كتاب كشف الغطاء ::: 231 ـ 240
(231)
وآخذ الجوهرة الثمينة ، فلا يعدّ من المعاوضة في شيء ، وهو أعلى مراتبه لكونه ناشئاً من كمال المعرفة بآفاتها ومفاسدها وعدم وفائها ، بل عداوتها ومكرها بأبنائها ، والعلم بدوام لذّات الآخرة وبقائها.
     وصاحبه في أمن من الالتفات إليها ، ومثاله أنّه إذا كان على باب الملك الذي تقصده كلب يعضّ الناس ويمنعهم عن الوصول إليه ، فألقيت إليه شيئاً يضرّك وينفعه ممّا نلته من موائد الملك فشغلته بذلك الشيء عن نفسك ودخلت ونلت منه غاية القرب ونهاية اللطف والاكرام ، فهل ترى أنّ مانلته منه عوضاً لما ألقيته إلى كلبه ، مع كونه من أخسّ الأشياء وأردائها وكونه منه أيضاً.
     فنعماء الدنيا وإن كثرت ، بالنسبة إلى نعيم الآخرة أخسّ شيء وأقبحه ، لكدورتها بالآلام وفنائها ، فلا نسبة لها بلذّات الآخرة ونعمائها مع مقائها وصفائها.
     وله من حيث المرغوب عنه خمس درجات :
     أوّلها : الزهد في الحرام ، وهو زهد الفرض.
     وثانيها : الزهد في الشبهات ، وهو زهد السلامة.
     وثالثها : الزهد في الزائد عن الحاجة من الحلال أيضاً ، لكن مع التمتّع والتلذّذ ممّا يحتاج إلى صرفه.
     ورابعها : الزهد فيه بدون التمتّع والتلذّذ من القدر الضروري ، بل لأجل الاضطرار من قبيل أكل لحم الميتة مع كراهة له باطناً ، وهذا وما قبله يسمّى زهد ثقل.
     قال الصادق عليه السلام : « الزاهد في الدنيا الذي يترك حلالها مخافة حسابه ويترك حرامها مخافة عذابه ». (1)
     وخامسها : الزهد في جميع ما سوى الله حتّى النفس والبدن ، بحيث
1 ـ المحجة البيضاء : 7/362.
(232)
يكون ما يصحبه ويرتكبه إجاء.
     قال الصادق عليه السلام في بيان الزهد : « هو تركك كلّ شيء يشغلك عن الله من غير تأسّف على فوتها ، ولا إعجاب في تركها ، ولا انتظار فرج منها لا طلب محمدة عليها ، ولا عرض بها ، بل يرى فوتها راحة وكونها آفة ... الحديث ». (1)
     ولا ينافيه الاشتغال بالضروريات والالتفات إليها ، فإنّ قصد حفظ البدن وامتثال أمره تعالى في الاتيان بها للاستعانة على العبادة وسائر القربات أيضاً إقبال على الله واشتغال به ، فكما أنّ من يعلف دابّته في طريق الحجّ لايكون معرضاً عنه تعالى فكذا الاشتغال بتهيئة ما يحتاج إليه البدن الذي هو كالدابّة للنفس في الوصول إلى المقصد لايكون معرضاً عنه تعالى إذا لم يكن متنعّماً متلذّذاً بها ، بل قاصداً للتقوّي بها على الطاعة ، فهو لاينافي الزهد ، بل هو شرطه.
     ثم إنّه قد يتطرّق إلى القدر المهمّ الضروري شائبة فضول في القدر والجنس باختلاف الأوقات والأحوال ، فينبغي أن يراعى فيه الزهد أيضاً.
     وغاية الزهد فيه الاقتصار في القوت على ما يكفي ليومه وليلته من خبز الشعير وإن كان الحنطة أو ضمّ إليها شيئاً من الإدوام الخفيف أو اللحم في بعض الأحيان لم ينافه ، وفي اللبس على الصوف الساتر للأعضاء الحافظ لها عن الحرّ والبرد ، وفي المسكن كذلك ، وفي أثاثه على ما يدفع الحاجة ويزول به الضرورة من أخفّ الأجناس وأهونها ، ومن المنكح على ما يحفظه عن الوساوس المانعة من الحضور في طاعته ، ويؤدي إلى حفظ النوع ، ومن المال ما يقضي به حاجة يومه بليلته إن كان كاسباً ، والا فما يكفيه لسنته ، بل قيل : إن مثله وإنّ عد من الزهّاد الا أنه لايلحق المرتبة العليا ممّا اعد لهم ، فإنّ من وصل إلى درجة التوكّل التامّ واليقين لم يحتط لغده مع حصول قوت يومه ،
1 ـ مصباح الشريعة : الباب 31 ، في الزهد.
(233)
كما كانت عليه طوائف النبيّين وكافة الأصياء وخلّص الأتقياء الماضين.
     والحقّ أنّه يختلف باختلاف الأشخاص والأمكنة والأوقات ، فإنّ أمر المتفرّد في ذلك أخفّ من المعيل ، ومن اقتصر على العلم والعمل ولم يقدر على الكسب يخالف حاله حال الكالسب وكذا يمكن في بعض الأوقات والأماكن تحصيل الاجة كلّ يوم دون بعض ، فبالحريّ أن يلاحظ حاله ووقته ومكانه ، وأن الأصلح بحاله والأعون على تحصيل ما خلق لأجله ماذا ، فإن المعيار الصحيح في هذا الباب صحّة القصد وخلوص النيّة خاصّة.
     وأمّا الجاه فقيل : إنّ القدر الذي يحصل به وقع في قلب الخادم ليخدمه أو في قلب السلطان ليدفع عنه شرّ الأشرار عن نفسه أو عن غيره ، ممّا لاينافي الزهد.
     وقيل : إنّه يتمادى إلى هاوية لا عمق لها ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه ، وإن الحاجة إليه إما لجلب النفع ، والمال يغني عنه وإن لم يكن له قدر عند الخادم ، وإنما يحتاج إليه من أراد الخدمة بغير أجرة وهو ظالم حينئذ لا زاهد ، أو دفع الضر وهو مما يكفي عنه اشتغاله بالعبادة مع الأخلاص ، فإنّ الله تعالى أقدر على دفع الأذى عنه من الحكّام والسلاطين ، مضافاً إلى أنّه يحصل له من الله تعالى من دون كسب الوقع في قلب الكفّار فضلاً عن المسلمين.
     وأمّا التصوّرات والتقديرات الباعثة على تحصيل الزائد من ذلك ، فهي أوهام كاذبة على سبيل التخمين ، إذ المحصّل له أقرب إلى أذى الناس من عادمه ، فالعلاج بالصبر والتحمّل أولى من العلاج بطلب الجاه وتسخير قلوب أعداء الله الظالمين ، فإنّ اليسير يدعو إلى الكثير ، والحفنة إلى البيدر الكبير ، وضراوته أشدّ من الخمر كما لا يخفى على من له أدنى إدراك ، فليحترز عن قليله وكثيره حتّى لايسلك به إلى الهلاك.
     نعم ما يحصل للعبد منه تعالى من دون كسب لاتّصافه بالعلم أو غيره


(234)
من الكمالات المقتضية له فهو من نعمائه سبحانه الغير المنافية للزهد ، فإنّ جاه الرسول الله صلى الله عليه وآله كان من أعظمه مع كونه صلى الله عليه وآله من أزهد الخلق.
     وله من غايته النجاة من عذاب الآخرة سمّي زهد الخائفين.
     فإن كانت الطمع في نعيم الجنان كان زهد الراجين.
     وإن كانت الرغبة في لقاء الله تعالى واستغراق الهمّ به تعالى من دون التفات إلى الخلاص من الآلام ، أو الوصول إلى اللذّات كان زهد العارفين ، فإنّ الوصول إلى هذه المرتبة العلية لايمكن الا من كمال المعرفة بصفاته الكمالية ، فإنها تستتبع المحبّة ، فكما أنّ العارف بمنافع الدرهم والدينار وكمالاتها يحصل له محبّة تامّة بهما بحسب معرفته بهما ، فكذا من عرف لذّة النظر إلى وجهه الكريم وعرف أنها لاتجتمع مع لذّة الجنان بما فيها من الحور والقصور والغلمان ولا مع الخوف من عذاب النيران ، لم يؤثر غيرها عليها ، وكانت همّته مستغرقة في الوصول إليها ، بل كان طالب نعيم الجنّة في نظر العارف المذكور كالصبيّ الجاهل المغرور الطالب لللعب بالعصفور التارك لذّة الملك لما فيه من الجهل والقصور.
     تنبيه
     قد نبّهناك فيما مضى على أنّ كثيراً من الفضائل تشتبه بالرذائل ، ومنها الزهد ، فإنّه قد يترك التنّعم بزخارف الدنيا ويتكلّف في الخشونة في المأكل والملبس حبّاً المحجة البيضاء : للتسمّي بالزّهد والاشتهار بين الناس به وجلباً لقلوبهم بنيل الجاه ، فهذا ترك الدنيا للدنيا وليس زهداً ، فإنّه عبارة عن ترك جميع حظوظ الدنيا لله خاصّةً كما عرفت ، وعلامته استواء جميع ما يعرضه من الأحوال لديه.

فصل
     الفقر هوالاحتياج إلى الغير فيما هو فاقده ، والغناء عدمه فيما هو


(235)
واجده ، ومن البيّن أنّ الغناء من أشرف الصفات ، كيف وهو صفة وجود وكمال وهما من لوازم وجوب الوجود ، وما يكون كذلك فهو أشرف ممّا يستلزم النّقص والعدم والحاجة التي هي من لوازم الامكان ، ولذا انحصر الغني الحقيقي في الواجب تعالى لا حتياج ما سواه من الممكنات في كلّ آن إلى إفاضة الوجود ولوازمه وكمالاته منه تعالى عليها كما نبّه تعالى عليه بقوله :
     « والله الغنّي وأنتم الفقراء ». (1)
     ثم الغناء على ما عرفت معنى واحد بسيط ، وإنّما يكثر افراده ويختلف باختلاف ما به يتحقّق ، فإن ما به الغنى قد يكون ذات الشيء كالواجب تعالى ، فإنّه الغنيّ بذاته عن غيره ، وقد يكون غيره كالممكنات ، وهي وإن كانت مشتركة بأسرها في احتياجها في غناها إلى خارج عن حقائقها فيكون ذلك لها نقصاً وفقراً ، وفي كون غناها مستفادة من الغنيّ بالذات الميض على كافة الموجودات بقدر قابليّتها واستعدادها ، فيكون ذلك لها شرفاً واستكمالاً ، الا أنها مختلة في وجوه الاستفادة منه اختلافاً فاحشاً ، فإنّ منها ما يكون غناه عن جميع الأشياء به تعالى ، فيتساوى وجود كلّ شيء وعدمه بالنظر إلى ذاته لعدم احتياجه إليه مطلقاً ، وإن أحبّ فقدانه أو وجدانه بحسب ما قدّر الله له ، فإنّ هذا الشخص لعلمه بأنه تعالى لا يفعل الا ما هو الأصلح ، في مقام الرضا بما يقدّر له ، ومن أحبّ أحداً أحبّ كلّ ما يصدر عنه من الأفعال ، لكنه بالعرض لا بالذات ، وهذا مبلغ الصديقين المقربين ، والشائع عند القوم إطلاق الفقير على مثله ، ولعلّه لكون الباعث على غناه كمال معرفته بالله تعالى وبكونه غنيّاً بالذات ومغنياً لكافة الموجودات ومفيضاً عليها بقدر ما اعدّت لها ، وكون ما سواه تعالى مماثلاً له في الفقر والحاجة إليه تعالى ، وكيف يسأل محتاج محتاجاً ، وأنّى يرغب
1 ـ محمّد صلى الله عليه وآله : 38.
(336)
معدم إلى معدم.
     ويستتبع المعرفة التامّة بما ذكر قصداً ورغبة وانقطاعاً إليه تعالى وإعراضاً عمّا سواه بأسرها ، فكأنّه المحتاج لوجود خواصّه فيه من معرفة معناه ثم العمل بمقتضاه.
     وأمّا سائر الناس فكأنّهم ليسوا بمحتاجين لفقد خواصّ الاحتياج ، وأماراته فيهم ، وهذا من قبيل اختصاص العبدية بنبيّنا صلى الله عليه وآله ومن يتلوه في العبودية مع كونها عامّة لجميع البريّة ، وإطلاق الغنيّ على هذا الفرد أحقّ وأولى منه على سائر الأفراد لكون غناه أشرف غناء ، وكذا ما به غناه فهو أقرب في استفادته من الله تعالى من غيره ، ولتشبهه بالمبدأ غي حقيقة ما به الغنى وكونه دائماً لايزول ولايفنى ، وقد عرفت انّ كمال النفس في التشبّه بمبدأها.
     ومنها : ما كان غناه عن بعض الممكنات ببعض آخر منها ، كالغنى بالمال الحاضر عن الكسبوبالعكس ، أو عن الرجال بالمال أو ببعض الأموال عن بعض وغير ذلك ممّا يختلف بالختلاف الحاجات بالنظر إلى اختلاف الأشخاص والأحوال.
     ولابدّ فيه من تمهيد مقدمّة تتّضح بها جليّة الحال.
     فنقول : الموجودات بأسرها لا نتسابها إليه تعالى وكونها من آثار صنعه تعالى ، وهو خير محض لايصدر منه الا الخير ، لاتكون الا خيراً.
     وعروض الشرية لها من أجل خصوصيات عرضيّة واعتبارات إضافيّة ، ولو كانت محض الشرور أو جهة شرّيتها أغلب لم توجد أصلاً. ففقدان شيء منها من حيث إنّه خير نقص ووجدانه كمال ، بل هو من أشرف الكمالات ، فإن ملكيّة الأشياء بقصد استفادة خيراتها الباعثة لوجودها ومنع تحقّق آثار شرورها العرضيّة الاضافيّة ، هي الاستيلاء والتصرّف الحقيقي في الأشياء ، الذي به يحصل التشبّه بالمبدأ الأعلى ، كما أشرنا إليه فيما مضى.


(237)
     نعم فقدانها باعتبار استفادة وجوه الشرّ منها كمال بالاضافة إلى وجدانها كذلك الاعتبار الا انه في نفسه وبالاضافة إلى الاشتغناء بوجوه خيرها والاستكسال بها كمال وخير ، كما لايخفى.
     إذا تمهّد هذا ، فاعلم أنّ القسم المذكور من الغنى أي من كان غناه بالممكن إن كان ممّن لايسعى في طلبه سعياً بليغاً يصرفه عمّا هو الأهمّ له ، ولا يرغب فيه رغبة ذاتية شديدة ، ولا يتألّم بفقده ألماً طبيعيّاً الا أنّ حبّه لوجوده أكثر من عدمه إمّا بالذات لأنّه من أثار صنعه تعالى كما أشرنا إليه ، أو للتشبّه به تعالى في كون رزق بعض عباده بيده ، وأنّ له مدخلاً في نظام العالم الذي هو أحسن النظام ، أو لأجل اقتناء الخيرات وتحصيل السعادات ، فهذا أيضاً يتلو الأوّل في الشرافة والفضيلة ، ولذا ورد الحثّ الأكيد بالكسب والمتجر وتحصيل الرزق الحلال ، كما أشرنا إليه فيما مضى.
     وإن كان حريصاً في جمعها متعباً نفسه في تحصيلها ولو من غير وجهها فرحاً بحصولها جزوعاً من فقدها متعشّقاً إمّا نفسها أو بمصارفها المضرّة بدينه مهملاً بسببه ما هو الأهمّ من كمالات نفسه المقصوة من إيجاده فهو بعينه ما بسطنا الكلام فيه في حبّ المال والبخل والحرص وغيرها ، وهذا بإطلاق الفقير عليه أجدر ، لعدم استغنائه بماله من الأموال وغيرها ، بل ازدادت حاجته إليها برقيته لشهوته.
     وقد ذكرنا سابقاً أنّ مثل هذا كلما يزداد مالاً تزداد شهوته وحرصه لما هو فاقده توالداً ، وتتوالى إلى غير نهاية تقف ولا يتصوّر له حدّ من الغناء يعرف.
     ولذا قال أميرالمؤمنين عليه السلام : « يابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإنّ أيسر ما فيها يكفيك ، وإن أيسر ما فيها يكفيك ، وإن كنت [ إنّما ] تريد منها ما لا يكفيك فإن كلّ ما فيها لا يكفيك ». (1)
1 ـ الكافي : 2/138 ـ 139 ، كتاب الأيمان والكفر ، باب القناعة ، ح6.
(238)
     فظهر ممّا ذكر أنّ جميع أفراد الغنى في نفسها خير وكمال ، نوبالنظر إلى ما به الغنى أيضاً وإنّما يعرض الذمّ والشرّ لبعض غاياته في بعض أفراده مع قصدها ، بخلاف الفقر فإنّه نقص بالذّات وحرمان عن وجوه الخيرات وإنّما يعرض المدح والخيرية لبعض غاياته في بعض أفراده مع قصدها.
     فتبيّن أنّ الغني من حيث إنّه غني أي واجد للشيء أشرف من الفقير من حيث إنه فقير ومعدم له.
     يبقى كلام وهو أنّ الآيات والأخبار الدالّة على ذمّ الأغنياء ومدح الفقراء بقول مطلق كثيرة فماذا يفعل بها؟
     فنقول : لمّا كانت استفادة وجود الشرّ من الدنيا أيسر وأسهل والطباع إليه أميل ، وجنود الشرّ أقوى ودواعيه أظهر وأجلى كان صرفها في وجوه الخيرات من الأعمال والأفعال في غاية الصعوبة والاشكال.
     ولذا لاترى من الأغنياء من يصف نفسه بالحرّية واستيلاء قوّته العقلية على الشهويّة والغضبية الا قليلاً من الماضين الذين سمعنا حكاياتهم ولم نطّلع بالمشاهدة على حقائق حالاتهم.
     وأمّا أهل هذه الأعصار ممّن نشاهدهم في الأمصار فنفوس أغلبهم متّصفة بالرقية منقادة لقوتيه البهيمية والسبعيّة وجلّ هذه المعاصي والشرور والفضائح الحادثة على كرّ الدهور ناشئة من أرباب الدول ، وإن حدثت من الفقراء أيضاً لكنه أقل لحرمانهم من أسبابها وتعذّر الدخول عليهم من أبوابها ، فإذا كان اجتناب المعاصي والسيّئات واقتناء الفضائل والسعادات مع الفقر أيسر وأسهل ومع الغناء أصعب وإن كان بطريق أكمل ، فالحري اللائق بطبيب رفقاً بها ، وإهداء لها إلى الطريق الذي هو أقرب إلى الوصول ، فالتكاليف مختلفة باختلاف القابليات ، فمن لم يكن مستعداً للمرتبة العليا يجب الرفق به حتّى يصل إلى ما يتلوه ، وإن كان أدنى ، خوفاً من أن يحرم


(239)
عنها أصلاً ورأساً ، وهذا كما أنه السرّ في مدحهم للفقراء وذمّهم للأغنياء فكذلك هو السرّ في هرب الأنبياء والأولياء من أمتعة الدنيا وإعراضهم عنها وترجيحه فقدها على وجودها ، فإنّ شأن أرباب الهداية من المقربين النزول عن مرتبتهم القصوى إلى درجة المستضعفين حتّى يتمكّنوا من الاهتداء بهم والاقتداء بسيرتهم كالمعزّم الحاذق الذي يغيّر بين يدي أولاده عن أخذ الحية لا لضعفه عنه بل لعلمه بأنّهم يتبعونه ولا يقدرون فيهلكون ، وهذا مما لا يخفى على أولي البصائر والأفهام من التأمّل في الآيات والأخبار الواردة في المقام.

فصل
     لما كان الفقر والغنى متقابلين فكلّ مرتبة من الغنى يقابلها مرتبة من الفقر ، الا أنّ المرتبة الاولى لعد صدق الفقر عليها أصلاً يقابلها مطلق الحاجة الشاملة أيضاً لسائر مراتب الغنى وسائرها إضافية يصدق على كل منها الغنى والفقر باعتبارين.
     وحيثما تبيّن لك أنها بأسرها من الفضائل والكمالات فما يقابلها بأسرها من نقائص الممكنات الا إنّك لما عرفت أنّه لايمكن صرف ما يتحقّق به الغنى من الممكنات فيما خلقت لأجلها من الخيرات الا بعد استخدام العاقة للشهوية الذي هوالغني الحقيقي ، كان الغني الحقيقي المذكور لمن لم يؤيّد بالنفس القدسية من الأنبياء والأئمّة متوقّفاً على الفقر أوّلاً أي من حين سلوك هذا المسلك إلى أن يوفّقه الله للحرّية فيكون الأصلح بحاله بعد ذلك هو الغني.
     ثم إنك لما عرفت أنّ المذموم في كلّ ما عددناه من الأقسام هوالقصد إلى غايات الشر المطلوبة للقوّة الشهوية ومن البيّن انّ وجود المال وحصول الغنى به كما يترتّب عليه تلك الغايات ويصير من جملة أسبابها فكذا يترتّب على فقده وحصول الحاجة إليه غايات شرّ لاتحصى كالحرص والجزع


(240)
والشكوى من الله تعالى ، بل الكفر في بعض الأشخاص ولذا قال تعالى في خبر المعراج : « يا محمّد! إنّ من عبادي من لا يصلحه الا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك ، وإنّ من عبادي من لايصلحه الا الفقر ولم صرفته إلى غير ذلك لهلك ». (1)
     فإذن يظهر أنّ الأولى لكل أحد ملاحظة حاله ، فإن كانت إعانة الفقر له على سولك طريق الآخرة أكثر كان هو الأولى له ، والا فالغنى أرجح ، فما تراه في كلام الأئمة عليهم السلام والعلماء الأعلام من الاختلاف في ذمّها ومدحها مبنيّ على ذلك.
     ثم إذ تبين لك أنّ أولوّية الفقر عرضية وأنّه في نفسه نقص الا أنّه صار مقدّمة لرفع ما هو أعظم منه بالنسبة إلى من يريد أن يستخد قوّته الشهوية ولم بتّصف بصفة الحرّية ، وكان طالباً لتحصيل السعادة الأبدية ، فهو إمّا أن يكون قصده في اختياره والصبر عليه إلى تحصيل ما يتوقّف عليه من الفضائل طمعاً في عظيم الثواب ورجاء لمام عند الكريم الوهّاب ، فهذا فقر الراجين ، وإن كان الخوف من الاتّصاف بالرذائل والابتلاء بالمعاصي التي بها يستحقّ العذاب في الآجل فهذا فقر الخائفين.
     وأمّا من كان مستغنياً بالله عن غيره فهو وبأن كان بأن يسمّى غنيّاً أحقّ ممّن تعارف إطلاق الغني عليه ، أي من كانت له أموال كثيرة كما عرفت الا أنّه لما امتاز فقره عن سائر مراتب الفقر بكون فقره إلى الله خاصّة في جميع حالاته ، وغناه بالاستغناء عن كلّ شيء بأن يسمّى فقيراً أحرى ، فإن معاملته مع من هو فقير إليه دون من هو غنيّ عنه ، مع أنه الأوفق بالأدب لأنه تعالى هو المسمّى بالغني والمتّصف به حقيقة ، وقد سمّى غيره فقيراً ، فينبغي التأسّي به
1 ـ الكافي : 2/352 ، كتاب الايمان والكفر ، باب من أذى المسلمين ، ح8 ، وفيه : « من عبادي المؤمنين ».
كشف الغطاء ::: فهرس