كتاب كشف الغطاء ::: 451 ـ 460
(451)
من هلاك بدنه الحفظ عن أكل السموم ومضرّات الطعوم ومع أكله لها التقيّأ والاخراج من المعدة كيف كان على الفور والبدار تلافياً لبدنه المشرف على الهلاك والتبار مع أنّه لا يفوت بها الا الدنيا الدنيّة الفانية ، فبالحري أن يكون متناول سموم الذنوب أولى بالتدارك لما فاته من النعيم المقيم والملك العظيم ، وما يتوقّع من فواته من العذاب الأليم ونار الجحيم ، فالبدار يا إخوان الحقيقة وخلّان الطريقة إلى التوبة الرفيعة الأنيقة قبل أن يعمل سموم الذنوب بروح الايمان ما لا ينفع بعده الاحتماء وينقطع عنه تدبير الأطبّاء ، فلا ينجع نصح العلماء الأبرار ويحقّ القول عليكم من الله القهّار بالخسار والبوار ، فيقول :
     « وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فاغشيناهم فهم لايبصرون * سواء ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لايؤمنون ». (1)
     تاكيد وتنصيص
     قوله تعالى : « توبوا إلى الله جميعاً » (2) يعمّ الجميع مع أنّ معناها الرجوع عمّا يبعّد عن الله تعالى وعادته تعالى جارية بحصول كمال غريزتي الشهوة والغضب قبل حصول كمال العقل ، لحصوله غالباً في الأربعين وإن تمّ أصله عند مراهقة البلوغ ، وظهرت مباديه بعد سنّ التميز ، فإذا كان كمال الأوّلين قبله فقد سبق جند الشيطان واستولى على المكان وأنس القلب بمقتضياتهما بالعادة ، وتعسّر عليه النزوع عنها ، فبعد ظهور العقل الذي هو حزب الله شيئاً فشيئاً إن لم يبلغ حدّ كماله سلمت مملكة القلب للشيطان اللعين وحقّ منه قوله : « فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين ». (3)
     وإن بلغه كان أوّل شغله قمع جنوده بمفارقة العادات وردّ الطبع قهراً إلى العبادات ، وهذا معنى التوبة.
1 ـ يس : 9 ـ 10.
2 ـ النور : 331.
3 ـ ص : 82.

(452)
     وليس في الوجودات الخارجية من لم يسبقه قوّتاه الشهويّة والغضبية على العقلية فكانت الأوبة عن مقتضياتهما إلى مقتضياته التي هي حقيقة التوبة ضرورية وحكماً أزليّاً مكتوباً على كلّ البرية. سنّة الله التي قد خلت في عباده ، ولن لسنّة الله تبديلاً.
     وحينئذ فعلى الكافر التوبة عن كفره ، وعلى التابع في إسلامه لأبويه غافلاً عن حقيقته ، التوبة عن غفلته ، وعلى من فهم ذلك واسترسل وراء الشهوات التوبة عنها بالكفّ عن المقتضيات ومراعاة حدود الله فيها وفي الطاعات.
     واعلم أنّك لا تخلو أبداً عن معصيته في جوارحك ، ولو فرض فلا تخلو عن رذائل نفسك والهمّ بها ، وإن سلمت فلا أقلّ من الخواطر المتفرّقة المذهلة عن ذكر الله ، ولو سلمت فلا أقلّ من غفلة وقصور في معرفة الله وصفات جماله وجلاله وعجائب صنعه وأفعاله ، وكلّ ذلك نقص يجب الرجوع عنه ، ولذا تجب التوبة في كلّ حال. حتّى قال أشرف الخلق صلى الله عليه وآله : « وإنّه ليغان على قلبي حتّى أستغفر الله في اليوم واليلة سبعين مرّة ». (1)
     ولا ينافي إطلاق القول بالوجوب ، إذ لايراد منه الشرعي الذي يشترك فيه كافّة الخلق لاختصاصه بالمحرّمات وترك الواجبات الواردة في ظاهر الشريعة ، ممّا لو اشتغلوا به لم يخرب العالم والا لاختلّ النظام وفسدت المعائش ، بل بطلت التقوى أيضاً ، بل المراد منه الشرطي أي ما لابدّ منه للوصول إلى المطلوب والقرب إلى المحبوب ، ولايكفي فيه الأوّل لكونه بمنزلة أصل الحياة والباقي بمنزلة الجوارح والآلات كما أشرنا إليه ، وفيه كان اهتمام الأنبياء والأولياء والأمثل من العلماء ، ولأجله رفضوا الدنيا وأهلها ، ولو تفكّرت في احوالهم وتدبّرت في آثارهم وصرفت الهمّة في فهم أخبارهم عرفت أنّ التوبة لازمة في كلّ نفس للسالك البصير ولو عمرّ
1 ـ المحجة البيضاء : 7/17.
(453)
عمر نوح من غير مهلة وتأخير ، فإنّ العاقل إذا ملك جوهرة نفيسة فضاعت منه من غير فائدة بكى عليها ، ولو صار ضياعها سبباً لهلاكه اشتدّ بكاؤه عليها ، وكلّ ساعة من العمر من أنفس الجواهر الّتي لابدل لها حيث توصله إلى سعادة الأبد وتنقذه من شقاوة السرمد ، فإن ضيّعها في الغفلة خسر خسراناً مبيناً ، وإن صرفها في المعصية هلك هلاكاً عظيماً ، فلو لم يبك عليه كان مصيبته بهذا الجهل من أعظم المصائب حيث لايمكّنه من معرفتها لغفلته.
     « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ». (1)
     نقل عن بعض العرفاء أنّ ملك الموت إذا ظهر للعبد أعلمه أنّه قد بقي من عمره ساعة لايستأخر عنها طرفة عين ، فيبدو له من الأسف ما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضمّ إليها ساعة أخرى ليستعين بها على تدارك ما فاته فلا يجد إليه سبيلاً « وحيل بينهم وبين ما يشتهون » (2) « ولن يؤخّر الله نفساً إذا جاء أجلها » (3)
     ولذا قال تعالى : « وليست التوبة للّذين يعملون السيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن » (4) بل « إنّما التوبة على الله للّذين يعلمون السوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب » (5) أي عن قرب عهد بالخطيئة بأن يتندّم عليها ويمحو عنه أثرها بحسنة يردفها بها قبل أن يتراكم الرين على القلب فلا يقبل المحو ، وتارك التوبة بالتسويف على خطر الرين فلا يمكنه الإمحاء وخطر الممات فلا يمكّن منه ، وذلك أنّ كلّ شهوة يتبعها العبد يرتفع منه ظلمة إلى قلبه كما يرتفع من نفسه ظلمة إلى المرآة الصّقيلة فإن تراكمت صار ريناً كما يصير بخار النفس مع تراكمه خبثاً. « بل ران على قلوبهم
1 ـ المحجة البيضاء : 7/42 ، شرح ابن ميثم على المائة كلمة : ص54.
2 ـ سبأ : 54.
3 ـ المنافقون : 11.
4 ـ النساء : 18.
5 ـ النساء : 18.

(454)
ما كانوا يكسبون
». (1)
     ومع تراكم الرين يصير طبعاً كالخبث المتراكم الّذي طال بقاؤه في المرآة حيث يغوص في جرم الحديد ويفسده فلا يقبل التصقيل ، فكما لابدّ من التدارك فكذا لابدّ في رفع آثار المعاصي مضافاً إلى تركها تداركها بالطاعات حتّى تنمحي ظلمتها بنورها.
     هذا حال تصقيل الظلمة العارضة بعد الجلاء ، وأمّا أوّله ففيه شغل طويل لأنّ إزالة الصدأ عن المرآة أسهل من عمل أصلها ، وإلى ما ذكرناه أشير فيما ورد عن الصادقين عليهم السلام : « أنّه ما عبد الا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء ، فإن تاب ذهب ذلك السواد ، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض ، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً ، وهو قول الله عزّوجلّ : « كلّابل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » (2) ». (3)
     وممّا فصّلناه علم أنّ وجوب التوبة فوري ، فما ذهب إليه بعضهم من عدم فوريّتها استناداً إلى بعض الأخبار كقول الصادق عليه السلام في خبر زرارة : « إنّ العبد إذا أذنب ذنباً أجّل من غدوة إلى الليل ، فإن استغفر الله لم يكتب عليه » (4) وأمثاله ممّا وقعت الاشارة إليها في باب الرجاء ضعيف لما عرفت من الأدلّة العقلية الدالّة على فوريّتها.
     والأخبار المذكورة لاتنافيها ، ولعلّ ذلك تفضّل منه تعالى بتأخير العذاب لا أنّه استحقاق منّا له ، يدلّ عليه قول سيّد العابدين عليه السلام في دعاء التوبة :
1 ـ المطفّفين : 14.
2 ـ المطفّفين : 14.
3 ـ الكافي : 33/273 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ، ح20.
4 ـ الكافي : 2/437 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الاستغفار من الذنب ، ح1.

(455)
     « إذا كان جزائي في أوّل ما عصيتك النار » (1) ، مع أنّه مقتضى إطلاقات الأوامر الشرعيّة أيضاً.
     فعلى هذا لو تركها المكلف كان ذلك الترك أيضاً ذنباً يجب التوبة عنه وتأخير التوبة عن هذا أيضاً ذنب آخر ، وهكذا إلى أن يحصل أعداد لاتتناهى من الذنوب في زمان متناه.
     وهذا هو السرّ في تفسير الباقر عليه السلام الاصرار بترك التوبة [ في قوله تعالى : « ولم يصرّوا على ما فعلوا ». (2) ] (3) فافهم.
     تفريع
     إنّك إذا فهمت معنى التوبة علمت أنّ صحيحها مقبول ، فإنّ القلب نقيّ في الأصل ، كلّ مولود يولد على الفطرة ، وإنّما تغيّرها الذنوب وتظلمها ، ونار الندم تدفع غبرتها ، ونور الطاعة ظلمتها كنور النهار الماحي لظلمة الليل ، والصابون المزيل لوسخ الثوب ، فالقلب يوسّخ بالشهوات كالثوب يوسّخ بالكثافات ، وماء الدمع يغسله ، ونار الندم ينظّفه كتنظيف الصابون والماء الحارّ للثوب الوسخ.
     قال النبي صلى الله عليه وآله : في قوله تعالى : « إنّ الحسنات يذهبن السيّئات » (4) : « كما يذهب الماء الوسخ ». (5)
     والقلب النقيّ مقبول عند الملك الكريم كما قال :
     « الا من أتى الله بقلب سليم ». (6)
     فعليك يا حبيبي بالتوبة المزكّية للقلوب عن أو ساخ المعاصي والذنوب ،
1 ـ الصحيفة السجاديّة : الدعاء 16 ، في الاستقالة.
2 ـ آل عمران : 1335.
3 ـ في « ج » فقط.
4 ـ هود : 114.
5 ـ المحجة البيضاء : 7/25.
6 ـ الشعراء : 89.

(456)
والا فالقبول ممّا سبق به القضاء « قد أفلح من زكّيها » (1) « وهو الّذي يقبل التوبة عن عباده » (2) « غافر الذنب وقابل التوب » (3).
     قال بعض العرفاء : إنّ الله عباداً نصبوا أشجار الخطايا نصب روامق القلوب وسقرها بماء التوبة فأثمرت ندماً وحزناً فجنّوا من غير جنون وتبلّدوا من غير عيّ ولا بكم وأنّهم لهم البلغاء الفصحاء العارفون بالله ورسوله ، ثم شربوا بكأس الصفا شربة فورثوا الصبر على طول البلاء ، ثم تولّهت قلوبهم في الملكوت وجالت فكرتهم بين سرادقات حجب الجبروت واستظلّوا تحت رواق الندم وقرأوا صحيفة الخطايا فأورثوا أنفسهم الجزع حتّى وصلوا إلى علّو الزهد بسلّم الورع فاستعذبوا مرارة الترك للدّنيا واستلانوا خشونة المضجع حتّى ظفروا بحبل النجاة وعروة السلامة وسرحت أرواحهم في العلى حتّى أناخوا في رياض النعيم وخاضوا في بحار الحياة وردموا خنادق الجزع وعبروا جسور الهوى حتّى نزلوا بفناء العلم واستقوا من غدير الحكمة وركبوا سفينة الفطنة وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتّى وصلوا إلى رياض الراحة ومعدن العزّ والكرامة. (4)
     تلميع
     كلّما كان ألم الندم وتأثير القلب به أشدّ كان تكفير الذنوب أرجى وعلامة صدقه تبدّل حلاوة المعاصي في القلب بالمرارة.
     وفي الاسرائيليات : « أنّ نبيّاً سأل من الله قبول توبة عبد بعد اجتهاده سنين في العبادة فقال : وعزّتي لو شفع فيه أهل السماوات والأرض ما قبلت توبته ، وحلاوة ذلك الذنب الذي تاب منه في قلبه » (5) ولا يستحيل ذلك ،
1 ـ الشمس : 9.
2 ـ الشورى : 25.
3 ـ غافر : 3.
4 ـ إحياء العلوم : 4/15 عن ذي النون المصري.
5 ـ المحجة البيضاء : 7/63.

(457)
فإنّ المتناول للعسل الذي فيه سمّ لم يدركه واستلذّ منه إذا مرض وطال مرضه وتناثر شعره وفلجت أعضاؤه فقدّم إليه مثله وكان في غاية الجوع والشهوة تنفّر منه وكرهه قطعاً ، بل كره مطلق العسل لشبهه به فذوق كلّ ذنب كالعسل وأثره كالسمّ فلا تصحّ التوبة الا بمثل هذا الاعتقاد ، ولعزّته عزّت التوبة وفقد التائبون.
     وينبغي له اعتقاد ذلك في كلّ ذنب لم يرتكبه أيضاً كما أنّ المتناول للعسل المزبور يتنفّر من الماء الذي فيه السمّ أيضاً فلا مدخل لخصوصيّة الذنب بل الباعث للسمّية مخالفة الأمر وهو جار في الجميع ، فهذا شرط الندم.
     وأمّا القصد المنبعث منه فلابدّ من تعلقه بترك كلّ محظور وأداء كلّ فرض في الحال ويرد فكره فيه إلى أوّل يوم بلغ فيه ويفتّش يوماً فيوماً فينظر إلى ما فرط فيه من الطاعات وقارفه من الذنوب فيطيل الندم والبكاء ويقضي العبادات ويخرج من مظالم العباد ويذيب عن بدنه كلّ لحم نبت من المشتهيات المحرّمة والمشتبهة.
     قال أميرالمؤمنين عليه السلام : « الاستغفار اسم واقع على ستّة معان : أوّلها الندم على ما مضى ، ثمّ العزم على ترك العود إليه أبداً ، وأن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلى الله أملس ليس عليك تبعة ، وأن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها تؤدّي حقّها ، وأن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد ، وأن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : أستغفر الله ». (1)
     وينبغي أن تكون الطاعة من جنس المعصية كي يتمّ العلاج بالضدّ ، فإنّ البياض يزال بالسواد دون الحرارة والبرودة وإن كان لكلّ من الطاعات نوع
1 ـ نهج البلاغة : الحمكة 417 مع اختلاف.
(458)
تضادّ مع كلّ معصية ، ولذا تؤثر مطلقاً الا أنّ الثقة بما ذكرناه أظهر.
     وممّا يدلّ على كون الضدّ كفّارة للضدّ أنّ حبّ الدنيا والسرور بها رأس كلّ خطيئة ، وهو أثر اتّباعها فكلّ أذى يصيبك يبعدك عنها وتتجافى بالهموم والغموم من دارها.
     وفي الخبر : إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له عمل يكفّرها أدخل الله عليه الغموم ليكون كفّارة لذنوبه. (1)
     وربما يقال : إنّ الهمّ ظلمة الذنوب وشعور القلب بموقفه للحساب.
     والأخبار الدالّة على تكفير المصائب الدنيوية حتّى الشوكة تدخل في الرجل كثيرة ، فحبّ الدنيا خطيئة ، والتمتّع منها متمّمها والحرمان عنها كفّارتها ، ولابدّ من عقد قلبه مع الله عقداً مؤكّداً وعهداً موثّقاً أن لا يعود إليها وإلى أمثالها ، ومن مهمّاته إذا لم يكن عالماً تعلّم ما يجب عليه ويحرم حتّى يتمكّن من الاستقامة.
     إزالة وهم
     قيل : لايصحّ التوبة عن بعض المعاصي دون بعض ، فإنّ الندم حالة يوجبها العلم بتفويت المعاصي للمحبوب من حيث كونها معصية وكلّها متساوية من هذه الحيثية ، فرتبة التائب لاتنال الا بالندم وهو لايكون الا عن مخالفة الأمر لتي تعمّ المعاصي بأسرها ، وكما لايصحّ عن بعض المتماثلات دون بعض كشرب الخمر من هذا الدنّ دون ذاك ، لأن الدنّ آلة والمعصية واحدة ، فكذا المختلفات لأنّ أعيانها آلات لها والأصل واحد.
     وفيه أنّ التوبة عن بعضها كالكبائر دون غيرها ، أو بعض الكبائر دون بعض ممكن من حيث كون المتروك أعظم إثماً من غيره ، فلا يستحيل الندم على الأعظم دون الأهون ، وقد كثر التائبون في القرون الماضية ولم يكن
1 ـ المحجة البيضاء : 7/66.
(459)
أحد منهم معصوماً ولم يشترطها أحد ، على أنّه ما من مؤمن الا وهو خائف نادم على معاصيه ضعيفاً أو قويّاً ، الا أنّ لذّة نفسه منها لشهوته أعظم من ألمه بخوفه لجهله أو غفلته أو غير ذلك ، فربما تبلغ الشهوة في بعض المعاصي مبلغاً لايقوى عليها الخوف المزبور ، وربّما تضعف بحيث يقوى عليها ، ولو لا ذلك لما تصوّر من الفاسق الصيام والصلاة مثلاً.
     والنبي صلى الله عليه وآله قال : « التائب من الذنب كمن لا ذنب له ». (1) ولم يقل من الذنوب.
     ومنه يظهر فساد التشبيه بالمتماثلات لاتّحاد نوع الشهوة فيها فلا معنى لقمعه أحدها دون مثلها بخلاف المختلفات لاختلاف قدرها فيها ، وكذا الكثير دون القليل لكثرة العقوبة التي يخاف منها في الأوّل فيكثر الخوف بحيث يقاوم الشهوة بخلاف الثاني فلا يقاومها.

تقسيم
     التائب إمّا يكون له شهوة في الذنب لكنّه يجاهد نفسه فيه أم لا ، والثاني إمّا أن يكون سكونه عليها لفتور في أصل الشهوة أو لأن قوّة يقينه وجهاده بلغ مبلغأً قمعها عن نفسه فتأدّب بآداب الشرع ، والثالث أفضل ممّا قبله ، إذ الجهاد ليس مقصوداً لذاته ، بل للوصول إلى هذه المرتبة والواصل إلى المطلوب أحسن من السالك الغير الواصل ، ومن ظفر على خصمه فاسترقّه فهو أعظم من المشغول بجهاده ، ولايعلم كيف يسلم ، والأوّل أفضل من الثاني ، فإنّ جهاده يدلّ على قوّة يقينه دونه وكون الثاني أسلم لايدلّ على كونه الأفضل ، والا لكان الصبيّ والعنّين أفضل من البالغ [ والفحل ] (2) ، فالعزّ في الأخطار ، والشهامة شرطها الاقتحام في الأوغار.
1 ـ المحجة البيضاء : 7/7.
2 ـ الزيادة أثبتناها من المحجة البيضاء : 7/75.

(460)
     تقسيم آخر
     التائب إن وثق (1) بعزمه على الترك وهو يريد الاشتغال بما هو الأهمّ بحاله من المعارف وغيرها فنسي ذنبه والاحتراق والبكاء عليه لأجله فهو أفضل ممّن لم يصل إلى هذه المرتبة وإن اشتغل بالاحتراق والبكاء جاعلاً ذنبه نصب عينيه ، لأنّه ممنوع بعد من الوصول إليها ومحجوب عن درك المطلوب والوقوف في الطريق عائق عن الوصول إلى المحبوب ، ولايغرّنّك بكاء الأنبياء ونياحهم على ذنوبه فإنّه تنزل منهم إلى الدرجات اللائقة بحال أمّتهم ، إذ بعثوا لارشادهم فعليهم التلبّس بما ينتفعون به وإن كان أدون عمّا يليق برتبتهم ، فإنّ الأمم في كنفهم كالصبيان في كنف الآباء والمواشي في كنف الرعاء.
     تقسيم آخر
     التائب إمّا أن يستقيم على توبته إلى آخر عمره ولايعود الا إلى الزلّات الّتي لايخلو غير المعصوم عنها وهو السابق في الخيرات المبدّل سيّئاته حسنات وتوبته النصوح ونفسه المطمئنّة ولأهل هذه المرتبة طبقات ، فمن ساكن عن الشهوات ومشتغل بالمجاهدات ، ومراتب المجاهدة غير محصورة لاختلافها بالقلّة والكثرة والمدّة والأنواع والأعمار.
     وإمّا أن يستقيم عليها في الكبائر وأمّهات الطاعات دون الصغائر ، لكن من دون قصد وتعمّد ، بل ابتلاء يبتلى به في مجاري الأحوال ، وكلّما ابتلي به ندم وجدّد العزم على الاحتراز ، فنفسه لوّامة ، وهو وإن كان أدون من الأول الا أن رتبته أيضاً عالية لأنّ الشرّ معجون بطينة الانسان قلّما ينفكّ عنه أحد ، غاية الأمر السعي في غاية الأمر السعي في غلبة الخير على الشرّ حتى يثقل ميزان الحسنات.
     « الّذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش الا اللّمم ». (2)
1 ـ في « ب » وفّق.
2 ـ النجم : 32.
كشف الغطاء ::: فهرس