كتاب كشف الغطاء ::: 171 ـ 180
(171)
الاستقامة على الحق ـ تكليف نفسه على ذلك ولو تكلّفاً إلى أن يصير له عادة.

فصل
     ومن رذائل قوّة الغضب القساوة أي ملكة عدم التأثّر من تألّم أبناه النوع. ويترتّب عليها من الصفات الذميمة الظلم والايذاء وترك إعانة الضعفاء ومواساة الفقراء ونحوها وامتناع النفس عن قبول المواعظ والنصائح والخوف من الله تعالى.
     وفي الخبر النبوي صلى الله عليه وآله : « يقول الله تعالى : اطلبوا الفضل من الرحماه من عبادي وتعيّشوا في أكنافهم فإنّي جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم ، فإني جعلت فيهم سخطي ». (1)
     والأخبار في ذمّ القسوة وفضل ضدّها الرحمة أكثر من أن تحصى ، والله سبحانه وتعالى شبّه قلوبهم بالحجارة ، ثمّ قال : « أو أشدّ قسوة ». (2)
     وبينّها بأنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وأنّ منها لما يهبط من خشية الله.
     وبالجملة فذمّ القساوة في الكتاب والسنّة كثير ، والمفاسد المرتّبة عليها أظهر من أن تخفى ، وكذا مدح الرحمة وشرفها ، ويكفيها فضلاً كونها من أظهر الصفات الالهيّة التي ينسبها إلى ذاته في كلامه المجيد دائماً ، والله يحبّ من عبده التشبّه به في صفاته ، ويكره منه ما يضادّها. لكن إزالتها عن القلب في غاية الصعوبة ، فيحتاج إلى رياضة تامّة بترك لوازمها وآثارها ، و(من خ ل) المواظبة على آثار الرحمة والرأفة من الأعمال الظاهرة ، ويكلّف نفسه عليه تكليفاً عنيفاً حتّى تتبدّل تدريجاً.
1 ـ المحجة البيضاء : 6/60.
2 ـ البقرة : 74.

(172)
المقام الثاني
في ذكر معظم الفضائل المتعلّقة بالقوّة الغضبية
وفيه فصول

فصل
     الشجاعة إحدى الفضائل الأربع النفسانية وهي جنس لفضائل القوّة الغضبيّة.
     وقد عرفت أنها عبارة عن تعديلها بإطاعتها بالقوّة العقلية في الاقدام على الأهوال وسكونها تحت أمرها ونهيها. وقد تقدّم في الفصول السابقة ما يكفيك في معرفة فضيلتها ، كما يظهر لك في الفصول الآتية أيضاً.
     وبديهة العقل تشهد بحسنها ، وأن بها يتم الرجولية والفحلية ، وكفاه مدحاً كونه من أظهر صفات أميرالمؤمنين عليه السّلام وذرّيته الطيّبين سلام الله عليهم أجمعين.
     وقد قال الله تعالى في مدح جماعة من المؤمنين :
     « أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم ». (1)
     وقال الحسن بن علي عليه السّلام في وصف أخ له :
     « كان ضعيفاً مستضعفاً فإذا جاء الجدّ كان ليثاً عادياً ». (2)
     وعن النبيّ صلّى الله عليه وآله : « ثلاث خصال من كنّ فيه استكمل خصال الايمان : إذا »
1 ـ الفتح : 29.
2 ـ الكافي : 2/237 ـ 238 ، كتاب الايمان والكفر ، باب المؤمن وعلاماته ، ح26.

(173)
رضي لم يدخله رضاه في باطل ، وإذا غضب لم يخرجه الغضب عن الحقّ ، وإذا قدر لم يتعاط ماليس له ». (1)
     وعن الباقر عليه السّلام : « المؤمن أصلب من الجبل. الجبل يستقلّ منه ، والمؤمن لايستقلّ من دينه شيء ». (2)

فصل
     ومن جملة أنواعها الخوف من الله تعالى.
     قال الصادق عليه السّلام : « يا إسحاق! خف الله كأنّك تراه ، فإن كنت لاتراه فإنّه يراك فان (وإن خ ل) كنت ترى أنّه لايراك فقد كفرت ، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين اليك ». (3)
     وقال عليه السلام في قوله تعالى : « ولمن خاف مقام ربّه جنّتان » (4) : « من علم أنّ الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يفعله من خير وشرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى ». (5)
     وقال عليه السّلام : « من عرف الله خافه ، ومن خافه سخت نفسه عن الدنيا ». (6)
     وقال عليه السّلام : « من خاف الله أخاف الله منه كلّ شيء ، ومن لم يخف الله أخافه الله من كلّ شيء ». (7)
     وعن النبيّ صلّى الله عليه وآله : « ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين : بين أجل قد مضى لايدري ما الله صانع فيه ، وأجل قد بقي لايدري ما الله قاض فيه
1 ـ الكافي : 2/239 ، كتاب الايمان والكفر ، باب المؤمن وعلاماته ، ح29.
2 ـ الكافي : 2/241 ، كتاب الايمان والكفر ، باب المؤمن وعلاماته ، ح37.
3 ـ الكافي : 2/67 ـ 68 ، كتاب الايمان والكفر ، باب الخوف والرجاء ، ح2.
4 ـ الرحمن : 46.
5 ـ الكافي : 2/70 ، كتاب الايمان والكفر ، باب الخوف والرجاء ، ح10.
6 ـ الكافي : 2/68 ، كتاب الايمان والكفرن باب الخوف والجاء ، ح4 ، وفيه : « خاف الله » في الموضعين.
7 ـ الكافي : 2/68 ، كتاب الايمان والكفر ، باب الخوف والرجاء ، ح3.

(174)
... الحديث » (1).
     وناهيك دالاً على فضاء أنه القامع للشهوات الذابّ عن السيّئات الباعث على الطاعات ، فإن السقيم إذا خاف طول السقام احتمى عمّا يضرّه من الطعوم ، والعالم بإهلاك السمّ يمتنع عن أكل الطعام المسموم.
     ثم إنه لايتحقّق الا من انتظار مكروه إمّا لذاته كخوف الموت وسكراته وما يترتّب عليه من هول المطّلع وسؤال القبر وعذابه والحياء عن اطلاع أهل المحشر عن فضائح أعماله والحساب والصراط وعذاب النار والحرمان عن نعيم دار القرار والنقصان عن درجة المقرّبين والأبرار والبعد والاحتجاب عن ربّ الأرباب ، وهو خوف الزاهدين والعابدين.
     وإمّا لغيره كالموت قبل التوبة عن ذمائم أخلاقه وأعماله ، أونقضها قبل الموت ، أو ضعفه عن استيفاء (2) حقوق الله ، أو الاشتغال عن الله بغيره ، أو البطر والاستدراج بتواتر النعم والاغترار بالدنيا أو تعجيل العقوبة فيها ، أو غفلة عن القبائح ، أو سوء الخاتمة وهو من أعظم المخاوف الذي قطع قلوب السالكين العارفين بخطره ، وأعلى منه خوف السابقة لكونه أدلّ على كمال المعرفة لكون الخاتمة فرعها ومظهرها ، ولذا ورد : « الشقيّ شقّي في بطن أمّه ، والسعيد سعيد في بطن أمّه » (3).
1 ـ الكافي : 2/70 ، كتاب الايمان والكفرن باب الخوف والرجاء ، ح9.
2 ـ في نسخة « ب » : استقصاء.
3 ـ الجامع الصغير : 2/37 ، توحيد الصدوق : 356 ، واعلم أنّه ليس معنى الحديث أنّ السعادة والشقاوة أمران مقدّران أزليّان قاهران على الانسان ـ شاء أم لا ـ ولايمكن الفرار عنهما أبداً ، إذ لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ولسقط الوعد والوعيد ولم يكن حكمة في إرسال الرسل وإنزال الكتب ، بل معناه ـ كما عن الامام موسى بن جعفر عليه السلام ـ أنّ الشقي من علم الله وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل الأشقياء وكذا السعيد ، وقول ذلك البعض الّذي يخاف من الأول إن رجع إلى الخوف من علم الله المتعلّق بأفعال العباد باختيارهم فهو ، والا فذلك قول الأشاعرة من العامّة ولاينبغي عدّه معرفة فضلاً عن كمالها.

(175)
     وقال بعضهم : الناس يخافون من اليوم الآخر وأنا أخاف من الأوّل.
     فظهر أنّه تابع للمعرفة واليقين ، فكلّما حصّل علماً بالمخوف عنه حصّل خوفاً مثمراً للاجتناب عن المفضي إليه ، وكلّما ازداد يقيناً تمواعيده تعالى وماله من الصفات والأفعال وبعيوب النفس وما أعدّ لها من الأخطار والأهوال زاد خوفه وخشوعه وتذلّله وخضوعه إلى أن يبلغ مبلغاً لايكون له همّ الا المجاهدة والمراقبة ومؤاخذة النفس دائماً بالمحاسبة ، كما لاهمّ لمن وقع في مخالب السبع الضاري الا استخلاص نفسه منه ، كما كان حال الخلّص من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين.
     قال أميرالمؤمنين عليه السّلام : « أما والله لقد عهدت أقواماً على عهد خليلي رسول الله صلّى الله عليه وآله وأنهم ليصبحون ويمسون شعثاً غبراً خمصاً بين أعينهم كركب البعير يبيتون لرّبهم سجّداً وقياماً ، يراوحون بين أقدامهم وجباههم ، يناجون ربّهم في فكّ رقابهم من النار ، والله لقد رأيتهم مع هذا خائفين ، مشفقين ، وكأنّ زفير النار في آذانهم إذا ذكر الله عندهم مادوا كما يميد الشجر ، كأنّما القوم باتوا غافلين ، فما رئي أميرالمؤمنين بعد ذلك ضاحكاً حتّى قبض ». (1)
     ثم ربما تبلغ المعرفة بصاحبها في الخوف مبلغ الصدّيقين ، وهو الاستغراق في بحار عظمة الله وجلاله فيصير مدهوشاً والهاً دائماً.
     ويسمّى هذا القسم من الخوف في اصطلاح السالكين خشية ورهبة.
     وله أيضاً مراتب بحسب اختلاف المعرفة الحاصلة في تلك المرتبة لعدم تناهي صفاته الجمالية والجلالية ، وقصور النفس عن الاحاطة بغير المتناهي مع العجز عن تحمّلها ، كيف ولو تجلّى ذرّة منها على أكمل العقول التامّة
1 ـ خلط المصنّف هنا بين روايتين : الاولى الرواية 21 من باب المؤمن وعلاماته من كتاب الايمان والكفر من الكافي ، وهذه الرواية تنتهي إلى قوله : « مشفقين » ، على أنّ في الكافي : « وهم خائفون مشفقين » بدل « خائفين مشفقين » وفيه أيضاً « كركب المغرى » بدل « كركب البعير » ، والثانية ذيل الرواية 22 من نفس الباب وفيه بعد قوله « غافلين » : « قال (أي الراوي وهو عليّ بن الحسين عليه السلام) : ثمّ قام فما رئي ضاحكاً حتّى قبض صلوات الله عليه ».
(176)
لاحترق من أنواره الباهرة ، وذاب من مشاهدة عظمته القاهرة.
     ولو تتبّعت ما في كتب السير والأخبار من عروض الغشيات المتواترة في كل ليلة لأميرالمؤمنين وأولاده المعصومين الأطهار عليهم السّلام وماكانوا عليه من الدهشة وعدم التفطّن في صلاتهم وغيرها من خلواتهم للآلام العظيمة وسائر الأولياء المخلصين الأبرار ، لاستشممت رائحة ماكانوا عليه من شدّة المعرفة والمحبّة والاستغراق في بحار العظمة ، فهؤلاء ليس لهم التفات إلى ماض وآت ولا كراهة من مكروه ، ولا شوق إلى مطلوب ، ولا خوف من شيء من مكاره الدنيا والآخرة ، ولا مطمع في مطالبها إذا فيض عليهم نور الوحدة ، فلم يبق فيهم حجاب الخوف والخشية.
     ولذا : قيل إنّ المحبّ إذا شغل قلبه مع مشاهدة المحبوب بخوف الفراق كان نقصاً في دوام الشهود الذي هو غاية مقامات العارفين (1).
تنبيه
     لمّا عرفت أنّ الفضيلة من كلّ شيء وسطه ، فالخوف المزبور يكون فضيلة إذا كان بأعثاً للمواظبة على تحصيل المعارف الحقّة والأعمال الصالحة حتّى يحصل منه رتبة القرب ولذّة الحبّ ، فكما أنّ لسوق البهيمة وتأديب الصبيّ حدّاً لو قصر عنه لم تحصل الغاية المطلوبة منهما ، ولو تجاوز عنه في الكمّ أو الكيف أدّى إلى هلاكته وتضييعه ، فكذا الخوف.
     وعلامة وصوله إلى حدّ الاعتدال تأثيره في الجوارح بالكفّ عن المعاصي ، والتقيّد بالطاعات ، فلو لم يصل إليه كان مجرّد حديث نفس كبكاء النساء والاطفال من أدنى شيء وعودهم إلى ماكانوا عليه بانقطاعه. ولو وصل إلى حدّ اليأس والقنوط كان ضلالاً وكفراً ومؤدّياً إلى ترك العمل
1 ـ لا اعتبار باقوال غير المعصومين وأتباعهم في هذه المسائل وما قيمة هذه الأقوال التي تنفي الخوف عن الأئمة عليهم السّلام وتعتبره حجاباً عن مشاهدة نور الوحدة في قبال ما ذكر من الآيات والروايات وسيرة الأئمة عليهم السّلام الذين أمرنا باتباعهم واقتصاص آثارهم ، ولذا ذكر في جامع السعادات بأن هذه الأقوال مما لا التفات لنا اليها. فراجعه : 1/224.
(177)
وكسالة الأعضاء ، وهو الفساد المحض المحظور شرعاً وعقلاً.
     وتلخيص الكلام في المقام أنّ الخوف في نفسه نقص وعجز ، ينشأ من الجهل بعاقبة الأمور والشكّ فيها ، وإنما يعدّ كمالاً بالنسبة إلى ما هو أعظم نقصاً منه ، وكونه آلة لتحصيل كمالات اخر ، فلو لم يؤدّ إليها بل أدىّ إلى النقائص كفساد العقل وترك تحصيل المعارف والأعمال الحسنة كان فساداً محضاً ونقصاناً صرفاً. وقد ظهر ممّا ذكر أنّ أعظم أسبابه المهيجة له اليقين بالله ، وصدق مواعيده ، والتفكّر في أهوال القيامة ، وأصناف مكاره الآخرة ، وعسر الثبات على الحقّ ، وعظم خطر الخاتمة ، وكثرة تقلّبات القلوب ، واستماع النذر وحكايات خوف الأنبياء والملائكة ، وكمّل الأولياء المسطورة في السير والآثار والاهتمام في زيادة المعرفة بالله ، وصفات جلاله وعظمته تعالى.

تذنيب
     لسوء الخاتمة أسباب ، أعظمها غلبة الجحود أو الشكّ في بعض العقائد أو كلّها أصالة أو سراية عند سكرات الموت فيقبض الروح على تلك الحالة الحاجبة بينه وبين ربّه ، الباعثة لحرمان الأبد والعذاب المخلّد ، ونعني بالسراية أن يعتقد في ذاته تعالى وصفاته خلاف الواقع بالدليل أو التقليد ثمّ من جهة كون حالة الموت حالة كشف الغطاء ينكشف له في تلك الحالة فساده ، فيشكّ بسببه في سائر عقائده الحقّة كما نقل عن الفخر الرازي أنّه بكى يوماً ، فسئل عن سببه ، فقال : « قد ظهر لي اليوم بطلان ما اعتقدته منذ سبعين سنة ، فلا أدري أنّ حال سائر ما اعتقدته أيضاً كذلك أم لا ». (1)
     وإنّما يتّفق هذا القسم للخائضين في غمرات الشكوك والشبهات والآخذين عقائدهم من بضاعتهم المزجاة من دون تثبّت لهم فيه لقصورهم عن درك حقائق الأمور على ما هي عليه في نفس الأمر وتعارض الأدلّة
1 ـ جامع السعادات : 1/234.
(178)
المستخرجة لها ، وانفتاح أبواب الشكّ والحيرة فيها بالبحث والنظر ، فربّما اطمأنّوا ببعضها ، ثمّ تبيّن لهم بعد ذلك ضعفها فهم تائهون في غمرات الحيرة دائماً ، فلو أخذتهم سكرة الموت على هذه الحالة أمكن حصول الشكّ لهم في عقائدهم لأجل ذلك ، فمثلهم كمثل سفينة منكسرة في ملتطم الأمواج ومرماها ، فإنّ الغلب هلاكها ، وإن اتّفق نادراً رميها إلى الساحل.
     وأمّا البله أعني الذين حصّلوا عقائدهم الراسخة بطريق الاجمال فهم بمعزل عن هذا الخطر ، ولذا حكم بأنهم أكثر أهل الجنّة ، وورد المنع عن الخوض في الكلام والبحث عن ذات الله تعالى.
     فالاحسن تلقّي العقائد من صاحب الوحي مع تطهير الباطن من ذمائم الأخلاق وتحلّيه بمحاسنها ومحاسن الأفعال ، وترك التفكّر في حقائق المعارف ، الا من أيّده الله بالقوّة القدسيّة ، فأشرق في قلبه نور الحكمة ، فإنّ لكلّ صواب نوراً ، ولكلّ حقّ سطوعاً وظهوراً ، وأمّا من لم يبلغ تلك المرتبة فليأخذ أصول عقائده بوساطته بالاشتغال بخدمته حتّى تشمله بركات أنفاسه ، فإنّ العاجز عن القتال يخدم أهله ليحشر في زمرتهم ، وإن كان فاقداً لدرجتهم.
     ثم بعدها ضعف الايمان وعلامته شدّة حبّ الدنيا وضعف حبّ الله ، بحيث لايلقى منه الا حديث نفس ، ولايظهر منه أثر في أداء الطاعات وترك الانهماك في الشهوات ، فيظلم القلب ويسودّ من تراكم الذنوب ، وينطفي نور الايمان رأساً ، فإذا حان حين الفراق والتفّت الساق بالساق ازدزاد حبّه لله ضعفاً ، ورأى فراق محبوبه أي الدنيا من الله تعالى كرهاً فينكر عليه ما قدّر له ، بل يبغضه ، فهذا سوء الختم ، نعوذ بالله منه فمن وجد حبّ الدنيا في قلبه أقلّ وأضعف من حبّ الله كان أبعد عن هذا الخطر ، ومن كان بالعكس فبالعكس. « قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال


(179)
اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتّى ياتي الله بامره ». (1)
     فيكون قدوم الأوّل عليه تعالى قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مواله ، ويلحقه الفرح والسرور ماشاء الله ، والثاني عليه تعالى قدوم العبد الآبق المبغض لمولاه إذا قدم عليه قهراً ، ولايخفى ما يكون فيه من الذلّ والهوان والخزي والحرمان.
     ثمّ أهونها كثرة العصيان ، وإن قوي الايمان فتألف طبيعة الانسان بها في حياته فيعود ذكرها لأجله عند مماته ينعقد في قلبه حبّ ما خطر له منها ويقبض روحه على ذلك الخاطر ، ويكون ذلك حجاباً له عن ربّه ، وهو الختم بالسوء أيضاً.
     وكلّ من غلبت عليه المعاصي وكان قلبه أميل إليها من الطاعات كان أقرب إلى هذا الخطر ، ومن كان بالعكس كان عنه أبعد ، ومن تساوى حاله فأمره إلى الله ، ولا يعلم ما يختم عليه.
     والسرّ فيه أنّ الغشية التي قبل الموت شبيهة بالنوم ، فكما لايرى الانسان في منامه الا ما عهده وألف به في اليقظة حتّى إنّ المراهق إذا احتلم لايرى صورة الوقاع ، فكذلك الحال عند سكرات الموت ، فربّما صارت غلبة الانس سبباً لتمثّل فاحشة في قلبه وميله إليها فيقبض على تلك الحالة روحه فيكون بالسوء ختمه وإن كان ما يرجى به خلاصه من فضل الله تعالى أعني الايمان باقياً.
     وكما أنّ ما يخطر بالبال في اليقظة إنما يخطر أسباب خاصّة يعرف بعضها كالانتقال من الشيء إلى ما يشابهه أو يضادّه أو يقارنه ، ولايعرف بعضها كالانتقال من شيء إلى أخر لايعرف وجه مناسبته ، أو الانتقال إلى شيء لايعرف سببه أصلاً ، فكذا ما يرى في المنام أو يختلج في حالة الموت له
1 ـ التوبة : 24.
(180)
أسباب مخصوصة يعرف بعضها بالنّهج المزبور ، ولايعرف بعض آخر.
     فمن أراد كفّ خاطره عن السيّئات فلابدّ له من المجاهدة في قمع الشهوات عن قلبه في حال الحياة ، كما أشرنا إليه وتقييده بحبّ الله وأنسه والتوجّه إليه حتّى يصير له عدّة في تلك الحالة ، إذ المرء يموت على عاش عليه ، ويحشر على مامات عليه ، كما ورد في الخبر (1)
     وممّا ذكر يظهر أنّ أعمال العبد كلها ضائعة إن لم يسلم الوقت الأخير الذي فيه خروج الروح ، والسلامة مشكلة مع اضطراب الخواطر ولذا ورد في الخبر :« أن الرجل يعمل عمل أهل الجنة خمسين سنة حتّى لايبقى بينه وبين الجنّة الا فواق ناقة فيختم له بما سبق به الكتاب ». (2)
     والظاهر أنّ فواق الناقة ليتّسع للأعمال بل هي الخواطر التي تمرّ كالبرق الخاطف ولذا قيل : إني لاأعجب ممّن هلك ، كيف هلك ولكن أعجب ممّن نجى كيف نجى. (3)
     ومنه يظهر سرّ ما ورد في بعض الأخبار : « أنّ الناس كلّهم هلكى الا العالمون ، والعالمون كلّهم الا العاملون ، والعاملون كلّهم هلكى الا المخلصون على خطر عظيم ». (4)
     ولعظم خطره استعيد. من موت الفجأة ، فإنّ غلبة خواطر السوء واستيلائها على القلب في حالة الصحّة وبعد المظنة عن الموت أكثر ، وطلب الشهادة من الله تعالى في سيبله لأنها عبارة عن قبض الروح في حالة لايبقى
1 ـ نقل هذه الجملة في المحجة : 7/300 من دون إشارة إلى كونها خبراً ، نعم أطلق عليها الخبر في جامع السعادات : 1/239.
2 ـ المحجة البيضاء : 7/302.
3 ـ قيل لعلي بن الحسين زين العابدين عليه السلام يوماً : إنّ الحسن البصري قال : ليس العجب ممّن هلك كيف هلك ، وإنّما العجب ممّن نجا كيف نجا؟ فقال عليه السلام : أنا أقول : « ليس العجب ممّن نجا كيف نجا ، وأمّا العجب ممّن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله » البحار : 78/153.
4 ـ المحجة اليبضاء : 7/303 من دون اشارة إلى كونه خبراً ، نعم في مجموعة ورّام نسبه إلى النبي صلّى الله عليه وآله كما في هامش جامع السعادات : 1/240.
كشف الغطاء ::: فهرس