل بيت النبوة ، وعزل أوليائهم ، وحرمان الأمة والعالم من الاستفادة من أئمة أهل بيت النبوة الذين ورثوا علمي النبوة والكتاب ، وعلى سبيل المثال فإن أئمة أهل بيت النبوة كانوا يعرفون معرفة يقينية التفاصيل الكلية والجزئية لنظرية المهدي المنتظر قبل أن يكتشفها علماء شيعة الخلفاء بمائة عام ونيف ، ولكن الأئمة كانوا محاصرين من دولة الخلافة ، ومراقبين هم وأولياؤهم مراقبة دقيقة من قبل عيون تلك الدولة وجواسيسها الذين كانوا يترصدون كل ما يصدر منه ليجدوا لأنفسهم السبيل لإيذائهم أو قتلهم أو تشريدهم أو تطريدهم !! ولما فتحت أبواب رواية الحديث وكتابته بعد مائة عام من المنع ، ألقت الدولة وكل أعوانها بثقلهم كله للتشكيك بكل ما يصدر عن أئمة أهل بيت النبوة ، وعن أوليائهم وفي احسن الأحوال صار حديث أمام أهل بيت النبوة كحديث بعض الرواة !!!
    ثم إن الأحاديث التي روتها طواقم معاوية وعمالة ، والهادفة إلى محق مكانة أهل بيت النبوة ، والقضاء على فضائلهم ، إظهارهم بصورة أفراد عاديين من الصحابة. هذه الأحاديث القت بظلها القاتم على كل شيء ، لأن معاوية لما تم له ما أراد من جمع عشرات الالوف من الأحاديث التي أخترعها رواته وعماله ، عمم هذه الأحاديث على الناس ، وفرض على الخاصة والعامة تعلمها ، ثم تناقلتها الأجيال معتقدة بصحتها وهي باطلة من أساسها ، ولما انقضت مدة الألف شهر السوداء ، واستولى العباسيون على منصب الخلافة بالقهر والتغلب كما فعل الأمويون من قبلهم ، وجد الناس مناهج تربوية وتعليمة جاهزة ، وأحاديث موثقة


(265)
من الناحية الشكلية فنقلوها كما هي دون تعديل ولا تبديل ، وإذا وجودا حديثاً يتعارض معها ، كان القول الفصل للأحاديث التي روتها طواقم معاوية !!
    وبعد مرور مدة طويلة على فتح أبواب رواية الحديث وكتابته ، تجمعت ملايين المرويات ، واختلط الحابل بالنابل ولم تعد تدري أياً من أي وهذا ما يجعل مهمة الباحث المنصف الطالب للحقائق الشرعية المجردة مهمة شاقة ، أصعب من قطع الحجارة.

    وأفضل الطرق المؤدية للوقوف على معارك الإمام المهدي وحروبه تكمن بسرد الروايات التي تعالج هذه الناحية والتركيز بشكل خاص على روايات أئمة أهل بيت النبوة الأعلام ، لانهم ورثة علمي النبوة والكتاب ، لأن الله قد شهد بطهارتهم ، ولأنهم آل محمد ، ولأنهم الثقل الأصغر ، وتزداد روايتهم أهمية إذا رواها معهم أو عنهم بعض علماء شيعة الخلفاء ، لأن مثل هذه الروايات ستكون حجة على الخصم وشهادة منه بصحتها ، وإدانة منه لنفسه وقد قصرنا اهتمامنا ما وسعنا الجهد للتركيز والاهتمام الخاص بهذه الروايات.

    لخص رسول الله معارك الإمام المهدي بسلسلة من الأحاديث التي عالجت هذه الناحية نوجزها فيما يلي :
    1 ـ قال رسول الله أن المهدي المنتظر « ... لا يبدأ بقريش فلا يأخذ منها إلا السيف ولا يعطيها الا السيف ، حتى يقول كثير من الناس ، ليس هذا من آل محمد ، ولو كان من آل محمد رحم ». [ راجع الحديث رقم 841 ج‍ 3 ].
    وتكمن علة هذه البداية بأن بطون قريش هي صاحبة نظريات تأخير آل محمد ، وتجاهل مكانتهم ، وعدم الاعتراف بها ، وهي صاحبة النظرية الشهيرة


(266)
« النبوة لبني هاشم والملك لبطون قريش » وقريش هي التي اخترعت فقه الهوى ، وأوجدت ثقافة التاريخ ، وحولت الفقه والثقافة إلى مناهج تربوية وتعليمية فرضتها بالقوة على الناس وبطون قريش هي الأكثر كراهية في العالم لرئاسة آل محمد ، فمن الطبيعي أن يرتب المهدي أموره مع هذه البطون ، وأن يحاسبها حساباً عسيراً على ما فرطت في جنب الله ، وما تسببت به من هدم الشرعية الإلهية وحرمان البشرية من حكومة آل محمد ، ومن عدلهم ، ومن علمهم.
    ولأن قريش لها تأثير على العرب ، فبعض الروايات بينت بأنه لن يخرج مع المهدي في البداية من العرب أحد ، لأن العرب هم أكثر الناس تأثراً بثقافة التاريخ وفقه الهوى وكراهية لرئاسة آل محمد ، وهنا يكمن السبب في أن المهدي سيبدأ بقريش ، وسيصب نقمته عليها ، وقد توسعنا في هذه الناحية عندما بحثنا العقيدة القتالية للإمام المهدي وأصابه. بعد أن يصفي الإمام المهدي حساباته مع قريش ومع العرب ينطلق.
    2 ـ إن الإمام المهدي سيفتح كافة حصون الضلالة في العالم ، فعند ظهور الإمام المهدي سيكون أئمة الضلالة قد أحكموا سيطرتهم على العالم ، فيدخل الإمام المهدي بمواجهة معهم ويفتح حصونهم جميعاً. وقد صرح رسول الله بهذه الحقيقة إلى ابنته الزهراء فاطمة قائلاً : « ... يا فاطمة والذي بعثني بالحق ، وإن منهما « أي الحسن والحسين » مهدي هذه الأمة إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً ، وتظاهرت الفتن ، وتقطعت السبل ، وأغار بعضهم على بعض ... فيبعث الله عز وجل عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة وقلوباً غلفاً ، يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به أول الزمان » ... [ الحديث رقم 79 ج‍ 1 ].
    3 ـ ثم إن الرسول الأعظم قد أكد بشكل قاطع بأن الإمام المهدي سيظهر حتماً على الجبابرة في الأرض حيث قال ... « فيجتمع اليه « أي للمهدي » ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً فيهم نسوة ، فيظهر على كل جبار وابن جبار ... » [ الحديث رقم 34 ج‍ 1 ].
    4 ـ وبيّن الرسول الكريم أن هذه الحتمية وعد إلهي ، وقرار محتوم حيث أخبره الله تعالى به عندما أسري به إلى السماء السابعة ، ومنها إلى سدرة المنتهى ،


(267)
ومنها إلى حجب النور حيث كلمه الله تعالى قائلاً : « وبالقائم منكم أعمر أرضي وبه أطهر الأرض من أعدائي ، وأورثهما أوليائي ... » [ الحديث رقم 123 ج‍ 1 ].
    5 ـ وأكد الرسول الأعظم أن الإمام المهدي في معاركه وحروبه ملتزم بالشرعية ، ومنفذ لغاياتها وعبر عن هذه الحقيقة بقوله : « وهو رجل من عترتي يقاتل على سنتي ، كما قاتلت على الوحي ». [ راجع الحديث رقم 136 ج‍ 1 وراجع مراجع أهل السنة المدونة تحته ], بيّن الرسول الأعظم حقيقة هذه الالتزام بقوله : « يقفوا أثري لا يخطىء ». [ راجع الحديث رقم 137 ].
    6 ـ وتقريباً للصورة ، أخرى رسول الله بين فتوحات ذي القرنين وبين فتوحات المهدي فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « ... حتي لا يبقى منهلاً ولا موضعاً من سهل ولا جبل وطئه ذو القرنين إلا وطئه ، يظهر الله عز وجل له كنوز الأرض ومعادنها وينصره بالرعب » ... [ الحديث رقم 158 ج‍ 1 ].
    7 ـ أكد الرسول الأعظم بأن المهدي سيفتح بإذن الله شرق الأرض وغربها ، بقوله : « ... يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً ، فيفتح الله له شرق الأرض وغربها ، ويقتل الناس حتى لا يبقى الا دين محمد ، ويسير بسيرة سليمان بن داود ، ويدعو الشمس والقمر ، فيجيبانه ، وتطوى له الأرض ، ويوحى اليه فيعمل بالوحي بامر الله ». [ راجع الحديث رقم 895 ج‍ 4 ].
    8 ـ وبيّن الرسول أيضاً : إذا قام القائم بعث في أقاليم الأرض في كل أقليم رجلاً يقول له : « عهد في كفك ، فإذا ورد أمر لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه ، فانظر في كفك واعمل بما فيها. [ الحديث رقم 858 ج‍ 4 ].

    وقفنا قبل قليل التقاطيع الأساسية للصورة العامة والمجملة التي رسمها رسول الله لمعارك الإمام المهدي وحروبه ، واستوعبنا تأكيداته القاطعة بأن الإمام المهدي سيفتح كافة حصون الضلالة في العالم ، وسيقضي على كل جبار وابن جبار فيه ، وستولى نتيجة لهذه المعارك والحروب وثمرة للآيات والمعجزات


(268)
والدعم على كافة أقاليم الكرة الأرضية ، وأنه سيولي على كل إقليم من أقاليم الأرض أحد رجاله. أما تاريخ كل معركة من معارك الإمام المهدي ، ومتى تقع ، وكيف تتسلسل الأحداث بالدقة التامة ، فهذه أمور لا نعرفها على وجه الدقة واليقين ولا أحد في العالم كله يعرفها لا رسول الله ، وأئمة أهل بيت النبوة الذين ورثوا علمي النبوة والكتاب ، لأن معارك الإمام المهدي وحروبه لم تقع إن كافة الأمور المتعلقة بنظرية الإمام المهدي قضايا غيبية ايمانية مستقبلية أوحاها الله لرسوله ، وبيّنها الرسول للمسلمين بحدود قدرة الكلام على البيان ، فهي كقضايا الجنة والنار والصراط والحساب أمور ستحدث حتماً ، ولكن متى وكيف ؟ فإن الإجابة بحدود المعلومات اليقينة التي وصلتنا من رسول الله ، ولا نملك أن نزيد في هذه المعلومات أو ننقص منها لأنه لا مجال للاجتهاد في هذه الأمور الغيبية.
    والخلاصة أن الترتيب الزمني لمعارك الإمام المهدي وحروبه لا يكمن تحصيله إطلاقاً ، ولا يمکن الوقوف عليه ، لأن تلك المعارك والحروب لم تقع بعد ، صحيح أن الرسول قد بين كل شيء ، وأنه قد أورث علمي النبوة والكتاب لأئمة أهل بيت النبوة ، وهم مؤهلون وقادرون على الاجابة على كل سؤال ، وقد بينا أن دولة الخلافة قد منعت روايات كتابه الأحاديث النبوية من اليوم الثالث لوفاة الرسول ، وحتى طوال مائة عام ، وبيّنا الظروف التي عاشها أئمة أهل بيت النبوة والمعاناة التي تعرضوا لها ، والعزلة التي فرضت عليهم وكل هذا قد أدى إلى حرمان المسلمين من الوقوف على حقيقة كل ما قاله رسوله ، لأن أحاديثه قد رويت بعد مائة سنة من صدورها عنه ، وحرمان الناس من الانتفاع الكلي من علمي النبوة والكتاب الذين ورثهما أئمة أهل بيت النبوة ، وبالتالي تمخض هذا عن وجود أسئلة بدون أجوبة ، وأمور مفتوحة بدون تغطية ، خاصة وأنه لا يوجد الآن إمام لأهل بيت النبوة ، فخاتم الأئمة هو المهدي المنتظر وهو غير ظاهر ، بمعنى أن الوقوف على الترتيب الزمني لمعارك المهدي وحروبه ضرب من المستحيلات في أيامنا هذه.
    ولا يبقى أمامنا إلا محاولة ترتيب حوادث ومعارك وحروب الإمام المهدي حسب الرقم المتسلسل لوقوعها ، بمعنى أن تقع حادثة ، فنعرف الحادثة التي تليها


(269)
بالضبط ، ثم نعرف الثالثة والرابعة .. إلخ. وتوضيحاً للصورة نسأل ما هو أول إقليم من أقاليم الأرض قد أخضعه الإمام المهدي لسلطانة ؟ وما هو الأقليم الثاني والثالث والرابع فلا نقوى على ربط الأحداث بتسلسل وقوعها ، ولا معرفة اقاليم الأرض بتسلسل فتح الإمام المهدي لها ، لكن معرفة تسلسل وقوع الحوادث أهون على الباحث من معرفة التسلسل الزمني لوقوعها ، فمعرفة التسلسل الزمني لوقوع معارك المهدي وحروبه مستحيل استحالة مطلقة ، أما ترتيب الأحداث والمعارك والحرب بتسلسل وقوعها فممكن إن تعاون على تحقيقه عصبة من العلماء الأفذاذ ، وبالرغم من كثرة بحوثي في هذا المجال ، ومحاولاتي إلتي لم تتوقف للإطلاع على ما كتب فيه ، فإني لم أجد أفضل ولا أشمل ولاأعمق ولا أقرب لروح العصر من كتاب سماحة العلامة الشيخ علي الكوراني الموسوم « بعصر الظهور » لقد كان الجهد الذي بذل فيه كبيراً ، فجاء الكتاب كثمرة طيبة لذلك الجهد ، إن ترتيب الشيخ الكوراني لتسلسل الأحداث وربطها أمر يثير الاعجاب والاحترام ، ولا عجب فالشيخ الکوراني هو الذي أشرف على جمع وتبويب موسوعة أحاديث الإمام المهدي ، مما أهله وأعدّه لينجز كتابه الرائع « عصر الظهور » ، ومما مكنه من أن يكون بحق أعظم المراجع بالأمور المتعلقة بنظرية الإمام المهدي المنتظر.
    والخلاصة أنه من غير المعقول ولا المنطقي أن ننقل كل ما ورد في كتاب عصر الظهور لنقف على تسلسل معارك وحروب الإمام المهدي ، انما اكتفينا بالإشارة إليه ، وأرى أن الأنسب لي أن أضع « سيناريو » لتسلسل الأحداث والمعارك والحروب التي خاضها الإمام المهدي وأصحابة بالحجم وبالمدى التي أشارت اليه الأحاديث النبوية ، والأحاديث التي رواها الأئمة الأعلام من أهل بيت النبوة ، وأرى أنني غير ملزم بسد الثغرات ، لأن هذه الأمور لا مجال للافتراض ولا للاجتهاد بها ، وتركها أولى من محاولات سدها.


(270)
    الفصل السادس :     ظهرت نظرية الإمام المهدي المنتظر على يد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد بيّن للمسلمين من أوحي اليه ربه حول الإمام المهدي المنتظر ، وأطلعهم على كليات وتفاصيل هذه النظرية تماماً ، كما أوحيت اليه ، وفهم المسلمون الذين استمعوا اليه ، وفهموا منه بأن الإمام المهدي المنتظر هو خاتم أئمة أهل بيت النبوة الذين اختارهم الله تعالى لقيادة الأمة من بعده ، وأن ظهور الإمام المهدي من الحتميات الإلهية التي لا بد من وقوعها ، ذات يوم ، وأكد الرسول هذه الحقيقة بكل وسائل التأكيد ، وبيّنها بكل طرق البيان إلى درجة أن الرسول قد قال : « لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد ، لطول الله ذات اليوم حتى يبعث الله الإمام المهدي فيملأ الأرض عدلاً » ، وقد فصلنا ذلك ووثقناه توثيقاً كافياً في الابواب السابقة وأجمعت الأمة على حتمية صدور هذه الأحاديث عن رسول الله. کان المسلمون علي عهد رسول الله يرسلون هذه الحقائق التي سمعوها من رسول الله ارسال المسلمات ، ويعتبرونها جزءاً من علوم الغيب التي خص الله بها نبيّه ، ويؤمنون بها كما يؤمنن ببقية الامور الغيبية من جنة ونار وعذاب وثواب ، مع الاختلاف بعمق هذا الايمان من فرد إلى فرد.
حقيقة الإعتقاد بالإمام المهدي المنتظر ::: فهرس