كتاب كشف الغطاء ::: 471 ـ 480
(471)
بل لايخلو في هذه الأخيرة عمّا هو أفضل الأعمال ، أي الذكر والفكر فيما يتناوله ، فإنّ فيه من العجائب ما لو فطن به علم أنّه أفضل من كثير من الأعمال ، بأن يتفكّر إمّا في عجائب نفعها وكيفية ارتباط قوام الحيوانات بها وتقدير الله لأسبابها وخلق الشهوات الباعثة إليها والآلات المسخّرة للشهوة فيها ، أو يتفكّر في وجه الاضطرار إليها وأنّها تؤذي (1) لو استغنى عنها ، فيرى نفسه مقهوراً مسخّراً لشهواتها ، أو يتفكّر في صنع صانعها ويترقّى منها إلى صفاته فيتذكّر لأبواب تنفتح عليه من عالم الملكوت هي أعلى مقامات العارفين والمحبّين ، إذ المحبّ إذا رأى صنع حبيبه نسي الصنعة واشتغل بالصانع.

وأمّا المحاسبة
     للنفس بعد العمل ، فقد قال الله تعالى : « ولتنظر نفس ما قدّمت لغد ». (2)
     وقال صلى الله عليه وآله : « حاسبوا قبل أن تحاسبوا ». (3)
     فكما ينبغي أن يكون للعبد ساعة قبل العمل في أوّل النهار يشارط نفسه ويوصيّها فكذا ينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب النفس فيها أو يحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها ، كما يفعل التجّار في آخر السنة أو الشهر أو اليوم مع شركائهم خوفاً من أن يفوتهم ما يورث الحسرة في فواته ، مع كون الحسرة قليلة ، والثمرة ضعيفة فانية ، فكيف لايحاسب فيما يتعلّق بأمر الآخرة الباقبة من السعادة والشقاوة الدائمة.
     ومعنى المحاسبة أن ينظر إلى أصل المال والربح والخسران لينكشف له الزيادة والنقصان ، فإن حصل فضل استوفاه وشكره ، وإن خسر طالبه وضمّنه بتداركه في المستقبل ، فرأس مال العبد في دينه الفرائض وربحه النوافل وخسرانه المعاصي ، وموسم العمل جملة النهار والتاجر النفس
1 ـ كذا ، وفي المحجّة (8/164) : ويلاحظون وجه الاضطرار إليها وبودّهم لو استغنوا عنه.
2 ـ الحشر : 18.
3 ـ المحجّة البيضاء : 8/165 ، وفيه : « حاسبوا أنفسكم ».

(472)
الأمّارة ، فليحاسبها على الفرائض ، فإن أدّاها على وجهها شكر الله عليه ورغّبها إلى مثلها ، وإن فوّتها من أصلها طالبها بالقضاء ، وإن أدّاها ناقصة جبر نقصها بالنوافل ، وإن عصى عاقبها وعذّبها حتّى يتدارك لما فرط ، وكما يفتّش التاجر عن الحبّة والقيراط في حساب الدنيا حتّى لايغبن في شيء منها فكذا هذا ، بل أشدّ فإنّ النفس خدّاعة ملبّسة فليتكفّل بنفسه من الحساب ما سوف يتولّاه غيره عن تكلّماته ونظراته وخطراته وقيامه وقعوده وجملة أفعاله حتّى عن سكونه وسكوته لم سكت.
     ثم النفس غريم يمكن الاستيفاء منها بالغرامة والضمان في بعضها وردّ عينها في بعض آخر ، وتعذيبها في آخر ، ولايمكن تفصيل ذلك الا بتحقيق الحساب ، وتمييز الباقي من الحقّ الواجب عليه ، فإذا حصل ذلك اشتغل بعده بالاستيفاء والمطالبة.
     وينبغي أن يحاسب على جميع العمر يوماً فيوماً وساعة ساعة ، في كل عضو ظاهر وباطن ، فلو رمى العبد بكلّ معصيته حجراً في داره امتلأت داره في مدّة قريبة ، ولكنه يساهل في حفظه والملكان يحفظان عليه ، أحصاه الله ونسوه.

وأمّا المعاقبة
     على تقصيرها مهما حاسب نفسه فإنّه لايسلم عن مقارفة معصية وارتكاب تقصير في حقّ الله ، فلا ينبغي له إهمالها والا سهلت عليه مقارفة المعاصي ، فأنست به نفسه وصار ذلك سبباً لهلاكها ، بل ينبغي أن يعاقبها ، فإن أكل لقمة بشهوة عاقب بطنه بالجوع ، وكذلك يمنع كلّ طرف من أطرافه عن شهواتها كما كانت عادة الأكابر السسلف في سلوك طريق الآخرة.
     فقد روي أنّه كان في بني إسرائيل رجل يتعبّد في صومعته فمكث زماناً طويلاً فأشرف من صومعته يوماً فنظر إلى امرأة فافتتن بها فأخرج رجله بالنزول إليها فأدركه الله بلطفه فرجعت إليه نفسه وعصمه الله تعالى وندم ،


(473)
فلمّا أراد أن يعيد رجله إلى الصومعة قال : هيهات! رجل خرجت تريد المعصية تعود معي في صومعتي لايكن والله أبداً ، فتركها معلّقة من الصومعة تصيبها الأمطار الرياح والثلج والشمس حتّى تقطّعت ، فسمّي ذاالرجل ، فشكر الله له ذلك وأنزل في بعض الكتب ذكره (1). والحكايات في هذا الباب كثيرة.
     والعجب أنّك تعاقب عبدك وأمتك وأهلك وولدك على تقصير صدر من أحدهم لأنّك تخاف أن يخرج أمرك عن الاختيار لو داريتهم ويبغوا عليك ، ثم تهمل نفسك مع كونها أعظم عداوة وأشدّ طغياناً عليك وضررك من طغيانها أشدّ من ضررك منهم ، إذ غايته تشويش عيش الدنيا والعيش عيش الآخرة ، والنفس هي التي تخلّصه لك.

وأمّا المجاهدة
     ، فإنّ النفس إذا قارفت معصية عاقبها بما تقدّم ، وإن توانت بحكم الكسل في شيء من الطاعات والفضائل والأوراد أدّبها بتثقيل الأوراد عليها وإلزامها فنوناً من الوظائف جبراً لما فات ، كما نقل عن جملة من الأكابر حين كسلوا في ورد ونحوه عاقبوا النفس بصوم أو حجّ أو صلاة مرابطة للنفس ومؤاخذة لها بما فيه نجاتها ، وإن لم تطعك فعالجها بإسماعها ما ورد في فضيلة الاجتهاد.
     قال الصادق عليه السلام : « طوبى لعبد جاهد نفسه وهواه ، ومن هزم جند هواه ظفر برضا الله ، ومن جاوز عقله نفسه الأمّارة بالسوء بالجهد والاستكانة والخضوع على بساط خدمة الله فقد فاز فوزاً عظيماً ».
     ولا حجاب أظلم وأوحش بين العبد وبين الله تعالى من النفس والهوى ، وليس لقتلهما وقطعهما سلاح مثل الافتقار إلى الله والخشوع والجوع والظمأ بالنهار والسهر بالليل ، فإن مات صاحبه مات شهيداً ، وإن عاش استقام أدّاه عاقبته إلى الرضوان الأكبر. [ قال الله تعالى : ]
1 ـ إحياء العلوم : 4/406.
(474)
     « والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين ». (1)
     وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يصلّي حتّى يتورّم قدماه ويقول : أفلا أكون عبداً شكوراً.
     « ولو وجدت حلاوة العبادة ورأيت أنوارها وبركاتها لم تصبر عنها ولو قطعت ارباً اربا ، فما أعرض من أعرض عنها الا للحرمان عن التوفيق ». (2)
     والأخبار الواردة في فضل الاجتهاد أكثر من أن تحصى.
     ثمّ عالجها بمصاحبة المجتهدين وملاحظة أحوالهم والتأسيّ بهم وإن تعذّر عليك الوصول إليهم فعليك بسماع آثارهم والاطّلاع على أعمالهم ، وقد انقضى تعبهم وبقي ثوابهم ونعيمهم أبداً ، فما أشدّ حسرة من لايقتدي بهم لأجل شهوات فانية ، ثم يأتيه الموت فيحول بينه وبين مايشتهيه ، وإن تمرّدت عليك النفس وحدّثتك بان هؤلاء رجال أقوياء لايطاق الاقتداء بهم فطالع أحوال النساء المجتهدات كرابعة العدوية وأمثالها ، وقل للنفس : الا تمتنعين من أن تكون أقلّ من امرأة في أمر دينك ودنياك؟
     يحكى أنّ رجلاً كانت له جارية رومية وكان بها معجباً ، قال : كنت بعض الليالي نائمة يجنبي فانتبهت فلمستها فلم أجدها فطابتها فإذا هي ساجدة تقول : بحبّك لي إلّأ غفرت دنوبي ، فقلت : لاتقولي كذا وقولي : بحبّي لك ، فقالت : لا يامولاي بحبّه لي أخرجني من الشرك إلى الاسلام وبحبّه لي أيقظني وكثير من خلقه نيام. (3)
     وقال رجل : خرجت إلى السوق ومعي جارية حبشية ، فأجلستها في موضع بناحية السوق وقلت : لاتبرحي من مكانك حتّى أقضي حوائجي ، فلمّا رجعت لم أجدها فانصرفت إلى المنزل وأنا شديد الغضب عليها ، فلمّا
1 ـ العنكبوت : 69 ، وما بين المعقوفتين في المصدر.
2 ـ مصباح الشريعة : الباب 80 ، في الجهاد والرياضة ، مع اختلاف.
3 ـ المحجّة البيضاء : 8/177.

(475)
عرفت الغضب في وجهي قالت : لاتعجل عليّ يامولاي! أجلستني في موضع لم أرفيه ذاكراً لله تعالى فخفت أن يخسف بي ذلك الموضع ، فتعجّبت منها وقلت : أنت حرّة لوجه الله ، فقالت : ساء ما صنعت ، كنت أخدمك فيكون لي أجران وأمّا الآن فقد ذهب أحدهما. (1)
     ونقل عن بعضهنّ أنّها إذا جاءها النهار تقول : هذا يومي الذي أموتت فيه فما تطعم حتّى تمسي ، وإذا جاءها الليل تقول : هذه ليلتي التي أموت فيها فتصلّي حتّى تصبح ، فعليك بمطالعة أحوال هؤلاء حتّى ينبعث نشاطك على الجدّ والعبادة ، ولاتنظر إلى أهل عصرك فيضلّوك عن سبيل الله تعالى.

وأمّا المعاتبة
     فاعلم أنّ أعدى عدوّك نفسك الّتي بين جنبيك ، فهي الأمّارة بالسوء الميّالة إلى الشرّ الفرّارة عن الخير ، وقد أمرت بقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربّها ومنعها عن شهواتها ، فإن أهملتها شردت وجمحت وإن لازمتها بالتوبيخ والعتاب كانت لوّامة ، وقد حلف الله بها فيرجى أن تصير مطمئنّة داخلة في عباد الله فلا تغفلنّ ساعة عن عتابها وتذكيرها ولا تشتغل بوعظ غيرك أبداً مالم تعظ نفسك أوّلاً بتقرير جهلها وحمقها ، فإنّها تتعزّز أبداً بذكائها وفطنتها ويشتدّ أنفتها واستنكافها فتقول لها : ماأجهلك بنفعك وضرّك وخيرك وشرّك ، أما تدرين مابين يديك من الجنّة والنار ومصيرك إلى إحديهما ، فما لك تفرحين وتضحكين وأنت مطلوبة غداً ، ولعلّك تختطفين الآن أو غداً فالموت يأتي بغتة من غير مواطاة وتمهيد ، فمالك لا تستعدّين للموت الذي هو أقرب إليك من كلّ قريب.
     قال تعالى : « اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون* مايأتيهم من ذكر من ربّهم محدث الا استمعوه وهم يلعبون* لاهية قلوبهم ». (2)
1 ـ المحجّة البيضاء : 8/178.
2 ـ الأنبياء : 1 ـ 3.

(476)
     ويحك! إن كنت ترى (1) أنّ الله لايراك فما أعظم كفرك والا فما أعظم وقاحتك وأقلّ حياءك.
     ويحك! أتظنّين أنّك تطيقين عذابه فجرّبي نفسك واحتبسي ساعة في البيت أو في الحمّام (2) أو تقرّبي إلى النار ليتبيّن لك طاقتك ، أم تظنّين كرمه تعالى وعفوه واستغناءه عن عذابك ، فمالك لاتعوّلين على كرمه في حوائجك في الدنيا أفتحسبين أنّه كريم في الآخرة دون الدنيا ، ولا تعلمين أنّ الربّ واحد وأنّه ليس للانسان الا ما سعى.
     ويحك! ماأعجب نفاقك! تدّعين الإيمان بلسانك وقد قال مولاك في أمر دنياك « وفي السماء رزقكم » (3) فضمن الرزق وتكفّله ولم يتكفّله في أمر الآخرة ووكله إلى سعيك فتكذّبينه بأفعالك وتكالبك على الدنيا كالمستهتر ، وإعراضك عن الآخرة كالمستخفّ المستحقر ، أما تدرين أنّ المنافق في الدرك الأسفل من النار؟
     ويحك! ما أجهلك بحساب يوم الجزاء ، أتحسبين أنّك تتركين سدى ، ألم تكوني نطفة من مني يمنى؟ فخلقك وسوّاك ، أفلا يقدر أن يحييك مرّة أخرى؟ وإن صدّقته فما بالك لا تأخذين حذرك ويكون قول الأنبياء ووعدهم ووعيدهم عندك أهون من إخبار طفل بعقربة في أحد جنبيك ، أو يهودي يدّعي الطبابة بالضرر في أكلك ولزوم مداواتك ، أفتظنّين أنّ سموم النار وعقاربها وحيّاتها أحقر من لدغ العقربة التي لاتدوم يوماً فما أجهلك ولو انكشف على البهائم أمرك ضحكوا عليك.
     ويحك! مالك تسوّفين نفسك وتقولين غداً وغداً ، فقد جاء الغد وصار يوماً ، ألا تعلمين أنّ الغد كالأمس في عجزك فيه عمّا كنت عاجزة عنه فيه وقدرتك على ماكنت تقدرين عليه؟ بل أنت أعجز في الغد من اليوم
1 ـ كذا ، والصحيح : ترين.
2 ـ كذا ، وفي المحجّة البيضاء : (8/181) : ساعة في الشمس أو في بيت الحمّام.
3 ـ الذاريات : 22.

(477)
لرسوخ الشهوة ببقائها ، فيصعب قلعها ، فمن عجز في حال شبابه وقوته عن قلع الشجرة الشابّة كيف يقدر على قلعها بعد انقضاء مدّة طويلة تزيد قوتها ورسوخها وتزيد ضعفه بشيبه وهرمه واحتفاف الأسقام والأوجاع به وضعف الجوارح والآلات عنه.
     ويحك! يانفس أتستعدّين للشتاء بقدر طول مدّته فتجمعين له القوت والحطب واللبد والجبة والحبوب ، ولا تتّكلين على فضل الله ورحمته حتى يدفع عنك البرد بغير حطب وجبّة ، فإنّه قادر على ذلك ، أفتظنّين أنّ الزمهرير أخفّ برداً أو أقصر مدّة من زمهرير الشتاء؟ أم تظنّين أن العبد ينجو من دون سعي ، هيهات! فكما لايندفع برد الشتاء الا بالجبّة والفرو والاستدفاء بالنار وغيرها ، فكذا لايندفع حرّ النار وبرد الزمهرير (1) الا بمحض الطاعات والاجتهاد في العبادات ، وإنّما كرمه تعالى في الهداية والإرشاد إلى طريق النجاة والخلاص عن الهلاك وتيسير الأسباب لا في اندفاع العذاب عنك بدون سبب من الأسباب ، كما أنّ كرمه في دفع برد الشتاء بخلق النار وإهدائك إلى طريق استخراجها ودفع البرد بها دون شراء الحطب والجبّة ، فارجعي عن جهلك ولاتبيعي آخرتك بدنياك.
     ويحك! يا نفس أما تستحين؟ تزيّنين ظاهرك للخلق ، وتبارزين الله في السرّ بالعظائم؟ فتستحين من الخلق دون الخالق؟
     ويحك! أتراه (2) أهون الناظرين إليك قد جعلت نفسك حماراً لإبليس يقودك حيث يريد وتشتغلين بعمارة دنياك مع خراب آخرتك كأنّك غير مرتحلة منها إليها؟ أما تنظرين إلى أهل القبور قد جمعوا كثيراً وبنوا شديداً وأمّلوا بعيداً ، فأصبح جمعهم بوراً وبنيانهم قبوراً وأملهم غروراً ، فانظري إلى الدنيا اعتباراً واسعي اضطراراً وارفضيها اختياراً ، واطلبي
1 ـ كذا في « ج » ، وفي « الف وب » : بردها.
2 ـ كذا ، والصحيح : أترينه.

(478)
الآخرة ابتداراً ، فاتّعظي وإن منعتك القساوة عن قبول الموعظة فاستعيني عليها بدوام التهجّد والقيام وكثرة الصلاة والصيام ، وقلّة المخالطة والكلام ، وصلة الأرحام ، واللطف بالأيتام ، وواظبي على النياحة والبكاء اقتداء بأبيك آدم وبأمّك حوّاء ، واستغيثي بأرحم الرحمين ، وتوسّلي بأكرم الأكرمين ، فإنّ مصيبتك أعظم وبليّتك أجسم ، وقد انقطعت عنك الحيل ، وزاحت عنك العلل ، فلا مذهب ولا مطلب ولا مستغاث ولا مهرب الا إليه ، فلعلّه يرحم فقرك ومسكنت ويغيثك ويجيب دعوتك ، فإنّه يجيب دعوة المضطرّ إذا دعاه ، ولايخيب رجاء من أمّله ورجاه ، ورحمته واسعة ، وأياديه متتابعة ، ولطفه عميم ، وإحسانه قديم ، وهو بمن رجاه كريم.

فصل
     الرضا أفضل مقامات الدين ، وأعلى منازل المقرّبين ، وهو ترك الاعتراض السخط لأفعال الله تعالى ظاهراً وباطناً قولاً وفعلاً ، وهو من ثمرات المحبّة ، إذ المحبّ يستحسن مايفعله المحبوب ، وصاحب الرضا يستوي لديه الحالات كلّها ، والآيات والأخبار في مدحه ممّا لاتحصى.
     قال النبي صلى الله عليه وآله لطائفة : « ما أنتم؟ فقالوا : مؤمنون ، فقال : ماعلامة إيمانكم؟ فقالوا : نصبر عند البلاء ونشكر عند الرخاء ونرضى بمواقع القضاء. فقال : حكماء علماء كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء ». (1)
     وقال صلى الله عليه وآله : « إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، وإن رضي اصطفاه ». (2)
     وقال الصادق عليه السلام : « أعلم الناس بالله أرضاهم بقضائه ». (3)
1 ـ المحجّة البيضاء : 8/87.
2 ـ المحجّة البيضاء : 8/67.
3 ـ الكافي : 2/60 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الرضا بالقضاء ، ح2 ، مع اختلاف.

(479)
     وفي الخبر : « أنّ موسى عليه السلام سأل ربّه أن يدله على ما فيه رضاه ، فقال تعالى : إنّ رضاي في رضاك بقضائي ». (1)
     وبهذا المضمون أخبار كثيرة ، وهذا من فوائد الرضا وهو من أعظمها ورضوان من الله أكبر.
     وورد ذلك في تفسير : « ولدينا مزيد » (2) يقول الله تعالى : « إنّي عنكم راض وهو أفضل من النعيم والهدية والتسليم ». (3)
     ورضا الله من العبد حبّه له ، وهو سبب لدوام النظر والتجلّي وهو غاية مراد المريدين.
     تنبيه
     أنكر بعض الناس تحقّق الرضا في أنواع البلاء وما يخالف الهوى وجعل الممكن فيها الصبر ، وهو كما قيل في ناحية من إنكار المحبّة (4) ، فإن حبّ المخلوق قد يستغرق الهمّ بحيث يبطل إحساس الألم فتصيبه الجراحات ولايحسّ بألمها ، بل الطالب المسارع في شغل قد يعدو فتصيبه جراحة من شوك يدخل في رجله ونحوه ولا يشعر به ، وقد حكى الله تعالى عنالنسوة اللاتي قطّعن أيديهنّ ما هو أعظم ، وحكايات العشّاق مشهورة مسطورة نظماً ونثراً ، وحبّ الله تعالى أعظم المحابّ وشغل القلب به من أعظم المشاغل فلايقاس بجماله جمال ، وكلّ جمال من آثار جماله ومظاهر قدرته وجلاله ، فأيّ بعد في أن تدهش به عقول ذوي العقول فلا يحسّوا بما يجري عليهم من المصائب والآلام ، وربما لم يبلغ المحبّ هذا المبلغ فيحسّ بالألم ، لكن يرضى به ويرغب إليه بعقله دون طبعه ، كالذي يفصد أو يحتجم بإرادته
1 ـ المحجّة البيضاء : 8/89.
2 ـ ق : 35.
3 ـ المحجّة البيضاء : 8/87 وفيه تفصيل يعرف به المراد من الهدية والتسليم ، وليس فيه ذكر « النعيم ».
4 ـ كذا ، والظاهر أنّ الصحيح : كما قيل من ناحية إنكار المحبة.

(480)
ترجيحاً للنفع المتوقّع على الألم العاجل أو لرضاء محبوبه على رضاه فيسعف مأموله وينجح مطلوبه ومسؤوله.
     فإذا حصلت هذه المراتب في المحبّة الضعيفة الحاصلة للمخلوقين فيما بينهم فأولى بحصولها في محبّة الله تعالى سبحانه.
     تمحيص وتحقيق
     الدعاء الذي تأكد الأمر به في الآيات والأخبار لاينافي الرضا ، وكذا بغض الكفّار والعاصين والأمر بنهيهم عن مخالفة شعائر الدين المبين ، ومع عدم الانزجار بدفعهم وقمعهم ومع عدم التمكّن بالاعتزال الهجرة عنهم.
     وما توهّمه بعضهم من أنّ ما يقصد ردّه بالدعاء من قضاء الله وقدره وكذا الكفر والعصيان فيجب الرضا بها ، فرأوا السكوت عنها من مقامات الرضا ، واضح الفساد ، كيف ومقام الأنبياء والأوصياء من أعلاها وقد كثرت الأدعية المأثورة بما لاتحصى.
     وكذا الحثّ والثناء في الكتاب والسنّة على الدعاء وأهل الدعاء وبولغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهما وصرّح بموادّة المؤمنين وبغض الكفّار والمنافقين ، بل مطلق المخالفين بما هو أظهر من أن يخفى ، هذا مع ما يشاهد من إيجاب الدعاء لصفاء القلب وتنوّر النفس وكشف الأسرار وتواتر مزايا لطف الكريم الغفّار وإفاضة الخيرات والبركات بسببه إلى العباد ، فإنكار ذلك جهل وغرور أو مكابرة وعناد ، ولامنافاة بينها وبين مادلّ على علوّ مرتبته الرضا بالقضاء ، فإنّ عادة مبدع النظام الأصلح وربّ الأرباب قد جرت بترتيب المسببات على الأسباب وإسناد المبدعات والكائنات والأفعال طرّاً إلى الوسائط التي بها يتمّ الانتساب ، كما قال تعالى :
     « وإن من شيء الا عندنا خزائنه وماننزّله الا بقدر معلوم » (1)
     والقدر عبارة عن وجود الأشياء مفصّلة في الخارج مرتّبة على أسبابها
1 ـ الحجر : 21.
كشف الغطاء ::: فهرس