حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الجزء الأول ::: 91 ـ 105
(91)
    النداء الفظيع : يا لهول المصاب ، يا لروعة الخطب ، لقد انتهك السندي جميع حرمات الاسلام ، فقد أمر الجلادين أن ينادوا على الجثمان المقدس بنداء مؤلم ، فبدل أن ينادوا بالحضور لجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك ، وانطلق العبيد والأنذال يجوبون في شوارع بغداد رافعين أصواتهم بذلك النداء القذر ، وأمرهم ثانيا أن ينادوا بنداء آخر :
    هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه ميتا .. (1).

    قيام سليمان بتجهيز الامام : وكان سليمان مطلا على نهر دجلة في قصره ، فرأى الشرطة وقطعات من الجيش تجوب في الشوارع ، والناس مضطربة ، فزعة ، فهاله ذلك ، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلا : ما الخبر ؟؟.
    فقالوا له : هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر ...
    وأخبروه بندائه الفظيع ، فخاف سليمان من حدث الفتنة وانفجار الوضع بما لا تحمد عقباه ، وصاح بولده :
    انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم ، فان مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد ـ وهو لباس الشرطة والجيش ـ (2).
    وانطلق أبناء سليمان مسرعين ومعهم غلمانهم وحراسهم إلى الشرطة ، فأخذوا الجثمان المقدس من أيديهم ، ولم تبد الشرطة أيه مقاومة معهم ، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الأسرة العباسية.
    وحمل جثمان الامام إلى سليمان فأمر أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي ، وانطلق المنادون رافعين أصواتهم بهذا النداء :
    ألا من أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر.
1 ـ حياة الإمام موسى بن جعفر.
2 ـ حياة الإمام موسى بن جعفر.


(92)
    وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان امام المسلمين وسيد المتقين والعابدين ، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع وخرجت السيدات من نسائهم ، وهن يندبن الامام ، ويرفعن أصواتهن بالنياحة عليه.
    وسارت مواكب التشييع وهي تجوب في شوارع بغداد ، وتردد أهازيج اللوعة والحزن ، وأمام النعش المقدس مجامير العطور ، وانتهى به إلى موضع في سوق سمى بعد ذلك بسوق الرياحين ، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس لئلا تطأه الناس بأقدامهم تكريما له (1).
    وانبرى شاعر ملهم فأبن الامام بهذه الأبيات الرائعة :
قد قلت للرجل المولى غسله جنبه ماؤك ثم غسله بما وأزل أفاويه الحنوط ونحها ومر الملائكة الكرام بحمله لاتوه أعناق الرجال بحمله هلا أطعت وكنت من نصائحه أذرت عيون المجد عند بكائه عنه وحنطه بطيب ثنائه كرما الست تراهم بأزائه يكفي الذي حملوه من نعمائه (2)
    وسارت المواكب متجهة إلى محلة باب التبن ، وقد ساد عليها الوجوم والحزن ، حتى انتهت إلى مقابر قريش فحفر للجثمان العظيم قبر ، وانزله فيه سليمان بن أبي جعفر ، وهو مذهول اللب ، فواراه فيه وارى فيه الحلم والكرم والعلم ، والإباء.
    وانصرف المشيعون ، وهم يعددون فضائل الامام ، ويذكرون بمزيد من اللوعة الخسارة التي مني بها المسلمون ، فتحيات من الله على تلك الروح العظيمة التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها.

    تقلد الإمام الرضا للزعامة الكبرى : وتقلد الإمام الرضا ( عليه السلام ) بعد وفاة أبيه الزعامة الدينية الكبرى ، والمرجعية العامة للمسلمين ، وقد احتف به العلماء والفقهاء وهم يسجلون آراءه في ميادين الآداب والحكمة ، وما يفتي به من المسائل الشرعية وغير ذلك من صنوف المعارف والعلم.
1 ـ الأنوار البهية ( ص 99 ).
2 ـ الاتحاف بحب الاشراف ( ص 57 ).


(93)
    سفره إلى البصرة : وبعد وفاة الإمام الكاظم ( عليه السلام ) سافر الإمام الرضا ( عليه السلام ) إلى البصرة للتدليل على إمامته ، وابطال شبه المنحرفين عن الحق ، وقد نزل ضيفا في دار الحسن بن محمد العلوي ، وقد عقد في داره مؤتمرا عاما ضم جمعا من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب ، وهو من المنحرفين عن آل البيت ( عليهم السلام ) والمعادين لهم ، كما دعا فيه جاثليق النصارى ، ورأس الجالوت ، والتفت إليهم الامام فقال لهم :
    إني انما جمعتكم لتسألوني عما شئتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلا عندنا أهل البيت ، فهلموا أسألكم ....
    وبادر عمرو بن هداب فقال له : إن محمد بن الفضل الهاشمي أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله ، وانك تعرف كل لسان ولغة ....
    وانبرى الإمام ( عليه السلام ) فصدق مقالة محمد بن الفضل في حقه قائلا : صدق محمد بن الفضل أنا أخبرته بذلك ...
    سارع عمرو قائلا : إنا نختبرك قبل كل شئ بالألسن ، واللغات ، هذا رومي ، وهذا هندي ، وهذا فارسي ، وهذا تركي ، قد أحضرناهم ...
    فقال ( عليه السلام ) : فليتكلموا بما أحبوا ، أجب كل واحد منهم بلسانه إن شاء الله.
    ... وتقدم كل واحد منهم أمام الامام فسأله عن مسألة فأجاب ( عليه السلام ) عنها بلغته ، وبهر القوم وعجبوا.
    والتفت الامام إلى عمرو فقال له : إن أنا أخبرتك أنك ستبتلي في هذه الأيام بدم ذي رحم لك هل كنت مصدقا لي ؟ ....
    لا. فان الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى .....
    ورد الامام عليه مقالته : أو ليس الله تعالى يقول : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد الا من ارتضى من رسول ) فرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عند الله مرتضى ، ونحن ورثة ذلك


(94)
الرسول الذي اطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان ، وما يكون إلى يوم القيامة.
    وان الذي أخبرتك به يا بن هداب لكائن إلى خمسة أيام وان لم يصح في هذه المدة فاني .. وان صح فتعلم أنك راد على الله ورسوله.
    وأضاف الامام قائلا : اما انك ستصاب ببصرك ، وتصير مكفوفا ، فلا تبصر سهلا ، ولا جبلا وهذا كائن بعد أيام ، ولك عندي دلالة أخرى ، انك ستحلف يمينا كاذبة فتضرب بالبرص ...
    وأقسم محمد بن الفضل بالله بأن ما أخبر به الامام قد تحقق ، وقيل لابن هداب :
    هل صدق الرضا بما أخبر به ؟ ...
    فقال : والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنه كائن ، ولكني كنت أتجلد.
    والتفت الامام إلى الجاثليق فقال له : هل دل الإنجيل عل نبوة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟.
    وسارع الجاثليق قائلا : لو دل الإنجيل على ذلك ما جحدناه ....
    ووجه الامام له السؤال التالي : اخبرني عن السكنة التي لكم في السفر الثالث ؟ ... وأجاب الجاثليق : انها اسم من أسماء الله تعالى لا يجوز لنا ان نظهره ...
    ورد عليه الامام قائلا : فان قربه ربك أنه اسم محمد ، وأقر عيسى به ، وأنه بشر بني إسرائيل بمحمد لتقربه ، ولا تنكره ؟ ...
    ولم يجد الجاثليق بدا من الموافقة على ذلك قائلا : إن فعلت أقررت ، فاني لا أرد الإنجيل ولا أجحده ....
    وأخذ الامام يقيم عليه الحجة قائلا : خذ على السفر الثالث الذي فيه ذكر محمد ( صلى الله عليه وآله ) وبشارة عيسى


(95)
بمحمد ؟ ...
    وسارع الجاثليق قائلا : هات ما قلته ....
    فأخذ الإمام ( عليه السلام ) يتلو عليه السفر من الإنجيل الذي فيه ذكر الرسول محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وقال للجاثليق : من هذا الموصوف ؟ ...
    قال الجاثليق : صفه.
    وأخذ الإمام ( عليه السلام ) في وصفه قائلا :
    لا أصفه إلا بما وصفه الله ، وهو صاحب الناقة ، والعصا ، والكساء ، النبي الأمي ، الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم ؟؟ عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم ، والاغلال التي كانت عليهم ، يهدي إلى الطريق الأقصد ، والمنهاج الأعدل ، والصراط الأقوم.
    سألتك يا جاثليق بحق عيسى روح الله ، وكلمته ، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبي ( صلى الله عليه وآله ) ؟؟.
    وأطرق الجاثليق مليا برأسه إلى الأرض ، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، فقد سد عليه الامام كل نافذة يسلك منها ، ولم يسعه أن يجحد الإنجيل.
    فأجاب الامام قائلا : نعم هذه الصفة من الإنجيل ، وقد ذكر عيسى في الإنجيل هذا النبي ولم يصح عند النصارى أنه صاحبكم.
    وانبرى الامام يقيم عليه الحجة ، ويبطل أوهامه قائلا :
    أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل ، وأقررت بما فيه من صفة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فخذ على السفر الثاني ، فإنه قد ذكره وذكر وصيه ، وذكر ابنته فاطمة وذكر الحسن والحسين ..
    وقد استبان للجاثليق ورأس الجالوت أن الإمام ( عليه السلام ) عالم بالتوراة والإنجيل ، وانه واقف على جميع ما جاء فيهما ، وفكرا في التخلص من حجج الامام فأبديا الشك في أن الذي بشر به موسى والسيد المسيح هو النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وطفقا قائلين :


(96)
لقد بشر به موسى وعيسى جميعا ، ولكن لم يتقرر عندنا أنه محمد هذا ، فأما كون اسمه محمد ، فلا يجوز أن نقر لكم بنبوته ، ونحن شاكون انه محمدكم أو غيره ..
    وانبرى الامام ففند شبهتهم قائلا : احتججتم بالشك ، فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيا اسمه محمد أو تجدونه في شئ من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمد ؟ ..
    وأحجموا عن الجواب ، ولم يجدا شبهة يتمسكان بها ، وأصرا على العناد والجحود قائلين : لا يجوز لنا أن نقر لك بأن محمدا هو محمدكم ، فإنا إن أقررنا لك بمحمد ووصيه وابنته وابنيها على ما ذكرتم أدخلتمونا في الاسلام كرها ..
    وانبرى الامام قائلا : أنت يا جاثليق آمن في ذمة الله ، وذمة رسوله أنه لا يبدؤك مناشئ تكرهه ...
    وسارع الجاثليق قائلا : إذ قد آمنتني ، فان هذا النبي الذي اسمه محمد ، وهذا الوصي الذي اسمه علي ، وهذه البنت التي اسمها فاطمة ، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور.
    وطفق الامام قائلا : هل هذا صدق وعدل ؟ ...
    بل صدق وعدل ..
    وسكت الجاثليق ، واعترف بالحق.
    والتفت الامام إلى رأس الجالوت فقال له : اسمع يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود ...
    قال رأس الجالوت : بارك الله فيك وفيمن ولدك : ، هات ما عندك ...
    وأخذ الامام يتلو عليه السفر الأول من الزبور حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن الحسين.
    ووجه الامام له السؤال التالي : سألتك يا رأس الجالوت بحق الله هذا في زبور داود ؟ ...
    نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم ....


(97)
وانبرى الامام قائلا : بحق عشر الآيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران في التوراة هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل ؟
    ولم يسع رأس الجالوت إلا الاقرار والاعتراف بذلك ، واخذ الامام يتلو في سفر آخر من التوراة ، وقد بهر رأس الجالوت من اطلاع الامام ومن فصاحته وبلاغته ، وتفسيره ما جاء في النبي وعلي وفاطمة والحسنين ، فقال رأس الجالوت :
    والله يا بن محمد لولا الرياسة التي حصلت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد ، واتبعت أمرك ، فوالله الذي أنزل التوراة على موسى ، والزبور على داود ، ما رأيت اقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك ، ولا رأيت أحسن تفسيرا وفصاحة لهذه الكتب منك.
    وقد استغرقت مناظرة الامام معهم وقتا كثيرا حتى صار وقت صلاة الظهر فقام ( عليه السلام ) فصلى بالناس صلاة الظهر ، وانصرف إلى شؤونه الخاصة ، وفي الغد عاد إلى مجلسه ، وقد جاءوا بجارية رومية لامتحان الإمام ( عليه السلام ) ، فكلمها الامام بلغتها ، والجاثليق حاضر ، وكان عارفا بلغتها.
    فقال الامام للجارية : أيما أحب إليك محمد أم عيسى ؟ ...
    فقالت الجارية : كان فيما مضى عيسى أحب إلي : لأني لم أكن اعرف محمدا : وبعد أن عرفت محمدا فهو أحب إلي من عيسى ...
    والتفت لها الجاثليق فقال لها : إذا كنت دخلت في دين محمد فهل تبغضين عيسى ؟ ...
    وأنكرت الجارية كلامه فقالت : معاذ الله بل أحب عيسى ، وأومن به ، ولكن محمدا أحب إلي ....
    والتفت الامام إلى الجاثليق فطلب منه ان يترجم للجماعة كلام الجارية ، فترجمه لهم ، وطلب الجاثليق من الامام ان يحاجج مسيحيا من السند له معرفة بالمسيحية ، وصاحب جدل ، فحاججه الامام بلغته.
    فآمن السندي بالاسلام ، وأقر للإمام ( عليه السلام ) بالإمامة ، وطلب ( عليه السلام ) من محمد بن الفضل أن يأخذه إلى الحمام ليغتسل ، ويطهر بدنه من درن الشرك ، فأخذه محمد إلى الحمام ، وكساه بثياب نظيفة ، وأمر الامام بحمله إلى يثرب ليتلقى من علومه ، ثم ودع الامام أصحابه


(98)
ومضى إلى المدينة المنورة (1).

    سفره إلى الكوفة :  وغادر الإمام ( عليه السلام ) يثرب متوجها إلى الكوفة ، فلما انتهى إليها استقبل فيها استقبالا حاشدا ، وقد نزل ضيفا في دار حفص بن عمير اليشكري ، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل ، وهو يجيبهم عنها ، وقد عقد مؤتمرا عاما ضم بعض علماء النصارى واليهود وجرت بينه وبينهم مناظرات أدت إلى انتصاره وعجزهم عن مجاراته ، والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى الحاضرين ، فقال لهم :
    يا معاشر الناس ، أليس انصف الناس من حاج خصمه بملته وبكتابه ، وشريعته ؟ ....
    فقالوا جميعا : نعم
    فقال ( عليه السلام ) : اعلموا أنه ليس بامام بعد محمد ( صلى الله عليه وآله ) الا من قام بما قام به محمد ( صلى الله عليه وآله ) حين يفضي له الامر ، ولا يصلح للإمامة الا من حاج الأمم بالبراهين للإمامة ....
    وانبرى عالم يهودي فقال له : ما الدليل على الامام ؟ ...
    فقال ( عليه السلام ) : أن يكون عالما بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم فيحاج أهل التوراة بتوراتهم ، وأهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل القرآن بقرآنهم ، وأن يكون عالما بجميع اللغات حتى لا يخفي عليه لسان واحد ، فيحاج كل قوم بلغتهم ، ثم يكون مع هذه الخصال تقيا ، نقيا من كل دنس ، طاهرا من كل عيب ، عادلا ، منصفا ، حكيما ، رؤوفا ، رحيما ، غفورا ، عطوفا ، صادقا ، مشفقا ، بارا أمينا ، مأمونا ... (2).
    وجرت بينه وبين بعض الحاضرين مناظرات أدت إلى تمسك الشيعة بالامام
1 ـ البحار 12 / 21 ـ 23 ، بتصرف نقلنا الخير.
2 ـ البحار 12 / 23 ، نقلنا الحديث بتصرف.


(99)
( عليه السلام ) ، وزيادة ايمانهم بقدراته العلمية الهائلة كما أدت إلى افحام القوى المعارضة للامام ، وعجزهم عن مجاراته وبهذا نطوي الحديث عن دور الامام في ظلال أبيه ، وبعد وفاته.


(100)

(101)
    مناظراته واحتجاجاته واتسم عصر الإمام الرضا ( عليه السلام ) بشيوع المناظرات والاحتجاجات بين زعماء الأديان والمذاهب الاسلامية وغيرها ، وقد احتدم الجدال بينهم في كثير من البحوث الكلامية خصوصا فيما يتعلق بأصول الدين ، وقد حفلت الكتب الكلامية وغيرها بألوان من ذلك الصراع العقائدي مشفوعة بالأدلة التي أقامها المتكلمون على ما يذهبون إليه.
    ومن بين المسائل التي عظم فيها النزاع ، واحتدم فيها الجدال بين الشيعة والسنة ( الإمامة ) فالشيعة تصر على أن الإمامة كالنبوة غير خاضعة لاختيار الأمة وانتخابها ، وانما أمرها بيد الله تعالى فهو الذي يختار لها من يشاء من صلحاء عباده ممن امتحن قلوبهم للايمان كما يشترطون في الامام ان يكون معصوما عن الخطأ.
    وأن يكون أعلم الأمة ، وأدراها لا في شؤون الشريعة الاسلامية فحسب وانما في جميع علوم الحياة ، وأنكر جمهور أهل السنة ذلك جملة وتفصيلا ، ومن الجدير بالذكر أن أروقة الملوك والوزراء في عصر الامام قد عقدت فيها مجالس للمناظرة بين زعماء المذاهب الاسلامية فقد عقدت البرامكة مجالس ضمت المتكلمين من علماء السنة.
    فناظروا العالم الكبير هشام بن الحكم ، وحاججوه في أمر الإمامة ، فتغلت عليهم ببالغ الحجة ، وقوة البرهان ، ومما لا ريب فيه ان عقد البرامكة للخوض في هذه البحوث الحساسة لم تكن بواعثه علمية فقط ، وانما كانت للاطلاع على ما تملكه الشيعة من الأدلة الحاسمة لاثبات معتقداتها في الإمامة.
    ولما جمل المأمون ولاية العهد للإمام الرضا ( عليه السلام ) التي لم تكن عن اخلاص ، ولا عن ايمان بأن الامام أحق وأولى بالخلافة منه ، وانما كانت لأسباب سياسية سوف نتحدث عنها في غضون هذا الكتاب ، وقد أوعز إلى ولاته في جميع


(102)
أنحاء العالم الاسلامي باحضار كبار العلماء من المتمرسين في مختلف أنواع العلوم بالحضور إلى خراسان ليسألوا الامام عن أعقد المسائل العلمية ، ولما حضروا عنده عرض عليهم الامر ، ووعد بالثراء العريض كل من يسأل الإمام ( عليه السلام ) سؤالا يعجز عن اجابته ، والسبب في ذلك ـ فيما نحسب ـ يعود إلى ما يلي :
    أولا : إن المأمون أراد أن ينسف عقيدة الشيعة ويقضي على جميع معالمها فيما إذا عجز الإمام الرضا ( عليه السلام ) فإنه يتخذ من ذلك وسيلة لنقض ما تذهب إليه الشيعة من أن الامام أعلم أهل عصره ، وأدراهم بجميع أنواع العلوم ، ومن الطبيعي أن ذلك يؤدي إلى زعزعة كيان التشيع ، وبطلان عقيدتهم في أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ).
    ثانيا : ان الامام لو عجز عن أجوبة المسائل التي يقدمها العلماء له فان المأمون يكون في سعة من عزله عن ولاية العهد بعد أن استنفذت أغراضه السياسية منها ، فقد أظهر للناس في بداية الامر انه انما رشح الامام لهذا المنصب الخطير لأنه اعلم الأمة ، ولكن لما ظهر له خلاف ذلك قام بعزله ، وفي نفس الوقت تقوم وسائل اعلامه بإذاعة ذلك ، والحط من شأن الامام ، وفي ذلك استجابة لعواطف الأسرة العباسية التي غاظها ترشيح المأمون للامام لولاية العهد.
    فعمدت إلى عزله ، ومبايعة المغني إبراهيم ـ كما سنتحدث عن ذلك ـ وعلى اي حال فقد قام العلماء بالتفتيش عن أعقد المسائل وأكثرها صعوبة وعمقا في جميع أنواع العلوم ، وعرضوها على الامام فأجاب عنها جواب العالم الخبير المتمرس فيها ويقول الرواة :
    انه سئل عن أكثر من عشرين الف مسألة في نوب مفرقة عاد فيها بلاط المأمون إلى مركز علمي ، وخرجت الوفود العلمية ، وهي مليئة بالاعجاب والاكبار بمواهب الامام وعبقرياته ، واخذت تذيع على الناس ما يملكه الامام من طاقات هائلة من العلم والفضل كما ذهب معظمهم إلى القول بإمامته ، مما اضطر المأمون إلى حجب الامام عن العلماء خوفا ان يفتتنوا له ولم يذكر الرواة الا كوكبة يسيرة منها ، نعرض لها ولبعض ما اثر عنه هذا الموضوع.
    وفيما يلي ذلك :
    1 ـ أسئلة عمران الصابئ :
    وكان عمران الصابئ من كبار فلاسفة عصر الإمام ( عليه السلام ) كما كان الزعيم الروحي لطائفة الصابئة ، وقد انتدبه المأمون لامتحان الامام ، فأختار له أعمق المسائل الفلسفية وأكثرها تعقيدا وغموضا ، وقد شرحها وعلق عليها المحقق الشيخ


(103)
محمد تقي الجعفري ، قال : وقد اشتمل هذا الاحتجاج على أهم المسائل الإلهية وأغمضها ، وهي على اطلاقها عويصات في الحكمة المتعالية ، قد أتعبت أفكار الباحثين الناظرين في ذلك الفن ، ولم يأت هؤلاء الأساطين بأجوبة كافية لتلك المسائل بل تعقبها أسئلة أخرى ربما تكون اغمض من نفس الأسئلة ، وقد وقعت تلك الغوامض موارد لأسئلة عمران في هذه الرواية ، وأجاب عنها الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) ثامن حجج الله على عباده وامنائه في ارضه ، وما بينه الامام في هذا الاحتجاج مناهج واضحة لم يطمسها غبار الحجب المادية التي تثيرها العقول المحدودة في معقل المحسوسات المظلمة ، هكذا ينكشف عند المتمسكين بأذيال أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي حقائق ضل في سبيل الوصول إليها الأفكار الناقصة.
    ونعرض للنص الكامل من أسئلة الصابئ وجواب الامام عنها حسبما ذكره الشيخ الصدوق في ( عيون أخبار الرضا ) مع مقتطفات من تعليقات الشيخ الجعفري عليها ..
    لقد قدم الوفد الذي كان مع عمران جملة من المسائل ، وبعدما أجاب الإمام ( عليه السلام ) عن أسئلة الوفد الذي هو من كبار علماء النصارى ، واليهود والصابئة.
    قال لهم : يا قوم ان كان فيكم أحد يألف ؟؟ الاسلام ، وأراد أن يسأل ، فليسأل غير محتشم ...
    فانبرى إليه عمران الصابئ ، وكان متطلعا بصيرا في علم الكلام فخاطب الامام بأدب واكبار قائلا :
    يا عالم الناس لولا أنك دعوت إلى مسألتك ، لم أقدم عليك بالمسائل ، فلقد دخلت الكوفة والبصرة ، والشام ، والجزيرة ولقيت المتكلمين ، فلم أقع على أحد يثبت لي واحدا ـ يعني ان الله تعالى واحد لا ثاني له ـ ليس غيره قائما بوحدانيته أفتأذن لي أن أسألك ...
    عرض الصابئ إلى عمق مسألته ، وانه لم يهتد لحلها علماء الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ، ويطلب من الإمام ( عليه السلام ) حلها ، فقابله الامام ببسمات فياضة بالبشر.
    قائلا : ان كان في الجماعة عمران الصابئ فأنت هو ....
    أنا هو


(104)
سل يا عمران ، وعليك بالنصفة ، وإياك والخطل (1) والجور ...
    وأطرق الصابئ بوجهه إلى الأرض ، وقال بنبرات تقطر أدبا وإجلالا للامام : والله يا سيدي ما أريد الا أن تثبت لي شيئا أتعلق به فلا أجوزه ..
    لقد أعرب الصابئ عن نواياه الحسنة وانه يريد الحقيقة ، والوصول إلى الواقع ، ولا صلة له بغير ذلك.
    فقال ( عليه السلام ) : سل عما بدا لك ....
    وكان المجلس مكتظا بالعلماء والقادة ، وفي طليعتهم المأمون فانضم بعضهم إلى بعض ، وانقطعوا عن الكلام ليسمعوا أسئلة الصابئ وجواب الامام عنها ، وتقدم الصابئ بأسئلته.
    س : 1 ـ اخبرني عن الكائن الأول ، وعما خلق ..
    أما المسؤول عنه في هذه الكلمات فهو الشئ الأول والمادة الأولى التي خلق الله تعالى الأشياء منها ، وليس المسؤول عنه وجود الله المبدع العظيم فإنه من الأمور الواضحة التي لا يشك فيها من يملك وعيه وإرادته ، فإن جميع ما في الكون تدلل على وجود خالقها فإنه من المستحيل أن يوجد المعلول من دون علته ...
    ولنستمع إلى جواب الإمام ( عليه السلام ) عن هذه المسألة.
    ج 1 ـ أما الواحد فلم يزل واحدا كائنا ، بلا حدود ، ولا أعراض ، ولا يزال كذلك ، ثم خلق خلقا مبتدعا مختلفا بأعراض وحدود مختلفة ، لا في شئ أقامه ، ولا في شئ حده ، ولا على شئ حذاه ، ومثله له ، فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة ، وغير صفوة ، واختلافا وائتلافا ، وألوانا وذوقا وطعما لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ، ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلا به ولا رأي لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصانا ..
    وحكى هذا المقطع من جواب الإمام ( عليه السلام ) ما يلي.
    أولا : ان الله تعالى واحد لا شئ معه ، وهو مجرد من الحدود والاعراض التي هي من صفات الممكن ، فهو كائن واحد ، ما زال ولا يزال ، وليست وحدته عددية أو نوعية أو جنسية ، وانما بمعنى عدم ارتباطه بأي شئ مادي أو غير مادي ، فهو بمرتبة من الكمال لا يشابهه أي شئ من الممكنات التي نسبتها إليه نسبة الصانع إلى المصنوع ، فتبارك الله.
    ثانيا : إن النظرة البدوية في الأشياء أن كل صورة لا بد لها من مادة تقوم وتحل
1 ـ الخطل : المنطق الفاسد.

(105)
بها ، ولكن هذا بالنسبة إلى غير الواجب تعالى أما هو فإنه يخلق الأشياء لا من شئ كان ، ولا من شئ خلق ، وانما يقول للشئ كن فيكون ، فقد ابتدع خلق الأشياء لا على شئ حذاه ، ومثله له ، فهو القوة الكبرى المبدعة لخلق الأشياء لا لحاجة منه إليها ، فهو المصدر الوحيد للفيض على جميع الكائنات.
    والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى عمران فقال له : تعقل هذا يا عمران ... ؟.
    نعم والله يا سيدي ....
    اعلم يا عمران أنه لو كان خلق ما خلق لحاجة ، لم يخلق إلا من يستعين به على حاجته ، ولكان ينبغي أن يخلق اضعاف ما خلق لان الأعوان كلما كثروا كان صاحبهم أقوى ، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنه كان لم يحدث من الخلق شيئا إلا حدثت فيه حاجة أخرى ، ولذلك أقول : لم يخلق الخلق لحاجة ولكن تقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض ، وفضل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل ، ولا نقمة منه على من أذل ....
    وهذا الكلام متمم لما قبله من أن الله تعالى خلق الخلق في غنى عنهم فهم المحتاجون إلى فيضه ورحمته وعطائه ، فهو الجواد المطلق الذي بسط الرحمة والاحسان على جميع الموجودات والكائنات وكان من فضله أنه فضل بعض مخلوقاته على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل ، ولا نقمة منه على من أذل.
    س : 2 ـ يا سيدي هل كان الكائن معلوما في نفسه عند نفسه .. ؟
    وهذا السؤال عميق للغاية ،  وتوضيحه ـ حسبما ذكره الشيخ الجعفري ـ أن تحصل شئ وتحققه في الانكشاف العلمي كواقع ذلك الشئ ينحل إلى هوية نفسه ، وطارديته لغيره ، وبذلك يكون محدودا ، فإن الحجر ما لم يضف إلى هويته عدم جميع أضداده لا يتحصل تحصلا علميا ...
    فأن النفس المعلومة ما لم يلاحظ طرد جميع ما سواها عنها لا تكون معلومة ومحصلة عند العالم وكأن هذا هو الموجب لسؤال عمران عن كونه تعالى معلوما عند نفسه ، فحينئذ لو أجاب الامام بثبوته لاستشكل عمران هل كان تحصيل نفسه عند نفسه ملازما لطرد غيره من المعقولات أم لا ؟.
    ج 2 ـ قال ( عليه السلام ) : إنما يكون المعلمة بالشئ لنفي خلافه ، وليكن الشئ نفسه ، بما نفى عنه موجودا ، ولم يكن هناك شئ يخالفه ، فتدعوه الحاجة إلى
حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الجزء الأول ::: فهرس