كتاب كشف الغطاء ::: 191 ـ 200
(191)
     تنبيه
     قد ظهر لك أنّ هذه الملكة من نتائج كبر النفس واليقين معاً ، فهي من فضائل القوّة العقلية لترتّبها على كمال المعرفة واليقين والقوّة الغضبية لتفرّعها على كبر النفس وقوّتها ، وضدّها أعني دناءة الهمّة مترتّبة على ضدّيهما أعني الجهل وصغر النفس. وعلجها بعد التذكّر لشرفها وكمالها برفع أسبابها وتحصيل أسباب ضدّها ممّا أشرنا إليه سابقاً.

فصل
     ومنها : الغيرة والحميّة ، أي السعي في حفظ ما ينبغي حفظه عقلاً وشرعاً ، وهي من نتائج الشجاعة وقوّة النفس ومن شرائف الصفات ، وبها يتحقّق الفحليّة.
     قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « إنّ سعداً لغيور ، وانّي لأغير من سعد ، والله أغير منّي ». (1)
     وقال صلى الله عليه وآله : « إنّ الله لغيور ولأجل غيرته حرّم الفواحش ». (2)
     وعن الصادق عليه السّلام : « إنّ الله تبارك وتعالى غيور يحب الغيرة ، ولأجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ». (3)
     ثم الغيرة في الدين حفظه عن بدع المبدعين وشبه الجاحدين والسعي في ترويجه ونشر أحكامه وإجرائها بين الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعدم المسامحة في ذلك بالخوف من لوم لائم وعذل عاذل.
     وفي العيال عدم الغفلة عن المباديء التي يخشى غوائلها بحفظ الحريم عن الأجانب وما يحتمل أن يؤدي إلى فتنة أو فساد ، والسلوك معهن بما فصل
1 ـ المحجة البيضاء : 5/298.
2 ـ جامع السعادات : 1/265.
3 ـ المحجة البيضاء : 3/103 ، نقلاً عن الكافي : 5/535 ، وفيهما « لغيرته » و« ظاهرها وباطنها ».

(192)
في علم تدبير المنزل ، ومراقبة الأولاد من أول الأمر ، واستعمال مايؤدّي إلى كمالهم وتحفظهم عمّا يورث إتلافهم وإظلالهم بما فصّل فيه أيضاً.
     وفي المال بالاجتهاد في حفظه عن تغلّبات المتغلّبين ، وضبطه بعد تحصيله من المكاسب المحمودة والمداخل المستحسنة بعدم صرفه في مالا فائدة فيه لدنياه وعقباه ، كالانفاق رياء وتفاخراً وإسرفاً وغير ذلك ممّا ليست راجحة عقلاً. وسيجيء ما يزيدك إرشاداً إلى ذلك.

فصل
     الوقار طمأنينة النفس وسكونها في الأقوال والأفعال قبل الدخول وبعده ، فيشمل التوقّف والتأنّي ، وهو من نتائج قوّة النفس وكبرها ، وقد مدح به الأنبياء ، وورد في صفات المؤمن أنّه وقور صبور ، وبديهة العقل تشهد بحسنها ، فلابدّ لكلّ عاقل من الاجتهاد في تكليف نفسه على آثاره من التأنّي في الحركات ، حتّى يصير له ملكة تدريجاً ، وتمتاز السكينة عنه باختصاصها بالباطن واختصاصه بالظاهر.

فصل
     الحلم طمأنينة النفس بحيث لايزعجها الغضب بسهولة فهو المانع من حدوثه ابتداءاً ، ثم بعد هيجانه وظهور آثاره في جوارحه يسمّى المانع من سرايته إلى الغير تحلّماً وكظماً للغيظ ، فهما ضدّان له ، ولاشكّ في كون الحلم من شرائف الملكات ، وكفاه فضلاً كونه من صفاته تعالى الجمالية ، واقترانه بالعلم في الأدعية والآثار ومدحه تعالى أنبياءه في كتابه الكريم به.
     والأخبار في الحثّ عليه ممّا لاتحصى ، وكذا كظم الغيظ ، وكفاه فخراً عدم حصول ملكة الحلم الا به.


(193)
     ولذا قال صلى الله عليه وآله : « إنّما العلم بالتعلّم والحلم بالتحلّم ». (1)
     ومدحه تعالى عباده به بقوله : « والكاظمين الغيظ ». (2)
     وعن النبي صلّى الله عليه وآله : « من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا ». (3)
     وعن الصادق عليه السّلام : « ما من عبد كظم غيظاً الا زاده الله عزّوجلّ عزّاً في الدنيا والآخرة ». (4)

فصل
     العفو إسقاط ما يستحقّه من قصاص أو غرامة ، والآيات والأخبار في مدحه أكثر من أن تحصى.
     قال الله تعالى : « خذ العفو وأمر بالمعرف » (5) « وإن تعفوا أقرب للتقوى » (6)
     وقال صلّى الله عليه وآله : « ... والعفو لايزيد العبد الا عزّاً ، فاعفوا يعزّكم الله ». (7)
     وقال صلّى الله عليه وآله لعقبة :« ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك ». (8)
     وكفاه فضلاً أنه من أجمل صفاته تعالى.
     قال سيّد العابدين عليه السلام : « أنت الّذي سميّت نفسك بالعفو ، فاعف عنّي ». (9)
1 ـ المحجة البيضاء : 5/311.
2 ـ آل عمران : 134.
3 ـ المحجة البيضاء : 5/309.
4 ـ الكافي : 2/110 ، كتاب الايمان والكفر ، باب كظم الغيظ ، ح5.
5 ـ الأعراف : 199.
6 ـ البقرة : 237.
7 ـ المحجة البيضاء : 5/318.
8 ـ المحجة البيضاء : 5/319.
9 ـ جامع السعادات : 1/4302.

(194)
فصل
     الرفق هو اللين في الحركات والأقوال ، وقريب منه حسن الخلق ، وهما من نتائج الحلم ، والأخبار في فضلهما واتّصاف المؤمن بهما ممّا لاتحصى.
     فعن النبي صلّى الله عليه وآله : « أنّ الله رفيق يحبّ الرفق ويعطي على الرفق [ مالا يعطي على العنف ] ». (1)
     وقال صلى الله عليه وآله : « مااصطحب اثنان الا كان أعظمهما أجراً وأحبّهما إلى الله تعالى أرفقهما بصاحبه ». (2)
     وقال صلّى الله عليه وآله : « من أعطي حظّه من الرفق أعطي حظّه من خير الدنيا والآخرة ، ومن حرم حظّه من الرفق حرم حظه من خير الدنيا والآخرة ». (3)
     ويقرب من الرفق المداراة ، وربما يعتبر فيها تحمّل الأذى.
     وعنه صلّى الله عليه وآله : « ما يوضع في ميزان امرء [ يوم القيامة ] أفضل من حسن الخلق ». (4)
     وقال صلى الله عليه وآله : « حسن الخلق الله الأعظم ». (5)
     وقيل له صلى الله عليه وآله : أيّ المؤمنين أفظلهم إيماناً؟ فقال : « أحسنهم خلقاً ». (6)
     وقال : « حسن الخلق ليذيب الخطيئة كما تذيب (تميت خ ل) النار الجليد ». (7)
     والأخبار لاتحصى ، والتجربة شاهدة بأنّ إنجاح الأمور والمقاصد في
1 ـ المحجة البيضاء : 5/323.
2 ـ المحجة البيضاء : 5/324.
3 ـ المحجة البيضاء : 5/4322.
4 ـ المحجة البيضاء : 3/289 نقلاً عن الكافي : 2/99.
5 ـ جامع السعادات : 1/308 ، المحجة البيضاء : 5/90.
6 ـ جامع السعادات : 1/308 ، المحجة البيضاء : 5/90.
7 ـ المحجة البيضاء : 5/92 ، وفيه : « كما تذيب الشمس ».

(195)
طبقات الناس بأسرهم لايتمّ الا بهما ، وهما من أظهر صفات المرسلين ، وأشرف أعمال الصدّقين ، ومن تتبّع كتب السير والتواريخ والأخبار اطّلع على قليل ممّا ظهر من أشرف الأنبياء وذرّيته البررة الأوصياء المصطفين سلام الله عليهم من غرائب آثار هاتين الصفتين.

فصل
     ومنها هضم النفس واستحقارها ، وهو ضدّ العجب ، فكلّ من بلغ إلى مرتبة عالية فقد بلغها بهذه الصفة ، ومالم يعلم الانسان فقدانه لصفة كمال لم يرغب إلى تحصيلها ، ولم يحنّ إلى طلبها ، والأخبار في اتّصاف المؤمن به وأنّه تعالى يحبّ المنكسرة قلوبهم أكثر من أن تحصى وإن ضمّ إليه استعظام الغير كان تواضعاً ، وهو ضدّ الكبر ، وهو من أعظم صفات المؤمن.
     قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ». (1)
     وقال عيسى بن مريم عليه السلام : « طوبى للمتواضعين في الدنيا ، هم أصحاب المنابر يوم القيامة ». (2)
     وأوحى الله تعالى إلى داود : « يا داود! كما أنّ أقرب الناس إليّ المتواضعون كذلك أبعد الناس عنّي المتكبّرون ». (3)
     وقال الصادق عليه السّلام : « التواضع أصل كلّ شرف نفيس ، ومرتبة رفيعة ... والتواضع مايكون لله وفي الله ، وماسواه مكر ، ومن تواضع لله شرّفه الله على كثير من عباده ـ ـ إلى أن قال ـ ـ وأصل التواضع من إجلال الله وعظمته وهيبته ، وليس لله عبادة يرضاها ويقبلها الا وبابها التواضع ، ولايعرف ما في حقيقة التواضع الا المقرّبون من عباده ، المتّصلون بوحدانيّته » قال الله
1 ـ المحجة البيضاء : 6/219.
2 ـ المحجة البيضاء : 6/220.
3 ـ الكافي : 2/123ـ ـ 124 ، كتاب الايمان والكفر ، باب التواضع ، ح11 ، وفيه : « إلى الله » ومن « من الله » « إلىّ » و« عنّي ».

(196)
عزّوجلّ : « وعباد الرحمن الّذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ». (1) وقد أمر الله تعالى خير خلقه وسيّد بريّته محمّداً صلّى الله عليه وآله بالتواضع فقال : « واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمن » ، (2) والتواضع مزرعة الخضوع والخشوع والحياء والخشية ، وأنّهنّ لايأتين (3) الا منها ، ولايسلم الشرف التامّ الحقيقي الا للمتواضع في ذات الله ». (4)
     ومنه يظهر أانّ ما شاع في عصرنا هذا من شدّة الخضوع الخشوع والتذلّل بالنسبة إلى أهل الدول والأغنياء والحكّام وغيرهم من أهل الدنيا ولاسيّما من العلماء وتسميتها تواضعاً [ خطأ و ] (5) تدليس ، بل هي مكر وتلبيس ، وهي التملّق والتذلّل المذموم الواقع في طرف التفريط من فضلية التواضع ، وإنّما التواضع الذي هوالعدل حقيقة إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه ، فتواضع العالم لمثله إذا ورد عليه القيام له وتخلية مجلسه وحفظ مراسم الأدب بالنسبة إليه ، ولو فعل ذلك للأغنياء وأهل الدول كان تملّقاً مذموماً ، ولو فعله للسوقي كان تخاسّاً وتذلّلاً ، وإنّما تواضع السوقي باليسر من الكلام واللين والرفق معه في المكالمة ، وإجابة دعوته والسعي في قضاء حاجته ، [ وأن لاينظر إليه بعين الحقارة ، وأنّ له مزيّة ] (6) وأمثال ذلك.
     وتواضعه للمتكبّرين من أهل الدول بالكبر عليهم كما ورد في الخبر (7) ، إذا الانكسار لهم مع كونه تملّقاً مذموماً إعانة لهم على عدوانهم وتثبيت لهم على تكبّرهم ومبالغتهم في صفتهم المذمومة ، فلعلّ في التكبّر عليهم يحصل لهم التنبّه على خطائهم الباعث على تركهم له.
1 ـ الفرقان : 633.
2 ـ الشعراء : 215.
3 ـ كذا ، وفي مصابح الشريعة : « لاينتن الا منها وفيها ».
4 ـ المحجة البيضاء : 6/255 نقلاً عن مصابح الشريعة (الباب 58).
5 ـ كما في « الف ».
6 ـ كما في « ب ».
7 ـ المحجة البيضاء : 6/222.

(197)
     وبالجملة؛ فهذا المقام من مزالق الاقدام ، حيث يشتبه فيه التكبّر بالتعزّز وترك التذلّل ، [ فيذمّ صاحبه ] (1) ، و التملق بالتواضع ، وفيحمد عليه ، وإنّما القانون الكلّي في ذلك إخلاص النيّة بكون التواضع لله وفي الله تعالى من دون ملاحظة نفع دنيوي ، أو الاحتراز عن مكروه كذلك.

فصل
     ومنها : الانصاف والاستقامة على الحقّ.
     قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « سيّد الأعمال إنصاف الناس من نفسك » ... (2)
     وقال أميرالمؤمنين عليه السّلام : « ألا إنّه من أنصف عن نفسه لم يزده الله الا عزّاً (3)
     وقال الصادق عليه السّلام : « ألا أخبركم بأشدّ ما فرض الله على خلقه؟ فذكر ثلاثة أشياء أوّلها : إنصاف الناس من نفسك ». (4)
     وقال عليه السلام : « إنّ لله جنّة لايدخلها الا ثلاثة : أحدهم من حكم في نفسه بالحقّ ». (5)
     والأخبار في ذلك لاتحصى.
     ومنها : التسليم والانقياد لمن يلزم إطاعته من الله والرسول والأئمّة عليهم الصلاة والسلام والعلماء والفقهاء والوالدين ومن يحذو حذوهما.
     والآيات والأخبار الواردة في وجوب إطاعتهم ممّا لاتحصى ، مع أنّه بذلك يحصل الهداية والنجاة ، وينقذ من شفا جرف الهلكات. وسنذكر في باب العدالة ما يزيدك ترغيباً عليه.
1 ـ كما في « الف ».
2 ـ الكافي : 2/145 ، كتاب الايمان والكفر ، باب الإنصاف والعدل ، ح7.
3 ـ الكافي : 2/144 ، كتاب الايمان والكفر ، باب الإنصاف والعدل ، ح4 ، وفيه : « من ينصف ».
4 ـ الكافي : 2/145 ، كتاب الايمان والكفر ، باب الإنصاف ح6.
5 ـ الكافي : 2/148 ، كتاب الايمان والكفر ، باب الإنصاف ، ح19.

(198)


(199)
الباب السابع
في بيان ما يتعلّق بالقوّة الشهوية
من الرذائل
ومعالجاتها والفضائل وما يحثّ عليها
ففيه أيضاً مقامان


(200)
المقام الأوّل
     في ذكر الرذائل ومعالجاتها ، ولابدّ من ذكر جنسها مع ما هو من أعظم أنواعها ولوازمها في عدّة فصول :

فصل
     قد تبيّن لك أنّ أحد الجنسين الشره من طرف الافراط وهو الانهماك في الشهوات الغير المحمودة عقلاً ونقلاً كما عرفت ، فيشمل رذائل القوّة الشهوية من طرف الافراط بأسرها.
     وهذا المعنى هو الذي فسّره القوم به وجعلوه جنساً في مقام حصر أجناس الرذائل ، لكنّهم في مثل هذا المقام فسّروه بما هو أخصّ منه أعني شهوة البطن والفرج.
     ولعلّه مبنيّ على كونها من أظهر أفراده وأشيعها لعموم البلوي بها ، وكونها بمنزلة الأصل ، والباقي بمنزلة الفروع واللوازم المترتّبة عليها.
     ولو فسّروه هنا بحبّ الدنيا على ما سنذكره ، وذكروا جميع ما يذكر هناك في المقام ، ثم ذكروا بعد ذلك شهوة البطن والفرج في جملة الأنواع اللوازم كان أصوب.
     ولكنّا نتبعهم في ذلك كسائر ما تبعناهم فيه لسهولة الخطب وقلّة الجدوى.
     فنقول : أمّا شهوة البطن فصاحبها ذليل بالبطع ، قصير الهمّة ، مستفرغ وسعه في تدبير القوّة البهيميّة ، صارف فكرته وجهده في خدمتها ، فهو أخسّ من البهيمية ، ضرورة كون الخادم أخسّ من المخدوم. والاستكثار منها يورث البلادة ويولد الأمراض البدنيّة والأسقام المادّية كالهيضة والتخمة والعفونات الحادثة من السدّة الامتلائية وانصباب المواد المجتمعة من فضلات الأغذية إلى الأعضاء ، فإنّ المعدة بيت كلّ داء كما أنّ الحمية رأس كلّ دواء.
كشف الغطاء ::: فهرس