كتاب الإمام علي سيرة والتاريخ ص 30 ـ 42
الفصل الثاني : علي عليه السلام مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة
المبحث الأول : بعد البعثة في مكة


1 ـ أوَّل الناس إسلاماً :
أجمعت الروايات على أنَّه لم يتقدّم من عليٍّ شرك أبداً ، ولم يسجد لصنم قط ، وتكرَّم وجهه منذ أول وهلة ، فلا طاف حول صنم ولا سجد له ، فكانت نفسه خالصة لله تعالى ، وكان عنواناً للشرف والاستقامة ، لقد صاحبته منذ الصبا صراحة الإيمان ، والثقة العالية بالنفس ، والشجاعة الضرورية لكل إرادة حقة ، فكان إيمانه هو الحاكم المطلق ، والمسيطر الأوحد على جميع حركاته وسكناته. فلا مجال لأن يتوهّم من عبارة أنه أول الناس اسلاماً كونه على خلاف ذلك قبل البعثة.
والحقُّ أنَّه كان أوفر الناس حظاً ، بل هو الاصطفاء بحق ، حيث منَّ الله عليه بصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ صباه حتَّى نشأ على يديه ، لم يفارقه في سلم أو حرب ، وفي حل أو سفر ، إلى أن لحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى وهو على ، صدر عليٍّ..
إنّه ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يغذِّيه معنوياً وروحياً ويؤدّبه ويعلّمه.
ثم أسلمت السيدة خديجة أم المؤمنين فكانت ، ثالثة أهل هذا البيت ، إنّها أجابت وأسرعت الاجابة ، فكان هؤلاء الثلاثة يعبدون الله على هذا الدين الجديد قبل أن يعرفه بعد أحد غيرهم.


( 31 )

ففي الصحيح : أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى البيت الحرام ليصلِّي فيه ، فيصحبه عليٌّ وخديجة فيصلِّيان خلفه ، على مرأى من الناس ، ولم يكن على الأرض من يصلِّي تلك الصلاة غيرهم (1) .
وعن عفيف بن قيس ، قال : كنتُ جالساً مع العبَّاس بن عبدالمطَّلب رضي الله عنه بمكة قبل أن يظهر أمرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء شاب فنظر إلى السماء حيث تحلَّقت الشمس ، ثم استقبلَ الكعبة فقام يصلي ، ثم جاء غلامٌ فقام عن يمينه ، ثم جاءت امرأةٌ فقامت خلفهما ، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة ، ثم رفع الشاب فرفعا ، ثم سجد الشاب فسجدا ، فقلت : يا عبَّاس ، أمر عظيم ، فقال العبَّاس : أمر عظيم ، فقال : أتدري من هذا الشاب ؟ هذا محمَّد بن عبدالله ـ ابن أخي ـ أتدري من هذا الغلام ؟ هذا علي بن أبي طالب ـ ابن أخي ـ أتدري من هذه المرأة ؟ هذه خديجة بنت خويلد. إنَّ ابن أخي هذا حدَّثني أنَّ ربَّه ربُّ السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه ، ولا والله ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة ، قال عفيف : ليتني كنتُ رابعاً (2) .
وبقي هؤلاء الثلاثة على هذا الدين ، يتكتمون من الناس أياماً طوالاً ، رجع في بعضها علي إلى أبيه بعد عودته من بعض الشعاب ، حيث كان يتعبَّد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
ـ يا بني : ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟
____________
1) المستدرك على الصحيحين | الحاكم النيسابوري 3 : 201 ، ح4842 | 440 ، دار الكتب العلمية.
2) تاريخ الطبري 2 : 56 ـ 57.

( 32 )

ـ أجاب : يا أبه! آمنت بالله وبرسوله وصلَّيتُ معه.
فقال أبوه : أمَّا إنَّه لا يدعونا الا إلى الخير فالزمه (1) .
فكان علي أول من أسلم ، هكذا أثبت سائر أهل العلم ، وهذا ماتؤكّده الأحاديث النبوية الشريفة.
ففي كلام أهل العلم : قال اليعقوبي في تاريخه : « كان أول من أسلم : خديجة بنت خويلد من النساء ، وعليٌّ بن أبي طالب من الرجال ، ثُمَّ زيد بن حارثة ، ثُمَّ أبو ذرٍّ ، وقيل : أبو بكر قبل أبي ذرٍّ ، ثُمَّ عمرو بن عبسة السلمي ، ثُمَّ خالد بن سعيد بن العاص ، ثُمَّ سعد بن أبي وقَّاص ، ثُمَّ عتبة بن غزوان ، ثُمَّ خبَّاب بن الأرت ، ثُمَّ مصعب بن عمير » (2) .
وممَّن قال بأنَّ علياً أولهم إسلاماً : ابن عبَّاس ، وأنس بن مالك ، وزيد ابن أرقم. رواه الترمذي ورواه الطبراني عن سلمان الفارسي رضي الله عنه ، وروي عن محمَّد بن كعب القرظي ، وقال بريدة : أولهم اسلاماً خديجة ، ثُمَّ عليٌّ عليه السلام وحكي مثله عن أبي ذرٍّ ، والمقداد وخباب ، وجابر ، وأبي سعيد الخدري ، والحسن البصري وغيرهم (3) : أنَّ عليَّاً أول من أسلم بعد خديجة ، وفضّله هؤلاء على غيره (4) .
وعن أنس بن مالك ، قال : « بعُث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الأثنين ، وأسلم عليٌّ
____________
1) انظر الكامل في التاريخ 1 : 583.
2) تاريخ اليعقوبي 2 : 23.
3) انظر شذرات الذهب | ابن طولون : 48 ـ 49.
4) أسد الغابة 4 : 103.

( 33 )

يوم الثلاثاء » (1) .
وجاء في خبر محمَّد بن المنذر ، وربيع بن أبي عبدالرحمن ، وأبي حازم المدني والكلبي : أوَّل من أسلم عليٌّ.
قال الكلبي : كان عمره تسع سنين ، وكذا قول الحسن بن زيد بن الحسن ، وقيل : إحدى عشرة سنة ، وقيل غير ذلك (2) .
وقال ابن اسحاق : « أول من أسلم علي وعمره إحدى عشرة سنة » (3) ؟.
ومن قال : « أسلم عليٌّ وهو ابن عشر سنين » مجاهد برواية يونس عن ابن اسحاق ، عن عبدالله بن أبي نجيح (4) .
وقال عروة : أسلم وهو ابن ثمان ، وقال المغيرة : أسلم وله أربع عشرة سنة ، رواه جرير عنه (5) .
وعن سعد بن أبي وقَّاص ، وقد سمع رجلاً يشتم أمير المؤمنين عليه السلام فوقف عليه وقرَّره بقوله : يا هذا ، علامَ تشتم عليَّ بن أبي طالب ؟ ألم يكن أول من أسلم ؟ ألم يكن أول من صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ألم يكن أعلم الناس ؟...إلى آخره (6) .
____________
1) أسد الغابة 4 : 102 ، ينابيع المودَّة 2 : 68.
2) انظر تهذيب الكمال في أسماء الرجال 13 : 299 ـ 300.
3) الكامل في التاريخ 2 : 582.
4) انظرها في أسد الغابة 4 : 101.
5) سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين) : 227.
6) مستدرك الحاكم 3 : 500 ، وصحَّحه هو والذهبي ، وحياة الصحابة 2 : 514 ـ 515.

( 34 )

قال الشيخ المفيد : « والأخبار في كونه أول من اسلم كثيرة وشواهدها جمَّة ، فمن ذلك : قول خُزيمة بن ثابت الأنصاري ذي الشهادتين ؛ رحمه الله فيما أخبرني به أبو عبيدالله محمَّد بن عمران المرزباني ، عن محمَّد بن العباس ، قال : أنشدنا محمَّد بن يزيد النحوي ، عن ابن عائشة لخزيمة بن ثابت رضي الله عنه :

ما كنت أحسب هــذا الأمر منصرفاً * عن هاشــم ثُمَّ منها عن أبي حسنِ
أليـس أول مـن صلَّــى لقبلتهــم * وأعرف الناس بالآثار والسننِ » (1)

أما الأحاديث النبوية الشريفة فإنَّ الواحد منها يكفي هنا لقطع النزاع وردّ أيّ ادعاء في تقديم أحد على عليّ عليه السلام في إسلامه ، والحق أن معظم الذين أدعوا أسبقية أبي بكر لم يقولوا بأنه أسلم قبل علي أو خديجة أو زيد بن حارثة ، بل وضعوا تصنيفاً من عند أنفسهم يجعل لأبي بكر أولوية بحسب هذا التصنيف ، فقالوا : أول من أسلم من النساء خديجة ، ومن الصبيان علي ، ومن الموالي زيد ، ومن العبيد بلال ، ومن الرجال أبو بكر (2) ! هذا مع أن أبا ذر ـ على الأقل ـ كان قد سبق أبا بكر ، وكان رابعاً.
ولنقف الآن على بعض الأحاديث النبوية الشريفة التي قطعت كل نزاع وردّت كل ادعاء :
فمما ورد عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بسند صحيح قوله : « أوَّلكم وروداً عليَّ الحوض ، أوَّلكم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب » (3) .
____________
1) الارشاد 1 : 32.
2) انظر : البداية والنهاية 7 : 223.
3) الاستيعاب|ابن عبدالبرالقرطبي3 : 28 ، مطبوع بهامش الإصابة سنة 1328هـ.ق ، دارالمعارف ، مصر ، =



( 35 )

وعن سلمان الفارسي : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « أول هذه الأُمَّة وروداً على نبيِّها أولها اسلاماً عليٌّ بن أبي طالب ». رواه الدَبَري عن عبدالرزاق ، عن الثوري ، عن قيس بن مسلم ، قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات (1) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة الزهراء عليها السلام ، كما رواه أنس : « قد زوَّجتك أعظمهم حلماً ، وأقدمهم سلماً ، وأكثرهم علماً ». وروى نحوه جابر الجعفي وغيره (2) .
وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعليٍّ عليه السلام : « أنت أول من آمن بي ، وأنت أول من يصافحني يوم القيامة ، وأنت الصدِّيق الأكبر ، وأنت الفاروق تفرِّق بين الحقِّ والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين » (3) .
وأخيراً فقد كان علي عليه السلام يصرِّح في كثير من المناسبات بذلك ، فيقول عن نفسه : « أنا عبدالله وأخو رسوله ، وأنا الصدِّيق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر ، ولقد صلَّيت قبل الناس سبع سنين » (4) .
____________
=
تاريخ بغداد | الخطيب البغدادي2 : 81 ، نشر دار الكتاب العربي ، بيروت ـ لبنان ، المستدرك على الصحيحين 3 : 136 ط سنة 1342هـ الهند وصحَّحه ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال 13 : 299 ، وعنه : أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد باب إسلامه رضي الله عنه 9 : 102.
1) انظر أسد الغابة 4 : 103.
2) سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين) : 230.
3) إعلام الورى 1 : 360.
4) سنن بن ماجة 1 : 44|120 ، الخصائص | النسائي : 3 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 112.

( 36 )

ويقول عليه السلام : « أنا الصدّيق الأكبر ، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر » (1) .
وأمّا أبو بكر ، فقد أخرج الطبري في تاريخه بسندٍ صحيح أنه أسلم بعد خمسين رجلاً ، وهذا نصّ روايته : « حدّثنا ابن حُميد ، قال حدّثنا كنانة بن جبلة ، عن إبراهيم بن طَهمان ، عن الحجّاج بن الحجّاج ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي سالم بن أبي الجَعْد ، عن محمد بن سعد ، قال : قلت لأبي : أكان أبو بكر أوَّلكم إسلاماً ؟ فقال : لا ، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين » (2) .

2 ـ الدعوة الخاصة :
عليٌّ يوم الإنذار الأول :
بُعثَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضع في حسابه أنَّ دعوته ستجابه بالرفض والتحدِّي دون أدنى شكٍّ ، فعرب الجاهلية تشرَّبت قلوبهم بعبادة الأوثان ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشغله هموم التبليغ ، وخاصة انَّه كان يتمنَّى أن يسارع في الاستجابة له أهله وعشيرته ، وكلُّ من يتَّصل به بنسب أو سبب ، لأنَّهم آله وعشيرته الذين يشكِّلون قوة مكينة ، لمكانتهم المرموقة في داخل مكَّة وخارجها ، فسيعود عليه إسلامهم بالنصر حتماً ، فيصبح مرهوب الجانب وفي منعةٍ من الأعداء الألدَّاء ، وهذه وسيلة متينة لتثبيت دعائم دعوته.
ومع كلِّ تمنِّياته تلك كان يخشى أيضاً أن يرفضوا دعوته إذا دعاهم
____________
1) ترجمة الامام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 1 : 62|88.
2) تاريخ الطبري 2 : 316.

( 37 )

لدين التوحيد ، فينضمُّوا إلى غيرهم من الأعداء والمكذِّبين والمستهزئين ببعثته صلوات الله وسلامه عليه..
في تلك اللحظات الحاسمة دوّى صوت جبرئيل ليملأ أُذني النبي بالنذارة ، مبلِّغاً عن الله عزَّ اسمه قوله : ( وَأنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَإنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُون ) (1) . ألقاها على عاتقه الشريف ، وليس له مناصر ومعين غير نفر قليل مستخفّين بإيمانهم ، وكان هذا الحدث بعد مبعثه الشريف بثلاث سنين.
قال جعفر بن عبدالله بن أبي الحكم : « لمَّا أنزل الله على رسوله ( وَأنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِين ) اشتدَّ ذلك عليه وضاق به ذرعاً ، فجلس في بيته كالمريض ، فأتته عمَّاته يعُدنه ، فقال : « ما اشتكيتُ شيئاً ، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين » » (2) ..
بعد ذلك عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امتثالاً لأوامر الله تعالى على إنذار آله وعشيرته ودعوتهم إلى الله ، فجمع بني عبدالمطلب في دار أبي طالب ، وكانوا أربعين رجلاً ـ يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً ـ وكان قد قال لعلي عليه السلام : « اصنع لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن » ، قال علي عليه السلام وهو ينقل هذا الحديث واصفاً قومه : « وإنَّ منهم
____________
1) سورة الشعراء : 214.
2) الكامل في التاريخ 1 : 584.

( 38 )

من يأكل الجذعة ويشرب الفرق » (1) ، وأراد عليه السلام بإعداد قليل من الطعام والشراب لجماعتهم إظهار الآية لهم في شبعهم وريِّهم ممَّا كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه (2) .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل ، أكنتم مصدقي ؟ » قالوا : بلى ، أنت عندنا غير متهم ، وما جرَّبنا عليك كذباً ، فقال : « أني نذير لكم من بين يدي عذاب شديد » فقطع كلامه عمه أبو لهب ، وقال : تباً لك ! ألهذا جمعتنا ؟! ثم عاد فجمعهم ثانية ، فأعاد أبو لهب مثل قولته الاولى ، فتفرّقوا ، فأنزل الله تعالى عليه ( تبت يدا أبي لهب وتب ) (3) الى آخر السورة المباركة.
ثم جمعهم مرَّةً أُخرى ليكلِّمهم ، وفيهم أعمامه : أبو طالب والحمزة والعبَّاس وأبو لهب ، وغيرهم من أعمامه وبني عمومته ، فأحضر عليٌّ عليه السلام لهم الطعام ووضعه بين أيديهم ، وكان بإمكان الرجل الواحد أن يأكله بكامله ، فتهامسوا وتبادلوا النظرات الساخرة من تلك المائدة التي لا تقوم حسب العادة لأكثر من رجلين أو ثلاثة رجال ، ثم مدُّوا أيديهم إليها وجعلوا يأكلون ، ولا يبدو عليها النقص حتَّى شبعوا ، وبقي من الطعام مايكفي لغيرهم.
فلمَّا أكلوا وشربوا قال لهم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : « يا بني عبدالمطَّلب ، والله
____________
1) تاريخ اليعقوبي 2 : 27.
2) الإرشاد 1 : 49.
3) سورة المسد : 1.

( 39 )

ما أعلم شابَّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا جئتكم به ، إنِّي جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه » ثمَّ عرض عليهم أصول الإسلام وقال : « فأيُّكم يؤازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي ووصيِّي ، وخليفتي فيكم من بعدي » ؟.
فلم يجب أحد منهم ، فأعاد عليهم الحديث ثانياً وثالثاً ، وفي كلِّ مرَّةٍ لايجيبه أحد غير عليٍّ عليه السلام ، قال عليٌّ : ـ والرواية عنه ـ « فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت ـ وأنا لأحدثهم سناً ـ : أنا يا نبيَّ الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ، ثُمَّ قال : إنَّ هذا أخي ، ووصيِّي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ».
قال : « فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع » (1) . فقال أبو لهب : خذوا على يَدَي صاحبكم قبل أن يأخذ على يده غيركم ، فإن منعتموه قُتلتم ، وإن تركتموه ذللتم.
فقال أبو طالب : يا عورة ، والله لننصرنَّه ثُمَّ لنعيننَّه ، يا ابن أخي إذا أردت أن تدعو إلى ربِّك فأعلمنا حتَّى نخرج معك بالسلاح (2) .
ومن بين جميع الأهل والأقارب كان محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم شديد الحزن والمرارة ، فقد كان وحيداً ، وكان يتمنَّى مناصرة قومه له على قوى الشرك المدجَّجة بالمال والسلاح ، لكنَّ عليَّاً عليه السلام كان قوماً له رغم صغر سنه ،
____________
1) تاريخ الطبري 2 : 217 ، معالم التنزيل في التفسير والتأويل | البغوي 4 : 278 ، الكامل في التاريخ 1 : 586 ، الترجمة من تاريخ ابن عساكر 1 : 100|137 و138 و139 ، شواهد التنزيل لقواعد التفضيل| الحاكم الحسكاني الحنفي ـ تحقيق محمَّد باقر المحمودي ـ مؤسسة الأعلمي بيروت 1 : 372 ـ 373|514 و420|580 ، كنز العمَّال 13 : 131|36469.
2) تاريخ اليعقوبي 2 : 27 ـ 28.

( 40 )

وشاءت الأقدار أن ينصر أخاه بسلاحه « فأنا حربٌ على من حاربت » ، بهذه التلبية أثمر الاصطفاء ، وأُرسيت دعائم الإسلام فوق جماجم الشرك..
وهذا البيان الصريح في علي عليه السلام : « أخي ، ووصي ، وخليفتي من بعدي » لابد أن يجد من يبذل كل جهد للالتفاف عليه إما بالتغييب ، وإما بالتكذيب ، واما بالتأويل...
ذكر الشيخ محمَّد جواد مغنية في كتابه ( فلسفة التوحيد والولاية ) ـ بعد أن ذكر المصادر الأساسية لهذه الواقعة ـ : أنَّ من الذين رووا نصَّ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم على عليٍّ عليه السلام بالخلافة ـ عندما دعا عشيرته وبلَّغهم رسالة ربِّه ـ : محمَّد حسين هيكل في الطبعة الأولى من كتابه ( حياة محمَّد ) ، ومحمَّد عبدالله عنان في كتابه ( تاريخ الجمعيات ) ، ولكنَّ هيكل ـ في الطبعة الثانية وما بعدها من الطبعات ـ قد مسخ الحديث المذكور وحرَّف منه كلمة « خليفتي من بعدي » في مقابل خمسمائة جنيه ، أخذها من جماعة ثمناً لهذا التحريف (1) .
أمَّا ابن كثير فقد ذكر القصَّة بتفاصيلها ـ ولكن بقصد تكذيبها ـ إلى أن قال : فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « أيُّكم يؤازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي » وكذا وكذا ؟.
قال عليٌّ ـ عليه السلام ـ : « فأحجم القوم جميعاً ، وقلت ـ وإنِّي لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً ، وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم ساقاً ـ : أنا يا نبيَّ الله أكون وزيرك
____________
1) أنظر سيرة المصطفى ـ نظرة جديدة| هاشم معروف الحسني ، منشورات الشريف الرضي : 130 ، وكذا ذكره في كتابه سيرة الأئمة الاثني عشر 1 : 157 ، وأضاف قائلاً : بعد أن ساوموه على شراء ألف نسخة من الكتاب فوافق على ذلك ، ورواه في ط2 وما بعدها بدون كلمة « خليفتي من بعدي ».

( 41 )

عليه ، فأخذ برقبتي ، فقال : إنَّ هذا أخي ـ وكذا وكذا ـ فاسمعوا له وأطيعوا »! (1).
ثم قال : « تفرّد به عبدالغفَّار بن القاسم أبو مريم ، وهو كذَّاب شيعي ، اتهمه عليُّ بن المديني بوضع الحديث وضعَّفه الباقون » (2) .
ثمَّ يضيف ـ في الصفحة ذاتها ـ قائلاً : « ولكن روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه ، عن الحسين بن عيسى بن ميسرة الحارثي ، عن عبدالله بن عبدالقدُّوس ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، وعن عبدالله بن الحارث قال : قال عليٌّ عليه السلام : « لمَّا نزلت هذه الآية : ( وَأنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِين ) (3) قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إصنع لي شاةً بصاع من طعام ، وإناء لبناً ، وادعُ لي بني هاشم ؛ فدعوتهم وإنَّهم يومئذٍ لأربعون غير رجل ، أو أربعون ورجل » فذكر القصَّة إلى قوله : « فبدرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام ، فقال : أيُّكم يقضي عنِّي دَيني ، ويكون خليفتي في أهلي » ؟
فسكتوا وسكت العبَّاس ، خشية أن يحيط ذلك بماله ، وسكتُّ أنا لسنِّ العبَّاس.
ثمَّ قالها مرَّةً أُخرى ، فسكت العبَّاس ، فلمَّا رأيت ذلك ، قلت : أنا يا رسول الله.
قال : أنت ؟!
قال : وإنِّي يومئذٍ لأسوأهم هيئةً ، وإنِّي لأعمش العينين ، ضخم البطن ،

____________
1) البداية والنهاية 3 : 40.
2) نفس المصدر.
3) الشعراء : 26.

( 42 )

حمش الساقين! » » (1)
فلنتناول هذا الكلام من جميع وجوهه ، لنعرف أين محله :
1 ـ فأمَّا عبدالغفَّار بن القاسم أبو مريم ، الذي طعن عليه ، فقد وصفه ابن حجر العسقلاني ، فقال : كان ذا اعتناء بالعلم وبالرجال ـ قال ـ وقال شعبة : لم أرَ أحفظ منه ، وقال ابن عدي : سمعت ابن عقدة يثني علىأبي مريم ويطريه وتجاوز الحدَّ في مدحه ، حتى قال : لو ظهر على أبي مريم ما اجتمع الناس إلى شعبة.
أمَّا تضعيفهم له فإنَّما جاء من وصفه بالتشيُّع ، قال ابن حجر (2) ـ في ترجمته ذاتها ـ : قال البخاري : عبدالغفَّار بن القاسم ليس بالقويِّ عندهم ، حدَّثنا أحمد بن صالح حدَّثنا محمَّد بن مرزوق ، حدَّثنا الحسين بن الحسن الفزاري ، عن عبدالغفَّار بن القاسم ، عن عَدي بن ثابت ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عبَّاس ، قال حدَّثني بُريدة : قال صلى الله عليه وآله وسلم : « عليٌّ مولى من كنت مولاه »!! ـ فمن هنا جاء طعنهم عليه.
2 ـ وأمَّا قوله : إنَّ الحديث فيه عبدالغفَّار بن القاسم ، فقد ورد الحديث من طرق أُخرى ليس فيها عبدالغفَّار كما في ( مسند أحمد ) و( الخصائص ) للنسائي ، و( تاريخ الطبري ) و( تاريخ دمشق ) و( شواهد التنزيل ) (3) .
____________
1) نفس المصدر.
2) لسان الميزان | ابن حجر 4 : 42 ط مؤسسة الأعلمي.
3) اُنظر : مسند أحمد 1 : 159 ، الخصائص : 18 ، تاريخ الطبري 2 : 219 ، ترجمة الامام علي من تاريخ دمشق 1 : 99|137 ، شواهد التنزيل 1 : 420| 580. وراجع منهج في الانتماء المذهبي| الأستاذ صائب عبدالحميد : 80 ـ 83.