كتاب كشف الغطاء ::: 541 ـ 550
(541)
ونذكر الآن حكم امتزاج قصد التقرّب بشيء آخر من الرياء وغيره من حظوظ النفس كالذي يحجّ ليصحّ مزاجه بحركة السفر ، ويتوضّا للتبريد ويصوم للحمية ويصلّي باللّيل دفعاً للنعاس عن نفسه ويغزو ليمارس الحرب ويتعلّم العلم ليسهل عليه طلب المال أو يعتزّ بين الناس ونحو ذلك ، فمهما كان الباعث قصد القربة وانضمّت إليه خطرة ممّا ذكر حتى خفّ عليه العمل بسببها فقد خرج عمله عن حدّ الإخلاص وتطرّق إليه الشرك ، وقد قال الله تعالى : « فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً ». (1)
     وبالجملة؛ حظوظ الدنيا قليلها وكثيرها إذا تطرّقت إلى العمل تكدّر بها صفوته وزال إخلاصه والإنسان منغمس في الشهوات ، قلّما ينفكّ فعل منه عن حظوظ عاجلة ، ومهما كان الباعث نفسها اشتدّ الأمر على صاحبها فيها.
     ثم إنّ هذه الشوائب كما أشير إليها في النيّة إمّا موافقة أو مشاركة أو معينة للباعث الديني ، والإخلاص تخليص العمل عنها بأسرها وهو لايتمّ الا لمستهتر بحبّ الله مستغرق الهمّ بالآخرة حتّى لايكون رغبته في الأكل والشرب الا من حيث التقوّي بهما على عبادته تعالى والا فبابه بالنسبة إليه مسدود إذ تكتسب جميع أفعاله وحركاته الصفة الغالبة في قلبه المهتمّ بها فلا تتمّ له عبادة الا نادراً ، ولذا قال سيّد الرسل صلى الله عليه وآله إذ سئل عن الإخلاص : « أن تقول ربّي الله ثم تستقيم كما أمرت » (2) أي لاتعبد هواك ونفسك ولاتعبد الا ربّك وتستقيم في عبادته كما أمرت ، فعلاج تحصيله كسر الحظوظ الدنيوية وقطع الطمع عنها بحيث يغلب على القلب التجرّد للآخرة ، فكم من عمل يتعب فيه الإنسان ويظنّ فيه الخلوص وهو مغرور لايدري وجه الآفة فيه فإنّه
1 ـ الكهف : 110.
2 ـ المحجة البيضاء : 8/133.

(542)
دقيق غامض ، وهم المرادون بقوله :
     « قل هل ننبّئكم بلأخسرين أعمالاً » (1) « وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون ». (2)
     فلابدّ للعبد من التفقّد الشديد والمراقبة لهذه الدقائق حتى لايلتحق بأتباع الشياطين من حيث لايشعر.
     تنبيه
     أعظم ما يشوّش لاإخلاص هو الرياء الظاهر كان يصلّي الرجل مخلصاً فيدخل جماعة فيقول له الشيطان : حسّن صلاتك حتى ينظروا إليك بعين الوقار والصلاح ، فلا يغتابوك ولا يستحقروا بك.
     ثم أن يفهم ذلك فيحترز منه ولا يلتفت إليه ويستمرّ في صلاته كما كان فيأتيه في معرض النصيحة فيقول : أنت متبوع ومنظور إليه فإذا اقتدى بك الناس كان لك ثواب أعمالهم إن أحسنت وعليك الوزور وإن أسأت ، فأحسن عملك حتّى يتأسّوا بك وهذا رياء غامض لايدركه كثير من الناس فإنّه مبطل للإخلاص لأنّ الخشوع إذا كان خيراً يرضاه لغيره فكيف لم يرض به لنفسه في الخلوة فليست نفس غيره أعزّ عليه من نفسه ، فالمقتدى به من استقام في نفسه واستنار قلبه فأنتشر نوره إلى غيره. وأمّا هذا فهو منافق ملبّس يطالب بتلبيسه ، وإن أثيب من اتّبعه.
     ثم أن يتنبّه لذلك فيحسن صلاته في الخلاء على الوجه الذي يرتضيها في الملأ حتى لايقع تفاوت بين خلائه وملئه ، وهذا أغمض أنواع الرياء ، لأنّ تحسين صلاته في الخلوة إنّما كان لأجل تحسينه في الملأ ، والإخلاص مساواة الخلق مع البهائم في نظره وهذا يشقّ على نفسه إساءة الصلاة في نظر الناس ، ثم يستحيي أن يكون في صورة المرائين فهو مشغول الهمّ بالخلق في
1 ـ الكهف : 102.
2 ـ الزمر : 47.

(543)
الخلاء والملأ جميعاً.
     ثم أن يتنبّه لذلك فلا يلتت إليه الا أنّه لما نظر إليه الناس قال له الشيطان : تفكّر في عظمه الله وجلاله ومن أنت واقف بين يديه واستح من أن ينظر إليك وأنت غافل عنه ، فيحضر بذلك قلبه وتخشع جوارحه ويظن أنّه الإخلاص مع أنّه عين المكر والخداع ، فإنّه لو كان كذلك لكانت هذه الخطرة تخطر في الخلوة أيضاً ، ولايختصّ بحالة حضور الناس.
     وعلامة الأمن من هذه الآفات أن يكون هذا الخاطر ممّا يألفه في الخلاء كما في الملأ ويكون حضور الناس عنده كالبهائم ، فمادام لم يفرق بينهما ليس خارجاً عن شوب الشرك وإن كان خفيّاً ، فإنّ بعض مراتبه أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء ، ولايسلم منه الا من سعد بعصمة الله وحسن توفيقه ، والشيطان ملازم للمتشمّرين للعبادة لايغفل عنهم ساعة حتّى يحملهم على الرياء في كلّ حركة حتى كحل العين وقصّ الشارب ولبس الثياب ، لترتّب الثواب عليها في بعض الأوقات ، وارتباط الحظوظ النفسيه بها ، والغشّ الذي يمزج خالص الذهب له درجات متفاوتة ، فمنها ما يغلب ، ومنها ما يقلّ ويسهل دركه ، ومنها ما يدقّ دركه ، وخبث النفس أغمض وأدقّ بكثير ، ولذا قيل : ركعتان من عالم أفضل من عبادة سنة من جاهل.
     واعلم أنّ العمل الذي لايراد به الا الرياء فهو سبب العذاب قطعاً ، والخالص لوجه الله سبب الثواب والتقرّب إلى ربّ الأرباب جزماً.
     وأمّا المشوب فظاهر بعض الأخبار أنّه لاثواب له وإن كان ظاهر بعضها خلافه ، وقد أشرنا في بحث الرياء إلى أنّه إن كان الباعث المشوب أحد المقاصد الصحيحة الراجحة شرعاً لم يبطل العمل والإخلاص ، وإن كان مقصداً دنيويّاً محضاً كان مبطلاً وموجباً للعقاب ، سواء كان أضعف أو مساوياً أقوى. هذا في الواجبات.


(544)
     وأمّا في المستحبّات فهي وإن لم توجب العقاب من حيث العبادة الا انّها تصير لغواً ، ويترتّب العقاب على الرياء. كذا قيل فتأمّل.
     وقال بعض العلماء (1) : والذي ينقدح بحسب الاعتبار أنّ الباعث الديني إن ساواه الباعث النفسي تقاوما وتساقطا فليس العمل له ولا عليه ، وإن غلبه فهو عليه لا له ، وإن كان بالعكس فبالعكس.
     فينبغي أن يكون دائماً في الاجتهاد متردداً في القبول والرد ، خائفاً من أن يكون في عبادته آفة يكون وبالها أكثر من ثوابها.
     وينبغي أن لايترك مع ذلك العمل خوفاً من وباله وآفته ، فإنّه منتهى بغية الشيطان ، إذ المقصود أن لايفوت الإخلاص ومهما ترك العمل فقد ضيّعهما معاً كما فصّلنا في بحث الرياء.
     وقيل (2) : في هذا الكلام نظر ، فإنّ إطلاق الأخبار يفيد كون شوب الرياء محبطاً للثواب والعمل ، كما تقدّم بعضها ، والنهي في العبادة موجب للفساد ، وقد قال الله تعالى : ( ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً ). (3)
     وأمّا إنّ لكلّ فعل وقصد تأثيراً خاصّاً فمع امتزاج القصدين يتحقّق الأثران ويبقى الخالص بعد التقاوم ، ففيه أنّ ذلك إنّما يصحّ إذا لم يبطله ضدّه ، فإذا كان قضيّة العقل والأخبار بطلان قصد القربة بما مازجه [ من ] غيره فلايبقى له حينئذ أثر حتّى يتّصف بالزيادة ويبقى الزائد سليماً عن المعارض.
     وأنا أقول : قد تبيّن لك أنّ قلع مغارس الرياء بدجاتها المتفاوتة في الظهور والخفاء بالكلّية عن القلب مشكل ، ولايمكن ذلك الا بقطع العلائق الدنيويّة بالمرّة والإقبال إلى الله بالكلّية ، وحينئذ فمتى لم يجاهد نفسه بحيث
1 ـ هو الغزالي كما في المحجّة البيضاء : 8/136.
2 ـ هو النراقي في جامع السعادات : 2/410.
3 ـ الكهف : 110.

(545)
يحصل له تلك المرتبة لم يتمكّن من الإخلاص الحقيقي الغير الممزوج بشيء من شوائب الرياء ولو بأنواعها الخفيّة الغامضة التي هي أخفى من دبيب انملة وحينئذ فكون الناس بأسرها مكلّفين بذلك ممّا ينجرّ إلى العسر والحرج ، بل التكليف بما لايطاق ، مع أنّه إذا خفي عليه ذلك لم يكن مكلّفاً ، فإنّ العلم شرط التكليف ، وإن قلنا بأنّ الجاهل غير معذور وأنّ مباديء العلم باختيار العبد فإنّ تحصيل تلك المباديء من العامة متعسّر بل متعذّر ، يلزم منه فساد النظام وبطلان المعائش ، وعلى هذا فالأحسن التفصيل بان الشوب الممزوج إن كان شوباً ظاهراً لا يخفى على العامّة أو خفيّا أدركه صاحبه واطّلع عليه كان مبطلاً والا فلا ، وإطلاق الأخبار منصرف إلى الأفراد ظاهرة المتبادرة التي هي مناط فهم العامّة فلا يضرّ حصول ما لايدركه العامّة إذا خفي عليه ذلك ولم يطّّلع على وجه شوبه ، بل أقول : الظاهر من الإخلاص المأمور به الإخلاص بحسب علمه الحاصل له في ظاهر الحال دون الفرد الكامل الغير المتحقّق الا بالنسبة إلى الفرد الكامل من الانسان.

فصل في الطهارة
     الطهارة لها أربع مراتب :
     أحدها : تطهير الظاهر من الأخباث والأحداث والفضلات.
     وثانيها : تطهير الجوارح من الجرائم والمعاصي والسيّئات.
     وثالثها : تطهير القلب عن مساوي الأخلاق وذمائم الملكات.
     ورابعها : تطهير السرّ عما سوى الله تعالى من المخلوقات ، وهي في كلّ مرتبة نصف العمل الذي يشترط بها ، إذ الغاية القصوى في عمل السرّ انكشاف جلال الله وعظمته وحصول الحبّ والأنس ، ولايحصل ذلك الا بارتحال ما سوى الله عنه.


(546)
     « قل الله ثم ذرهم » (1) فإنّ الله وغيره لا يجتمعان في قلب واحد.
     فنصف العمل تطهير القلب عمّا سوى الله ، والنصف الآخر ظهور الحقّ وإشراق نوره ، وفي عمل القلب عمارته بالأخلاق المحمودة والعقائد الحقّة ، ولا يتّصف بها مالم يتظّف عن نقائضها ، فتطهيرها عنها نصف وتحلّيها بأضدادها النصف الآخر ، وفي عمل الجوارح عمارتها بالطّاعات ، ولايمكن ذلك الا بطهارتها واجتنابها عن المعاصي فهو نصف ، والتحلّي بالطاعات نصف آخر ، وكذا الأولى.
     وإليه أشير في قوله صلى الله عليه وآله : « الطهور نصف الايمان ». (3)
     فإنّ المقصود تخلية البدن والنفس عن الذمائم والرذائل وتحلّيها بالمحاسن والفضائل ، وهذه المراتب ممّا يتفرّع بعضها على بعض ، فلا يصل إلى طهارة السرّ ممّا سوى الله وعمارته بمعرفته الا بطهارة الجوارح عن المعاصي وعمارتها بالطاعات ، ولايصل إليها الا بإزالة الأخباث والأحداث الظاهرة وعمارة الظاهر بانظافة.
     فائدة
     طهارة الظاهر إمّا عن الخبث أوعن الحدث أو عن فضلات البدن والأحكام الظاهرة مستقصاة في الكتب الفقهيّة ومن الآداب الباطنيّة لطهارة الخبث وإزالة عند التخلي لقضاء الحاجة تذكير نقصه وحاجته وخيث باطنه وخسّة حاله واشتماله على الاقذار وحمله لها ، ويعتبر من استراحة نفسه عند إخراجها وسكون قلبه عن دنسها وفراغه للعبادات والمناجاة استراحة
1 ـ الأنعام : 91.
2 ـ الأحزاب : 4.
3 ـ المحجّة البيضاء : 1/281.

(547)
نفسه الناطقة القدسية أيضاً من الأخلاق الذميمة التي هي نجاسات باطنية بإخراجها وتزكية نفسه عنها وطمأنينتها بذلك وند ذلك يصلح للوقوف على بساط الخدمة ويتأهّ للقرب إلى حريم العزّ ، فكما يجتهد في إخراج النجاسات الظاهرة وتحصيل الاستراحة منها مع كونها قليلة فانية ، فعليه الجتهاد في إخراج النجاسات الكامنة الغئصة في الأعماق من ذمائم الملكات ومساوي الأخلاق وتحصيل استراحة نفسه أبداً منها.
     قال الصادق عليه السلام : « سمّ المستراح مستراحاً لاستراحة النفوس من أثقال النجاسات واستفراغ الأقذار الكثافات فيها ».
     والمؤمن يعتبر عندها أنّالخالص من حطام الدنيا والمتخلّي عن شهواتها وأقذارها كذلك يصير في العاقبة فيستريح بالعدول عنها وبتركها ويفرغ نفسه وقلبه من شغلها.
     « فينبغي أن يستنكف عن جمعها وأخذها استنكافه عن النجاسة والغئط والقذر ويتفكّر في نفسه المكرّمة في حال كيف تصير ذليلة في حال ... إلى آخره ». (1)
     وأن يتفكّر في أنّ هذا الشيء الكريه الذي يفرح ويحرص في دفعه هو الذي كان يشتهيه ويحرص في طلبه ويستلذّ منه ، فما كان عاقبته كذلك فليحذر من أن يأخذه من غير حلّه فيعذب أبداً لأجله.
     ولطهارة الحدث أنّ يستحضر عند اشتغاله بها ان الحكمة في تكليف الشارع بها أن لايدخل في عبادة الله سبحانه ولايشتغل بمناجاته الا مع تطهير أعضائه التي باشر بها الأمور الدنيوية وانهمكت في كدوراتها والتبست منها ظلمة خرجت بسببها عن أهليّة القيام بين يديه تعالى.
     فإذا علم أنّ الباعث ذلك فليتنبه منه لأنّ مجرّد ذلك لايطهّرها عنها الا بعد انضمام تطهير القلب من العلاقة بها وعزمه على الرجوع إليه تعالى ،
1 ـ مصباح الشريعة : الباب 9 في المبرز ، مع اختلاف كثير.
(548)
والانقطاع عن الدنيا وشهواتها ، فإنّ الأعضاء كما عرفت خدّامه وأتباعه ، فما لم يتنوّر أوّلاً لم يسر نورانيّته إليها ولم ترتفع عنها ظلمة الأخباث والكدورات الحاصلة لها من مباشرة أمور الدنيا.
     ثم إنّه أمر في الوضوء أوّلاً بغسل الوجه الذي هو مجمع أكثر الحواسّ الظاهرة التي هي عمدة أسباب مباشرة الأمور الدنيويّة ليتوجّه بوجه قلبه إليه تعالى خالياً عن تلك الأدناس ، وثانياً بغسل اليدين لمباشرتها أكثر الأمور الدنيوية والشهوات الطبيعية المانعة عن الإقبال إلى الآخرة ، وثالثاً بمسح الرجلين للتوصّل بهما إلى أغلب المطالب الدنيوية فأمر بتطهيرهما جميعاً ليسوغ له الدخول في عبادة الله والإقبال إلى الله بعد إقباله إلى الدنيا.
     وفي الغسل بغسل جميع البدن ، لأنّ أدنى حالات الإنسان وأشدّها تعلّقاً بالملكات الشهوية حالة الجماع ولجميع البدن مدخل فيها كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله : « أنّ تحت كلّ شعرة جنابة » (1) فكان غسله أجمع مهمّاً في التأهّل لمقابلة الجهة الشريفة.
     وفي التيمّم بمسح الأعضاء بالتراب كسراً لتلك الأعضاء الرئيسة وهضماً لها بملاقاة التربة الخسيسة ، ولمّا كان القلب هو الرئيس الآمر لها بها يبعّده عن الربّ ، وهو موضع التفاته تعالى ، كما ورد « أنّ الله لاينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم » (2) فله الحظّ الأوفر والمقام الأليق في تطهيره عن الرذائل المانعة عن تحليته بالفضائل من الأعضاء الظاهرة عند الفطن العاقل ، فإذا لم يمكنه ذلك لغاية رسوخ تلك الملكات فيها فلا أقلّ من إقامته مقام الهضم والانكسار والذلّ والعجز والافتقار ، كما أنّ في الأعضاء مع عدم التمكن من الماء يذلّلها بوضعها على التراب عسى أن يرحمه ربّه بذلّه وانكساره ، فإنّه عند المنكسرة قلوبهم فيهبّه نفحة من نفحات نوره ،
1 ـ المحجّة البيضاء : 1/306.
2 ـ المحجّة البيضاء : 6/108 و312.

(549)
فيحصل للعبد بالتفطّن لهذه الإشارات حالة الاقبال إلى العبادات والتدارك لما فات.
     وقد ورد عن مولانا الصادق عليه السلام في مصباح الشريعة ما يستنبط منه هذه الإشارات مع زيادات أخر تظهر على من راجعه.
     وقال الرضا عليه السلام : « إنّما أمر العبد بالوضوء ليكون طاهراً إذا قام بين يدي الجبّار عند مناجاته بين يديه تعالى ، مطيعاً له فيما أمره ، نقيّاً عن الأدناس والنجاسة ، مع ما فيه من ذهاب الكسل وطرد النعاس وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبّار ، وانّما وجب على الوجه واليدين والرأس والرجلين ، لأن العبد إذا قام بين يديه تعالى فإنّما ينكشف عن جوارحه ويظهر ما وجب فيه الوضوء وذلك أنّه بوجهه يسجد ويخضع ، وبيده يسأل ويرغب ويرهب ويتبتّل ، وبرأسه يستقبله في ركوعه وسجوده ، وبرجليه يقوم ويقعد.
     وأمر بالغسل من الجنابة دون الخلاء لأنّ الجنابة من نفس الإنسان وهو شيء يخرج من جميع جسده ، والخلاء ليس من نفس الانسان ، إنّما هو غذاء يدخل من باب ويخرج من باب ». (1)
     ولطهارة البدن عن الفضلات كشعر الرأس بالحلق وشعر الأنف والحاجب وما طال من اللحية بالقصّ ، وشعر الإبط والعانة وسائر الأعضاء بالنورة ، وأظفار اليدين والرجلين بالقلم ، وما يجتمع من الوسخ والقمّل في شعر الرأس واللحية بالغسل والتسريح بالمشط ، وما يجتمع من الوسوخ في معاطف الأذنين بالمسح ونحوه ، وما يجتمع على الأسنان وأطراف اللسان بالسواك والمضمضة ، وفي الأنف من الرطوبات الملتصقة بالاستنشاق ، وما في رؤوس الأنامل ومعاطف ظهورها عقيب الأكل بالغسل وما يجتمع على البدن من الوسخ الحاصل من العرق والغبار ونحوهما بدخول الحمّام ، التذكّر لسرّها أوّلاً ، فإنّه يوجب تنوير القلب وانشراح الصدر وطرد
1 ـ المحجّة البيضاء : 1/308 نقلاً عن علل ابن شاذان ( عيون أخبار الرضا عليه السلام : الباب 34 ).
(550)
الشيطان.
     ومن تأمّل في الآداب والأفعال والأقوال الواردة من الشرع وترتيبها الخاص وتخصيصها بعدد أو الابتداء بموضع أو بواحد من المتماثلات عرف اشتمالها على حكمة البتّة.
     مثال ذلك أنّه صلى الله عليه وآله كان يكتحل في عينه اليمنى ثلاثاً واليسرى مرّتين ، فاليمنى أشرف فيبدأ به والتفاوت لتحصيل الوتر الذي هو من صفاته تعالى ، وخصوص الخمسة دون الثلاث ، لأنّ الواحدة لاتستوعب أصول الأجفان ، وتخصيص اليمنى بالزيادة لفضلها واختيار الزوج في اليسرى لتحصيل الإيتار في المجموع الذي هو كخصلة واحدة ، وكذا كلّ فعل ورد عنهم وإن كانت عقولنا قاصرة عن إدراك أكثرها.
     ويتذكّر داخل الحمام بحرّه حرّ النار ويستفيد منه.
     قال الصادق عليه السلام : « فإذا دخلت البيت الثالث فقل : نعوذ بالله من النار ونسأله الجنّة ، تردّدهما إلى وقت خروجك ». (1)
     وذلك لئلّا يغفل عن ذكر الآخرة لحظة ، فإنّ للعاقل في كلّ مايراه ويفعله عبرة وموعظة ، وكلّ ينظر بقدر فهمه فهمه وهمّته وشغله ، فالبنّاء إذا دخل داراً معمورة نظر إلى بنائها بعين الدقّة والبصيرة والنجّار إلى أبوابها وشبائكها ، والحائك إلى ثيابها وكيفيّة نسجها وهكذا سالك طريق الآخرة لاينظر إلى شيء من الدنيا الا ويعتبر إلى أمر من أمور الآخرة ، فإن تظر إلى ظلمة تذكّر ظلمة اللحد وإلى نار تذكّر نار جهنّم ، وإلى عقرب أو حيّة تذكّر حيّات جهنّم وعقاربها ، وإلى صوت هائل تذكّر نغمة الصور ، وإلى مأء حارّ تذكّر الحميم ، وإلى مطعوم مرّ تذكّر الزقّوم ، وإلى محاسبة قوم في مال تذكّر حساب يوم القيامة ، وهكذا.
1 ـ الفقيه : 1/113 ، باب غسل يوم الجمعة ودخول الحمام ، ح232.
كشف الغطاء ::: فهرس