كتاب كشف الغطاء ::: 111 ـ 120
(111)
وإن كنت الثاني ـ وما أبعده ـ فلاضير عليك أن تشتغل بها متدرّجا مبتدءاً بالكتاب والسنّة ، ثمّ التفسير وأصول الفقه ثمّ الفقه وهكذا ، مراعياً فيها الأهمّ والأولى ، ولاتستغرق عمرك في فنّ واحد مستقصياً فيه ، فإنّ العلم كثير والعمر قصير ، وهذه آلات فلا ينبغي فيها الخوض المنسي لما هو المقصود بالذات.

المقصد الثالث : في آداب التعلّم والتعليم
     أمّا الاولى فعشرة :
     أحدها : وهي الأصول طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ، إذ العلم عبادة الباطن وصلاة السرّ فلا تصحّ مع نجاسته ، وقد تقدّم ما يكفيك.
     وثانيها : تقليل علائق الدنيا والبعد عن الأهل والوطن ، إذ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
     وثالثها : أن لاتكبّر على العلم والمعلّم ، بل يسلم له الأمر بالكلّية تسليم المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق ، قال الله تعالى :
     « إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ». (1)
     أي حاضر القلب يستقبل كلّ ما ألقي إليه بحسن الاصغاء والشكر وقبول المنّة لله تعالى ولمعلّمه ، ويبالغ في تواضعه وخدمته ، فلا يقتصر على التعلّم عند العلماء الرؤساء المشهورين ، فإنّ العلم سبب النجاة ، المهارب من السبع الضاري لايفرّق بين المرشد المشهور ، والخامل الغير المذكور ، والحكمة ضالّة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها ، وليقلد المعلّم فيما يشير إليه من طريق التعلّم ، وليدع رأيه ، فإن خطاءه أحسن من صوابه ، فكم من مريض محرور يعالجه الطبيب بالحرارة ليزيد في قوّته حتّى يتحمّل صدمة العلاج فيتعجّب من لا اطّلاع له ، وقد نبّه عليه بقصّة الخضر وموسى.
     وعن على عليه السلام : « أنّ من حقّ العالم أن لا تكثر عليه في السؤال ،
1 ـ ق37.
(112)
ولا تعنته في الجواب ، ولاتلحّ عليه إذا كسل ... الحديث ». (1)
     ورابعها : الاحترائ عن الاصغاء إلى اختلافات الناس سواء كان في علوم الدنيا أو الآخرة ، فإنّه يدهش العقل ويفتر الرأي ويؤيس الذهن عن الادراك ، بل يحصل أولّاً الطريقة المحمودة المرضيّة عند استاده. ثم يصغي إلى المذاهب والشبه ، ولو كان المعلّم ممّن لا رأي له ، بل عادته نقل كلام الناس فليحترز منه فإنّ الأعمى لايصلح قائداً للعميان. فكما يجب حفظ جديد الاسلام عن مخالطة ، الكفّار ، فكذا المبتدي يلزم منعه عن الشبه بخلاف الأقوياء ، حيث إنهم يندبون إليها ، كما يمنع العاجز عن التهجّم في صفّ القتال ويندب الشجاع إلى مصارعة الأبطال من الرجال ، فلا يجوز متابعة الضعفاء للأقوياء في أفعالهم.
     قيل : معنى قوله : « من رآني في البداية صار صدّيقاً ، ومن رآني في النهاية صارزنديقاً » (2) أنّ النهاية ترد الأعمال إلى الباطن وتسكن الجوارح الا عن الفرائض ، فيترائى للمبتي أنه بطالة وكسل ، هيهات ، بل هو مرابطة للقلب في عين الشهود والحضور ، وملازمة الذكر الذي هو الأفضل ، ولذا جوّز للنّبي صلّى الله عليه وآله مالا يجوّز لغيره حتّى نكاح التسعة ، إذ كانت له قوّة العدل بين النساء وإن كثرن دون غيره.
     وخامسها : النظر أوّلاً في فنون العلوم المحمودة بأسرها نظراً يطلع على غايتها ، فإن ساعده العمر تبحّر فيه ، والا اشتغل بالأهمّ فاستوفاه ، لارتباط العلوم وإعانة بعضها لبعض في الاستفاده ، وللانفكاك (3) عاجلاً عن عداوة ذلك العلم بجهله. قال الله تعالى : « وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ».(4)
1 ـ المحجة البيضاء : 1/114.
2 ـ المحجة البيضاء : 1/114 وفيه نسبه إلى البعض.
3 ـ وفي نسخة « الف » و« ب » : « ولا ستفادة الانفكاك بدل في الاستفادة وللانفكاك ».
4 ـ الأحقاب : 11.

(113)
     فكلّ العلوم لها مدخل في السلوك إلى الله تعالى ، ولها منازل في القرب والبعد عن المقصود ، والقوّام بها حفظتها كحفظة الثغور ، ولكلّ رتبة ، وبحسب رتبته أجر إن قصد به وجه الله تعالى.
     وسادسها : أن لا يأخذ فرقة من فنون العلم دفعة ، بل يراعي الأهمّ ، لأنّ مقتضى الحزم مع كثرتها وقصر العمر الأخذ من أحسن كلّ شيء ، وخلاصته ، وصرف جمام قوّته في الميسور من علمه إلى استكمال الأشرف ، أعني علم الآخرة وهو بحر لاينزف.
     وسابعها : أن يعرف وجه شرافة بعض العلوم على بعض ، وأنه إمّا شرافة ثمرته أو وثاقة دليله ، كعلم الدين والطبّ ، فإنّ ثمرة أحدهما الحياة الفانية ، والآخر الحياة الباقية ، وهو أشرف ، ولو تعارضا فالأولى أولى.
     وثامنها : صدق النيّة في التعلّم ، بأن يقصد في الحال تحلية باطنه بفضيلة العلم ، وفي الآجل السعادة الأبديّة دون الرئاسة من الثناء على علم الآخرة خسّة سائر العلوم وحقارتها ، فإنّ المتكفّلين لها كالمرابطين للثغور والغزاة مجاهدون في سبيل الله ، فمنهم المقاتل ومنهم السقاء وحافظ الدوابّ ، ولكلّ أجر إذا كان قصيده إعلاء كلمة الله دون حيازة الغنائم ، فكذلك العلماء. قال الله تعالى : « يرفع الله الذين آمنوا منكم والّذين أوتوا العلم درجات ». (1)
     فاستحقار الصيارفة بالنظر إلى الملوك لايدل على حقارتهم بالنسبة إلى الكناسين ، فالدرجة العليا للأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم العلماء على اختلاف طبقاتهم « فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره » ، (2) ومن قصد الله بأيّ علم رفعه لامحالة.
1 ـ المجادلة : 11.
2 ـ الزلزلة : 7.

(114)
     وتاسعها : أن يعلم نسبة كلّ علم إلى المقصد كي لايؤثر غير المهم على المهم. وكما أنّ سالك طريق الحج له ثلاثة أصناف من الأشغال : تهيئة الأسباب من الزاد والراحلة وغيرها ، ثم مفارقة الأهل والوطن وقطع المراحل إلى الكعبة ، ثم الاشتغال بأعمال الحج ركناً بعد ركن إلى أن يفرغ من طواف الوداع (1) ، وله في كلّ من المقامات الثلاثة منازل من الشروع إلى الاختتام ، وليس قرب الأول إلى المقصد كالثالث ولا المبتدي في مقام كمنتهيه ، فكذا من العلوم مايجزي مجرى إعداد الزاد والراحلة كالفقه والطبّ وغيرهما ، وما يجري مجرى سلوك البراري وطيّ العقبات وهو علم الأخلاق ، أي تطهير البواطن عن ذمائم الصفات. وكما لايجدى في الوصول إلى الحج العلم بالطريق والمراحل دون طيّ المسافات ، فكذا لا يكفي العلم بها هنا بدون مباشرة الرياضات وتصقيل النفس عن خبث الشهوات وإن توقّفت عليه ، وما يجري مجرى نفس الحج وأركانه أعني معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله وما وعد وأوعد به عباده في الآخرة ، فالسعادة لاينالها الا العارفون المقرّبون ولهم نعمة الروح والريحان وجنّة النعيم والسلامة من الهلاك تعمّهم وسائر السالكين الغير الواصلين ، كما قال الله تعالى : « وأمّا إن كان من أصحاب اليمين*فسلام لك عن أصحاب اليمين ». (2)
     ومن لم ينتهض للمقصد أو لم يتوجّه إليه أو توجّه لا على قصد الامتثال ، فهو من أصحاب الشمال وله نزل من حميم وتصلية جحيم (3)
     وعاشرها : تحاب المتعلمين عند واحد وإعانة بعضهم لبعض في الحوائج والمقاصد ، وهو إنّما يتمّ مع قصد الآخرة بالتعلّم ، حيث إنّهم
1 ـ هذا تعبير أبي حامد العامي ، فليت المصنّف بدّله بطواف النساء.
2 ـ الواقعة : 90 ـ 91.
3 ـ اقتباس من الواقعة : 93 ـ 94.

(115)
سالكون سبيل الله ومسافرون إليه تعالى في الشهور والسنين التي هي منازل الطريق ، والترافق في الأسفار الدنيويّة يوجب المحبّة والمصادقة ، فكيف في المسافرة إلى الفردوس الأعلى ، وقد قال تعالى :
     « إنما المؤمنون إخوة » (1) « الأخلّاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ الا المتّقين ». (2)
     وأمّا الثانية : فسبعة :
     أوّلها : كونه كالوالد للمتعلّم في المحبّة والنصح والشفقة ، فإنّه يقصد إنقاذه من الهلكة الاخرويّة التي هي أشدّ وأدوم ن الدنيوية ، ولذا كان حقّه أعظم من الولد الجسماني.
     وثانيها : أن لا يقصد به الا وجه الله ، ولايرى لنفسه منّة عليه ، وإن تبعته المنّة بل يمتنّ منه بحصول عظيم الثواب له بواسطته ، فلا يطلب منه أجرا ولا جزاءاً دنيوياً ، إذ ما خلقت الدنيا الا لخدمة البدن الذي هو خادم النفس التي تخدم العلم ، فطلبه للمال هو الانتكاس الحقيقي.
     وثالثها : أنّ لا يألو جهداً في نصحه بمنعه عن التصدّي لرتبة غير مستحقّة وعلم غير مستعدّ له ، وتنبيهه على أنّ المطلوب من التعلّم هو السعادة الأخرويّة دون الأغراض الفاسدة الدنيوية ، وتقريره له بأقصى ما يمكن ، فإن لم ينجعه وكان تعلّمه في العلوم التي يتوصّل بها إلى الأغراض الفاسدة ترك تعليمه ، إذ لاتزيده الا غفلة وقسوة وتمادياً في الضلالة ، ولابرهان عليه أحسن من التجربة والاعتبار بطلبة علوم الدنيا في الأعصار والأمصار ، وإن كان في علوم الآخرة فلا بأس باستمراره عليه ، إذ ربما أثّرت فيه طمعاً في الوعظ والاستتباع فيتنبّه في أثناء الأمر أو تاليه لما لم يكن يعرفه في مباديه ، فيوشك أن يردّ إلى الصواب ويتّعظ بما يعظ به المريدين والأصحاب.
1 ـ الحجرات : 10.
2 ـ الزخرف : 67.

(116)
     ورابعها : منعه عن ذمائم الأخلاق والأعمال تعريضاً ورحمة لاتوبيخاً وتصريحاً بالمقال حتّى لايورث هتك حجاب الهيبة وتهييج الحرص على الاصرار على تلك الأفعال ، فإنّ الطبيعة مجبولة على الحرص على ما منع كما ينبّهك عليه قصّة آدم وحوّاء.
     وقال النبي صلى الله عليه وآله : « لو منبع الناس عن فتّ البعير لفتّوه وقالوا ما نهينا عنه الا وفيه شيء ». (1)
     على أنّ في التعريض ميلاً للأذهان الزكيّة (2) إلى استنباط المعاني الدقيقة ، فيفيد فرح الفطنة لها رغبة في العمل.
     وخامسها : أن لا يذمّ له ما ليس بصدده من العلوم كما هو عادة الفقيه يقبّح علوم العربية بأنّها نقل محض وسماع مجرّد لا تعمّق فيها فهو شأ ، العجائز ، ويقبح العلوم العقليّة بكونها مشتملة على عقائد باطلة وشبهات واهبة موجبة لفساد عقائد الناس (3) ، ومعلّمها يقبّح الفقه بأنه كلام في حيض النسوان وأين هو من التكلّم في معرفة الرحمن ، فإنّه مذموم لما عرفت.
     وسادسها : وهومن معظمها أن يقتصر على قدر فهم المتعلّم حتّى لا يخبط عقله فيورثه دهشة وحيرة بل كفراً وضلالة ، كما ورد في الأخبار أيضاً.
     قيل وقوله تعالى : « ولا تؤتوا السفهاء أموالكم » (4) تنبيه على ذلك
1 ـ المحجة البيضاء : 1/122.
2 ـ كذا ، والظاهر : « الذكية » من الذكاه.
3 ـ للفقيه بما هو حصن الشريعة أن يمنع من تعلّم ما يوجب فساد العقيدة أو وهنها ويبيّن حكمه ، وتعيين الموضوع والتدخل فيه أيضاً لازم عليه في بعض الموارد إرشاداً كما إذا كان سكوته مؤدّياً إلى وقوع الناس في الضلالة وفساد العقيدة لغفلتهم وخطأهم.
4 ـ النساء : 5.

(117)
بالفحوى فليس الظلم في إعطاء غير المستحقّ أقلّ من منع المستحقّ ، كما قيل :
ومن منح الجهّال علماً أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم
     وإذا بيّن له ما يليق به لم يذكر له أنّ وراءه شيئاً يدّخر عنه لقصور فهمه ، فإنّه يشوش عقله ويظنّ بمعلّمه الضنّة ، فإن أحداً لا يرضى بالجهل بل كلّ أحد يرضى عن الله بما أعطي من كمال العقل ، ومن هنا منع عن فتح باب البحث للعوام ، إذ فيه تشويش لعقائدهم وتعطيل لصنائعهم التي بها قوام الأنام.
     وسابعها : أن يكون عاملاً بعلمه وهو وإن لم يختصّ بالمعلّم لكنّه فيه أشدّ ، فإنّ العلم يدرك بالبصيرة والعمل بالبصر وأرباب الأبصار أكثر من أهل البصيرة والاستبصار ، فكلّ من تناول شيئاً وقال للناس إنه سمّ مهلك فلا تناولوه سخروا به واتّهموه وزاد حرصهم عليه وقالوا لو لا إنه أطيب الأشياء لم يستأثره مع علمه ، والتجربة أحسن شاهد على عدم تأثيره وقبحه ، كما قيل :
لاتنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
     وقال : « أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم ». (1)
     وقال علي عليه السلام قصم ظهري رجلان : عالم متهتّك ، وجاهل متنسّك. (2)
     وفيه قيل :
فساد كبير عالم متهتّك وأكبر منه جاهل متنسّك هما فتنة للعالمين عظيمة ومن بهما في دينه يتمسّك
     قال الصادق عليه السلام : « إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن
1 ـ البقرة : 44.
2 ـ المحجة البيضاء : 1/124 ، منية المريد : 181.

(118)
القلوب كما يزلّ المطر عن الصفا » (1)
     ايقاظ
     انظر يا حبيبي إلى علماء زماننا كيف أفسدوا العالم بفساد علمهم (عملهم ظ) وهجروا رعاية الآداب في تعلّمهم فانتهى الأمر إلى بذل المعلمين الرشاء وتحمّل أنواع الذلّ في خدمة الحكّام لا ستطلاق الو ظائف المناصب وتوقّع المتعلّمين منهم الانتهاض في حوائجهم والقيام فيما يلحقهم من الأخطار والنوائب ، فإن قصروا في مطموعاتهم ثاروا عليهم وفتحوا ألسن الطعن فيهم بالمثالب والمعائب ، ثم لا يرضون الا بالتمدّح والافتخار والعجب والاستكبار بنشر (2) العلوم طمعاً لما عند الله من عظيم المواهب ، فاعتبر باماراتهم وتفطّن لصنوف اغترارتهم حتّى جعلوا أنفس الأشياء خادماً لأخسّ الأغراض والمآرب ، وها أنا أبيّن لك العلامات الفارقة بين الصنفين حتّى تستدلّ بها على الجنسين من المقاصد والمطالب.

المقصد الرابع : في آفات علماء السوء
     أي الذين قصدوا من العلم التنعّم بالدنيا والتوصّل إلى جاه عند أهلها ، والامارات الفارقة بينهم وبين علماء الآخرة ، وقد ورد في الأخبار من المبالغة في الذمّ والطعن عليهم ما هو أكثر من أن يحصى.
     قال الصادق عليه السلام : « أوحى الله تعالى إلى داود : ياداود لاتجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا ، فيصدّك عن طريق محبّتي ، إنّ أولئك قطّاع طريق عبادي المريدين لي ، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم ». (3)
     وقال علي بن الحسين عليه السلام : « مكتوب في الانجيل : لا تطلبوا علم
1 ـ الكافي : 1/44 ، كتاب فضل العلم ، باب استعمال العلم ، ح3.
2 ـ الجارّ والمجرور متعلّق بالاستكبار بتضمين معنى « الادّعاء « يعني يدّعون نشر العلوم طمعاً لما عند الله ويفتخرون ويتكبّرون به.
3 ـ الكافي : 1/46 ، كتاب فضل العلم ، باب المستأكل بعلمه ، ح4.

(119)
مالا تعلمون ولمّا عملتم بما علمتم ، فإنّ العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه الا كفراً ، ولم يزدد من الله الا بعداً ». (1)
     وقال الباقر عليه السلام : « من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوّء مقعده من النار ، إنّ الرئاسة لاتصلح الا لأهلها ». (2)
     وقال الصادق عليه السلام : « إذا رأيتم العالم محبّاً لدنياه فاتّهموه على دينكم ، فإنّ كلّ محبّ لشيء يحوط ما أحبّ ». (3)
     وقال عليه السلام : « طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم ، صنف يطلبه للجهل والمراء ، وصنف يطلبه للاستطالة والختل ، وصنف يطلبه للفقه والعقل ، فصاحب الجهل والمراء موذ ممار متعرّض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم ، قد تسربل بالخشوع وتخلّى عن الورع ، فدقّ الله تعالى من هذا خيشومه وقطع حيزومه ، وصاحب الاستطالة والختل ذو خبّ وملق ، يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء من دونه ، فهو لحوائهم هاضم ولدينه حاطم ، فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء أثره وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر ، قد تحنك في برنسه وقام الليل في حندسه ، يعمل ويخشى وجلاً مشفقاً مقبلاً على شأنه عارفاً بأهل زمانه مستوحشاً من أوثق إخوانه ، فشدّ الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه ». (4)
     وفي الخبر : « يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد ». (5)
1 ـ الكافي : 1/44_45 ، كتاب فضل العلم ، باب استعمال العلم ، ح4 ، وفيه : « ولمّا تعملوا بما علمتم ».
2 ـ الكافي ، 1/47 ، كتاب فضل العلم ، باب المستأكل بعلمه ، ح6.
3 ـ الكافي : 46/1 ، كتاب فضل العلم ، باب المستأكل بعلمه ، ح4.
4 ـ الكافي : 49/1 ، كتاب فضل العلم ، باب النوادر ، ح5.
5 ـ الكافي : 47/1 ، كتاب فضل العلم ، باب لزوم الحجة على العالم ، ح1.

(120)
وغير ذلك ممّا لا يحصى.
     وقد تحقّق منها أنّ العالم للدنيا أخسّ حالاً من الجاهل ، وأنّ العلم الموجب للقرب إلى ربّ الأرباب هو ما كان للآخرة ، ولعلمائها أمارات عمدتها الزهد في الدنيا ، فإنّ أقلّ مراتب العلم العلم بحقارة الدنيا وكدورتها وفنائها وجلالة الآخرة وصفائها وبقائها ، وأنهما كالضرّتين (كالضدّين خ ل) لايجتمعان ، فإن لم يعلم الاولى كان فاسد العقل فلا يكون عالماً ، ومن لم يعلم الثانية كان كافراً فلا يكون عالماً ، ومن لم يعلم الثالثة كان جاهلاً أو كافراً بشرائع الأنبياء ، فكيف يعدّ من العلماء ومن علمها جميعاً ولم يؤثر الآخرة على الدنيا كان عبداً أسيراً لشهوته ، فكيف يكون له درجة العلماء ، كما قيل :
وراعي الشاء يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب
     ويتفرّع على هذه الملكة الشريفة كون صاحبها متجنّباً من علوم الدنيا الا الآخرة بعد الفراغ من علومها وكونه هارباً عن أرباب الدول ومخالطتهم سيّما السلاطين متوسلّاً بها إلى مال أو جاه ، فلو جعلها وسيلة إلى إقامة نظام النوع وإعلاء الدين وقمع المبدعين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان من أفضل الأعمال كما كان عليه جماعة من أعيان أصحاب الأئمة عليهم السلام وأكابر العلماء الأعلام ، وورد في الأخبار أيضاً.
     وموافقة فعله لقوله :
     فعن الصادق عليه السلام في قوله تعالى : « إنّما يخشى الله من عباده العلماء » (1) « يعني بالعماء من صدّق قوله فعله ، ومن لم يصدق قوله فعله فليس بعالم ». (2)
     ومن أماراتهم التوقّف في الفتوى والاحتراز عنه مهما أمكن ، وكذا
1 ـ فاطر : 28.
2 ـ الكافي : 1/36 ، كتاب فضل العلم ، باب صفة العلماء ، ح2.
كشف الغطاء ::: فهرس