كتاب كشف الغطاء ::: 251 ـ 260
(251)
     والأخبار كثيرة ، وما أشدّ جهل من يمنّ على الفقير [ أو يؤذيه ] (1) أو يستعظم ما يعطيه مع أنّه لا يعطيه الا من ماله الذي أودعه الله إيّاه وجعله حمّال متاعبه لجهله وحماقته ، كما عليه قولهم عليهم السلام : « إنّ الله شرّك الفقراء في أموال الأغنياء ». (2)
     ولو سلّم فلا ريب أنه من عطائه تعالى ، فلو أعطيت عبداً لك أموالاً كثيرة ث أمرته بإعطاء قليل منها لغيره ووعدته عليه أضعاف ذلك من الجزاء الجزيل والأجر الجميل ، فلو منّ عليه في ذلك كان منّه في غاية القباحة ، بل كان العبد في غاية الحمق والوقاحة ، ولو تأمّل علم أنّ الأمر بالعكس ، فإنه استحقّ بواسطته من رضا الله وحسن ثوابه ما لايمكن أن ينسب إلى الدنيا بما فيها ، فكان الأولى بحاله الاعتذار عنه والامتنان منه والتواضع والانكسار لديه ، وإظهار الخجلية من قلّة ما أهدى إليه ، سيّما بالنسبة إلى الذرّية العلويّة احتراماً لأجدادهم سادات البريّة ، وتأسّياً بالله تعالى في ذلك ، حيث شرّكهم بنفسه إعظاماً لهم وإكراماً ، فليكن احترازه من الاستعظام ووضع المنّة عليهم أكثر ، وتواضعه بالنسبة إليهم أوفر.
     ومنها : إعطاء الأحبّ إليه الأبعد عن الشبهة ، فإنّه تعالى طيّب لايقبل الا مايكون أطيب ، فمن يدّخر الطيّب لنفسه وينفق الري في سبيل ربّه إن كان قصده في الانفاق هو وجه الله خاصّة كان مؤثراً لنفسه عليه تعالى ، وإن كان طمع الثواب في الآخرة كان مؤثر للملك العارية على الملك الذي لايفنى ، ولو فعل ذلك بضيف ورد عليه لكان من أقبح الاهانة ، فكيف يفعل بالله سبحانه مع كون ما يعطيه منه تعالى ، وقد أرشد الله إلى ذلك بقوله :
     « وأنفقوا من طيّبات ما كسبتم ». (3) وقال : « لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا
1 ـ ساقط من « ج ».
2 ـ الوسائل : كتاب الزكاة ، الباب 2 من أبواب المستحقّين للزكاة ، ح4 ، وفيه : « إنّ الله تبارك وتعالى أشرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال ».
3 ـ البقرة : 267.

(252)
تحبّون
». (1)
     وقد ورد في الأخبار التماس الدعاء من الفقراء ، وأنه يستجاب لهم فيكم ولايستجاب لهم في أنفسهم.
     وقيل : إنه نوع جزاء ، وأرباب القلوب لا ينفقون إلّأ خالصاً لوجه الله ، لا يريدون جزاءاً ولا شكوراً.
     والحق أن التماس الدعاء حقيقة طلب مكافاة من الله تعالى لا من السائل ، إذ مطلوب المعطي فعل الله تعالى ، فإنّ الإجابة منه سيّما إذا كان القصد الباعث على الالتماس ورود الأمر به شرعاً وكون الدعاء الملتمس رضا الله تعالى عنه فافهم.
     ومنها : أن يكون إعطاء واجب الصدقات للمستضعفين من الشيعة دون خلّص المؤمنين والعلماء المتّقين العارفين بآل محمد حقّ المعرفة واليقين ، فإنها أوساخ الناس فلا يرضى لهم بها.
     وفي الخبر عن الصادق عليه السلام : « فأمّا من قويت بصيرته وحسنت بالولاية لأوليائهم والبراءة من أعدائهم معرفته فذلك أخوكم في الدين أمسّ بكم رحماً من الآباء والأمّهات المخافين ، فلا تعطوه زكاة ولا صدقة ، فإنّ موالينا وشيعتنا منّا كالجسد الواحد ، يحرم على جماعتنا الزكاة والصدقة ، وليكن ما تعطونه من إخوانكم المستبصرين البرّ وارفعوهم عن الزكاة والصدقات ، ونزّهوهم عن أن تصبّوا عليهم أو ساخكم ، أيحبّ أحدكم أن يغسل وسخ بدنه ثم يصبّ على أخيه المؤمن؟ إنّ وسخ الذنوب أعظم من وسخ البدن ... » (2).
     فليخصّ بالهدايا والصلات من أطيب ما له كما ذكرنا من كان من أهل المزيّة والاختصاص بشدّة اليقين بالله تعالى دون الأكثر الذين لايؤمنون بالله
1 ـ آل عمران : 92.
2 ـ المحجة البيضاء : 2/93 نقلاً عن الإمام العسكري عليه السلام في التفسير.

(253)
الا وهم مشركون ، فيقولون من ضعف يقينهم : لولا فلان لهلكت ، لولا فلان ماأصبت ، كما ورد عن الصادق عليه السلام ، وبالستر والعفاف وتحمّل مشاقّ الفقر في سبيل الله تعالى. وليخصّ من بينهم الأقارب وذوي الأرحام المحتاجين ، حتّى يجمع فضيلتي الانفاق وصلة الرحم معاً ، فقد ورد : « لا صدقة وذو رحم محتاج ». (1)
     ومنها : إنفاق المعيل على عياله والتوسعة عليهم خالصاً لوجه الله ، إذ لا عمل الا بنيّة ، واحترازه عن الوجوه المحرّمة والمشتبهة واقتصاده في التحصيل والانفاق حتى لا يضيّعهم ولا يضيع بهم ومراعاته التساوي بينهم في كيفيّة الانفاق وكمّيته ، بل لا يفضّل نفسه عليهم فيهما.
     ومنها : قصد امتثال الأمر والتسنّن بسنّة الرسول صلى الله عليه وآله والاستيناس والموادّة مع الاخوان في الهدايا والضيافات دون الرياء والمباهاة. وتخصيص الفقراء والأتقياء والجيران والأقارب بالمزيد. ويهتمّ في إكرام الضيف بالتواضع وطيب الكلام ، ونفاسة الطعام وسائر ما ينبىء عن الاحترام بدون الاسراف الحرام.
     ومنها : قصد الامتثال والثواب في الإقراض ، ودفع ضرورة أخيه المؤمن بطلاقة وجه ، ويسر كلام ، وسهولة قضاء ، وترك الطب ما لم يعلم أنّه قادر على الأداء ، وإبراء ذمّته مع العلم بعجزه ، كما وردت به النصوص.
     ويتفرّع عليه ترك ما شاع في عصرنا من ارتكاب وجوه الحيل الشرعية في استجلاب الأرباح من المديونين ، فإنّه مضافأً إلى الإشكال في حلّيته نوع معاملة دنيويّة مناف للخلوص وقصد القربة في النيّة.
     وبالجملة ، فالآداب كثيرة اقتصرنا منها على القليل احترازاً عن الإطناب والتطويل.
1 ـ الوسائل : كتاب الزكاة ، الباب 20 من أبواب الصدقة ، ح4.
(254)
فصل
     للورع معنيان :
     أحدهما : الكفّ عن المعاصي بأسرها ، وهو من فضائل القوتين معاً ، ولا حاجة إلى ذكره علي حدة ، إذ بعد الاطلّاع على ذمّ كلّ معصية ومممدح تركها يعلم كونه من أعظم المنجيات والفضائل ، بل هو المقصود في علم الأخلاق بالنسبة إلى العامة.
     وثانيهما : ملكة الاجتناب عن المال الحرام ، وما يمكن أن يؤدى إليه ، وهو من فضائل القوّة الشهويّة ، وهوالمقصود بالذكر هنا ، ولما كان لطبّ النفوس تأسّ بطبّ الأبدان كما أشير إليه مراراً ، فكما أنّ الطبيب يحكم على الحلو كلياً بالحرارة ، ثم يجعل للحارّ أنواعاً على درجاتها في الشدّة والضعف ، فكذا نحكم على كل حلال بالطيب ، وكلّ حرام بالخباثة ، الا أنّهما على درجات فيهما.
     ولما كان حصر مراتب الحرارة من الطبيب في أربع على سبيل التقريب ، فكذا نقتدي به في حصر درجات الورع في أربع تقريباً ، لأن في أفراد كل منها تفاوتاً لاينحصر.
     فنقول :
     أوّل درجة ورع العدول ، أي الاجتناب عمّا ينافي العدالة ويوجب الفسق في ظاهر الشريعة ، ممّا هي مبسوطة في الكتب الفقهيّة فروعاً وشقوقاً وأدلّة ، وفيها تفاوت عظيم ، فإنّ المغصوب قهراً أغلظ من المكتسب بالمعاملة الفاسدة تراضياً ، ثم المغصوب من اليتيم قهراً أغلظ من غيره ومن الفقير أغلظ من الغني ، ومن العالم أغلظ من غيره وهكذا ، ولولا اختلاف درجات المعاصي لما كان لاختلاف دركات النيران معنى.
     وثانيها : ورع الصلحاء ، أعني التوقّي عن الشبهات التي يأتي فيها الاحتمالات بحيث لايجب اجتنابها ، وسيجيء ما يجب اجتنابه منها ،


(255)
فتلحق بالحرام.
     قال صلى الله عليه وآله : « دع ما يريبك إلى ما لايريبك ». (1)
     وقال صلى الله عليه وآله : « خذ بالحائطة لدينك ». (2)
     ومرجعه إلى الورع عن الحرام أيضاً ، لأنّ من الحرام حراماً بيّناً وحراماً مشتبهاً بالحلال ، ولكلّ منهما مراتب شدّة وضعفاً ، وقد أشرنا إلى الأول وكذا الثاني ، فإنّ الشبهة في النكاح سيّما إذا دارت المرأة بين الزوجة والبنت أو الأخت مثلاً أشدّ من غيرها ، فكلّما قوي احتمال الحرمة فيها كان أشدّ ، لكن لامجرّد الاحتمال الغير المستند إلى دلالة فإنّه كالعدم ، والورع فيه وسواس كالممتنع من أكل الصيد لاحتمال أن تزلق من يد الصيّاد بعد وقوعه في يده (3) ، أو مستعير دار غاب المعير عنها فيخرج المستعير عنها ويقول لعلّه مات وانتقلت إلى الوارث ، فإنّ الشبهة المحذورة إنما تنشأ من الشكّ ، أعني تقابل اعتقادين ناشئين من سببين ، فما لاسبب له لا ينعقد في النفس حتّى يساوي الآخر ، فلا عبرة. به كما أنّ من سئل عن صلاة الظهر التي صلاّها قبل هذا بعدّة سنين كانت ثلاثاً ، لم يتحقق قطعاً أنها أربع ، فلعلها كانت ثلاثاً ، لكنه لا يكون شكاً بين الثلاث والأربع لعدم استناده إلى سبب. فمثل هذا النمط لايعد من الشبهات (4) ، بل الشبهة ما اشتبه على المكلف أمره بتعارض اعتقادين صدرا من سببين مقتضيين ومنشأه أربعة :
     أحدها : الشك في سبب الحلّ والحرمة سواء كانت الحرمة معلومة قبل
1 ـ المحجة البيضاء : 3/213 ، والوسائل : كتاب القضاء ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح43.
2 ـ الوسائل : كتاب القضاء ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح42 ، وفيه : « وتأخذ ... ».
3 ـ يعني يحتمل ملكية الصيّاد الأوّل له بالحيازة ثمّ أفلت من يده فصاده الصيّاد الثاني.
4 ـ بل يعدّ لعدم اعتبار الاستناد إلى سبب في صدق الشبهة ، ولكن لايجب الاعتناء بها

(256)
ثم وقع الشكّ في المحلّل ، كمن رمى صيداً فجرحه ثم وقع في الماء ثم صادفه ميتاً ، فلا يدري هل مات بالغرق أو بالجرح ، فيجب الاجتناب عنه في ظاهر الشرع ، عملاً بالاستصحاب ، أو بالعكس ، كالماء الطاهر المشكوك في وقوع نجاسة فيه وإن جاز التهجّم فيه في ظاهر الشرع ، لكن تركه من الورع ، أو يظنّ بالمحلّل ظنّاً مستنداً إلى دليل شرعي كحلية صيد رماه فغاب ثم أدركه مستاً وليس عليه أثر سوى سهمه فهو كحلّية الجنين بذبح أمّه ، ولعلّه مات قبل الذبح أو لم ينفخ فيه الروح ، أو بالعكس فيجب الاجتناب ، وإن استند إلى القرائن (1) تأكّد فيه الورع ، وإن لم يوجب تركه الفسق.
     الثاني : اختلاط الحلال بالحرام بحيث لا يتميّز عن الآخر ، وقد ذهب بعض المحقّقين إلى التفصيل بين المحصور ، فأوجب فيه الاجتناب نظراً إلى وجوب المقدمة ، وأنّ الحكم بحلية المجموع يستلزم الحكم بحلّية الحرام اليقيني ، وغير ذلك من الأصول المفصّلة ي محلّها ، وغير المحصور فلم يوجب بل جعل الاحتياط فيه مهما أمكن من الورع نظراً إلى لزوم العسر والحرج وغير ذلك ممّا فصّل في محلّه ، والنصوص في الانائين والثوبين المشتبهين يعضده ، ولكنّ الأخبار في خصوص موارد المحصور متّفقة المقالة واضحة الدلالة على حلّية المجموع ، وتفصيل الكلام يطلب من محلّه ، فالورع في المحصور آكد (2).
     الثالث : اتّصال السبب الموجب للحلّ بمحرّم لا يقتضي فساد العقد ولا إبطاله.
     إمّا في مقارناته كالبيع وقت النداء في يوم الجمعة والمذبوح بالسكّين المغصوب وفي تسميته شبهة نوع تسامح لكون الحلّ والعصيان معلومين ، فلا
1 ـ يعني الظنون الغير المعتبرة شرعاً.
2 ـ التحقيق وجوب الموافقة القطبعية في اطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة ، ولا دلالة للأخبار على حلّية المجموع ، والتفصيل يطلب من مظانّه ، فالورع في المحصور لازم.

(257)
شبهة ولعلّه لكراهته ، والمكروه يشبه المحرّم.
     أو لوا حقه كبيع العنب من الخمّار وغيره ممّا يفضى إلى المعصية وفيه خلاف بين الأصحاب ، والأخبار مختلفة ، والتفصيل يطلب من محلّه فالورع على القول بالحلّ والجواز آكد.
     أو مقدّماته كالأكل من شاة معلوفة بالحرام أو مرعيّة في مرعى حرام ، وقد اهتمّ السلف في مراعاة الورع في هذا النمط ويظهر من الأخبار شدّة الاهتمام بشأنه أيضاً. وفيه مراتب : أشدّها ما بقي أثره في المتناول أو في عوضه كالمبتاع في الذمّة المؤدّى ثمنها من غصب أو حرام وله أيضاً درجات يشتدّ في بعضها ، والورع في كلّها مهمّ.
     الرابع : تعارض الأدلّة المقتضية للحلّ أو الحرمة من الأدلة الشرعية ، كتعارض نصّين أو عمومين وغيرهما ، فإن لم يتمكّن من الاجتهاد أو من الترجيح كان الورع واجباً ، وإن رجّح ما يخالفه تأكّد فيه الورع. وله أيضاً درجات شتّى مثل ما يقوى فيه دليل المخالف وفي الترجيح دقّة وغموض ، وما يتاخم الوسواس كالزبيب المطبوخ في الطعام خوفاً من كونه عصيراً محرّماً ،
     أو الامارات المتعارضة كخبر عدل بالحرمة والآخر بالحلّ أو فاسقين بهما وهذا ممّا يستحسن فيه الورع ، وله أيضاً درجات في الشدّة والضعف
     أو الاشتباه في الصفات التي بها يناط الحكم كأن يوصى لفقهاء البلد فيعلم أنّ المتبحّر في الفقه داخل فيه ، والمبتدي المشتغل بالتعلّم منذ يوم أو شهر لايدخل فيه ، وبينهما درجات لاتحصى ، فيقع الشكّ في بعضها والورع في الاجتناب ، ولعلّه أغمض مثارات الشبهة ، لأن بينها صوراً يتحيّر المفتي تحيّراً لازماً لا محيص له عند فيها ، إذ يكون المتّصف بالصفة في درجة متوسّطة بين المتقابلين لا يظهر ميله عن أحدهما إلى الآخر ، وكذا الصدقات المصروفة إلى المحتاجين فمن لاشيء له محتاج يقيناً ، ومن له مال كثير غني كذلك ، ومن له بعض الأثاث والأشياء من الثياب الدار والكتب وغيرها


(258)
يستشكل فيه ، فإنّ قدر الحاجة لايمنع وهو غير محدود ، وإنّما يدرك تقريباً ويتعدّى منه النظر إلى سعة الدار وقيمتها وكونها في محلّ مرغوب وحصول الاكتفاء بمادونها ، وكذا الأثاث والكتب. وتعظم الحاجة إلى هذا الفن من الورع في الوصايا والأوقاف. فهذه مثارات الشبهة ولو اجتمعت على واحد كانت أغلظ ، فأوّل درجة نافعة من الورع في الآخرة هذه ، أعني ترك الشبهات بأسرها ، فإنّ الحرام المشتبه وإن حلّ في ظاهر الشرع لكن لا يرتفع عنه خاصيّة الحرمة ، كما لايرتفع أثر السكر من الخمر بحلّيتها من عدم العلم بها ، ولايخلص من إهلاك الطعام المسموم بأكله مع الجهل به.
     ولذا قال صلى الله عليه وآله : « فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات ، وهلك من حيث لايعلم ». (1)
     ومن خواصّه انه يورث قسوة في القلب لايبالي معها عن الحرام البينّ ولا برهان عليه أقوى من التجربة والعيان ، فإن أغلب علماء السوء إنما نشأ تهتّكهم وفساد أعمالهم من أخذ الشبهات من عطايا الحكام وجوائزهم وهدايا الرعايا المشابهة للرشى.
     ولذا قال صلى الله عليه وآله : « سيأتي علي الناس زمان يستحلّ فيه السحت بالهديّة » (2) مع كون أموال الرعية بأسرها من جنس الشبهات لقلّة معرفتهم بالأحكام الشرعيّة ، وشدّة حرصهم في اقتنائها من دون تعمّق في وجوه حرمتها وحلّها ووصول الأيدي الخبيثة العادية إلى جلّها بل كلّها بحيث لايمكن الآن القطع بحلية الأقوات ، لكون المياه والأراضي مغصوبة ، ولا بحلية اللحوم والدسوم لكون المواشي والحيوانات منهوبة ، وهذه نار استطار شررها في البلاد ، وعمّ ضررها بين العباد ، فأكثروا بسببها من الفسق والفجور وقست قلوبهم وغرّهم بالله الغرور ، واجترؤوا على هتك ناموس
1 ـ المحجة البيضاء : 3/235 نقلاً عن الكافي (1/68) وفيها : « ارتكب المحرّمات ».
2 ـ المحجة البيضاء : 3/274.

(259)
الشريعة وسلطت أيدي الفجّار والظلمة على الرعية ، ولم يبق أحد الا وقد ابتلي بأنواع المهالك الدنيويّة والأخروية ، لأجل صعوبة المدخل الحلال الذي لايتطرّق إليه شائبة شبهة ورد في الأخبار ما ورد.
     ففيها قال تعالى : « يابن آدم اجتنب ما حرّمت عليك تكن من أورع الناس ». (1)
     وفيها : « من طلب الدنيا حلالاً في عفاف كان في درجة الشهداء ». (2)
     وقال النبي صلى الله عليه وآله : « من أكل الحلال أربعين يوماً نوّر الله قلبه وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ». (3)
     وطلب بعض منه صلى الله عليه وآله أن يصير مستجاب الدعوة فقال صلى الله عليه وآله : « أطب طعمتك يستجب دعوتك ». (4)
     ولو كان المراد من الحلال هذا الذي نحكم بحلّيته ظاهراً لكان آكله مستجاب الدعوة وانفتح من قلبه ينابيع الحكمة ، ونحن مانرى في هذا الزمان منه أثراً سوى قسوة القلب والشقاوة.
     فإن قلت : ما دلّت الأدلة القطعية كالسنّة والاجماع على حلية مثل عطايا الحكام وجوائزهم والهدايا التي وغير ذلك يكون حلالاً بيّناً ، فكيف تطلق عليه لفظ الشبهة مع ما ذكرت من أنّه لابدّ فيها من الشكّ ، ولاشكّ مع وجود الدليل القطعي ، كما لا يخفى.
     قلت : نعم ، لكن حليتها قطعاً إنّما هي بحسب الظاهر ، لا في نفس الأمر ، فإن المال المأخوذ غصباً في نفس الأمر الغير المعلوم ظاهراً كيف نحكم بكونه حلالاً بيّناً في نفس الأمر ، كما أنه لا معنى لحلية الخمر الغير المعلوم أنّه خمر في نفس الأمر ، وإن كان بحسب الظاهر حلالاً ، فإنّ قاعدة
1 ـ الكافي : 2/77 ، كتاب الايمان والكفر ، باب الورع ، ح7.
2 ـ المحجة البيضاء : 2/203.
3 ـ المحجة البيضاء : 3/204.
4 ـ المحجة البيضاء : 3/204.

(260)
التحسين والتقبيح العقليين تستلزم إناطة الأحكام بهما ، فالقبيح بالذات كيف يصير بالشك حسناً ، وكذا العكس ، ومعنى كونه في ظاهر حلالاً أنّ الأصل عدم كون هذا الفرد الخارجي خمراً أو مغصوباً مثلاً لا أنّه مع فرض الخمريّة والغصبية حلال ، وقد بيّنا لك أنّ أثر الحرام لاينفكّ عنه بصيرورته في الظاهر حلالاً ، فقد تبيّن أنّ الاشتباه إنّما هو في كون هذا الفرد الخارجي من أفراد الحرام الواقعي أو الحلال الواقعي ، ولذا تطلق عليه الشبهة في الموضوع.
     ولو كانت الحلية الظاهرية المنوطة بالظن كافية في إخراجه عن حدّ الشبهة لم يحصل مصداق للشبهة أصلاً ، فإن كلّ ما لم يتحقّق كونه حراماً فالأصل حليته في ظاهر الشريعة ، الا ما ثبتت حرمته قبل الشكّ فتستصحب ، فلايبقى وجه لتثليث الأحكام ، فافهم فإنّه من مزالق الأقدام ،
     هذا مع أنّ في كثير من المواضعيشتبه على الانسان من طرف النفس الحرام المحض البيّن ، كما في أغلب ما تعارف إطلاق الهدية عليه ، فإنه بعد التأمل يعرف كونه وشوة محرّمة ، وإنّما هو تلبيس من الشيطان وانخداع من النفس ينكشف بعد سلب الأغراض الشهوية ، فإنّ باذل المال لايبذل ماله الا لغرض إما الثواب في الآجل أو جزاء في العاجل إما بتوقّع مال أو إعانة في فعل معيّن ، أو تقرّب إلى قلب المهدى إليه بطلب محبّة إما للمحبّة في عينها أو للتوصّل بها إلى عوض ورائها ، وكلّ ذلك على درجات يحرم الأخذ في أكثرها ، ويتشكل الأمر في القليل منها ويحل في الأقلّ ، فلابدّ من التفصيل في ذلك.
     فنقول : أمّا الثواب في الآخرة فإنّما يتصوّر بأن يكون المصروف إليه محتاجاً أو عالماً أو منتسباً بنسب ديني أو صالحاً متديّناً.
     والأوّل لايحلّ له الأخذ الا مع علمه باتّصافه به.
     وكذا الثاني ، الا أن يكون في العلم على الحدّ المعلوم للمعطي من
كشف الغطاء ::: فهرس