كتاب كشف الغطاء ::: 481 ـ 490
(481)
التفصيلية واحداً بعد واحد ، والقضاء وجودها إجمالاً في العالم العقلي مجتمعة على سبيل الإبداع ، وذلك أنّه قد لمع في محلّه بنيّر البيان واتّضح بنور البرهان أنّ واجب الوجود وإن كان علّة لجميع الأشياء ، والوجودات بأسرها فائضة من وجوده الا أنّ حدوث الحوادث لمّا كان مفتقراً إلى تصرّف الطبائع وتحريك الموادّ ، وذلك ممّا لايليق بكبريائه تعالى ، فلذا نسبت إلى الوسائط ، ولايلزم منه نفي الفاعل المختار على ماتوهّم لما حقّق في محلّه ، فيكون المعلول الأوّل على هذا واسطة لفيضان الوجود على سائر الموجودات التي بعده فكان وجوده مشتملاً على وجوداتها اشتمالاً إجماليّاً ، فيكون القضاء عبارة عمّا ذكرناه من وجودها إجمالاً في العالم العقلي ، أي المعلول الأول ، والقدر عبارة عن وجوداتها الخارجيّة المترتّبة على وسائطها في الخارج مطابقة لمّا في القضاء ، ولما كان وجود المعلول الأوّل بما يشتمل عليه من الوجودات على الوجه الكلّي مفاضاً من الوجود الواجبي الذي هو عين ذاته ، وثبت أيضاً علمه بذاته بما هو عين ذاته لاجرم كان علمه محيطاً بالكلّ على ماهو عليه إحاطة تامّة ، فنسبة القضاء إليه كنسبة القدر إلى القضاء ، ويسمّى العالم المزبور بالعناية الأولى.
     وإذا ثبت جريان عادته تعالى بترتب المسبّبات على الأسباب ، وكان ذلك هوالنظام الأصلح بحالها ، فمن جملتها الصدقة والدعاء وأمثالهما ، وكما أنّ شرب الماء سبب لإزالة العطش مثلاً فلا تحصل الا به فكذلك الدعاء سبب رتّبه الله تعالى لدفع البلاء ولو لم يدع نزل به كما لو لم يعالج المريض بالدواء والغذاء ، فإنّه لايصحّ بل يموت وهو واضح.
     فإن قلت : إذا كان في علم الله وقضائه السابق أنّ زيداً يدعو ويتصدّق ويندفع بذلك بليّته لدعا وتصدّق واندفعت عنه والا فلا يفعل ولايندفع عنه ، فأيّ فائدة في سعيه واجتهاده؟
     قلت : هذه شبهة تورد لنفي الاختيار في أفعال العباد ، ولا ربط لها


(482)
بحديث منافاة الدعاء للرضا.
     ومجمل الجواب : أنّ علمه تعالى ليس علّة لفعل العبد وإن طابقة فالعبد لمّا كان يفعل باختيار ، علم الله كذلك ، لا أنّه لما علم كذلك فعل العبد.
     والحقّ أنّ فعل العبد مخلوق له من دون واسطة بإرادته واختياره ومخلوق له تعالى بوساطة العبد كما في سائر الموجودات ، لا أنّه ليس له إرادة واختيار في الفعل ، كما يقوله المجبّرة ولا أنّه يحصل من غير علّة واجبى كما يقوله المفوّضة ، بل هو أمر بين أمرين بالنهج المزبور ، كما وردت به النصوص عن الأئمّة المصطفين ، فالاختيار والإرادة مخلوق لله تعالى في العبد كسائر الآلات والأسباب المخلوقة فيه ، وهو لاينافي الإختيار ، فإنّ المراد من الفعل الاختياري ما كان مبدؤه الاختيار ، وأمّا صدور الاختيار أيضاً عن اختيار آخر ، فلا ضرورة تلجىء إليه ، غاية ما هناك صيرورة الفعل واجباً بسبب الاختيار وهو لاينافيه ، وتمام الكلام يحتاج إلى بسط يفوت به زمام المرام.
     وبالجملة فالدعاء مباشرة سبب رتّبه مسبّب الأسباب ، والتمسّك بالأسباب جرياً على سنّة الله تعالى لاينافي التوكل ولا الرضا ، كما أنّ شرب الماء وأكل الخبز ومعالجة المريض بالدواء والغذاء لاتنافيهما.
     فإن قلت : مادلّ على كراهة المعاصي ينافي مادلّ على حسن الرضا بالقضاء الا أن يقال بعدم صدورها منه وهو قدح في التوحيد.
     قلت : أفعال العباد وإن كانت كسائر الموجودات بقضاء الله وقدره ، الا أنّه فرق بين المقامين حيث إنّ ماسوى أفعال العباد من الموجودات الخارجية جارية بقضاء حتم وقدر لازم منه تعالى.
     وأمّا هي فمعلّقة باختيارهم وإرادتهم ومستندة إليهم ، كما وردت في الأخبار عن العترة الأطهار ، واقتضاها نور البصيرة والاعتبار للزوم الجبر


(483)
و (1) الظلم من الله المجيد والعبث في التكليف والوعد والوعيد.
     فالمراد من كونها بقضاء الله وقدره إمّا تعلقها بها كما فسّره أميرالمؤمنين عليه السلام فإنّها أسباب ذاتية للطاعة عرضيّة للمعصية. والمراد منهما هنا السببيّة في الجملة.
     وإمّا كونها صادرة عن الأسباب وبتوسّط الوسائط التي هي فعل الله حقيقة ، ومنها الارادة والاختيار كما عرفت ، حيث أنّ وجوده مشتمل على سائر الوجودات وعلمه محيط بكلّ المعلومات كما أشرنا إليه.
     فعلى الأوّل يكون معنى الرضا بالقضاء فيها الرضا بتكليف الشارع ووعده ووعيده بها وهو من لوازم الايمان ، ولا منافاة له حينئذ أصلاً.
     وعلى الثاني تكون لها جهتان واتّصافها بالمعصية والقبح وتعلّق الأمر ببغضها وزجر أربابها من حيث تعلّقها به وكونها أفعالاً اختيارية لهم حقيقة ، واتّصافها بكونها صادرة عن قضاء الله وقدره من الجهة الأخرى ، وليس الاتصاف بالعصيان من تلك الجهة لتعلّقه بنفس الفعل الذي هو فعل العبد دون أسبابه التي هي فعل الله تعالى.
     وعليك بالتأمّل فيما تلوته عليك في هذا المقام فإنّه من مزالق الأقدام ، وقد خبط فيه بعض الأعلام بما يطول بنقله الكلام.
     ومنه يظهر الجواب عن المنافاة بين ما دلّ على مدح الرضا وبين ما دلّ على بغض الكفّار والفجّار ومقتهم ، فإنّهم وإ ، كانوا من آثار صنعه ووجودهم صارد بقضائه وقدره الا أنّ بغضهم ليس لأجل وجودهم الذي هو منه ، بل هو خير محض يجب حبّه لأجله ، وإنما هو لأجل فعلهم الصادر عنهم بإرادتهم واختيارهم وليست الشرور الصادرة عنهم من لوازم وجودهم ، فإنّ كلّ مولود يولد على الفطرة ، والا لما صحّ التكليف والثواب والعقاب ، وما ينافي ذلك بظاهره من الآثار يجب تأويله بما ليس المقام مقام ذكره.
1 ـ كذا ، والظاهر زيادتها.
(484)
     والعجب ممّن يزعم أنّ السكوت عن المعاصي والرضا بها من مقامات الرضا مع أنّه تعالى نهى عباده عنها وذمّهم عليها وبعث أنبياءه ورسله لردعهم عنها ، وكيف يتصوّر الرضا بما يقطع بعدم رضاه تعالى بفعلها ، إذ المعصية ما لا يرضى الله سبحانه بفعلها فالرضا بها مناف لغاية الرضا ، مع أنه لو أمكن القول بصحّة الرضا بها لكونها بقضاء الله وقدره أمكن القول بصحّة فعلها أيضاً لذلك ، ويلزم منه إنكار كون المعصية معصية.
     تذنيب
     وأما طريق تحصيل هذا المقام المنيف فإنّما يتمّ بكمال المعرفة المستتبعة للمحبّة وتحصيل مرتبة اليقين بالتوحيد الفعلي ، وأنّه لامردّ لقضائه والكراهة لأفعاله تعالى تعجيل عقوبة من دون فائدة بخلاف الفائز بمقام الرضاء حيث إنّه دائماً في حال راحة وسرور وبهجة وحبور.
     واعلم أنّ التسليم قريب من الرضا ، ويسمّى تفويضاً أيضاً ، بل هو أعلى مقاماته ، لأنّ العلاقة ملحوضة في الرضا أعني موافقة الأفعال لطبعه بخلاف التفويض حيث يلاحظ فيه قطع العلائق بالمرّة وتفويض الأمر إليه بالكليّة ، كذا قيل ، فتأمّل.
     وبالجملة؛ فهما مشتركان في كونهما من آثار المحبّة ، والمحبّ لايظهر البلاء في معرض الشكوى ، بل ينكره بقلبه أبداً حتّى قال السلف : من حسن الرضا أن لايقول هذا يوم حارّ ، وأنّ العيال تعب ومحنة ، وأنّ في العبادة ونحوها كلفة ومشقّة إذا كان على سبيل التشكّي ، أمّا إذا تعلّق به غرض سحيح فلا ينافيه ، أرضانا الله بما يحبّ ويرضى ، وجنّبنا عمّا لايحبّ ولايرضى.

فصل
     التوكّل أعلى منازل السالكين وأعظم درجات الموحّدين الموقنين.
     وقد ورد في مدحه من الكتاب والسنّة ما ورد :


(485)
     « إنّ الله يحبّ المتوكّلين ». (1)
     « وعلى الله فليتوكّل المتوكّلون ». (2)
     « ومن يتوكّل على الله فهو حسبه ». (3)
     وقال الصادق عليه السلام : « من أعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً ، من أعطي الدعاء أعطي الاجابة ، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة ، ومن أعطي التوكّل أعطي الكفالة » ، [ ثمّ قال عليه السلام : أتلوت كتاب الله عزّوجلّ : ]
     قال الله تعالى : « ومن يتوكّل على الله فهو حسبة ». وقال تعالى : « لئن شكرتم لأزيدنّكم ». (4) وقال : « أدعوني أستجب لكم ». (5) » (6)
     وقال النبي صلى الله عليه وآله : « لو أنّكم تتوكّلن على الله حقّ توكّله لرزقتم كما ترزق الطيور تغدو خماصاً تروح بطاناً ». (7)
     وقال صلى الله عليه وآله : « من انقطع إلى الله عزّوجلّ كفاه الله كلّ مؤونة ورزقه من حيث لايحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ». (8)
     وهو اعتماد القلب على الله في جميع الأمور أو حوالتها إليه أو التبرّي عن كلّ حول وقوّة بإسناد الأمور كلّها إلى حوله وقوّته ، وهو موقوف على الاعتقاد الجازم بأن لافاعل الا هو ولاحول ولا قوّة الا حوله وقوّته وأنّ له تمام العلم والقدرة على كفاية العباد ، ثم تمام الرحمة والعناية ، وليس وراءها علم وقدرة ولا رحمة ولا عناية ، فمن لم يجد في نفسه حالة التوكّل وترك
1 ـ آل عمران : 159.
2 ـ إبراهيم : 12.
3 ـ الطلاق : 3.
4 ـ إبراهيم : 7.
5 ـ غافر : 60.
6 ـ الكافي : 2/65 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب التفويض إلى الله والتوكّل عليه ، ح6 ، وفيه : « أعطي الكفاية ».
7 ـ المحجّة البيضاء : 7/379.
8 ـ المحجّة البيضاء : 7/379.

(486)
الالتفات إلى ماسواه فسببه إمّا ضعف اليقين بأحد ماذكر أو ضعف القلب بالستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بالأوهام الكاذبة ، وذلك ممكن مع حصول اليقين ، فإنّ من تناول عسلاً فشبّه بالعذرة عنده قد ينفر طبعه منه ، وكذا المضاجع للميّت ويخاف منه مع حصول اليقين بأنّه جماد لايحيى بحسب العادة ، وكم من يقين لا طمأنينة معه ، ولذا قال الخليل عليه السلام : « ولكن ليطمئنّ قلبي » (1) وكذا العكس كأرباب الملل والمذاهب ، فالتوكّل موقوف على قوّة اليقين وقوّة القلب معاً.
     إشراق
     قد تبيّن ممّا ذكر أنّ التوكّل حالة تثمر الانقطاع إلى الله في جميع الأحوال ، وسنذكر حقيقتها وأقسامها إن شاء الله تعالى ، وأن تلك الحالة تنشأ من علم واعتقاد بالأربعة المشار إليها ، أي الايمان بالتوحيد الذي يترجمه قولك : لا إله الا هو وحده لاشريك له ، وبالقدرة التي يترجمها قولك : له الملك ، وبالجود والحكمة التي يدلّ عليهما قولك : وله الحمد.
     وبهذا يتمّ التوكّل ، ويثبت حقيقته التي هي تلك الحالة التي سنذكر البحث عنها.
     والمراد من الإيمان بها صيرورتها وصفاً لازماً لقلبه غالباً عليه.
     فأمّا التوحيد فهو الأصل فيه ، وهو البحر الخضمّ الذي لا ساحل له ، وليس لأحد إحاطة الكلام فيه ، والقدر الذي يمكن الإشارة إليه في هذا المقام أنّ له أربع مراتب كلّ قشر بالنسبة إلى مافوقه كالجوز.
     فقشره الأعلى الذي غايته حفظ البدن عن السيوف الإقرار باللسان خاصّة كتوحيد المنافق.
     وقشره الأسفل الذي غايته حصول الاسلام والنجاة من العذاب المخلّد إن توفّي صاحبه عليه ، ولم يضعّف بالمعاصي عقده إضافة التصديق بالقلب
1 ـ البقرة : 260.
(487)
إليه مع انشراح لحقيقته وانفساح للصدر بمضمونه وصيرورته له محسوساً مشاهداً ، ويمكن تضعيف عقده بالشبه والبدع وتقويته بالفكر والنظر في الأدلّة الكلامية.
     ثم لبّه مشاهدة فاعل الأشياء واحداً وانكشاف ذلك للقلب كما هو عليه ، فيرى الأشياء متكثّرة الا أنّه يسندها إلى فاعل واحد بطريق الكشف والشهود وانشراح الصدر ، « فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ». (1)
     ثم الدهن المأخوذ من اللب أعني أن لا يحضر في شهوده الا الفاعل الواحد فلايرى الأشياء بجهة كثرتها ، بل بجهة كونها صاردة عن الواحد ، وهي الفناء في التوحيد على اصطلاح ... (2) ، فإنّه إذا لم ير الا واحداً فلا يرى نفسه أيضاً لاستغراقه بالواحد ففني عن رؤية نفسه وهي غاية التوحيد ومرتبة الصدّيقين.
     فإن قلت : كيف لايشاهد الا واحداً وهو يشاهد بحسّه أشياء كثيرة فكيف يصير الكثير واحداً أو كيف يكذب حسّه؟
     قلت : قد يكون الشيء واحداً من جهة وعلى طور من المشاهدة دون أخرى وطور آخر ، كالانسان إذا التفت إلى جزء جزء من أجزائه العقلية أو الخارجية ، وإذا التفت إلى الكلّ المركّب من حيث إنّه شيء واحد ، فكم من مشاهد للإنسان لايلتفت إلى أجزائه أو كثرتها فكذلك ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات مختلفة يكون باعتبار أحدها واحداً والآخر متعدّداً ، ومشاهدة الوحدة تظهر غالباً كالبرق الخاطف ، وقلّما تدوم.
     إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الرابع ممّا لايجوز الخوض فيه ، ولايبنى عليه
1 ـ الأنعام : 125.
2 ـ إحياء العلوم : 4/245.

(488)
التوكّل والأوّل نفاق محض ، والثاني موجود في عموم المسلمين ، وقد أشرنا إلى ما به يقوى ويتأكّد ولا دخل له أيضاً بالتوكّل الا قليل منه بعد تقوية كاملة.
     وأمّا الثالث فهو مبنى التوكّل ، وهو انكشاف أن لا فاعل الا الله وأنّ كلّ ما يطلق عليه اسم من الغنى والفقر والخلق الرزق والبسط والقبض والموت والحياة قد تفرّد المبدع الحقيقي بإبداعه واختراعه ، وبعد ذلك لاتنظر الا إليه ولاتخاف الا منه ، ولا تثق الا به ، حيث إنّ ماسواه مسخّرون تحت قدرته لااستقلال لهم بتحريك ذرّة.
     والمانع عن هذه المشاهدة أحد أمرين :
     أوّلها : الالتفات إلى الجمادات كالاعتماد على المطر في الزرع ، والغيم في الامطار ، والبرد في الغيم ، والريح في سير السفينة ووصولها ونجاتها ، « فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدّين فلمّا نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون » (1) أي يقولون لولا استواء الريح لما نجونا هذا جهل وغرور عظيم من الشيطان الرجيم كالتفات من نجا من ضرب السيّاف لرقبته بتوقّيع الملك إلى قلم الكاتب ودواته وكاغذه دون الملك الآمر والكاتب الموقع ، ولو علم أنّه لا حكم للقلم وإنّما هو مسخّر في يده لم يلتفت الا إليه ، بل ربما أدهشه الفرح بذلك عن تصوّره القلم ونحوه ، وكلّ جماد وحيوان مسخّر تحت يد القدرة كذلك ، بل أعظم من ذلك.
     وثانيهما : وهو الخطر الأعظم الذي يغرّك به الشيطان بعد إياسه عن الأوّل الالتفات إلى اختيار العباد ، فيقول : كيف يكون الكلّ منه مع ماتشاهد من أنّ فلاناً يعطي ويمنع ويضرب ويقتل فكيف لاترجوه ولاتخاف منه وهو قادر عليك ، تشاهد ذلك بلاشكّ وريب ، فالقلم لايلتفت لكونه مسخّراً ، لكنّ الكاتب هو المسخّر له فتزلّ عنده الأقدام وتدهش فيه عقول
1 ـ العنكبوت : 65.
(489)
ذوي البصائر والأفهام ، الا من شاهد بنور الله كون الكاتب مسخّراً كالقلم وإن غلط من لم يشاهده لعجز بصره عن إدراك المسخّر [ الحقيقي له ، أي جبّار السماوات والأرضين ] (1) كالنملة التي تدبّ على الكاغذ ، فترى رأس القلم يسوّده وضيق حدقتها مانع عن وصول بصرها إلى أصابع الكاتب ، فضلاً عن نفسه ، وأرباب البصائر ينظرون بنور الله ويسمعون من كلّ ذرّة في الأرض والسماء بالنطق الذي أنطق الله به كلّ شيء حتّى سمعوا تقديسه وتسبيحه وشهادته على نفسه بالعجز بلسان فصيح ليس من لحم ودم وإنّما لم يسمعه الّذين هم عن السمع لمعزولون.
     وهذا النطق مع أرباب القلوب يسمّى مناجاة السرّ ، وهو ممّا لاينحصر ، لأنّه كلام مستمدّ من بحر كلمات الله الّتي ينفد البحر قبل نفادها ، ولو جيء بمثله مدداً ، وهي من الأسرار التي قبورها صدور الأحرار ، فلا يحكون بها لغيرهم ، لأنّ إفشاءها لؤم ، وهل رأيت قطّ أميناً على أسرار الملك نوجي بخفاياه فنادى بها على الملأ من الناس ولو جاز ذلك لما وقع النهي عنه ، ولما قال النبي صلى الله عليه وآله : « لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً » (2) بل ذلكر لهم حتى يبكوا ولايضحكوا.
     وهذا الاستماع من ذرّات عالم الملك والملكوت لايحصل الا بالإيمان بعالم الملكوت والتمكّن من المسافرة إليه واستماع الكلام من أهله ، وفيه جبال شاهقة وبحار مغرقة ، وفيافي تائهة ، ومنازل وعرة ، فمن كان أجنبيّاً عنه ولم يكن مستعدّاً للوصول إليه لم يمكنه ذلك ، بل كان اللازم عليه الردّ إلى التوحيد الاعتقادي الحاصل في عالم الملك بالعلم به بالأدلّة الدالّة على وحدة الفاعل كقولك : المنزل يفسد بصاحبين والبلد يفسد بأميرين. « ولو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا ». (3)
1 ـ ساقط من « ج ».
2 ـ المحجّة البيضاء : 1/269.
3 ـ الأنبياء : 22.

(490)
     وقد كلّف الأنبياء أن يكلّموا الناس على قدر عقولهم ، وقد أشرنا إلى أنّه يصلح أيضاً أن يكون عماداً للتوكّل إذا قوي ، وأن يتسارع إليه الضعف والأضطراب فاحتاج إلى حارس من الأدلة الكلامية بخلاف المشاهد حيث إنّه لو كشف له الغطاء ماازداد يقيناً ، وإن ازداد وضوحاً.
     فإن قيل : جميع ماذكر مبني على كون الأسباب والوسائط مسخّرات تحت القدرة الأزلية ، وذلك ظاهر في ماسوى أفعال العباد ، وأمّا فيها فإنّه مخالف لما يشاهد منه من حركاته وسكناته ، ولما تحقّق بالأدلّة الشرعية من التكليف والثواب والعقاب والوعد والوعيد.
     قلت : قد عرفت سابقاً أنّ الأمر بين الأمرين الذي وردت به النصوص وعليه بناء الشيعة في أفعال العباد هو كون الفعل صادراً من العباد بدون واسطة باختيارهم وإرادتهم وإن كان الاختيار والإرادة كسائر الأسباب من أفعاله تعالى ضرورة استناد الممكن إلى علّة واجبة والا لزم التسلسل وهو محال.
     ولو قيل : يلزم منه الجبر.
     قلت : لو انكشف لك الغطاء علمت أنّك في عين الاختيار مجبور ، فأنت إذن مجبور على الاختيار ولاقصور في ذلك ، كما عرفت ، والزائد على هذا القدر ممّا لايمكن التصريح به ولا كشف الغطاء عنه الا بالانكشاف الحاصل من المجاهدات ، فالأحسن هو التأدّب بأدب الشرع ، والإعراض عن كشف الأسرار الغير الجائز عقلاً وشرعاً.
     فإن قيل : هذا المعنى من التوحيد الذي بنيت عليه التوكّل وهو أنّه لافاعل الا الله ينافي ماثبت من الشرع من كون الأفعال للعباد ، إذ كيف يمكن إسناد الفعل الواحد إلى فاعلين ؟
     قلت : ذكرت لك أنّ الجهة مختلفة فنسبته إلى الله باعتبار استناد أسبابها إليه وإلى العبد بالاعتبار الآخر ، ولا مانع من الاطلاقين مع اختلاف
كشف الغطاء ::: فهرس