كتاب كشف الغطاء ::: 491 ـ 500
(491)
الجهات ، كما لايمنع عن إطلاق القاتل على الجلّاًد والأمير ، ولذا ترى القرآن مشحوناً من هذين الاطلاقين.
     « قل يتوفّاكم ملك الموت الّذي وكلّ بكم ». (1)
     « الله يتوفّي الأنفس حين موتها ». (2)
     « قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم فلم تقتلوهم ولكنّ ال لهقتلهم ». (3)
     « وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ». (4)
     وإلى هذا المعنى من التوحيد أشار لبيد : ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل. فقال صلى الله عليه وآله : « إنّه أصدق كلمة [ قالها لبيد ] ». (5)
     وأما الثلاث الأخر فهي من متفرعات التوحيد المزبور ، إذ لايتمّ الا بالإيمان بالقدرة العامة وهو واضح ، وبالرحمة والعناية والحكمة ، فإنّ التوحيد يورث النظر إلى مسبّب الأسباب ، والإيمان بها يورث الوثوق به وهو يورث التوكّل ، فلو صدّقت تصديقاً يقينيّاً بأنّ ما حصل في عالم الإمكان مرتّب على النظام الأصلح الذي لايعترية ريب ولاقصور ولا تفاوت ولافطور (6) على ما ينبغي وكما ينبغي وبالقدر الذي ينبغي وأنّ أفعاله جميعاً عدل محض لا جور فيه ، وليس في الامكان ما هو أتمّ منه وأكمل ، وأنّه ولو كان وادّخر مع القدرة كان بخلاً يناقض الجود وظلماً ينافي العدل ، ولو لم يقدر كان عجزاً ينافي الالهية ، وأنّ كلّ بالنسبة إلى ما تحته ، فلو لا الليل ما عرف النهار ، ولولا المرض ماعرف قدر الصحّة ، ولولا البهائم ما عرف
1 ـ السجدة : 11.
2 ـ الزمر : 42.
3 ـ التوبة : 14.
4 ـ الأنفال : 17.
5 ـ المحجّة البيضاء : 7/403 مع اختلاف وما بين المعقوفتين في « ج » فقط.
6 ـ كذا ، والظاهر : فتور.

(492)
شرف الإنس وهكذا ، وأنّ تقديم الكامل على الناقص محض العدل ، فالكمال والنقص يعرفان بالاضافة حصل لك الوثوق التامّ بأفعاله تعالى ومنه يحصل التوكّل فإنّ الموكل لغيره في خصومة لايعتمد على وكيله اعتماداً تامّاً يسكن إليه ويثق به الا بعد علمه بكون الوكيل عالماً عارفاً بمواقع التلبيس حتى لا يخفى عليه شيء ، وقادراً على إحقاق الحقّ وإفصاحه حتّى لايداهن ولايخاف ولا يستحيي ولا يجبن في إجراء الحقّ والتصريح به ، ولايكلّ لسانه في المعارضة ، ومشفقاً على موكّله معتنياً به حتى يهمّ بأمره ويسعى في الظفر على خصمه ، وكلّما ازداد علمه بحصول هذه الخصال فيه قوي وثوقه به ولم ينزعج قلبه إلى الإهتمام بالحيلة والتدبير لدفع ما يحذره من قصور وتفوّق الخصم عليه.
     وهذا العلم له مراتب غير محصورة إلى أقصاه الذي لامرتبة فوقها كما في العلم الحاصل للولد بالنسبة إلى والده بمنتهى إشفاقه عليه وسعيه في جمع الحلال الحرام لأجله ، فإن ثبت في نفسك بكشف أو اعتقاد قوي جازم بأنّه لافاعل الا هو وأنّ له منتهى العلم والقدرة على كفاية العباد وغاية العناية واللطف بهم حصل الاتّكان منك عليه وترك الالتفات معه إلى نفسك فضلاً عن غيرك ، فكنت صادقاً في قولك لاإله الا الله وقولك لاحول ولاقوّة الا بالله.

تتميم
     لما تبيّن لك أنّ التوكّل عبارة عن الحالة المترتّبة على العلم بالأمور المذكورة فاعلم أنّ لها درجات ثلاث (1) :
     أوّلها : ما أشرنا إليه من كون حاله في الوثوق بكفالته عنه كوثوق الموكّل بالوكيل.
     وثانيها : كون حاله مع الله فيه كالطفل مع أمّه حيث لايعرف غيرها في
1 ـ كذا ، والصحيح : ثلاث درجات أو درجات ثلاثاً.
(493)
جلب نفعه ودفع ضرّه ، فلو رآها تعلّق بهاولم يخل عنها ، ومع غيبتها عنه يكون أوّل سابق على لسانه يا أمّاه! فهذا قد فنى في توكّله فلا يلتفت إليه بل إلى المتوكّل عليه فقط ، وكأنّه فطري له بخلاف الأوّل ، لكونه كسباً وتكلّفاً منه وله التفات إلى توكّله وهو مانع عن دوام الشهود للمتوكّل عليه.
     وثالثها : أن يكون بين يدي الله تعالى كالميّت بين يدي الغاسل فيرى نفسه ميّتاً تحت القدرة الأزليّة ، وهذا في غاية قوّة اليقين بكون الأشياء مستندة إليه تعالى ، فالصبيّ يفزع إلى أمّه ويصيح ويتعلّق بذيلها ويعدو خلفها ، بخلافه حيث إنّه انتظار محض فهو كمن يعلم أنّ أمّه من غاية إشفاقها عليه تحمله وتسقيه وإن لم يفزع إليها ولم يصح ولم يتعلّق بها ، وهذا المقام يثمر ترك السؤال والطلب منه تعالى كما قال الخليل عليه السلام :
     « حسبي من سؤالي علمه بحالي ، كفى علمه بحالي عن مقالي ». (1)
     فكم من نعمة ابتدأها قبل السؤال بدون استحقاق بخلاف ما قبله ، حيث يثمر ترك السؤال عن غيره تعالى خاصّة.
     هذا ، وقد قيل إنّه في الدوام كصفرة الوجل ، فإنّ انبساط القلب إلى الأسباب طبع وانقباضه عارض ، فلا يدوم.
     وأمّا الثاني فهو كصفرة المحموم ربما تدوم يوماً أو يومين ، والأوّل كصفرة مريض استحكم مرضه فلا يبعد أن يدوم أو يزول ، ولاينافي التدبير والسعي الذي يشير إليه وكيله ، ولاسيّما ما كان معروفاً من عادة الوكيل وسنّته ، والثاني ينفي كلّ تدبير سوى الدعاء والطلب منه تعالى ، والفزع إليه كتدبير الطفل في التعلّق بأمّه.
     والثالث ينفي كلّ تدبير وصاحبه كالمبهوت الواله.
     تنوير
     ما يكون خارجاً عن الطاقة بأن لايكون له أسباب قطعية أو ظنّية لجلبها
1 ـ جامع السعادات : 3/225.
(494)
أو دفعها أو تكون له مع عدم التمكّن منها يكون قضيّة التوكّل فيه ترك السعي فيه بالتدبير والتحمّل والحوالة إليه تعالى رأساً ، ومالم يكن خارجاً عنها بحصول ما يتمكّن منه من الأسباب القطعية أو الظنية ، أو إمكان التوصّل إليه فالسعي فيه لاينافيه بشرط أن يكون وثوقه به تعالى في حصوله لا بتلك الأسباب ، فترك الكسب والتدبير والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة بعيد عن الحقّ ، بل محرّم في ظاهر الشريعة لثبوت التكليف بطلب الرزق بالزراعة أو التجارة أو الصناعة ، وإبقاء النسل بالتزويج وغيره ، ودفع الأشياء الموذية بما عيّن له عادة ، فإنّها أسباب جرت عادة الله بترتيب المسبّبات عليها كجريان عادته بحصول التقرّب إليه بالعبادة ونحوها.
     نعم ينبغي عدم الاتّكال في حصولها عليها ، بل عليه تعالى والاعتماد على فضله ورحمته وعدم السكون إليها ، بل إلى قدرته وحكمته بتجويز قطعه تعالى الأسباب عن مسبّباتها وإعطائه السمبّبات من دون أسبابها ، وهذا في الأسباب القطعيّة أو الظنّية المطّردة النادرة التخلّف كمدّ اليد إلى الطعام للوصول إلى فيه وحمل الزاد للسفر وتحصيل بضاعة المتجر والوقاع للأولاد واتّخاذ السلاح للعدوّ والتداوي عن المرض وأمثاله.
     ولاينافيه التوكّل لما عرفت ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله للأعرابي لمّا أهمل بعيره وقال : توكّلت على الله : « اعقلها وتوكّل ». (1)
     وقال الله تعالى : « خذوا حذركم » (2) « وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ». (3)
     « وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ». (4)
1 ـ المحجّة البيضاء : 7/426.
2 ـ النساء : 71.
3 ـ النساء : 102.
4 ـ الأنفال : 60.

(495)
     وقال لموسى عليه السلام : « فأسر بعبادي ليلاً ». (1)
     وفي الاسرائيليات : أن موسى عليه السلام اعتلّ بعلّة فدخل عليه بنو إسرائيل فعرفوا علّته ، فقالوا له : لو تداويت بكذا لبرئت ، قال : لاأتداوى حتّى يعافيني الله من غير دواء ، فطالت علّته ، فأوحى الله تعالى إليه : وعزّتي وجلالي لاابر أتك حتّى تتداوى بما ذكروه لك ، فقال لهم : داووني بما ذكرتم فداووه فبرأ ، فأوجس في نفسه من ذلك ، فأوحى الله إليه : أردت أن تبطل حكمتي بتوكّلك عليّ ، فمن أدع العقاقير منافع الأعضاء غيري؟ (2)
     وروي أنّ زاهداً اعتزل الناس وأقام في سفح جبل وقال : لا أسأل أحداً شيئاً حتّى يأتيني ربّي برزقي فقعد سبعاً فكاد يموت ولم يأته رزق ، فقال : ربّي إن أحييتني فأتني برزقي الذي قسمت لي والا فاقبضني إليك ، فأوحى الله إليه : وعزّتي وجلالي لاأرزقك حتّى تدخل الأمصار وتقعد بين الناس ، فدخل وجاؤوه بطعام وشراب فطعم وشرب فأوجس في نفسه ، فأوحى الله إليه : أردت أن تذهب بحكمتي (3) بزهدك في الدنيا ، أما علمت أنّي أرزق عبدي بأيدي عبادي أحبّ إليّ من أن أرزقه بيد قدرتي؟ (4)
     وأمّا الموهومة كالاستقصاء في التدبيرات الدقيقة والحيل الخفيّة في تحصيل الكسب وجوهه فهي ممّا يبطل التوكّل ، إذ ليست مأموراً بها عقلاً ولا شرعاً ، بل ربّما كانت منهياً عنها ، وإنّما أمر بالإجمال في الطلب.
     تبصرة
     قيل (5) : من كمل يقينه بحيث غابت عنه مطلق الأسباب ولم يبق معه الا الالتفات إلى ربّ الأرباب فسكنت نفسه بفقدها لأجله عن الاشتغال
1 ـ الدخان : 23.
2 ـ المحجّة البيضاء : 7/432 ، وفيه : منافع الأشياء.
3 ـ كذا ، والصحيح : حكمتي كما في المصدر.
4 ـ المحجّة البيضاء : 7/415 ـ 416.
5 ـ راجع جامع السعادات : 3/229 ـ 230.

(496)
والاضطراب لم يكن عليه التمسّك بها مطلقاً ، فإنّ مثل هذا يحفظه وكيله ويصلح أموره كفيله ويشهد له ما حكي من فعل الكمّل لذلك ، وإن لم تغب عنه ، لكن مع اعتقاد جازم بعدم استناد التأثير إليها ، بل إلى الله فلا يجوز له الإعراض عنها وإلقاء نفسه في المهالك لأجلها.
     وأنا أقول : إذ تبيّن لك أن من عادته تعالى وسنّته التي لاتجد لها تبديلاً تفريع المسبّبات على الأسباب ، وعدم حصولها الا بها لزمه (1) التأسّي بسنّته تعالى في إجرائها منها ولم يجز الفضول في مثل ذلك اعتماداً على توكّله.
     وينبّه عليه ما في الخبرين السابقين ، فليست لأحد قوّة اليقين كما للأنبياء والرسل المقرّبين ، والمستحسن المطلوب منه هو القدر المشترك بين القسمين من عدم الاعتماد فيها الا عليه تعالى ، وهو حاصل بالفرض ، فلا حاجة إلى التخلّف عمّا جرت به عادة الله وترك التأدّب بأدب الشارع وما اقتضته الحكمة المحضة والمصلحة الأزليّة من ارتباط المسبّبات بالأسباب.
     وأمّا فعل الكمّل لما يوهم خلافه فله جهة أخرى ، وهي أنّ النفس إذا كملت بالارتياض حصلت لها قوّة وقدرة على تسخير الكائنات كما عرفت مراراً ، فهو اعتماد منهم على حصول الأسباب لهم على كلّ حال لعدم انحصارها فيما نظنّه أسباباً أو نقطع به وعدم اكتفائنا بذلك لعدم قدرتنا على سائر الأسباب ولا عليها في غير الوقت الذي جرت العادة بحصولها ، هكذا يليق أن يفهم هذا المقام فافهمه ، فإنّه من مزالق الأقدام.
     ثم قيل (2) : إنّ الاكتفاء بالاسباب الخفيّة من الجليّة كالمسافرة في البوادي التي لايطرقها الناس الا نادراً ، ليس كالإعراض عنها مطلقاً في كونه جنوناً محضاً على ماأشير إليه وحراماً صرفاً على ماثبت من الشرع ، بل الحريّ فيه التفصيل بأن المكتفي بها أن راض نفسه بحيث تصبر وتطمئنّ مع
1 ـ كذا في النسخ ، وفي هامش « ج » : « فاللازم هو التأسي ».
2 ـ هذا كلام أبي حامد ، راجع المحجّة البيضاء : 7/414 ـ 416.

(497)
الجوع أسبوعاً ونحوه وتقنع بالتقوّت بالحشيش وأمثاله جاز له ذلك ، وإن جاز عدمه أيضاً اتّباعاً لسنّة الأوّلين وجرياً على العادة الغالبة والا فلا يجوز له الا التمسّك بالأسباب الظاهرة ، وذلك لأنّ عدم الجواز إمّا للنهي عن ذلك وكونه إلقاء نفس في التهلكة وإمّا لأنّ غاية التوكّل وثمرته حصول السكون إلى الله تعالى حتّى لاتشتغل نفسه بغيره ولايمنعه عمّا يبطله من الشهود ، فلو لم تسكن نفسه الا بالأسباب الظاهرة لم يجز له التخلّف والإعراض عنها ، بل يجوز لمن لاتسكن نفسه عن الاضطراب المانع لملازمة أسباب السعادة الا بادّخار مال أو ذخيرة قوت لنفسه وعياله مدّة مديدة تركه ، بل يجب عليه ذلك قطعاً ، والعلّتان مفقودتان في الاولى ، لأنّ المفروض حصول السكون المطلوب له بذلك ، وعدم هلاكه به بعد حصول الشرطين فلا مانع عنه.
     وما يقال (1) : من أنّ ثقته حينئذ بها لا بالله فلم يكن متوكّلاً كلام قشري ، فإنّا إذا علمنا أنّ التمسّك بالأسباب الظاهرة بل ادّخار الأموال لاينافيه فإنّ مناطه إسناد التأثير إلى الله تعالى دونها ، فالتمسّك بها لعلمنا بأنّه تعالى لايجريها الا بها وأنّها مرتبطة في قضاء الله الأزلي بها ، فإذا لم يناف ذلك فهذا أولى فتسليم اختلاف مراتب التوكّل باختلاف مراتب اليقين وغيبوبة الأسباب عن النظر وعدمها ، ثم إنكار كون هذا الفرد توكّلاً تهافت لايليق بأهل التدقيق ، وبهذا التقرير الذي قرّرناه في كلام القائل يظهر وجه ماأورده عليه بعض الأفاضل مع جوابه.
     لكن أقول ظاهر الأخبار والأدلّة الشرعية لايساعد ذلك كما أشرت إليه ، وكذا ترجيح البقاء في البلد بين الناس مع الاشتغال بالفكر والعبادة وترك التكسّب توكّلاً على الله لا على الكسب بناء على أنّه ليس من قسم الإعراض عن الأسباب فإنّ العادة جارية بوصول رزق مثله إليه ، بل رزق
1 ـ القائل هو المحقّق الفيض وتبعه النراقي ـ رحمهما الله ـ ، راجع المحجّة : 7/416 وجامع السعادات : 3/231.
(498)
جماعة من أمثاله من الناس سيّما إذا شاهدوا منه الزهد والورع والتقوى ولم نشاهد إلى الآن من أمثاله من مات بين الناس جوعاً ، سيّما إذا كان قانعاً بالقليل فهو خلاف ما ورد في الشريعة وصدر عن أئمّتنا الهداة عليهم السلام ، بل هو تعرّض للذلّ وضرب على بواطن الناس وكلّ عليهم وهو مناف للحرية الممدوحة.
     والتحقيق ما قرّرته لك من أن المناط في التوكّل هو الثقة بالله وسكون النفس إليه دون الأسباب فلا دخل له بوجودها وعدمها وجلائها وخفائها.
     إرشاد
     قد علمت أنّ عمدة ما يحصل به التوكّل قوّة القلب وقوّة اليقين فعلاج من يريد تحصيله تقوبة قلبه بما ذكر في الجبن وأضداده وتقوية يقينه بالتذكّر لما ورد في مدحه أوّلاً من الآيات والأخبار والاعتبار بحكايات الماضين ممّن توكّل فانتظمت أموره وأحواله على أحسن النظام ، وممّن لم يتوكّل بل اعتمد على الأسباب فأهلكه الله وسلّط عليه من مفرّقات المسبّبات عن الأسباب مايعجز عن إدراكه عقول المدبّرين الصارفين عمرهم في دقائق الحيل والتدابير وهي في الكتب المطوّلة مذكورة على الألسن مشهورة ، والتجربة في أحوال أهل العصر ممّا يكفيك ويغنيك عن استماع الحكايات الماضية.
     ثم بالتفكّر في أنّك لمّا كنت جنيناً في بطن أمّك وعاجزاً عن السعي والاضطراب في تحصيل رزقك وصل مبدعك سرّتك بها حتّى ينتهي إليك بواسطتها فضلات غذائها ثم بعد انفصالك عنها سلّط عليها الحبّ حتّى كفلتك اضطراراً من اشتغال نار الحبّ في قلبها من الله تعالى حتّى احتملت لأجلك مرارة اليقظة والحرّ والبرد وأنواع المتاعب الغير المحصورة ، ولمّا لم يكن لك سنّ تمضغ به الطعام جعل رزقك من اللبن اللطيف ، فإنّ مزاجك يومئذ لرخاوته ما كان يحتمل الغذاء الكثيف حتّى إذا وافقك أنبت لك أسناناً قواطع لأجل المضغ وبعد كبرك هداك إلى ما يسّره لك من أسباب التعليم


(499)
وسلوك سبيل الآخرة ، وفي طول هذه المدّة كنت عاجزاً عن رزقك لا حيلة لك فيه فجبنك بعد بلوغك غاية الجهل ، إذ لم تنقص عنك أسباب معيشتك ، بل زادت بقدرتك على الاكتساب ، وشفقة أبويك وإن كانت مفرطة فإنّما هي من الله تعالى وكما هو قادر على إلجائهما في هذه المدّة على الإشفاق ، فكذلك قادر على إلجاء آخرين عليك فخلق في قلوب كافّة عباده رقّة ورحمة على اختلاف مراتبها فيهم بتألّمهم بعد العلم القطعي باحتياج محتاج فينبعث منها داعية رفعه عنه فالمشفق في الأوّل كان واحداً أو اثنين والآن أكثر من ألفين ، ولقد أجاد من قال :
جرى قلم القضاء بما يكون جنون منك أن تسعى لرزق فسيّان التحرّك والسكون ويرزق في غشاوته الجنين
     فقد دبّر الله الملك والملكوت تدبيراً كافياً لأهلهما فمن شاهده وثق بالمدبّر وأمن بأخباره وسكن إلى ضمانه ، نعم تدبيره يصل إلى من اشتغل به صنوف النعماء من الثياب الرفيعة السنيّة والمآكل البهيّة وأمثالها وإلى من اشتغل بعبادته ومعرفته ما يسدّ جوعه ويستر عورته ، وربما زاد عليه أيضاً فلا مانع من التوكّل عليه الا ميل النفس إلى التنعّم بنعماء الدنيا والانهماك في لذّاتها ، وهذا ينافي سلوك الخرة.
     والحاصل إنّ علم استناد الأشياء بأسرها إليه تعالى وعدم مدخلية غيره فيها فلا وجه لاضطرابه وعدم وثوقه ، وإن مال قلبه إلى الوسائط والأسباب فليعلم أنّ من جملتها التوكّل أيضاً لما عرفت من شهادة السمع والتجربة بكفاية الله أمر من توكّل عليه على أحسن وجه يتصوّره.
     ومن علامات حصول التوكّل استواء حالته لدى الفقر والغنى والنفع والخسران وطمأنينة النفس في ذلك من دون تزلزل واضطراب ، فإنّ الاضطراب لفقد الأشياء علامة السكون إليها ، وفّقنا الله لهذا الأمر الجليل وهو حسبنا ونعم الوكيل.


(500)
فصل
     الشكر خلق من أخلاق الربوبيّة ، قال الله تعالى :
     « والله شكور حليم » (1) وهو مفتاح السعادة وسبب الزيادة « لئن شكرتم لأزيدنّكم » (2) وبه يتحقّق الإيمان وبتركه الكفران الموجب للنيران « ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد » (3) ، ولغاية فضله قرنه بالذكر « فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ». (4)
     ولعلوّ رتبتهطعن الشيطان في نوع الانسان « ولاتجد أكثرهم شاكرين ». (5) وصدّقه الرحمن « وقليل من عبادي الشكور ». (6)
     وعن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وآله قام ليلة فبكى حتّى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ، ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى ، فلم يزل كذلك حتّى أذّن بلال ، فقلت : وما يبكيك يارسول الله ، فقد غفر الله من ذنبك ما تقدّم وما تأخّر؟ قال : « أفلا أكون عبداً شكوراً؟ ». (7)
     وإذا علمت أنّ من الشكر البكاء تبيّن أنّ اللائق بحلك إدامته.
     وفي الخبر : أنّ نبيّاً من الأنبياء مرّ بحجر صغير يخرج منه ماء كثير ، فتعجّب فأنطقه الله وقال : مذ سمعت قوله تعالى : « وقودها الناس والحجارة » (8) أبكي خوفاً ، فسأله أن يجيره من النار فأجاره ، ثم رآه بعد مدّة يخرج مثله ، فسأله عن ذلك ، فقال : كان ذلك بكاء الخوف ، وهذا بكاء
1 ـ التغابن : 17.
2 ـ إبراهيم : 7.
3 ـ إبراهيم : 7.
4 ـ البقرة : 152.
5 ـ الأعراف : 17.
6 ـ سبأ : 13.
7 ـ المحجّة البيضاء : 7/142 مع تلخيص.
8 ـ البقرة : 24.
كشف الغطاء ::: فهرس