حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الجزء الأول ::: 271 ـ 285
(271)
    وقد أقر به ، واعتمد عليه جمهور من اعلام الفقه الإمامي كالفاضل الكاشاني ، وصاحب الرياض ، والمحدث البحراني وغيرهم. وانكره فريق آخر من كبار العلماء والمحققين ، ولا يزال مثار الجدل بين الاعلام ، والمتأمل في الكتاب ، تواجهه بعض المؤخذات التي تبعد نسبته للإمام ( عليه السلام ) وهي :
    أولا ـ ان هذا الكتاب لو كان للامام لما كان مغمورا عدة قرون لم يطلع عليه أحد من قدامي فقهاء الامامية ، وأصحاب الحديث مع اهتمامهم البالغ بجميع ما أثر عن أئمة الهدى ( عليهم السلام ) ، فلم يشر إليه أحد منهم بكلمة.
    ثانيا ـ ان الشيخ الصدوق رحمه الله الذي دون جميع الآثار الواردة من الإمام الرضا ( عليه السلام ) في كتابه ( عيون أخبار الرضا ) فإنه لم يشر إليه في هذا الكتاب ولا في جميع مؤلفاته.
    ثالثا ـ ان فيه بعض الاخبار المخالفة لعقيدة التشيع كالغلو الذي حاربه الأئمة الطاهرون ، وبنوا على كفر من يذهب إليه ، فقد جاء في هذا الكتاب في باب استقبال القبلة في الصلاة واجعل واحدا من الأئمة نصب عينيك وهذا غلو فاحش فإن المصلي عليه أن يتجه بقلبه وعواطفه ومشاعره أمام الله خالق الكون وواهب الحياة.
    هذه بعض المؤاخذات التي تواجه هذا الكتاب ، وهي تبعد نسبته للإمام ( عليه السلام ) ، وقد نشر هذا الكتاب المؤتمر العالمي للإمام الرضا ( عليه السلام ) في مشهد المقدسة ، وقامت بتحقيقه مؤسسة آل البيت ( عليهم السلام ) لإحياء التراث في قم زادها الله شرفا وقد قدمه سماحة المحقق الكبير الشيخ جواد الشهرستاني ، وعرض إلى ما قاله المثبتون لهذا الكتاب والنافون له من الأدلة.


(273)
    بحوث عقائدية وخاض الإمام الرضا ( عليه السلام ) في بحوثه ومحاضراته الكثير من المسائل العقائدية ونفى ما يحوم حولها من الشبه والأوهام التي آثرها الحاقدون على الاسلام والجاهلون بأحكامه ، وقد عرضنا إلى قسم كبير منها في مناظراته مع علماء الفرق والأديان ، والتي نالت اعجاب العلماء ، وايمانهم بالقدرات العلمية الهائلة التي يملكها الامام ، وقد عجت بها أروقة السياسة وأندية أهل العلم ...
    ونعرض إلى جانب آخر من تلك البحوث التي لم تكن في إطار المناظرات وهي :
    1 ـ قضايا التوحيد.
    وأثيرت كثير من التساؤلات حول قضايا التوحيد أجاب عنها الإمام ( عليه السلام ) ، وفند ما الصق بها من شكوك وأوهام وكان من بينها ما يلي :
    أ ـ استحالة المعرفة الكاملة بذات الله.
    ان من المستحيل أن يوصف الله تعالى بصفة تلم بحقيقة ذاته المقدسة وقد انبرى أبو هاشم الجعفري ، وهو من اعلام عصره في فضله وعلمه وتقواه فقال للإمام الرضا ( عليه السلام ) : هل يوصف الله ؟ وقد أراد بذلك الوقوف والإحاطة بمعرفة الله فاجابه الإمام ( عليه السلام ) : أما تقرأ القرآن ؟.
    بلى ....
    وأحال الامام عليه الجواب على كتاب الله تعالى.
    فقال : أما تقرأ قوله تعالى : ( لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار ).


(274)
    وأسرع أبو هاشم قائلا : ما هي ...
    وأجاب أبو هاشم عما يعرفه عن الابصار قائلا : ابصار العيون ...
    فأنكر الإمام ( عليه السلام ) ذلك قائلا : إن أوهام القلوب أكبر من بصار العيون ، فهو لا تدركه الأوهام ، وهو يدرك الأوهام .... (1).
    إن نظرة العقل أوسع ، وأكثر شمولا من رؤية البصر ، وان العقل بجميع مدركاته وتصوراته أيضا محدود ، ولا يمكن أن يحيط علما بمعرفة ذات الله تعالى.
    ب ـ استحالة رؤية الله :
    من المستحيل رؤية الله تعالى ، وقد شاع في بعض أوساط ذلك العصر ان النبي محمدا ( صلى الله عليه وآله ) ، قد رآه وقد خف كل من إبراهيم بن محمد الخزاز ، ومحمد بن الحسين إلى الإمام الرضا ( عليه السلام ) يسألانه عن ذلك وقالا له : إن محمدا رأى ربه في صورة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة ؟ ....
    وأسندا هذه المقالة إلى جماعة من اعلام الشيعة ، وانهم قالوا : انه تعالى أجوف إلى السرة ، والبقية صمد ، ولا شبهة ان ذلك مدسوس عليهم ولا علاقة لهم بهذه المنكرات واضطراب الامام حينما سمع هذه الأباطيل ، وخر ساجدا ؟؟ لله تعالى ، وجعل يخاطبه بتذلل وخشوع : سبحانك ما عرفوك ، ولا وحدوك ، فمن أجل ذلك وصفوك ، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك ، سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم ان يشبهوك بغيرك. اللهم لا أصفك إلا بما وصفت به نفسك ، ولا أشبهك بخلقك ، أنت أهل لكل خير ، فلا تجعلني من القوم الظالمين .....
    ثم التفت ( عليه السلام ) إليهم فقال : ما توهمتم من شئ ، فتوهموا الله غيره ....
1 ـ أصول الكافي 1 / 99.

(275)
    يعني أن كل ما يتوهمه الانسان ، ويتصوره بالنسبة إلى ذات الله تعالى ، فليتصور بأن الله تعالى غير الذي تصوره ثم التفت إلى محمد بن الحسين فقال له : نحن آل محمد النمط الأوسط الذي لا يدركنا الغالي ولا يسبقنا التالي ، يا محمد ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين نظر إلى عظمة ربه كان (ص) في هيئة الشاب الموفق وسن أبناء ثلاثين سنة ؟ !! يا محمد عظم ربي عزوجل أن يكون في صفة المخلوقين. وانبرى محمد بن الحسين قائلا : من كانت رجلاه في خضرة ؟.
    فأجابه الامام : ذاك محمد كان إذا نظر إلى ربه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب ، حتى يستبين له ما في الحجب ، ان نور الله منه أخضر ومنه أحمر ، ومنه أبيض ، ومنه غير ذلك ، يا محمد ما شهد له الكتاب والسنة فنحن القائلون به (1).
    ج ـ نفي الشبه عن الله :
    ونفى الإمام ( عليه السلام ) جميع ألوان الشبه ، والصور عن الله تعالى ، وذلك في حديث جرى بينه وبين الفتح بن يزيد الجرجاني ، وهو في طريقه إلى خراسان ، فقد قال الإمام ( عليه السلام ) له : يا فتح من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق ، ومن أسخط الخالق فقمين أن يسلط عليه سخط المخلوقين.
    وان الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه ، وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطوات أن تحده ، والابصار عن الإحاطة به. جل عما وصفه الواصفون ، وتعالى عما ينعته الناعتون ، نأى في قربه ، وقرب في نأيه فهو في بعده قريب ، وفي قربه بعيد ، كيف الكيف ، فلا يقال له : كيف ، وأين الأين فلا يقال له أين ، إذ هو مبدع الكيفوفية ، والأينونية. يا فتح كل جسم مغذي بغذاء إلا الخالق الرازق ، فإنه جسم الأجسام ، وهو ليس بجسم ، ولا صورة ، لم يتجزأ ، ولم يتناه ولم يتزايد ، ولم يتناقص ، مبرأ ؟؟ من ذات
1 ـ أصول الكافي ( 1 / 101 ـ 102 ).

(276)
ما ركب في ذات من جسمه (1) وهو اللطيف الخبير ، السميع البصير ، الواحد الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، منشئ الأشياء ، ومجسم الأجسام ، ومصور الصور ، لو كان كما يقول المشبهة لم يعرف الخالق من المخلوق ، ولا الرازق من المرزوق ، ولا المنشئ من المنشأ لكنه المنشئ ، فرق بين جسمه وصوره ، وشيئه وبينه إذ كان يشبهه شئ.
    وانبرى الفتح قائلا : الله واحد ، والانسان واحد فليس قد تشابهت الواحدانية ؟ وفند الامام هذه الشبهة قائلا : أحلت ـ أي أتيت بالمحال ـ ثبتك الله إنما التشبيه في المعاني فاما الأسماء فهي واحدة (1) وهي دالة على المسمى وذلك أن الانسان وإن قيل واحد فإنه يخبر أنه جثة واحدة وليس باثنين والانسان نفسه ليس بواحد لان أعضاءه مختلفة غير واحدة وهو اجزاء مجزأ ليس سواء ، دمه غير لحمه ولحمه غير دمه وعصبه غير عروقه وشعره غير بشره وسواده غير بياضه ، وكذلك سائر جميع الخلق ، فالانسان واحد في الاسم لا واحد في المعنى. والله جل جلاله واحد ، لا واحد غيره ، ولا اختلاف فيه ولا تفاوت ، ولا زيادة ولا نقصان ، فأما الانسان المخلوق المصنوع المؤلف من اجزاء مختلفة وجواهر شتى غير أنه بالاجتماع شئ واحد.
    إن اطلاق الواحد على الله تعالى يغاير اطلاق الواحد على الانسان ، فإن الانسان مؤلف من أجزاء مختلفة ومتباينة كالقلب والرئتين والعينين والكليتين وغيرهما من الخلايا والأعضاء ، وباجتماعها أطلق عليها الواحد أما بالنسبة إلى الخالق العظيم تعالى فإنه لم يكن مركبا ولا مؤلفا من عدة اجزاء مجتمعة كي يطلق عليه لفظ الواحد.
    وقال الفتح : فسر لي اللطيف ، فإني اعلم أن لطفه خلاف لطف غيره للفصل .... وأجابه الإمام ( عليه السلام )
1 ـ أي انه تعالى منزه من ذوات الأشياء والاجزاء التي ركبها وجعلها في ذات من أوجده جسما.
2 ـ المراد ان التشبيه الذي ينفى عنه تعالى انما هو في الحقائق لا في الأسماء والألفاظ فإنه يقع فيه وتعالى وفي غيره ، فيصح اطلاق الواحد على الانسان وعلى الله تعالى.


(277)
يا فتح انما قلت : اللطيف للخلق اللطيف ، ولعلمه بالشئ اللطيف ، الا ترى إلى أثر صنعه ـ أي صنع الخالق العظيم ـ في النبات اللطيف وغير اللطيف ، وفي الخلق اللطيف من أجسام الحيوان من الجرجس والبعوض وما هو أصغر منهما مما لا يكاد تستبينه العيون ، بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأنثى ، والمولود من القديم.
    فلما رأينا صغر ذلك في لطفه ، واهتدائه للفساد ، والهرب من الموت ، والجمع لما يصلحه بما في لجج البحار ، وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار ، وافهام بعضها عن بعض منطقها ، وما تفهم به أولادها عنها ، ونقلها الغذاء إليها ، ثم تأليف ألوانها ، حمرة مع صفرة ، وبياض مع حمرة ، علمنا أن خالق هذا الخلق لطيف ، وان كل صانع شئ فمن شئ صنع ، والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شئ ....
    وحكى هذا المقطع الآثار المدهشة لبدائع خلق الله تعالى وذلك في خلقه لأجسام الحيوانات الصغار من الجرجس والبعوض وما هو أصغر منهما مما لا يتميز فيها الذكر من الأنثى فقد وهبها الله تعالى الادراك فاهتدت إلى السفاد لبقائها واستمرارها على الأرض.
    كما وهبها الادراك للفرار من الاخطار التي تواجهها فسبحان ، الخالق اللطيف ، ومضافا لذلك ما تتمتع به من الألوان الزاهية الجالبة للنظر ، واتخاذها لحاء الأشجار والمفاوز والقفار مقرا وبيوتا لها ، إلى غير ذلك من ألطاف الله التي تحيط بها ، فسبحان الخالق العظيم ما أعظم ألطافه على جميع الكائنات الحية.
    وانبرى الفتح قائلا : جعلت فداك ، وغير الخالق الجليل خالق ؟ فاجابه الإمام ( عليه السلام ) : ان الله تبارك وتعالى يقول : ( تبارك الله أحسن الخالقين ) فقد أخبر ان في عباده خالقين منهم عيسى ابن مريم خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فصار طائرا بإذن الله ، والسامري خلق لهم عجلا جسدا له خوار ....
    واعترض الفتح على الامام قائلا : إن عيسى خلق من الطين طيرا دليلا على نبوته ، والسامري خلق عجلا جسدا
1 ـ سورة المؤمنون / آية 14.

(278)
انقض نبوة موسى ( عليه السلام ) ، وشاء الله أن يكون ذلك كذلك ؟ إن هذا لهو العجب !!.
    وأجابه الامام ببالغ الحجة قائلا : يا فتح إن الله إرادتين ومشيئتين : إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء ، أوما رأيت أنه نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة ، وهو يشاء ذلك ، ولو لم يشأ لم يأكلا ، ولو أكلا لغلبت مشيئتهما مشيئة الله وأمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل ، وشاء أن لا يذبحه ، ولو لم يشأ ان لا يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله عزوجل ....
    وفند الإمام ( عليه السلام ) شبهة الفتح ، وذلك بتقسيمه إرادة الله تعالى إلى قسمين : إرادة عزم ، وهي الإرادة التشريعية التي يسميها علماء الكلام ، وهي عبارة عن أوامر الله تعالى ونواهيه لعباده التي فيها توازنهم وصلاحهم في سلوكهم في هذه الحياة ، ولا يستحيل فيها تخلف المراد عن الإرادة ، فقد يطيع العبد وقد يعصي.
القسم الثاني
من الإرادة
    وهي الإرادة الحتمية التي يسميها المتكلمون بالإرادة التكوينية ويستحيل في هذه الإرادة أن يتخلف عنها المراد فإنه تعالى إذا قال للشئ كن فيكون ، وقصة آدم وإبراهيم ( عليهما السلام ) انما هي من النوع الأول من الإرادة ...
    وقد بهر الفتح بكلام الامام وراح يقول : فرجت عني فرج الله عنك غير أنك قلت : السميع البصير هل هو سميع بالاذن بصير بالعين ؟
    فأجابه الامام : إنه ـ اي الله ـ يسمع بما يبصر ويرى بما يسمع بصير لا بعين مثل عين المخلوقين وسميع لا بمثل سمع السامعين لكن لما لم يخف عليه خافية من أثر الذرة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء تحت الثرى والبحار قلنا : بصير لا بمثل عين المخلوقين ، ولما لم يشتبه عليه ضروب اللغات ، ولم يشغله سمع عن سمع قلنا : سميع لا مثل سمع السامعين .....
    وأزاح الإمام ( عليه السلام ) الشبهة عن الفتح ، وأوضح له ان بصر الله تعالى وسمعه ليسا على غرار سمع الانسان وبصره. وطفق الفتح يقول للامام :


(279)
جعلت فداك بقيت مسألة ؟.
    هاتها ....
    قلت : يعلم القديم ، الشئ ، الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ؟ .... فقال ( عليه السلام ) : اما سمعت الله يقول : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) (1) وقوله : ( ولعلا بعضهم على بعض ) (2) وقال : يحكي قول أهل النار : ( أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ) (3) وقال : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) (4) فقد علم الشئ الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ....
    وبهر الفتح بعلم الإمام ( عليه السلام ) واحاطته بهذه المسائل الكلامية المعقدة ، وقد حاول أن يقبل يد الامام ورجله ، فلم يمكنه من ذلك فقبل رأسه الشريف ، وخرج وهو جذلان مسرور لان الامام أزال عنه ما يختلج في نفسه من الشكوك والأهام (5).
    وقد أحاط الإمام ( عليه السلام ) في حديثه مع الفتح بكثير من قضايا التوحيد ، وأوضح الغوامض من مسائله.
    حقيقة التوحيد :
    وأدلى الإمام ( عليه السلام ) ببعض الأحاديث عن حقيقة التوحيد كان منها ما يلي :
    1 ـ مسألة محمد بن يزيد عن التوحيد فأملى عليه ما يلي :
    الحمد لله فاطر الأشياء انشاء ومبتدعها ابتداء بقدرته وحكمته لا من شئ فيبطل الاختراع ، ولا لعلة فلا يصح الابتداع ، خلق ما شاء كيف شاء متوحدا بذلك الاظهار حكمته ، وحقيقة ربوبيته لا تضبطه العقول ، ولا تبلغه الأوهام ، ولا تدركه الابصار ، ولا يحيط به مقدار ، عجزت دونه العبارة وكلت دونه الابصار ،
1 ـ سورة الأنبياء / آية 22.
2 ـ سورة المؤمنون / آية 91.
3 ـ سورة فاطر / آية 37.
4 ـ سورة الأنعام / آية 28.
5 ـ التوحيد ( ص 60 ـ 65 ).


(280)
وضل فيه تصاريف الصفات احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور عرف بغير رؤية ، ووصف بغير صورة ، ونعت بغير جسم لا إله إلا الله الكبير المتعال ....
    وحكى هذا الحديث الشريف القدرة البالغة للخالق العظيم الذي فطر الأشياء ، وأنشأها لا من شئ ، ولا من مثال سبقها فسبحانه ما أعظمه لا تدركه الابصار ولا تحيط به الأوهام ، ولا تحيط بكنه عظمته الألفاظ.
    2 ـ وتشرف بمقابلة الإمام ( عليه السلام ) محمد بن عيسى بن عبيد فسأله الامام : ما تقول : إذا قيل لك اخبرني عن الله عزوجل شئ هو أم لا ؟ ....
    فأجابه محمد جواب العالم الخبير قائلا : قد أثبت الله عزوجل نفسه شيئا حيث يقول : ( قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم ) (2) فأقول : انه شئ لا كالأشياء إذ في نفي الشيئية عنه ابطاله ونفيه.
    واستحسن الامام جوابه فقال له : صدقت وأصبت. وأضاف الامام قائلا : للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : نفي وتشبيه ، واثبات بغير تشبيه فمذهب النفي لا يجوز ، ومذهب التشبيه لا يجوز ، لان الله تبارك وتعالى لا يشبهه شئ ، والسبيل هي الطريقة الثالثة اثبات بلا تشبيه ... (3).
    قدرة الله :
    سأل محمد بن عرفة الإمام ( عليه السلام ) السؤال التالي : خلق الله الأشياء بالقدرة أم بغير القدرة ؟ .... (4).
    فأجابه الامام : لا يجوز أن يكون خلق الأشياء بالقدرة لأنك إذا قلت : خلق الأشياء بالقدرة فكأنك جعلت القدرة شيئا غيره ، وجعلتها آلة له بها خلق الأشياء ، وهذا شرك ، وإذا
1 ـ التوحيد ( ص 98 ) أصول الكافي 1 / 105.
2 ـ سورة الأنعام / آية 19.
3 ـ التوحيد ( ص 107 ).
4 ـ التوحيد ( ص 130 ).


(281)
قلت : خلق الأشياء بقدرة ، فإنما تصفه أنه جعلها باقتدار عليها وقدرة ولكن ليس هو بضعيف ، ولا عاجز ، ولا يحتاج إلى غيره.
    ومعنى كلام الإمام ( عليه السلام ) ان الله تعالى قادر ، وهذه الصفة عين ذاته ، ولم يخلق الأشياء بقدرة خارجة عن ذاته ، فان جميع صفاته الكريمة عين ذاته حسب ما دلل عليه في علم الكلام.
    وقد اكد الإمام ( عليه السلام ) ذلك في كلامه سبحان من خلق الخلق بقدرته ، وأتقن ما خلق بحكمته ، ووضع كل شئ منه موضعه بعلمه ، سبحان من يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي الصدور ، وليس كمثله شئ وهو السميع البصير. (1).
    قدم الخالق العظيم وصفاته :
    من البحوث المهمة التي أدلى بها الإمام ( عليه السلام ) هي قدم الخالق العظيم وصفاته ، قال ( عليه السلام ) لبعض أصحابه :
    اعلم علمك الله الخير ان الله تبارك وتعالى قديم والقدم صفته التي دلت العاقل على أنه لا شئ قبله ولا شئ معه في ديموميته فقد بان لنا باقرار العامة معجزة الصفة انه لا شئ قبل الله ولا شئ مع الله في بقائه وبطل قول من زعم أنه كان قبله أو كان معه شئ وذلك أنه لو كان معه شئ في بقائه لم يجز أن يكون خالقا له لأنه لم يزل معه ، فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه ، ولو كان قبله شئ كان الأول ذلك الشئ لا هذا ، وكان الأول أولى بأن يكون خالقا للأول.
    ثم وصف نفسه تبارك وتعالى بأسماء دعا الخلق إذ خلقهم وتعبدهم ، وابتلاهم إلى أن يدعوه بها ، فسمي نفسه سميعا بصيرا ، قادرا : قائما ، ناطقا ، ظاهرا ، باطنا ، لطيفا خبيرا قويا ، عزيزا ، حكيما ، عليما ، وما أشبه هذه الأسماء فلما رأى ذلك من أسمائه القالون المكذبون ، وقد سمعونا نحدث عن الله ، انه لا شئ مثله ، ولا شئ من الخلق في حاله.
    قالوا : أخبرونا إذا زعمتم انه لا مثل لله ، ولا شبه له ، كيف شاركتموه في أسمائه الحسنى فتسميتم بجميعها ، فان في ذلك دليلا على أنكم مثله في حالاته كلها أو في بعضها دون بعض إذ جمعتم الأسماء الطيبة ؟
1 ـ التوحيد ( ص 137 ).

(282)
    قيل لهم : ان الله تبارك وتعالى الزم العباد أسماء من أسمائه على اختلاف المعاني ، وذلك كما يجمع الاسم الواحد معنيين مختلفين ، والدليل على ذلك قول الناس الجائز عندهم الشائع ، وهو الذي خاطب الله به الخلق فكلمهم بما يعقلون ليكون عليهم حجة في تضييع ما ضيعوا ، فقد يقال للرجل : كلب ، وحمار وثور ، وسكرة ، وعلقمة ، وأسد ، كل ذلك علي خلافه وحالاته لم تقع الأسامي على معانيها التي كانت بنيت عليها لان الانسان ليس بأسد ، ولا كلب ، فافهم ذلك رحمك الله.
    وانما سمي الله تعالى بالعلم (1) بغير علم حادث علم به الأشياء ، استعان به على حفظ ما يستقبل من أمره والروية فيما يخلق من خلقه ، ويفسد ما مضى مما افنى من خلقه ، مما لو لم يحضره ، ويغيبه كان جاهلا ضعيفا كما انا لو رأينا علماء الخلق انما سموا بالعلم لعلم حادث (2) إذ كانوا فيه جهلة ، وربما فارقهم العلم بالأشياء فعادوا إلى الجهل ، وانما سمي الله عالما لأنه لا يجهل شيئا ، فقد جمع الخالق والمخلوق اسم العالم ، واختلف المعنى على ما رأيت.
    وسمي ربنا سميعا لا بخرق فيه يسمع الصوت ، ولا يبصر به كما أن خرقنا الذي به نسمع لا نقوى به على البصر ، ولكنه أخبر انه لا يخفى عليه شئ من الأصوات ، ليس على حد ما سمينا نحن ، فقد جمعنا الاسم بالسمع ، واختلف المعنى وهكذا البصر لا بخرق منه أبصر ، كما انا نبصر بخرق منا لا ننتفع به في غيره ، وهكذا البصر لا بخرق منه أبصر ، كما انا نبصر بخرق منا لا ننتفع به في غيره ، ولكن الله بصير لا يحتمل (3) شخصا ، منظورا إليه ، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى وهو قائم ليس على معنى انتصاب وقيام على ساق في كبد كما قامت الأشياء ولكن قائم (4) يخبر أنه حافظ كقول الرجل : القائم بأمرنا فلان.
    والله هو القائم على كل نفس بما كسبت ، والقائم أيضا كلام الناس : الباقي ، والقائم أيضا يخبر عن الكفاية ، كقولك للرجل قم بأمر بني فلان أي أكفهم ، والقائم منا قائم على ساق ، فقد جمعنا الاسم ، ولم يجمعنا المعنى وأما اللطيف فليس على قلة وقصافة وصغر ، ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء ، والامتناع من أن يدرك كقولك للرجل : لطف عني هذا الامر ،
1 ـ في نسخة بالعالم وهو الأصح.
2 ـ في التوحيد سموا بالعالم لعلم حادث إذ كانوا قبله جهلة.
3 ـ في التوحيد لا يجهل شخصا.
4 ـ في التوحيد ولكن أخبر أنه قائم يخبر أنه حافظ.


(283)
ولطف فلان في مذهبه ، وقوله : يخبرك أنه غمض فيه العقل ، وفات الطلب ، وعاد متعمقا ، متلطفا لا يدركه الوهم ، فكذلك لطف الله تبارك وتعالى عن أن يدرك بحد أو يحد بوصف ، واللطافة منا الصغر والقلة ، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.
    وأما الخبير فالذي لا يعزب عنه شئ ، ولا يفوته ، ليس للتجربة ، ولا للاعتبار بالأشياء ، فعند التجربة والاعتبار علمان ولولاهما ما علم لان من كان كذلك كان جاهلا ، والله لم يزل خبيرا بما يخلق الخبير من الناس المستخبر عن جهل المتعلم ، فقد جمعنا الاسم ، واختلف المعنى وأما الظاهر فليس من أجل أنه علا الأشياء بركوب فوقها ، وقعود عليها وتسنم لذراها ، ولكن ذلك لقهره ولغلبته الأشياء وقدرته عليها كقول الرجل :
    ظهرت على أعدائي ، وأظهرني الله على خصمي ، يخبر عن الفلج والغلبة فهكذا ظهور على الأشياء ، ووجه آخر انه الظاهر لمن أراده ، ولا يخفى عليه شئ وانه مدبر لكل ما برأ ، فأي ظاهر أظهر وأوضح من الله تبارك وتعالى لأنك لا تعدم صنعته حيثما توجهت ، وفيك من آثاره ما يغنيك ، والظاهر منا البارز بنفسه ، والمعلوم بحده فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى.
    وأما الباطن فليس على معنى الاستبطان للأشياء بأن يغور فيها ولكن ذلك منه على استبطانه للأشياء علما وحفظا وتدبيرا كقول القائل : أبطنته : يعني خبرته ، وعلمت مكتوم سره ، والباطن منا الغايب في الشئ المستتر وقد جمعنا الاسم واختلف المعنى واما القاهر فليس على معنى علاج ونصب واحتيال ، ومدارة ومكر كما يقهر العباد بعضهم بعضا ، والمقهور منهم يعود قاهرا والقاهر يعود مقهورا ، ولكن ذلك من الله تبارك وتعالى على أن جميع ما خلق ملبس به الذل لفاعله ، وقلة الامتناع لما أراد به ، لم يخرج منه طرفة عين ، أن يقول له : ( كن فيكون ) والقاهر منا على ما ذكرت ووصفت ، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى ، وهكذا جميع الأسماء ، وإن كنا لم نستجمعها كلها فقد يكتفي الاعتبار بما ألقينا إليك ، والله عونك وعوننا في ارشادنا وتوفيقنا ... (1).
    وحفلت هذه الرسالة بالاستدلال على قدم الخالق العظيم المبدع والمكون
1 ـ أصول الكافي 1 / 120 ـ 123.

(284)
للأشياء على اختلاف أنواعها ، كما حفلت بذكر بعض أسماء الله تعالى ، وانها وإن أطلقت على الانسان إلا ان المعنى مختلف ، فاطلاقها على الله غير اطلاقها على الانسان المفتقر إلى الله تعالى في جميع شؤونه وأحواله ومن الجدير بالذكر ان هذه الرسالة وصفها الكليني بأنها مرسلة ، وليست بمسندة.
    نزاهة الخالق عن المكان :
    وتنزه الخالق العظيم عن المكان والزمان اللذين هما من لوازم الموجودات التي تستند في وجودها إلى الله تعالى.
    وقد خف رجل من وراء نهر بلخ نحو الإمام الرضا ( عليه السلام ) فقال له : إني أسألك عن مسألة فان أجبتني فيها بما عندي قلت بإمامتك ...
    سل عما شئت ....
    وعرض مسألته على الامام قائلا : أخبرني عن ربك متى كان ؟ وكيف كان اعتماده ؟ ....
    واجابه الامام ببالغ الحجة قائلا : ان الله تبارك وتعالى أين الأين بلا أين ، وكيف الكيف بلا كيف ، وكان اعتماده على قدرته ....
    ان الله تعالى هو الذي أوجد المكان والزمان فهما من مخلوقاته فكيف يتصف بهما ؟
    وبهر الرجل من جواب الامام وسارع فقبل رأسه وقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله وان عليا وصي رسول الله ، والقيم بعده بما أقام به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وانكم الأئمة الصادقون ، وانك الخلف من بعدهم (1).
    لقد كان الامام من مصادر الهداية والنور في الأرض فأشاع في عصره الايمان بالله ، وأقام الحجة على الخلق.
    امتناع رؤية الله :
    وكتب محمد بن عبيد إلى الإمام الرضا ( عليه السلام ) يسأله عن الرؤية ـ أي رؤية الله تعالى ـ وما ترويه العامة والخاصة في ذلك ، وسأل الامام أن يشرح له ذلك فكتب الامام إليه الرسالة التالية :
1 ـ أصول الكافي 1 / 88.

(285)
اتفق الجميع لا تمانع بينهم ، أن المعرفة من جهة الرؤية ضرورة ، فإذا جاز أن يرى الله بالعين وقعت المعرفة ضرورة ، ثم لم تخل تلك المعرفة من أن تكون ايمانا أو ليست بايمان ، فان كانت تلك المعرفة من جهة الرؤية ايمانا.
    فالمعرفة التي في دار الدنيا من جهة الاكتساب ليست بايمان لأنها ضده ، فلا يكون في الدنيا مؤمن لأنهم لم يروا الله عز ذكره ، وان لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية ايمانا لم تخل هذه المعرفة التي من جهة الاكتساب أن تزول ، ولا تزول في المعاد ، فهذا دليل على أن الله عزوجل لا يرى بالعين ، إذ العين تؤدي إلى ما وصفنا .. (1).
    وأبطل الامام بهذه الحجة البالغة رؤية الخالق العظيم بالعين لا بالفكر والعقل ، فان الايمان به تعالى لو كان مرتبطا بها للزم أن يكون الايمان الناشئ من الأدلة الوجدانية على وجود الله ليس ايمانا ، وهو باطل ، وان كانت معرفة الله تعالى الناشئة من الرؤية ليست ايمانا ، فلازمه أن لا تكون المعرفة الناشئة من الأدلة موجبة للايمان وهو باطل أيضا. إن الايمان بالخالق تعالى من الضروريات التي لا ينكرها الا من زاغ فكره ، وضل عقله ، والله تعالى أبرز حقيقة ظاهرة في هذا الوجود تدلل عليه مخلوقاته ابطال التفويض والجبر. أما التفويض فهو يتصادم مع الدين الاسلامي ، وكذلك الجبر فإنه ليس من الاسلام في شئ.
    وقد سأل الحسن بن علي الوشاء الامام عن ذلك فقال له : الله فوض الامر إلى العباد ؟ ...
    وسارع الامام في ابطال ذلك قائلا : الله أغر من ذلك ....
    وانبرى الحسن قائلا : جبرهم على المعاصي ؟ ....
    فرده الامام قائلا : الله أعدل ، وأحكم من ذلك ...
    وأضاف الامام قائلا : قال الله : يا بن آدم ، أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك مني ،
1 ـ أصول الكافي 1 / 96 ـ 97.
حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الجزء الأول ::: فهرس