كتاب كشف الغطاء ::: 131 ـ 140
(131)
المبادي أعني آيات الآفاق والانفس إلى الغايات أعني معرفة ما لمبدعها من الحكمة والقدرة والعظمة وهو مفتاح الأسرار ومشكاة الأنوار وشبكة المعارف ومصدر العوارف ومنبع الحقائق وجناح النفس للطيران من حضيض النقصان إلى اوج العرفان وآلة صقالتها من خبث الجهالات وصدء الضلالات ، وقد ورد الحثّ عليه في الأخبار والآيات ، قال تعالى :
     « أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ». (1)
     « أولم يتفكّروا في انفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما الا بالحق » (2).
     « الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السماوات والأرض ». (3)
     وعن النبي صلى الله عليه وآله : « التفكّر حياة القلب البصير ». (4)
     وعنه صلى الله عليه وآله : « فكره ساعة خير من عبادة سنة » ، ولا ينال منزلة التفكّر الا من خصّه الله بنور المعرفة والتوحيد. (5)
     وعن علي عليه السلام : « نبّه بالتفكّر قلبك وجاف عن الليل جنبك واتّق الله ربّك ». (6)
     وقال الصادق عليه السلام : « الفكر مرآة الحسنات وكفّارة السيّئات وضياء القلوب وفسحة للخلق واصابة في إصلاح المعاد واطلاع على العواقب واستزاده في العلم وهي خصلة لايبعد الله بمثلها ». (7)
1 ـ الأعراف : 185.
2 ـ الروم : 8.
3 ـ آل عمران : 191.
4 ـ البحار : 78/115 نقلاً عن الدرة الباهرة ، وفيه : حياة قلب البصير ».
5 ـ مصابح الشريعة : الباب السادس والعشرون في التفكّر.
6 ـ الكافي : 2/54 ، كتاب الايمان والكفر ، باب التفكّر ، ح1.
7 ـ مصباح الشريعة : الباب السادس والعشرون في التفكّر.

(132)
وعن الرضا عليه السلام : « ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم ، إنّما العبادة التفكّر في أمر الله تعالى ». (1)
     ثم إنه لايجوز التفكّر في ذاته تعالى بل بعض من صفاته أيضاً لأنه أجلّ من أن يدرك بطوامح العقول والأحلام أو يحيط به غووامض الظنون والأوهام ، فالنظر فيه تعالى يوجب التحيّر والانسجام ولو أمكن لبعض المتجرّدين كان كالبرق الخاطف ولولاه لاحترقوا من سبحات وجهه.
     قال النبيّ صلّى الله عليه وآله : « تفكّروا في آلاء الله ولاتفكروا في الله تعالى فإنكم لن تقدروا قدره ». (2)
     وأمّا ما سواه تعالى من عوالم الوجود فهو من مطارح الأنظار ومسارح الأفكار لأنه بأسره من رشحات وجوده وآثار جوده ، وفي كلّ شيء منه من عجائب صنعه وغرائب حكمته ما تعجز عن ادراك عشر من أعشارها عقول ذوي الأحكام.
     فمنه ما لا يعرف أصله فلا يمكن التفكر فيه وما يعرف اجمالاً فيمكن التفكّر في تفصيله ، وينقسم إلى عالم الملكوت أي ما لا يدرك بالبصر كالعقول والنفوس والملائكة والجنّ والشياطين ولها أجناس وطبقاتت لايعلمها الا الله وعالم الملك والشهادة أي ما يدرك به وينقسم إلى عالم السماوات وعالم الجوّ وعالم الأرضين ، ولكلّ منها أنواع ولأنواعها أصناف مختلفة في الصفات والهيئات واللوازم والآثار ولا يحيط بها الا موجدها.
     ولكلّ منها في حركته وسكونه ووجوده حكم ومصالح لايحيط بها الا مبدعها.
     وكلّ منها شواهد عدل على وحدانيّته وكمال قدرته وحكمته وعضمته.
1 ـ الكافي : 2/55 ، كتاب الايمان والكفر ، باب التفكّر ، ح4.
2 ـ المحجة البيضاء : 8/193 وفيه : تفكروا في خلق الله ، واجع أيضاً الجامع الصغير : 1/132.

(133)
وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد
     ولكلّ منها مرتب مرتب على النهج الأصلح والنظام الأرجح بأمر الحكيم العليم مبتدأة من الأشرف فالاشرف إلى أن ينتهي بأخس العوالم أعني الأرض.
     ولا قدر لكل منها بالنظر إلى مافوقه كما لا قدر لما على الأرض من الحيوان والنبات والجماد بالنسبة إليها ، ولذا تفسد بأدنى تغيّر لها ، فلو أنّ انساناً أوتي علم الأوّلين والآخرين ولازال باقياً ببقاء السماوات والأرضين وتفكّر في عجائب صنع ربّ العالمين لم يقدر على الاحاطة بعشر من معشارها ، بل قذف قطرة من بحارها ، ولذا ترى كتب العلماء البارعين وزبر الحكماء العارفين مع غاية بذل جهدهم في بيان مجاري أفكارهم فيها وكونها مشحونة من مطارح أنظارهم فيها لم تشتمل الا على شطر من يسيرها وتضمّنت العجز عن قليل من كثيرها ، كيف ولو صرفت عمرك في الاحاطة بعجائب نوع من صغار الحيوانات من البقّة والنملة والعنكبوت والنحلة وأشباهها من ترتيب أجزائها وأعضائها مع حقارة جثّتها وصغر حجمها واشتمال كلّ منها على مصالح معدّة لها ووضع منازلها وجمعها وادّخارها لأقواتها واهتدائها إلى حوائجها وغير ذلك لم تقدر عليه ، فكيف يمكن الاحاطة بعجائب صنع الله تعالى في سائر ما في عالم الأكوان.
     « قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مدداً » (1).
     ثم إنّ أحسن ما يمكن كونه مجالاً للتفكّر في عجائب صنعه هي النسخة الجامعة لجميع العوالم التي جعلها الله حجة على خلقه وكتاباً كتبه بيده وهيكلاً بناه بحكمته وانموذجاً لما أثبته في لوحه المحفوظ وشاهداً على كل غائب وحجّة على كلّ جاحد وطريقاً مستقيماً إلى كل خير وصراطاً ممدوداً
1 ـ الكهف : 109.
(134)
بين الجنّة والنار كما عبّر به مولانا الصادق عليه السلام (1)أعني الانسان من بدو خلقته من قطرة ماء منتنة وكيفيّة تقلّباته من مقام إلى مقام بما أعطي من الحواس والأجزاء والأعضاء والألوان والأشكال والاشتمال على عالم الحيوان والنبات والجماد على أحسن ترتيب ونظام عجيب متضمّن لمصالح لاتحصى إلى أن وصل إلى مقام أوتي فيه العقل والادراك تدريجاً إلى أن بلغ فيه ما بلغ وأودع فيه من عجائب الأسرار ماتدهش فيه طوامح العقول وثواقب الأنظار.
     منها : قوّة الخيال التي تطوي السماوات والأرضين في آن واحد مع عرضيتها الغير المنقسمة.
     وقوّة الوهم التي تستنبط المعاني الكثيرة الجزئية من حاق الأشياء في لحظة واحدة.
     وقوّة المتخيّلة المركبة بعضها مع بعض ، والآخذة مافيه صلاحها وسدادها من أمر معاشها ومعادها.
     ومنها : احاطة النفس مع تجرّدها وعدم مناسبتها للأجسام بوجه بالبدن وحصول نوع اتحاد بينهما وارتباط خاص.
     ثم اتصافها بالصفات الكماليّة وتمكّنها من الاحاطة بحقائق الأشياء بأسرها وتصرّفها في عالمي الملك والملكوت بقوّتيه العقلية والعملية مع عجزها عن إدراك ذاتها.
     ثم تطوّراتها بالأطوار المتبائنة وترقّياتها من حين تعلّقها بالنطفة القذرة إلى أن صارت متّصلة بالملأعلى.
     ثم اجتماع عوالم السباع والبهائم والشياطين والملائكة فيها وإطاعة الجنّ والشياطين والكواكب والطيور والسباع لها.
     ومنها : إهداؤها إلى الطبع الموزون والصوت الحسن واستنباط أنواع
1 ـ كلمات مكنونة : 125.
(135)
الصنائع العجيبة.
     ومنها : الرؤيا وإخباره بالمغيّبات.
     ومنها : صيرورة هذه النطفة القذرة ملكاً شديد البأس والبطش ، ظلاً من الله على عباده ، سبباً لانتظام النوع وفساده.
     ومنها : تصرّفه في مواد الكائنات حتّى في السماوات من خوارق العادات وصنوف المعجزات والكرامات.
     فلو تفكّرت فيما ذكر ومالم يذكر من عجائب صنعه تعالى المودعة في الهيكل البشري كان كلّ منها برهاناً ظاهراً على سلطانه القاهر.
وتزعم أنّك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر (1)
     ومن جملتها : التفكّر في صفات الحقّ تعالى بالتفكّر في خواصّ النفس وإثبات ما يضاهيها في حصول المعرفة به تعالى فإنّ أوّل البغية آخر المدرك وأول المدرك آخر البغية ، فالمبادي تراد للغايات ، والغايات تظهر منها.
     وقال عليه السلام : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » (2).
     ثم إنّك لو تفكّرت في كلّ ما يمكن أن تتفكّر فيه من عوالم الوجود المشار إليها عرفت أنه ما من ذرّة في الأرض ولا في السماء الا وهي طائعة لربّه خاضعة لأمره خاشعة من هيبته.
     وعلمت أنّ جلّ منافعها ومصالحها عائدة إليك وإلى بني نوعك وأنها مخلوقة لاجلك مدبّرة في مصالحك وأنت ذاهل عن ذلك غافل عمّا هنالك.
ابرو باد وخورشيد وفلك دركارند تاتو نانى به كف آرى وبه غفلت نخورى

1 ـ ديوان أميرالمؤمنين عليه السلام : ص236.
2 ـ مائة كلمة لجاحظ : الكلمة الثالثة (من شرح ابن ميثم) ، ص57.

(136)
همه از بهر تو سرگشته وفرمانبردار شرط انصاف نباشد كه تو فرمان نبرى
     حتّى إنّ جوارحك التي تعصي بها ربّك مطيعة لأمره ، خاشعة من سطوته ، وجلة من هيبته ، خجلة عن موافقتها لك في مخالفته مع كونها بأمره ومشيئته ، ويقول كل منها بلسان حاله : أما ترى يا ضالّ من ذاالذي خلقني وأبدعني وأكمل هيأتي وصورني فأحسن صوّرتي وأو جدني فأجاد وجودي وخلقني وقلّبني في تقلّباتي وأحوالي وغيّرني في تطوّراتي انّما فعل ذلك لتهتدي بي إلى عظيم حكمته وجليل قدرته وتصرفني فيما يرضيه من طاعته ومعرفته ، فتبّاً لك يا جاهل يا قليل الحياء وتعساً لك يا مغرور يا عديم الوفاء ، وهل تظنّ أنك متمكّن بإرادتك فيما تأمرني به ومتسلّط على ماتصرفني فيه معاصيك ، كلّا بل هو الله الذي أمرني بموافقتك ولو أشار إلي بالانتقام منك أو مخالفتك لعلمت عجزك هوانك واطّلعت على ذلّك وخسرانك وستعلم عن قريب وبال ما اخترته لي ولنفسك من الظلم والجفاء.
جمله ذرّات زمين وآسمان اى نموده ضدّ حق در فعل ودرس جزو جزوت لشكر او در وفاق چونكه جان جان هر چيزى وى است لشكر حقّند گاه امتحان در ميان لشكر اويى بترس مر ترا اكنون مطيعند از نفاق دشمنى با جان جان آسان كى است
     تذنيب
     قد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ أحسن التفكّر هو ما كان في عجائب صنعه وحكمته حتّى يورث ازدياداً في اليقين والبصيرة بقدرته وحكمته وعظمته ورأفته وجزيل نعمته ، أو ما كان فيما يقرب العبد إلى طاعته ويبعده عن معصيته من الطاعات والفضائل والمعاصي والرذائل ، فيتفحّص في كل يوم وليلة كما أشرنا إليه عن حال قلبه وكلّ عضو من أعضائه فإن وجد كلاً منها


(137)
مستقيماً على وسط العدالة وملازمة الطاعة والعبادة المطلوبة منها وهاجرة من كلّ رذيلة ومعصية منهية عنها فليحمد الله على كمال التوفيق وتمام النعمة ، وإن وجدها ملوّثة بأخباث الرذائل والمعاصي فليبادر إلى معالجتها بالتفكّر في سوء الخاتمة وكونها مؤدّية إلى غضب الله تعالى والشقاوة الدائمة وتداركها بالتوبة والندم والبكاء والابتهال والتضرّع والدعاء وتحصيل فضائل الملكات وحسنات الأعمال المذهبة للسيّئات.
     ومجال التفكّر في هذين القسمين وسيع ، والقدر الضروري منه للسالك يزيد على ما يستوعب فرصته من عمره لو صرفها في هذين القسمين خاصّة من فكره.
     وقد كانت العادة المستمرّة لأسلافنا الصالحين المسافرين إلى المقام الأعلى أنهم يكتبون جميع المهلكات والمنجيات في جريدة ويعرضون صبيحة كل يوم أو عشية كل ليلة صفاتهم عليها ، فإذا أيقنوا بالتخلّي عن رذيلة واطمأنّوا بالتحلّي بفضيلة خطّوا عليها في الجريدة.
     ثم يتفكّرون في أخرى إلى أن يوفّقهم الله تعالى للخطّ على الجميع وكانوا يرون هذا النوع من التفكّر من لوازم الايمان بالحساب ، فنعم الأسلاف السابقون وبئس الأخلاف اللاحقون ، حيث لا يشمّ من نفوسنا رائحة الايمان بيوم القيامة ولا تحصل فيها من كثرة الظلمات المحيطة بها رقّة وحزن وخوف تتبع اللوم والندامة.
     ثمّ إنّ هذا النوع من التفكّر إنّما هو تفكّر العلماء الصالحين.
     وأمّا الصدّيقون من الأنبياء والأولياء فشأنهم أجلّ وأرفع من ذلك لاستغراقهم في محبّة الله وانسه وفنائهم في جلاله وعظمته ، ففكر هم ليس الا الاستغراق في بحار أنوار جماله والاحتراق من نيران وصاله.


(138)
     وأعلم انّ اللذّة الحاصلة من التفكّر بمراتبه المشار إليها ممّا لا تحصل الا مع الأنفكاك عن الرذائل الخلقية والاتّصاف بالفضائل النفسية وما أشبه حال من لم يتخلّ عنها ولم يتحلّ بها بحال من تمكّن من مشاهدة معشوقه فقام يحادثه وينظر إليه وتحت ثيابه حيّات وعقارب تلدغه ، فإنه مع شدّة الألم الحاصل له من لدغها لايبتهج ولايلتذّ من مشاهدته والتكلّم معه.


(139)
الباب السادس
في معالجة الرذائل الغضبية
وذكر ما يقابلها من الفضائل
ففيه أيضاً مقامان


(140)
المقام الأول
     في ذكر الرذائل بمعالجاتها ولابدّ من ذكر جنسها مع ما هو من أعظم أنواعها ولوازمها في عدّة فصول :

فصل
     أحد الجنسين من طرف الافراط التهوّر ، ويدلّ على ذمّه مادلّ على وجوب حفظ النفس عقلاً ونقلاً على أن من لا يتبع العقل في المحافظة عن الأخطار والمهالك أو لايخاف عن الزلازل العظيمة والصواعق المزعجة وأمثالها أصلاً يستحقّ أن يطلق عليه اسم الجنون والوقاحة.
     وعلاجه بعد تذكّر مفاسده الدنيوية والأخروية تقديم التروّي في جميع أفعاله وارتكاب ما يجوّزه العقل دون ما يمنعه وربّما احتاج صاحبه في دفعه إلى الحذر عن بعض ما يجوّزه العقل إلى أن يقرب من الاعتدال فيأخذ بالشجاعة التي هو الوسط ويحتاط فيه حتى لايقع في جانب التفريط.
     وثانيهما : الجبن أي سكون النفس عن الحركة إلى الانتقام وغيره مع كونها مطلوبة كما أن الغضب إفراطها فيها فهو ضدّ له وللتهوّر باعتبارين.
     وعلى كلّ حال فهو من جانب التفريط وهو من المهلكات العظيمة ، ويتبعه من اللوازم الذميمة مهانة النفس والذلّة ، وسوء العيش ، وطمع الناس فيما يملكه ، وقلّة الثبات في الأمور ، والكسل ، وحبّ الراحة الموجبة للحرمان عن السعادات ، وتمكين الظالمين من الظلم عليه ، وتحمّل الفضائح في العرض والمال والعيال ، وعدم مبالاته بها ، وتعطيل مقاصده. والأخبار في ذمّه والاستعاذة منه في الدعوات كثيرة.
     وعلاجه : تهييج الغضبية بما يبعث عليه لا متناع كون النفس عادمة لها
كشف الغطاء ::: فهرس