كتاب كشف الغطاء ::: 241 ـ 250
(241)
تعالى فيها ، وهذا فقر الصدّيقين والمقرّبين وكمّل العارفين ولاينايه وجود الأموال الكثيرة كما كانت لكثير من الأنبياء والأولياء ، بل السلطنة الظاهرة ، كما كانت لدواد وسليمان وذي القرنين.
     قال بعض العلماء : وهذا الفقير رتبته فوق الزاهد ، لأنّ الزهد كمال الأبرار فهو سيّئة بالنسبة إلى المقرّبين ، وسرّه أن الزاهد في الدنيا يشارك محبّها في الاشتغال عن درجة الشهود وإن خالفه في الكيفيّة بكونه مشغولاً ببغضها وسالكاً في بعده مسلك القرب ، فيرجى في حقّه الوصول إلى مقام الشهود وكون الثاني مشغولاً بحبّها وسالكاً مسلك البعد فلا يتصوّر في حقّه.
     والحاصل كما لايجتمع حبّان في قلب واحد ، فكذا لايجتمع الحبّ والبغض معاً فيه.
     أقول : قد بيّنا أنّ من مراتب الزهد ترك كلّ ما يشغل عن الله تعالى ، فلو فرض كون البغض شاغلاً عنه تعالى لزمه الترك حتّى تصدق عليه تلك المرتبة من الزهد ، والمعتبر في حقيقة الزهد هو ترك الدنيا خاصّة ، فكما يصدق بتركها لأجل كونها شاغلة عن الله أي يكون الباعث عليه الالتفات إلى ذلك ، فكذا يصدق به إذا كان الباعث عليه الاشتغال بالله تعالى ، فإنّ الاشتغال بكل شيء يستلزم ترك الاشتغال بضدّه ، فيصدق عليه الزهد من حيث إنّه تارك للدنيا لله تعالى ، ويصدق عليه هذه المرتبة من حيث إنّه مشغول بالله عن كلّ شيء ، على أنّ الشاغل عن الله هو الالتفات إلى ما يبغضه لانفس البغض.
     وقد مرّ ما يدلّ على بغض الأنبياء والأولياء للدنيا ، وكيف يكون مطلق الزهد كمالاً للأبرار مع اتّصاف أشرف الأنبياء به وهو سيّد المقرّبين وأشرف الأوصياء به وهو سيّد الصدّيقين ، وكذا موسى وعيسى ويحيى عليهم السلام وغيرهم من أنبياء الله المرسلين.


(242)
     تلخيص
     تلخّص ممّا ذكر كون المعيار في رجحان أحدهما على الآخر قلّة صدّه عن سلوك الآخرة وسهولة الوصول به إلى السعادات الدائمة ، وهو متفرّع على حبّ العبد للدنيا وعدمه ، فإنّه الصاد عنها لا وجود متاع الدنيا لديه ، فكم من فقير يشغله الفقر عن المقصد وكم من غنيّ لا يشغل بغناه ولايصدّ ، بل يعينه على تقواه ويمدّه إلى ما فيه صلاح آخرته ودنياه ، فالغنيّ المحب لها مشغول عن الله تعالى بوصالها ، والفقير المحبّ لها مشغول عنه بفراقها ، فكلّ من كان علاقته بها أقلّ كان أفضل ، ومع التساوي فالغنيّ أكمل كما عرفت.
     وأنت إذا أحطت خبراً بما فصّلناه كنت في سعة من استخلاص نفسك عن تطويلات القوم في مقام الترجيح ، وذكر كل منهم الشهواهد العقلية والنقلية على رأية الغير الصحيح ، وعلمت أنّ ما فعله بعض الأعلام من عدّ الفقر من الفضائل والغني من الرذائل غلط عظيم ناش من عدم التعمّق التامّ في المقام ، فإن الغناء في نفسه ممدوح ، لأنّه صفة كمال وليس من جنس الملكات حتى يقال إنّه فضيلة أم رذيلة.
     وكذا حبّه لاستجلاب وجوه الخير منه أو لكونه صفة ممدوحة فضيلة وليست برذيلة.
     نعم حبّه للتوصّل به إلى المشتهيات رذيلة ، الا أنه بعينه حبّ الدنيا وغيره ممّا أشرنا إليه سابقاً ، وأمّا الفقر فإنه صفة نقص في نفسه ، وليس من جنس الملكات حتّى يقال إنه رذيلة أو فضيلة ، وملكة البذل والانفاق حتى يصير فقيراً تبذير محرّم ، كما مرّت إليه الاشارة.
     نعم إذا علم إنه لايتوصّل إلى الكمالات المطلوبة منه الا بالفقر كان حبّه له ممدوحاً من باب المقدّمة ، وهذا كمال أنّ الخوف في نفسه نقص وإنّما يعدّ كمالاً لو كان من الله تعالى لاستجلاب كما به ، فما لم يؤدّ إليه بل أدىّ


(243)
إلى نقص في العقل أو الدين يكون من الرذائل ، فكذا الفقر ، ولذا ورد في ذمّه من الأخبار ما لاتحصى ، واستعيذ منه في الأدعية.
     قال أمير المؤمنين عليه السلام : « من ابتلي بالفقر فقد ابتلي بأربع خصال : الضعف في يقينه ، والنقص في عقله ، والرقّة في دينه ، وقلّة الحياء في وجهه ، فنعوذ بالله من الفقر ». (1)
     وأمّا عدم حبّ الدنيا فهو الزهد ، ولا دخل له بالفقر والغني لاجتماعه مع المال وعدمه ، وهو واضح.
     إرشاد
     ينبغي لمن قدّر له الفقر أن لا يكرهه ولا يجزع عليه ، فإنّ العالم بالأصلح قدّر له ذكل فلا يشكون الا إليه لو لم يمكنه الرضا بما آثره عليه وأن يتوكّل عليه تعالى ويثق في قدر ضرورته بما لديه قانعاً بالكفاف آيساً ممّا في أيدي الناس فلا يتملّق للأغنياء ويسمّيه تواضعاً ، فإنّ تواضع مثله لهم هو التكبّر عليهم من حيث أنهم أغنياء ، كما ورد في الأخبار ، ولايداهنهم في الخوض في الباطل طمعاً لما عندهم من الحطام العاجل ولا يقتر بسبب فقره عن العباة ، لما عرفت من كونه أسهل وصولاً معه إلى السعادة ، وأن يبذل قليلاً ممّا يزيد عن قوته ، فإنه أفضل من إنفاق الأغنياء كما ورد في الأخبار.
     ثم إن علم أنّ ما يعطيه غيره من المال حرام وجب عليه الامتناع عنه ، وإن علم أنه شبهة أو حلال فيه منّة استحبّ له ردّه ، وإن علم أنه هدية محلّلة بغير منة استحب قبوله تأسّياً بالنبي صلى الله علي وآله والأئمّة عليهم السلام ، وإن كان من الصدقات مطلقاً نظر في استحقاقه لها ، وإن كان رياء وسمعة حرم عليه أخذه لأنه إعانة له على إثمه.
     ثم بعد سلامته من هذه الآفات إن كان سالكاً الآخرة اقتصر على قدر الحاجة لكونه رفقاً من الله تعالى والزائد ابتلاء وفتنة واختيار
1 ـ جامع السعادات : 2/81 ، جامع الأخبار : الفصل 67 ، ص128 ـ 129.
(244)
ومحنة لينظر ما يفعل به ، فإن عصاه عذّبه والا حاسبه ، الا أن ينوي إنفاقه على المستحقين إذا اطمئنّ من نفسه بعدم الافتتان بعد الأخذ.
     تتميم
     ينبغي للفقير التعفّف عن السؤال ما استطاع ، لأنّه فقر معجّل وحساب طويل وهو حرام لتضمّنه الشكوى عن الله تعالى وذهاب ماء الوجه والذلّ عند غيره تعالى ، وإيذاء المسؤول غالباً بتعريضه بالالحاح لشتم السائل [ وضربه ] (1) وسائر المعاصي والأذيات أو الاعطاه استحياء وإلجاء أو سمعة و رياء حتّى [ لا ] (2) ينسب إلى البخل ، ولذا ورد أشدّ المنع منه.
     قال صلى الله عليه وآله : « مسألة الناس من الفواحش ». (3)
     وعنه صلى الله عليه وآله : « ما من عبد فتح على نفسه باباً من المسألة الا فتح الله عليه سبعين باباً من الفقر ». (4)
     وقال صلى الله عليه وآله : « إنّ الصدقة لاتحلّ الا لفقر مدقع أو غرم مفظع ». (5)
     وبايع صلى الله عليه وآله قوماً على الاسلام واشترط عليهم السمع والطاعة ، ثمّ قال لهم خفية : ولاتسالوا الناس شيئاً ، فكان بعد ذلك يقع المخصرة من يد أحدهم فينزل لها ، ولايقول لأحد ناولنيها. (6)
     قال سيّد الساجدين عليه السلام : « ضمنت على ربّي أن لايسأل أحد أحداً من غير حاجة الا اضطرّته حاجة المسألة يوماً إلى أن يسأل.
     ونظر يوم عرفة إلى رجال ونساء يسألون فقال عليه السلام : « هم شرار خلق
1 ـ ساقط من « ج ».
2 ـ ساقط من « ج ».
3 ـ المحجة البيضاء : 7/337.
4 ـ المحجة البيضاء : 3/141 و 2/107 و 7/338.
5 ـ جامع السعادات : 2/96 ، وفيه : « إن المسألة لاتحلّ » ، وراجع أيضاً الكافي : 4/47 ، باب النوادر من كتاب الزكاكة ، ح7.
6 ـ هذا مأخوذ من حديثيين فصدره إلى « لاتسالوا الناس شيئاً » في المحجة البيضاء : (7/337) وذيله فيه (2/106).

(245)
الله ، [ من حاجة ] » (1) الناس مقبلون على الله وهم مقبلون على الناس » (2) وهذا كلّه ، مختصّ بعدم الحاجة ، وأما معها فلابأس سواء بلغت أقصاها كالجائع الخائف على نفسه بالموت أو المرض أو كانت مهمّة كالجاجة إلى الكراء مع القدرة على المشي بمشقّة أو دونها أيضاً كالحاجة إلى الإدام مع وجود الخبز ، الا أن الأول راجح ، بل واجب ، والثاني مرجوح ، والثالث أشدّ كراهية بشرط الخلوّ عن الشكوى والذل ولايذاء بإظهار الحاجة تعريضاً مع الشكر لله سبحانه عند الصّديق [ والسخيّ ].
     وبالجلمة : معرفة درجاتها وأوقاتها موكولة إلى العبد واجتهاده فيما بينه وبين الله تعالى فمن فمن كان يقينه أقوى وأظهر ووثوقه بمجيء رزقه من الله أتمّ وأوفر وقناعته بقوت أكثر ، فله المقام الأعلى عند الملك الأكبر.

فصل
     القناعة ملكة توجب اكتفاء النفس في تحصيل المال وصرفها (صرفه ظ) على قدر الكفاف. [ الممدوح شرعاً وعقلاً ] بدون كدّ شديد وتعب ماله من مزيد وحرص مورث لطول الأمل وترك صالح العمل والخوض في غمرات وجوه تحصيل المقتنيات وصرف أنواع الحيل والتدبيرات وإيقاع النفس لتحصيلها في أنواع الأخطار والآفات وصنوف الذلّ والمهانات ، ولاريب أنها من أمّهات الفضائل ، إذ يمكن معها غالباً الفراغ لتحصيل أمور الدين والوصول إلى منازل المقرّبين.
     وقد أسلفنا لك في الحرص ما يكفيك في تحصيلها والأخبار في مدحها وذمّ ضدّها أي الحرص ممّا لاتحصى.
     فقد روي أنّ موسى سأل ربّه وقال : « أيّ عبادك أغنى؟ فقال : أقنعهم
1 ـ المحجة البيضاء : 2/105.
2 ـ المحجة البيضاء : 2/105.

(246)
لما أعطيته ». (1)
     وقال صلى الله عليه وآله : « نفث روح القدس في روعي أنّه لن تموت نفس حتّى تستكمل [ أقصى ] رزقها ، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب ». (2)
     وقال الصادق عليه السلام : « مكتوب في التوراة : ابن آدم كن كيف شئت ، كما تدين تدان ، من رضي عن الله بالقليل من الرزق قبل الله منه اليسير من العمل ، ومن رضي باليسير من الحلال خفّت مؤونته وزكت مكسبته ، وخرج من حدّ الفجور ». (3)
     إلى غير ذلك.
     وهي تستلزم عزّاً للنفّس واستغناء عن الناس كما أنّ الحرص يستلزم ذلاً وطمعاً بما في أيديهم.
     وقد ورد في مدح ذاك وذمّ هذا كثير من الأخبار.
     ففي النبوي : « عليك باليأس عمّا في أيدي الناس فإنّه الغنى الحاضر ». (4)
     وقال صلى الله عليه وآله : « ليس الغنى من كثرة العرض ، إنّما الغنى غنى النفس ». (5)
     وقال الباقر عليه السلام : « اليأس عمّا في أيدي الناس عزّ المؤمن في دينه ». (6)
     وقال الصادق عليه السلام : « ثلاث هنّ فخر المؤمن وزينتته في الدنيا والآخرة : الصلاة في آخر الليل ، ويأسه عمّا في أيدي الناس ، وولايته للامام من آل محمد صلى الله عليه وآله ». (7)
1 ـ المحجة البيضاء : 6/51.
2 ـ المحجة البيضاء : 6/51 مع اختلاف وما بين المعقوقتين في « ج » فقط.
3 ـ الكافي : 2/1338 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب القناعة ، ح4.
4 ـ جامع السعادات : 2/107.
5 ـ المحجة البيضاء : 6/51.
6 ـ الكافي : 2/149 ، كتاب الإيمان والفكر ، باب الاستغناء عن الناس ، ح6.
7 ـ الوسائل : كتاب الزكاة ، الباب 36 من أبواب الصدقة. ح8.

(247)
فصل
     السخاء ملكة شريفة بها يسهل الانفاق فيما يليق به ، وكفاه فضلاً كونه من أظهر صفات الأنبياء والأوصياء ، كما قال الكاظم عليه السلام :
     « ما يعث الله عزّوجلّ نبيّاً ولا وصيّاً الا سخيّاً ، ولا كان أحد من الصالحين الا سخيّاً » (1).
     فلا يكفي مجرّد الانفاق إذا لم يكن عن طيبة نفس ، بل يكون حينئذ متسخيّاً الا أنه سبيل للوصول إليه ، إذ لاتحصل الملكة الا بتكرّر الفعل تكلّفاً حتّى يعتاد عليه.
     ثم إنّ له مراتب كثيرة ، فمن أدّى واجب الشرع والمروّة ، [ والعادة ] (2) ممّا يستقبح المضايقة فيها عرفاً كان في أوّل درجة من السخاء ، ثم يترقّى بالازدياد بقدر ما يتّسع له نفسه طلباً للفضيلة على درجات مختلفة باختلاف قدر المال وحاجة المحتاجين وفضلهم وورعهم وقرابتهم وغير ذلك ، ويسمّى في جلمة هذه الدرجات جواداً إذا كان قصده مجرّد الفضيلة دون الأغراض الدنيوية من الخدمة والثناء وغيرهما ، وأرفعها الإيثار ، كما قال تعالى :
     « ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة » . (3) وإيثار علي عليه السلام لنفس رسول الله صلى الله عليه وآله على نفسه في ليلة المبيت على الفراش وسائر معاركه وغزواته مشهور ، حتّى أنزل الله في حقّه :
     « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ». (4)
     وكذا إيثاره عليه السلام لقوته في ثلاث ليال متواليات حتّى أنزل الله فيه :
     « ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً » . (5)
1 ـ الكافي : 4/39 ، كتاب الزكاة ، باب معرفة الجود والسخاء ، ح4.
2 ـ ساقط من « ب ».
3 ـ الحشر : 9.
4 ـ البقرة : 207.
5 ـ الانسان : 8.

(248)
     فمن أراد الاقتداء به واتباع منهاجه فليجتهد في المحافظة عليه مهما أمكنه.
     فقد ورد في الخبر : « أن موسى عليه السلام قال : يارب أرني بعض درجات محمد صلى الله عليه وآله وأمته ، قال : يا موسى إنك لن تطيق على ذلك ، لكني أربك أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة [ فضلته ] عليك بها وعلى جميع خلقي ، فكشف له عن ملكوت السماء فنظر إلى منزلة كادت أن تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله تعالى فقال : يارب بماذا بلغت به إلى هذه الكرامة؟ فقال : بخلق اختصصته به من بينهم وهو الايثار ، ياموسى لايأتيني أحد منهم قد عمل بالايثار وقتاً من عمره إلا استحييت من محاسبته وبواته من جنتي حيث يشاء ». (1)
     واعلم أن بذل الأموال المترتب على الجود والسخاء يتناول ما أوجبه الشارع كالخمس والزكاة والكفارات والنذورات والواجب من النفقات وما ندب إليه من تطوع الصدقات وأنواع الهدايا والضيافات والحق المعلوم والقرض ، وما يبذل لحفظ الحرمة ووقاية العرض والمنافع العامة ، وما يجري من الخيرات كالمساجد والمدارس وإجراء القنوات ونسخ المصاحف والكتب العلميات وغيرها مما فصل أحكامها في الفقهيات ، ووردت في فضلها الأخبار الكثيرة ، مضافاً إلى الآيات ، فلا نتعرض لها خوفاً من التطويل والاطناب ، وإنما نذكر قليلاً مما لها من الغايات والأسرار الدقيقة وبواطن الآداب ، فنقول :
     من جملة غاياتها امتحان الموحدين لله ، المدعين لحبه ، المؤمنين بمواعيده في فراق محابهم التي يتمتعون منها ويتأنسون في عالم الحس بها والمدعين لمحبه رسوله وذريته الطاهرين وأداء حقوقهم في النصح والهداية ، ثم تطهير النفس عن رذيلة البخل التي هي من خبائث الملكات المهلكات كما
1 ـ المحجة البيضاء : 6/80 ، وما بين المعقوقتين ساقط من « ج ».
(249)
أشرنا إليه ، فإنّها لاتطهر الا بتكلّف الذل وتكريره حتّى تعتاد فتبدّل ملكة البخل بملكة السخاء ، ثم شكر المنعم المفضل ، فكما يستحقّ بإعطاء نعمة البدن الشكر بالعبادة البدنية والمجاهدات النفسيّة فكذا يستحقّ بإعطاء نعمة المال الشكر بالعبادة المالية ، وما أقبح بالغني المسلم أن ينظر إلى فقير محتاج إلى القوتفلا يؤدّي حق الشكر على أن لم يجعله مثله في الاحتياج.
     ومن جملة فوائدها تكفير مظالم العباد التي ركبته في معاملاته معهم بها ، وفي خصوص الكفّارات تأديب العاصي بالرياضات على ما صدر منه من الخطأ والسيّئات ومقابلة المعاصي الصادرة عنه التي استحقّ بها العقاب ، وازدياد النعم التي لم يستحقّها ، ودفع البليا والمصائب الدنيوية التي استحقها بدعاء الفقراء المؤمنين ، وهذا كما أنّه السرّ في ترغيب الأغنياء في إعانة الفقراء والمساكين فكذلك هو السرّ في اختيار الفقر كثير من أوليائه الصالحين ، كما أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام لمّا شكا إليه تعالى من إجراء رزقه على أيدي بني إسرائيل :
     « هكذا أصنع بأوليائي أجري أرزاقهم على أيدي البطّالين من عبادي ليؤجروا فيهم ». (1)
     ثم من أعظم الغايات حصول التشبّه بالمبدأ بسببه ومدخليّته في النظام الأصلح.
     وأمّا الآداب الباطنة للصدقات فمنها اغتنام الفرصة بخطور الخير من باطنه تعجيلاً لادخال السرور في قلب الفقير وحذراً من عوائق التأخير آفاتها التي معظمها لمّة الشيطان حيث يعد الفقر ويبتلي العبد بالنسيان ، وصون الفقير عن ذلّ السؤال حتى يتحقّق الاحسان ، والا فهي معاوضة بما بذله من ماء وجهه ، كما ورد في الأخبار.
     ومنها : إعلان المعطي بواجبها ترغيباً للناس بالاقتداء به إن لم يستح
1 ـ المحجة البيضاء : 7/336.
(250)
الفقير منه وأمن المعطي من الرياء ، كما ورد النصّ به ، وإسراره بمندوبها ، كما ورد أيضاً الا مع اطمينان النفس عن آفات الاعلان والقصد إلى ترغيب الناس عليه.
     وأمّا الآخذ فيختلف حكمه باختلاف الأحوال والأشخاص الموجب لاختلاف القصد ، فإنّ بعض النفوس تميل إلى الإسرار خوفاً من سقوط منزلتها عند الناس ، أو إفضاء علمهم به إلى عدم إعطائهم إيّاه بعده وبعضها تميل إليه لإبقاء التعفّف وستر المروءة وصيانة الناس عن الحسد وسوء الظنّ والغيبة ، وبعضها تميل إلى الاظهار حثاًّ للمعطي على الزيادة بتطييب خواطره وللناس على الاعطاء بإعلامهم كونه من المبالغين في شكر الاحسان ، وبعضها تميل إليه لاقامة سنّة الشكر والتحدّث بالنعمة ، وإذلال النفس بكسر جاها وغير ذلك من الأغراض الصحيحة والفاسدة.
     ولكلّ منها علامات بها يمكن التمييز ، بعضها ظاهرة وبعضها خفيّة ، كميل النفس إلى الشكر في حضور المحسن أكثر من غيبته وبالعكس وغير ذلك.
     فالأولى أن يلاحظ ويعلم ما هو الأقرب إلى خلوص النيّات وأبعد عن دقائق الآفات التي تشتبه كثيراً على أرباب الكياسات ، فإنه العلم الذي به يحصل النجاة ، وهو الذي فضّل قليل منه على كثير من العبادات ، فإنّ به حياتها كما أنّ بجهله مماتها.
     ومنها : الاحتراز من المنّ بالاظهار عند الناس ، وطلب المكافاة بالشكر والمدح والتعظيم والخدمة والمتابعة وغيرها [ والأذى ] (1) بالتحقير والتعيير والاهانة وتقطيب الوجه والقول السيّء والاستخدام.
     قال الله تعالى : « يا أيّها الّذين آمنوا لاتبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى ». (2)
1 ـ ساقط من « ب ».
2 ـ البقرة : 264.
كشف الغطاء ::: فهرس