كتاب الإمام علي سيرة والتاريخ ص 78 ـ 91
وقعة الأحزاب :
وتسمَّى أيضاً « غزوة الخندق » وكانت في ذي القعدة ، سنة خمس من الهجرة (1) 627 م ، وقيل : في شوال (2) ، وقيل : في السنة السادسة ، بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بخمسة وخمسين شهراً (3) .
وكان سببها : لمَّا أجلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر ، وحزَّبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقدموا على قريش بمكَّة ، وألَّبوها على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقالوا : نكون معكم حتَّى نستأصله ، وما كان من أمر قريش الا أن تستجيب لضالَّتها المنشودة في القضاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعوانه.
وتجهَّزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب ، فكان جميع القوم الذين وافوا الخندق ، ممن ذُكر من القبائل ، عشرة آلاف ، وهم الأحزاب ، وكانوا ثلاثة عساكر بقيادة أبي سفيان بن حرب.
فلمَّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبرهم جمع المسلمين ، وحثَّهم على الجهاد والصبر والاستعداد لمقابلة الغزاة وشاورهم في الأمر ، فأشار عليه سلمان الفارسي بالخندق ، فأعجب ذلك المسلمين ، لأنَّ عملاً من هذ النوع لابدَّ وأن يعرقل تقدُّم الغزاة ، ويخفِّف من أخطار المجابهة بين الفريقين.
وأقبل المسلمون جميعاً يحفرون خندقاً حول المدينة ، وجعل رسول الله
____________
1) طبقات ابن سعد 2 : 50.
2) الكامل في التاريخ 2 : 70.
3) تاريخ اليعقوبي 2 : 50.

( 79 )

لكلِّ عشرة أربعين ذراعاً (1) ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم يحفر وينقل التراب ، وفرغوا من حفره في ستة أيام ، وكان سائر المدينة مشبك بالبنيان ، فهي كالحصن ، وكان المسلمون يومئذٍ ثلاثة آلاف مقاتل.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقتال قريش وأحباشها ، وهنا كانت الصدمة الكبيرة على قريش ، وهي تحسب أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه لا يثبتون لها ساعات قلائل بهذا العدد الضخم ، وإذا بها تجد بينها وبين المسلمين حاجزاً لا يمكن اجتيازه الا بعد جهود شاقة ، لاسيَّما وأنَّ أبطال المسلمين وقفوا بالمرصاد لكل من تحدِّثه نفسه باجتياز ذلك الحاجز ، فأُذهلت بعد أن كانت مغرورة بقوتها الجبَّارة!
وأنكروا أمر الخندق ، وقالوا : ما كانت العرب تعرف هذا ، وأقاموا على هذه الحال ـ الرشق بالنبل والحجارة ـ مدَّة خمسة أيام (2) دون قتال..
فلمَّا كان اليوم الخامس خرج عمرو بن عبد ودٍّ العامري ـ وكان يعدّ بألف فارس ـ وأربعة نفر من المشركين : نوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزومي ، وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطَّاب الفهري ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ، واقتحموا الخندق من مكان ضيِّق ، وركز عمرو رمحه في الأرض ـ وهو ابن تسعين سنة (3) ـ وأخذ يجول ، ويدعو إلى البراز ويرتجز :
____________
1) الكامل في التاريخ 2 : 70.
2) تاريخ اليعقوبي 2 : 50.
3) طبقات ابن سعد 2 : 52.

( 80 )

ولقــد بححتُ من النـداءِ * بجمعهم هــل من مبارز ؟
انِّـي كـذلــك لـم أزل * متسرِّعاً نحـو الهزاهــز
إنَّ الشجاعــة فـي الفتى * والجود من خير الغرائز (1)

وكأنَّ هذه الكلمات نداء إلى الموت ، فلم يجبه أحد من المسلمين ، وفي كلِّ مرّة يكرّر فيها نداءه كان يقوم له عليُّ بن أبي طالب عليه السلام من بينهم ليبارزه ، فيأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجلوس ، انتظاراً منه ليتحرَّك غيره ، ولكن لم ينهض أحد؛ لمكان عمرو بن عبد ودٍّ ومن معه.
ومضى عمرو يكرِّر النداء والتحدِّي للمسلمين ، فقام عليٌّ عليه السلام مرَّةً أُخرى ، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : « إنَّه عمرو » ، ونادى مرَّةً أُخرى ، فقام عليٌّ عليه السلام ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال له : « ادنُ منِّي » فدنا منه ، فنزع عمامته عن رأسه وعمَّمه بها وأعطاه سيفه ذا الفقار ، وقال له : « امضِ لشأنك » ثُمَّ رفع يديه وقال : « اللَّهمَّ إنَّك أخذت منِّي حمزة يوم أُحد ، وعبيدة يوم بدر ، فاحفظ اليوم عليَّاً ، ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين ».
وقال نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم لمَّا دنا عليٌّ عليه السلام من عمرو : « خرج الإيمان سائره إلى الكفر سائره »..
فبرز إليه عليٌّ ، وهو يقول :

« لا تعجلـنَّ فقد أتــاك * مجيب صوتك غير عاجز
ذو نيَّةٍ وبصيــرة والـ * صدق منجي كلَّ فائــز

____________
1) ارشاد الشيخ المفيد 1 : 100.
( 81 )

إنِّي لأرجـو أن أُقيـم * عليك نائحـة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى * صيتها بعد الهزاهز »

فلمَّا انتهى إليه قال : « يا عمرو إنَّك في الجاهلية تقول : لا يدعوني أحدٌ إلى ثلاث الا قبلتها ، أو واحدة منها ». قال : أجل. قال : « فإنِّي أدعوك إلى شهادة أن لا إله الا الله ، وأنَّ محمَّداً رسول الله ، وأن تُسلم لربِّ العالمين ». قال : يا ابن أخ ، أخِّر هذه عنِّي. فقال له عليٌّ : « أمَّا إنَّها خيرٌ لك لو أخذتها ».
ثُمَّ قال : « فها هنا أُخرى » قال : ما هي ؟ قال : « ترجع من حيث جئت ». قال : لا تَحدَّث نساء قريش بهذا أبداً.
قال : « فها هنا أُخرى ». قال : ما هي ؟ قال : « تنزل تقاتلني » فضحك عمرو وقال : إنَّ هذه الخصلة ما كنت أظنَّ أنَّ أحداً من العرب يرومني مثلها ، إنِّي لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك ، وقد كان أبوك لي نديماً (1) .
قال عليٌّ عليه السلام : « ولكنِّي أُحبُّ أن أقتلك ، فانزل إن شئت ».
فغضب عمرو ونزل فضرب وجه فرسه حتى رجع (2) ، وحمل على عليٍّ عليه السلام وضربه على رأسه فاتَّقاها بالدرقة ، فقدَّها السيف ونفذ منها إلى رأسه فشجَّه ، وبقي محتفظاً بثباته ، وتوالت عليه الضربات وهو يحيد عنها ، ثُمَّ كرَّ عليه عليٌّ عليه السلام فضربه على حبل عاتقه ضربةً كان دويُّها كالصاعقة ،
____________
1) قال أبو الخير أستاذ أبن أبي الحديد : « والله ما طلب عمرو الرجوع من عليٍّ إلاّ خوفاً منه ، فقد عرف قتلاه ببدر وأُحد ، وعلم إن هو بارز علياً قتله عليٌّ ، فاستحى أن يظهر الفشل ، فأظهر هذا الإدِّعاء ، وإنَّه لكاذب ». أنظر فضائل الإمام علي : 113.
2) الارشاد 1 : 102 ، وإعلام الورى 1 : 381.

( 82 )

ارتجَّ له العسكران ، فسقط يخور بدمه كالثور ، وارتفعت غبرة حالت بينهما وبين الجيشين.
على أنَّ هناك رواية أُخرى (1) تذهب إلى أن الامام ضرب عمراً على ساقيه فقطعهما جميعاً ، فسقط الى الأرض ، فأخذ عليٌّ عليه السلام بلحيته وذبحه ، وأخذ رأسه بيده هدية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأقبل والدماء تسيل على وجهه من ضربة عمرو ، ورأس عمرو بيده يقطر دماً ، وكان وجه علي عليه السلام يتهلَّل فرحاً ، فألقاها بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فقام أبو بكر وعمر فقبّلا رأس عليٍّ عليه السلام ، فعانقه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ودعا له ، فقال عمر بن الخطَّاب لعليٍّ عليه السلام : هلا استلبت درعه ، فليس للعرب درع خير منها؛ فقال عليٌّ : « ضربته فاتَّقاني بسوأته فاستحييت أن أسلبه ».
وعلى أيِّ حال فقد علت أصوات المسلمين بالتكبير ، بعد أن أصابهم الخوف في بادئ الأمر ، وانهزم الذين كانوا مع عمرو بن عبد ودٍّ ، واقتحمت خيولهم الخندق ، وكبا بنوفل بن عبدالله بن المغيرة فرسه ، فجعلوا يرمونه بالحجارة ، فقال لهم : قتلة أجمل من هذه ، ينزل إليَّ بعضكم أقاتله ، فنزل إليه عليٌّ عليه السلام فضربه حتَّى قتله ، وبعث الله عليهم ريحاً في ليالٍ شاتية شديدة البرد ، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم ، فانصرفوا هاربين لا يلوون على شيء ، حتَّى ركب أبو سفيان ناقته وهي معقوله! فلمَّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله ذلك : قال : « عوجل الشيخ ».
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في قتل عليٍّ عليه السلام لعمرو : « لضربة عليٍّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ».
____________
1) ارشاد القلوب 2 : 218.

( 83 )

قال جابر : « فما شبهت قتل عليٍّ عمراً الا بما قصَّ الله تعالى من قصة داود وجالوت ، حيث قال : ( فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوت ) (1) » (2) .
نعم لقد قلبت ضربة عليٍّ عليه السلام لعمرو الوضع تماماً ، بعدما كان النصر حليف قريش بقوَّتها الجبَّارة ، وصدق سبحانه حيث قال : ( وكَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ) (3) .
بسيف عليٍّ عليه السلام كان النصر حليف المسلمين وهنا يسكت القلم ، ولا يدري ماذا يكتب عن شجاعة ابن أبي طالب عليه السلام فقد كفى الله المؤمنين القتال به عليه السلام.
ولمَّا نُعي عمرو بن عبد ودٍّ إلى أخته عمرة ، قالت : مَن قتله ؟ ومن الذي اجترأ عليه ؟ فقيل لها : قتله عليُّ بن أبي طالب. فقالت : لقد قتل الأبطال وبارز الأقران ، وكانت ميتته على يد كفءٍ كريم من قومه ، وأنشأت تقول :

لو كان قاتل عمرو غيــر قاتله * لكنت أبكـي عليــه دائم الأبد
لكنَّ قاتلــه من لا يعــاب به * قد كــان يدعى أبوه بيضة البلد
من هاشم في ذراها وهي صاعدة * إلـى السماء تميت الناس بالحسد
قوم أبى الله الا أن تكــون لهم * كرامـة الديــن والدنيا بلا لدد
يا أم كلثوم ابكيـه ولا تدعــي * بكـاء معولة حرّى على ولد (4)

هكذا اكتسح عليُّ بن أبي طالب عليه السلام فرسان المعارك وشجعان الفلا..
____________
1) سورة البقرة : 251.
2) انظر إعلام الورى 1 : 382.
3) سورة البقرة : 249.
4) ارشاد القلوب 2 : 218 بتفاوت.

( 84 )

حتَّى لم يعد له مثيل بين أبطال العرب ، يسابق الأسود ، ويقطع الرؤوس ، ولايخاف في الله لومة لائم ، فهو الوحيد الذي بدَّد آمال الأحزاب في الخندق ، وبثَّ في صفوفهم الرعب ، وهنا أنزل الله تعالى على رسوله الآية : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) (1) .

وقعة بني قريظة :
بنو قريظة : هي فخذ من جذام اخوة النضير ، ويقال : إنَّ تهوُّدهم كان في أيام عاديا أبي السموأل ، ثُمَّ نزلوا بجبل يقال له : قريظة ، فنُسبوا إليه ، وقد قيل : إنَّ قريظة اسم جدِّهم بعقب الخندق (2) .
وكانت هذه الغزوة في ذي القعدة سنة خمس (3) من الهجرة ، وكان بين بني قريظة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلح فنقضوه ، ومالوا مع قريش ، فوجَّه إليهم سعد بن معاذ وعبدالله بن رواحه وخوَّات بن جُبير ، فذكَّرهم العهد وأساءوا الإجابة ، فلمَّا انهزمت قريش يوم الخندق دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليَّاً عليه السلام ، فقال له : « قدِّم راية المهاجرين إلى بني قريظة » وقال : « عزمت عليكم ألا تصلُّوا العصر الا في بني قريظة » ثُمَّ سار إليهم في المسلمين وهم ثلاثة آلاف ، والخيل ستة وثلاثون فرساً ، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.
____________
1) سورة الاحزاب : 33 | 9.
2) تاريخ اليعقوبي 2 : 52.
3) طبقات ابن سعد 2 : 57.

( 85 )

وحاصر المسلمون بني قريظة شهراً أو خمساً وعشرين ليلة (1) أشدَّ الحصار.. فدنا منهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلقيه عليُّ بن أبي طالب عليه السلام فقال : « يارسول الله لا تدنُ » ، فقال : « أحسب أنَّ القوم أساءوا القول » ، فقال : « نعم يا رسول الله » ، فيقال : إنَّه قال بيده كذا وكذا ، فانفرج الجبل حين رأوه ، وقال : « يا عبدة الطاغوت ، يا وجوه القردة والخنازير ، فعل الله بكم وفعل ».. فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أياماً حتَّى نزلوا على حكم سعد بن معاذ الأنصاري ، وقد حكم انَّه تقتل مقاتلتهم ، وتُسبى ذراريهم ، وتجعل أموالهم للمهاجرين دون الأنصار ، فقال رسول الله : « لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ـ سماوات ـ ».
ومن مواقف أمير المؤمنين عليه السلام وهي التي تعنينا بالبحث : انَّه ضرب أعناق رؤوساء اليهود أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، منهم : حُيي بن أخطب ، وكعب بن أسد ، بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2) .

عمرة الحديبية :
خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعمرة في ذي القعدة سنة ست للهجرة (3) ، ومعه ألف وأربعمئة (4) من أصحابه ، وساقَ من الهدي سبعين بدنة (5) ، كما ساق أصحابه أيضاً. ومعهم السيوف في أغمادها ، وأعلن في أكثر أنحاء
____________
1) الكامل في التاريخ 2 : 75.
2) انظر إعلام الورى 1 : 382.
3) الطبقات الكبرى لابن سعد 2 : 72.
4) الكامل في التاريخ 2 : 86.
5) تاريخ اليعقوبي 2 : 54.

( 86 )

الجزيرة بأنَّه لا يريد حرباً ولا قتالاً ، وبلغ المشركين خروجه ، فأجمع رأيهم على صدِّه عن المسجد الحرام..
فسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بأصحابه حتَّى دنا من الحديبية ، وهي على تسعة أميال من مكَّة ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى في المنام أنَّه دخل البيت وحلق رأسه وأخذ المفتاح (1) .
أرسلت إليه قريش مِكرز بن حفص ، فأبى أن يكلِّمه ، وقال : « هذا رجل فاجر » ، فبعثوا إليه الحُليس بن علقمة من بني الحارث بن عبد مناة ، وكان من قوم يتألَّهون ، فلمَّا رأى الهدي قد أكلت أوبارها ، رجع؛ فقال : يا معاشر قريش إنِّي قد رأيت ما لا يحلُّ صدُّه عن البيت..
وكان آخر من بعثوا سهيل بن عمرو ليصالحه على أن يرجع عنهم عامه ذلك ، فأقبل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكلَّم رسول الله وأرفقه ، ثُمَّ جرى بينهم الصلح ، فدعا رسول الله عليَّ بن أبي طالب عليه السلام فقال : « أكتب بسم الله الرحمن الرحيم » (2) ، فقال سهيل : لا نعرف هذا ولكن اكتب.. باسمك اللَّهمَّ ، فكتبها. وقيل : قال عليه السلام : « لولا طاعتك يا رسول الله لما محوت ».
ثُمَّ قـال : « اكتب : هذا ما صالح عليه محمَّد رسول الله سهيل بن عمرو » (3) ةة فقال سهيل : لو نعلم أنَّك رسول الله لم نقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال لعليٍّ : « امحُ رسول الله » فقال : « لا أمحوك
____________
1) تاريخ اليعقوبي 2 : 54.
2) حسب رواية ابن الأثير في الكامل في تاريخ 2 : 90.
3) إعلام الورى 1 : 372.

( 87 )

أبداً » (1) ، فمحاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال له موضع رسول الله : محمَّد بن عبدالله ، وقال لعليٍّ : « لتبلينَّ بمثلها » (2) ، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، وانَّه من أتى منهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير إذن وليِّه ردَّه إليهم ، ومن جاء قريشاً ممَّن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يردُّوه عليه ، ومن أحبَّ أن يدخل في عهد رسول الله دخل (3) ..
روى ربعي بن خراش عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنَّه قال :
« أقبل سهيل بن عمرو ورجلان ـ أو ثلاثة ـ معه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية ، فقالوا له : إنَّه يأتيك قوم من سلفنا وعبداننا فارددهم علينا ، فغضب حتَّى احمارَّ وجهه ، وكان إذا غضب عليه السلام يحمارُّ وجهه ، ثُمَّ قال : لتنتهنَّ يا معشر قريش ، أو ليبعثن الله عليكم رجلاً امتحن الله قلبه للإيمان ، يضرب رقابكم وأنتم مجفلون عن الدين. فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، قال عمر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنَّه ذلكم خاصف النعل في الحُجرة. وأنا خاصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحُجرة ».
ثمَّ قال عليٌّ عليه السلام : « أما انَّه قد قال صلى الله عليه وآله وسلم : من كذب عليَّ متعمَّداً فليتبوَّأ مقعده من النار » (4) .
____________
1) ذكر في إعلام الورى 1 : 372 انَّه قال : « إنَّه والله لرسول الله على رغم أنفك » ، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم : « امحها يا علي » ، فقال له : « يا رسول الله ، إنَّ يدي لا تنطلق تمحو اسمك من النبوَّة ».
2) « ستدعى إلى مثلها فتجيب ، وأنت على مضض » ، كذا ذكرها مسلم في صحيحه 3 : 1409|90.
3) انظر تفاصيل ذلك في : الكامل في التاريخ 2 : 90 ، طبقات ابن سعد 2 : 74.
4) صحيح الترمذي 5 : 634|3715 ، إرشاد المفيد 1 : 122 ، مستدرك الحاكم 4 : 298 ، إعلام الورى 2 : 273 ، باختلاف.

( 88 )

وقعة خيبر :
غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، خيبر في جمادى الأولى سنة سبع من مهاجره ، وهي على ثمانية بُرُد من المدينة (1) ، أي أربعة ليال ـ على التقريب ـ (2) ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالتهيُّؤ لغزوة خيبر ، وخرج معه ألف واربعمائة رجل ، معهم مائتا فارس ، وأعطى لواءه لعليِّ بن أبي طالب عليه السلام (3) .
ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يجدُّ السير باتِّجاه خيبر ، ونزل عليها ليلاً ، ولم يعلم أهلها ، فخرجوا عند الصباح إلى عملهم بمساحيهم ، فلمَّا رأوه عادوا ، وقالوا : محمَّد والخميس ، يعنون الجيش ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « الله أكبر خربت خيبر ، إنَّا إذا نزلنا بساحة قوم ( فساءَ صباح المنذرين )! » (4) .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سلَّم أبابكر رايةالجيش ، ولكنَّ أبابكر عاد بالراية دون أن يصنع شيئاً فرجع ، ثُمَّ جعل القيادة لعمربن الخطَّاب بعده ، قال الطبري والحاكم : فعاد يجبّن أصحابه ويجبنونه (5) ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : « والله لأعطينَّها غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله ، ويحبُّه الله ورسوله (6) ،
____________
1) طبقات ابن سعد 2 : 81.
2) فضائل الإمام علي : 116.
3) الطبقات الكبرى 2 : 81.
4) انظر الكامل في التاريخ 2 : 100 ، طبقات ابن سعد 2 : 81.
5) تاريخ الطبري 3 : 93 ، المستدرك وتلخيصه للذهبي 3 : 37.
6) طبقات ابن سعد 2 : 85 ، وزاد على ذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء (الخلفاء الراشدون) : 228 : =



( 89 )

يأخذها عنوةً » (1) . وفي رواية أخرى : « لأُعطينَّ الرآية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ليس بفرّار » (2) .
فتطاولت لذلك الأعناق ورجا كلُّ واحد أن يكون المقصود بهذا القول.
وفيها جاء عن عمر بن الخطَّاب انَّه قال : فما أحببت الإمارة قبل يومئذٍ ، فتطاولت لها واستشرفت رجاء أن يدفعها إليَّ ، فلمَّا كان الغد دعا عليَّاً فدفعها إليه ، فقال : « قاتل ولا تلتفت ، حتى يفتح الله عليك » (3) .
وفي تفصيل الخبر أن علياً عليه السلام كان قد أُصيب بالرمد ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عينيه ، ثم أعطاه الراية (4) ، فما شكا وجعاً حتَّى مضى لسبيله ، فنهض بالراية وعليه حلَّة حمراء (5) ، إنطلق مهرولاً ، فركز رايته بين حجرين أمام الحصن ، فأشرف عليه رجل من يهود يخطر بسيفه ، فقال له : مَن أنت ؟ قال : « أنا عليُّ بن أبي طالب » ، فقال اليهودي : غُلبتم يا معشر يهود ، وخرج مرحب اليهودي ، صاحب الحصن ، وعليه مغفر يماني ، قد نقبه مثل البيضة على رأسه ، وكان مزهوّاً بشجاعته وبطولاته ، خرج يتبختر في
____________
=
« ويفتح الله على يديه » ، صحيح البخاري ـ كتاب الفضائل 5 : 87|197 و198 ، صحيح مسلم ـ كتاب الفضائل 4 : 1871|32 ـ 34 ، سنن الترمذي 5 : 638|3724 ، سنن ابن ماجة 1 : 43|117 ، مسند أحمد 1 : 185 ، 5 : 358 ، المستدرك 3 : 109 ، الخصائص للنسائي : 4 ـ 8 ، تاريخ الاسلام للذهبي ـ المغازي : 407 ، الاستيعاب 3 : 36.
1) الكامل في التاريخ 2 : 101.
2) ابن هشام | السيرة البوية 3 : 267 (ذكر المسير إلى خيبر).
3) الطبقات الكبرى 2 : 84.
4) الطبقات الكبرى 2 : 85 ، سير أعلام النبلاء (الخلفاء الراشدون) : 228.
5) ابن الأثير في تاريخه : 101.

( 90 )

مشيته ، وهو يقول :

قد علمت خيبرُ أنِّي مرحبُ * شاكي السلاح بطلٌ مجرَّبُ
اذا الحروبُ أقبلتْ تلهَّبُ

فقال عليٌّ صلوات الله عليه وبركاته :

« أنا الذي سمَّتني أُمِّي حيدرة * أكيلكم بالسيف كيل السندرة
ليثُ بغاباتٍ شديدٌ قسورة » (1)

فاختلفا ضربتين ، فبدره عليٌّ عليه السلام فضربه فقدَّ الجحفة والمغفر ورأسه ، وشقَّه نصفين حتى وصل السيف إلى أضراسه ، فوقع على الأرض ، وكان لضربته عليه السلام دويٌّ كدوي الصاعقة ، فلمَّا رأى اليهود صنيع عليٍّ عليه السلام بفارسهم مرحب ولَّوا هاربين ، وكان الفتح على يديه عليه السلام.
قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « خرجنا مع عليٍّ عليه السلام حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، برايته إلى خيبر ، فلمَّا دنا من الحصن خرج إليه أهله ، فقاتلهم ، فضربه يهوديٌّ فطرح ترسه من يده ، فتناول عليٌّ عليه السلام باباً كان عند الحصن فتترَّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل ، حتى فتح الله عليه ، ثُمَّ ألقاه من يده ، فلقد رأيتني في نفر سبعة ، أنا ثامنهم ، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه » (2) .
وقيل : « إنَّ الباب كان حجارة طوله أربع أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع ، فرمى به عليُّ بن أبي طالب عليه السلام خلفه ودخل الحصن ودخله
____________
1) انظر : ابن الأثير في تاريخه 2 : 101 ، وابن سعد في طبقاته 2 : 85 ، مع اختلاف يسير.
2) ابن الأثير في تاريخه 2 : 102.

( 91 )

المسلمون » (1).
ومهما يكن الحال فإن دلَّت هذه الروايات على شيءٍ ، فإنَّما تدلُّ على شجاعة الإمام وقدرته الخارقة العجيبة في بدنه ، مع قوة إلهيّة معنوية عالية ، وعليٌّ عليه السلام نفسه يقول عن هذا الحادث : « والله ما قلعت باب الحصن بقوَّة جسدية ، ولكن بقوَّة ربَّانية » (2) .
وعن جابر بن عبدالله الأنصاري قال : « لمَّا قدم عليٌّ عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفتح خيبر قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « لولا أن يقول فيك طوائف من أُمَّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، لقلت فيك اليوم قولاً لا تمرُّ بملأ الا أخذوا من تراب رجليك ومن فضل طهورك فيستشفون به ، ولكن حسبك أن تكون منِّي وأنا منك ، ترثني وأرثك ، وأنَّك منِّي بمنزلة هارون من موسى الا أنَّه لا نبيَّ بعدي ، وأنَّك تؤدِّي ذمَّتي ، وتقاتل على سُنَّتي ، وأنَّك في الآخرة غداً أقرب الناس منِّي ، وأنَّك غداً على الحوض خليفتي... إلى آخره ».
فخرَّ عليٌّ عليه السلام ساجداً ، ثُمَّ قال : « الحمد لله الذي منَّ عليَّ بالإسلام ، وعلَّمني القرآن ، وحبَّبني إلى خير البريَّة ، خاتم النبيِّين وسيِّد المرسلين ، إحساناً منه إليَّ ، وفضلاً منه عليَّ ».
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك : « لولا أنت يا عليُّ لم يُعرف المؤمنون بعدي » » (3) .
____________
1) تاريخ اليعقوبي 2 : 56 ، وانظر : سير أعلام النبلاء ( الخلفاء الراشدين ) : 229.
2) ارشاد القلوب 2 : 219.
3) إعلام الورى 1 : 366 ـ 367 ، ابن المغازلي | المناقب : 227|285 وقطعة منه في مجمع الزوائد 9 : =