كتاب كشف الغطاء ::: 581 ـ 590
(581)
والإصغاء ، وأعلى منه أن يرى في الكلام المتكلّم ، وفي الكلمات الصفات ، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى تلاوته ولا إلى إنعامه ، بل يكون مقصور الهمّ مستغرقاً في مشاهدة المتكلّم ، وهذا حال المقرّبين والصدّيقين ، وقد أخبر عنها سيّد الشهداء عليه السلام فقال :
     « الذي تجلى لعباده في كتابه ، بل في كلّ شيء ، وأراهم نفسه في خطابه ، بل في كلّ نور وفيء ». (1)
     وقال الصادق عليه السلام : « لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ، ولكن لايبصرون ». (2)
     وقد سبق منّا نقل قوله عليه السلام : « أردّدها حتّى سمعتها من المتكلّم بها ».
     ومنها : التبرّي عن حوله وقوّته ، فلا يلتفت إلى نفسه بعين الرضا والتزكية ، فإذا قرأ آيات الوعد فلا يدخل نفسه في زمرتهم ، ولا يلاحظ الا أهل الصدق واليقين ، ويسأله تعالى أن يلحقه بهم ، وإذا قرأ آيات المقت والعذاب شهد على نفسه بها ، وإليه أشار مولانا علي عليه السلام في وصف المتّقين :
     « وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم في آذانهم ». (3)
     قيل : « وإذا رأى القاريء نفسه بصورة التقصير في القراءة كان رؤيته سبب قربه ، فإنّ من شهد البعد في القرب لطف له بالخوف حتّى يسوقه إلى درجة أخرى في [ القرب وراءها ، ومن شهد القرب في البعد مكر به بالأمن الّذي يفضيه إلى درجة أخرى في ] البعد أسفل ممّا هو فيه ، وإذا شاهد نفسه بعين الرضا صار محجوباً بنفسه ، وإذا جاوز حدّ الالتفات إلى نفسه ولم يشاهد الا الله في قراءته انكشف له الملكوت بحسب أحواله ، فحيث
1 ـ جامع السعادات : 3/377.
2 ـ المحجّة البيضاء : 2/247.
3 ـ نهج البلاغة : الخطبة 193.

(582)
يتلو آيات الرحمة والرجاء وغلب عليه الاستبشار ظهرت له الجنّة فشاهدها عياناً كأنّه يراها ، وإن غلب عليه الخوف كوشف له النار حتّى كأنّه يرى أنواع عذابها ، فإنّ كلامه تعالى مشتمل على السهل اللطيف والشديد العسوف والمرجوّ والمخوف ، فبحسب مشاهدة الكلمات والصفات يتقلّب القلب في الحالات وبحسب كلّ حالة يستعدّ لمكاشفة مناسبة لتلك الحالة ، إذ يمتنع مع اختلاف الكلام اتّحاد حال المستمع ، إذ فيه كلام راض وكلام غضبان وكلام منعم وكلام منتقم وهكذا » (1) والله المستعان.

فصل
في الصدقة والصوم
     قد تقدّم في باب السخاء بعض الأسرار والآداب الباطنة المتعلّقة بالصدقات ، وفي باب الفقر والغنى ما يتعلّق بالسائل والفقير من الآداب.
     وأمّا الصوم فأجره عظيم وثوابه جسيم ، والآيات والأخبار الدالة عليه أكثر من أن تحصى ، ومن آدابه غضّ البصر عمّا لايحلّ إليه النظر أو يكره أو يلهيه عن ذكر الله واللسان عن آفاته المتقدّمة ، والسمع عن كلّ ما يحرم أو يكره استماعه ، والبطن عن المحرّمات والشبهات وسائر الجوارح عن كافّة المكاره.
     وقد ورد في اشتراط جميع ذلك أخبار كثيرة ، وأن لايستكثر من الحلال عند الإفطار بحيث يمتليء ، إذ ما من مباح أبغض إلى الله من بطن مملوّ كما تقدّم ، كيف والسرّ في شرع الصوم قهر الشهوة وكسرها لتقوى النفس به على الورع والتقوى والارتقاء من حضيض النفس البهيمية إلى ذروة التشبّه بالملائكة المقدّسين وماجرت به عادة الناس من الازدياد في ألوان
1 ـ القائل هو أبو حامد كما في المحجّة البيضاء : 2/248 ـ 249 ، وما بين المعقوفتين ساقط من النسخ أُثبتناه من المصدر.
(583)
المطعومات يؤدّي إلى تضاعف لذّتها وقوّتها وانبعاث ما كانت راكدة من الشهوات لو تركت على عادتها ، فلا يحصل تضعيف القوى الشهوية ، فلابدّ من التقليل حتّى ينتفع بصومه ، ولو جعل سرّه إدراك الأغنياء ألم الجوع والانتقال منه إلى شدّة حال الفقراء فيبعث على مواساتهم بالأموال والأقوات لم يتمّ أيضاً الا بالتقليل في الأكل ، وينبغي للصائم أن يكون قلبه معلّقاً بين الخوف والرجاء ، إذ لايدري أيقبل صومه أم لا ، وكذا في كلّ عبادة يفرغ منها.
     روي أنّ الحسن عليه السلام مرّ بقوم يوم العيد وهم يضحكون ، فقال : « إنّ الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه لطاعته ، فسبق أقوام ففازوا وتخلّف أقوام فخابوا ، فالعجب كلّ العجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه المسارعون وخاب فيه المبطلون ، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء عن إساءته » (1) أي يشغله سرور القبول وحسرة الردّ عن الضحك واللعب.
     ثم للصوم درجات ثلاث ، أدناها صوم العموم ، أي كفّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة ، وغايته سقوط العذاب والقضاء ، ثم صوم الخصوص ، أي كفّ جميع الجوارح عن المعاصي ، وعليه يترتّب ما وعد في الأخبار ، ثم خصوص الخصوص ، وهو الكفّ المزبور مع كفّ القلب عن الهمم الدنيّة والأخلاق الرذيلة ، والأفكار الدنيوية ، بل عمّا سواه تعالى بالكلّية ، ففطره بالالتفات إلى ما سواه تعالى. « قل الله ثمّ ذرهم ». (2)
     وهو درجة الأنبياء والصدّيقين ، ويتفرّع عليه الوصول إلى الشهود والفوز بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
     وإليه أشار الصادق عليه السلام حيث قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله الصوم جنّة أي
1 ـ المحجّة البيضاء : 2/135.
2 ـ الأنعام : 91.

(584)
سترة من آفات الدنيا وحجاب من عذاب الآخرة ، فإذا صمت فانو بصومك كفّ نفسك عن الشهوات وقطع الهمّة عن خطرات الشيطان ، فأنزل نفسك منزلة المرضى لاتشتهي طعاماً ولا شراباً متوقّعاً في كلّ لحظة شفاءك من داء الذنوب وطهّر باطنك من كلّ كدر وغفلة وظلمة يقطعك عن معنى الإخلاص لوجه الله ... الحديث ». (1)
     ففوائد الصوم كثيرة منها : إماتة موادّ الشهوات ، وصفاء القلب وطهارة الجوارح ، والشكر على النعم ، والإحسان إلى الفقراء ، وزيادة الخضوع والخشوع والبكاء ، فهو سبب لانكسار الهمّة وتخفيف الحساب وتضاعف الحسنات.
     تذنيب
     من صام شهر رمضان تقرّباً إلى الله مع تطهير باطنه عن ذمائم الأخلاق وظاهره عن المعاصي ولم يأكل الا القليل من الحلال بحيث أحسّ بألم الجوع وواظب على الأدعية والنوافل وسائر آدابه استحقّ المغفرة والخلاص من النار بمقتضى الأخبار والاعتبار ، فإن كان من العامّة حصل له من صفاء النفس ما يوجب استجابة دعائه ، وإن كان من الخواصّ فعسى الشيطان لايحوم حول قلبه ، وينكشف له في ليلة القدر شيء من الملكوت ، إذ فيها تنكشف الأسرار وتفاض على القلوب الطاهرة الأنوار ، والعمدة تقليل الأكل بحيث يحسّ بألم الجوع ، إذ يستحيل أن ينكشف على الشيطان شيء من أسرار الايمان ، والله المستعان.

فصل
     في الحجّ ، وهو من معظم الأركان وأحكامها الظاهرة محوّلة إلى الفقهاء.
1 ـ مصباح الشريعة : الباب 20 ، في الصوم.
(585)
     وأمّا السرّ في وضعه وشرعه فهو أنّ المقصد الأصلي من خلق الإنسان معرفة الله الوصول إلى حبّه وأنسه المتوقّفين على صفاء النفس المتوقف على كفّها عن الشهوات وانقطاعها عن الدنيا وإيقاعها في ما يشقّها من أعمال القلب والجوارح ، وهذا هو المقصود من وضع العبادات ، إذ بعضها كالصدقات والخمس إنفاق موجب للانقطاع عن حطام الدنيا ، وبعضها كفّ للنفس عن الشهوات كالصوم ، وبعضها تجرّد للذكر ، وتوجيه القلب إليه تعالى الغير المتحقّق أيضاً الا بالانقطاع عن علائق الدنيا.
     والحجّ من بينها مشتمل على جميع ما ذكر مع زيادة ، ففيه هجر الأوطان وقطع المنازل البعيدة بتعب الأبدان ، والإنفاق مع تحمّل المشاقّ ، وتجديد العهد والميثاق والتجرّد للأذكار والعبادات بصنوف الطاعات ، مع كون كثير منها ممّا لايهتدي إليها العقول ، ولايستأنس بها الطباع كرمي الجمار بالأحجار ، وتكرار السعي بين الصفا والمروة مع الهرولة بين المنارتين ، فيظهر فيها كمال الإخلاص والعبوديّة ، لأنّ مايفهم سرّه العقل يكون معيناً للشرع على فعله بخصوصه بخلاف ما لايدركه ، فإنّه لايعينه على الخصوصن وإنّما يأمره بالإطاعة والامتثال إجمالاً ، وهذا أحد الأسرار في وضع التعبّديات.
     هذا ، مع دلالة كلّ من أعماله على بعض أحوال الآخرة كما يأتي ، مع ما فيه من اجتماع الخلق الكثير والوصول إلى موضع نزول الوحي وهبوط الملائكة على الرسول الأمين وقبله على الخليل ومجمع الأنبياء والمرسلين ، ومحلّ ولادة سيّد المرسلين وخير الوصيّين ، وتشرّف أماكنها بتوطّىء أقدامهم الشريفة ، مضافاً إلى الشرافة الحاصلة من الإضافة إلى نفسه ، وجعل ما حوله حرمناً آمناً يأوي الناس إليه وعرفات ميداناً لحرمه وأكدّ حرمته بتحريم صيده وقطع شجره ، وأمر الناس بقصده من كلّ فجّ عيمق شعثاً غبراً متواضعين له مع الاعتراف بتنزّهه عن المكان.


(586)
     ولا ريب في أن الاجتماع في مثله مع ما فيه من الإلف والأنس ومجاورة الأبدال والأوتاد والأخيار المجتمعين من أقطار البلاد وتعاون النفوس على التضرع والابتهال الموجب لسرعة الاجابة وذكر النبي صلى الله عليه وآله وإجلاله الموجب لرقة القلب وصفاء النفس (1) ، هذا ، والحج لكونه من أعظم التكليفات وأشقها كالرهبانية لهذه الأمة ، فإنه لما اندرست الأعمال الشاقة والرياضات الصعبة المعهودة في الأمم السالفة بسبب الفترة ، وأقبل الناس على الشهوات وهجروا الطاعات والعبادات بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله لإحياء طريق الآخرة وتجديد سنة المرسلين ، فسأله أهل الملل عن الرهبانية والسياحة في دينة ، فقال صلى الله عليه وآله : « أبدلنا بالرهبانية الجهاد والتكبر على كل شرف يعني الحج ـ وابدلنا بالسياحة الصوم ». (2)
     وهذه نعمة عظيمة من الله على هذه الامة.
     وأما آدابه الباطنة : فاعلم أنه ينبغي للحاج عند توجهه إلى الحج مراعاة أمور :
     أحدها : تجريد النية لله من غير شائبة ، فلا يكون غرضه إلا امتثال أمر الله ونيل ثوابه والحذر من عذابه ، وكلما دخل شوب الرياء أو الخوف من تفسيق الناس أو من الفقر لما اشتهر من أن تاركه يبتلى به أو قصد التجارة أو شغل آخر كان مخرجاً له عن الإخلاص وحاجباً عن الوصول إلى الغاية المقصودة ، وما أجهل حال من تحمل مثل هذه المشقة العظيمة لخيالات ضعيفة لايترتب عليها سوى الخسران ، ولايفهم أن من أقبح قصد الملك وحريمه لذلك.
     والثاني : التوبة الخالصة ورد المظالم وقطع العلاقة الباعثة للالتفات إلى ماوراءه ليتوجه إليه تعالى بوجه قلبه ويقدر أنه لايعود وليكتب وصيته لأهله
1 ـ كذا ، والجملة كما ترى لاخبر لها.
2 ـ المحجة البيضاء : 2/197 مع اختلاف.

(587)
     وأولاده ويتهيّأ لسفر الآخرة ، ويذكر عند تهيئة أسباب الحج وقطع العلائق لسفره تهيئة أسباب الآخرة وقطع العلائق لأجله فما أشبه هذا السفر به.
     والثالث : تعظيم قدر البيت وربّه ويعلم [ أنّ ] تركه للأهل والأوطان للعزم على أمر رفيع الشأن أي زيارة بيت الله التي لاتضاهي أسفار الدنيا ، فليحضر في قلبه ماذا يقصد ، وأنّه زيارة ملك الملوك بزيارة بيته حتّى يرزق منتهى مناه فيسعد بالنظر إلى مولاه فينوي أنّه أدركته المنيّة قبل الوصول لقي الله وافداً إليه بمقتضى وعده.
     والرابع : أن يفارق في سفره عمّا يشغل قلبه في الطريق أو الطريق أو المقصد من معاملة ونحوها حتى يكون همّه مجرّداً لله ، والقلب مطمئنّاً في ذكره وتعظيم شعائره متذكّراً في كلّ حركة وسكون ما يناسبه.
     والخامس : أن يكون زاده حلالاً ويوسّع فيه ويطيّبه ولايغتمّ ببذله وإنفاقه ، إذ إنفاق المال في سبيل الحجّ إنفاق في سبيل الله والدرهم منه بسبعمائة.
     وكان السجّاد عليه السلام إذا حجّ تزوّد من أطيب الزاد من اللوز والسكّر والسويق المحض (1) والمحلّى.
     نعم يكره الإسراف بطلب التنعّم والترفّه بصرف أنواع الأطعمة كما هو عادة المترفين.
     وأمّا كثرة البذل على المستحقّين فليس بإسراف إذ لا خير في السرف ولاسرف في الخير ، وإن ضاع منه شيء فليطيّب نفسه ولا يجزع من المصائب التي تدركه ، فإنّ درهماً يضيع في هذا السفر يوازي سبعمائة في سبيل الله كما ورد.
     والسادس ، حسن الخلق وكثرة التواضع والاجتناب عن الفظاظة والغلظة في الكلام والرفث أي كلّ فحش ولغو ، والفسوق أي ما يخرجه عن
1 ـ كذا ، والصحيح : المحمّض كما في الفقيه : 2/282 ، كتاب الحج ، باب الزاد في السفر.
(588)
طاعة الله ، والجدال هو المبالغة في الخصومة والمماراة بما يورث الضغائن ، وليس حسن الخلق مجرّد كفّ الأذى ، بل احتمال الأذى ولين الجانب وخفض الجناح بالنسبة إلى الرفيق والمكاري وسائر الأصحاب.
     والسابع : أن يكون أشعث أغبر غير مائل إلى أسباب التفاخر والتكاثر ، فيدخل في المتكبّرين ويخرج من سلك الضعفاء والمساكين ، وإن أمكنه المشي مشي في المشاعر ، فما عندالله شيء أفضل منه إن قصد به رياضة النفس ومشقّتها في سبيل الله ، فلو قصد قلة الإنفاق كان الركوب أفضل ، وكذا إن ضعف عن العمل.
     وكان الحسن بن علي عليه السلام يمشي ويساق معه المحامل ، وإذا أراد الركوب فليشكر الله بقلبه على تسخيره الدوابّ ليتحمّل عنه الأذى ويخفّف عنه المشاقّ ، وليرفق بالدابّة ولايحمّلها ما لاتطيق.
     ثم إذا خرج من وطنه وقطع البوادي مشاهداً للميقات والعقبات فليتذكّر مابين الخروج عن الدنيا بالموت إلى يوم القيامة وما فيها من الأهوال ومن هول السارقين هول منكر ونكير ، ومن سباع البوادي وحيّاتها وعقاربها حيّات القبر وأفاعيها وعقاربها وديدانها ، ومن انفراده عن أهل بيته وحشة القبر وكربته.
     وبالجملة؛ يتذكّر في كلّ هول وخوف هول الموت والخوف ممّا بعده.
     ثم إذا دخل الميقات ولبس ثوبي الإحرام تذكّر لبس الكفن ، فكما لايلقى الله في بيته بزيّه وعادته ، فكذا لايلقاه بعد الموت الا بذلك ، وهذا الثوب قريب منه ، إذا ليس مخيطاً.
     وإذا أحرم ولبّى تذكّر أنّها إجابة نداء الله تعالى ، فليتردّد في الردّ والقبول ترددّ الراجي الخائف متّكلاً على حول الله وقوّته وفضله ورحمته ، فإنّ التلبية أوّل أمره وهو حينئذ في محلّ الخطر.
     وقد روي أنّ عليّ بن الحسين عليه السلام كان إذا أحرم استوت به راحلته


(589)
يصفرّ لونه ويرتعد أعضاؤه ولا يستطيع أن يلبّي ، فقيل : لم لاتلبّي؟ فقال : أخشى أن يقول ربي : لالبّيك ، ولمّا لبّى غشي عليه وسقط من راحلته ولم يزل يعتريه ذلك حتّى يقضي حجّه. (1)
     وليعتبر من هذا النداء نداء يوم النفخ في الصور ، وحشر الخلق من القبور عراة حفاة مزدحمين وإلى المقبولين والمردودين والمقرّبين والمرودين منقسمين مع كونهم جميعاً في أوّل الأمر متردّدين منسجمين (كذا).
     ثم إذا دخل مكّة تذكّر دخوله للحرم الذي من دخله أمن فيرجو أمنه من عذاب الله وسخط ، مع الخوف عن الطرد والعبد واستحقاق الخيبة والمقت مع غلبة رجائه ، فإنّ شرف البيت عظيم وصاحبه بمن رجاه كريم ، وباب الرحمة واسع غير مسدود ، وحقّذ الوافد منظور ، والمستجير غير مردود ، وليشكر الله على إيصاله إلى بيته وإلحاقه بالزائرين له الوافدين إليه ، ويسأله أن يرزقه لقاءه كما رزقه الوصول إلى بيته.
     ثمّ ليملأ قلبه عند الطواف من التعظيم والحبّ والخوف والرجاء وليتذكّر حينئذ أنّه متشبّه بالملائكة الطائفين حول عرشه ، وأنّ المقصود طواف القلب بذكر ربّ البيت لامجرّد طواف الجسم بالبيت ، فليبتديء في ذكره به ويختم به كما يبدأ في الطواف من البيت ويختم به ، فروح الطّواف طواف القلب بحضرة الربوبية والبيت مثال في عالم الشهادة لتلك الحضرة الغير المدركة بالبصر وهو عالم الغيب الذي يتوصّل إليه وإلى عالم الملكوت بعالم الشهادة لمن فتح له الباب.
     ويشير إلى ما ذكرناه ما ورد من أنّ البيت المعمور في السماوات بإزاء الكعبة ، والملائكة يطوفون بها كطواف الإنس بها.
     ثم يتذكّر عند استلام الحجر أنّه يمين الله في أرضه يصافح بها خلقه
1 ـ المحجة البيضاء : 2/201.
(590)
مصافحة العبد أو الدخيل (1) ، كما قاله الرسول صلى الله عليه وآله وهو تشبيه في كونه واسطة بين الله وعباده في النيل والوصول والرضا والتحبيب.
     وينوي في الإستلام والالتصاق بالمستجار وغيره من أجزاء البيت طلب القرب حبّاً وشوقاً للبيت وصاحبه ، ورجاء التحصّن عن النار في كلّ جزء لاقاه ببركته.
     وفي التعلّق بأستاره العجز والإلحاح في العفو والأمان كالمتعلّق بثياب من يتضرّع ويلتمس منه باعتقاد إنّه لا ملجأ منه الا إليه ، فلا يفارق ذيله الا بعفوه عنه وأمانه له.
     ثم السعي بين الصفا المروة يضاهي تردّد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً مرّة بعد أخرى إظهاراً للخلوص في الخدمة ورجاء للنظر بعين الرحمة ، وليتذكّر تردّده بين الكفّتين (2) ناظراً إلى النقصان والرجحان متردّداً بين العذاب والغفران.
     وأمّا الوقوف بعرفات فليتذكّر عند ازدحام الخلق وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم واتّباع كلّ فرقة لأئمّتهم في التردّد في المشاعر عرصات يوم القيامة وأهوالها واتشار الخلق فيها حيارى واقتفاء كلّ أمّة لنبيّهم وطمعهم في شفاعة الأنبياء لهم.
     ثم ليتضرّع إلى الله ويبتهل لقبول حجّه وحشره في زمرة الفائزين مع رجائه ، فإن اليوم شريف والموقف عظيم والنفوس مجتمعة والقلوب إليه تعالى منقطعة وأيدي الناس إلى الحضرة الربوبيّة مرتفعة والأعناق مادّة والأبصار شاخصة ولايخلو الموقف عن الأبدال والأخيار وأرباب القلوب ، فلا يستبعد حصول الفيض بواسطتهم إلى كافّة الخلق ، ولا يظنّ بلطفه وكرمه أن يضيّع سعي الجميع فلا يرحم غربتهم وانقطاعهم عن الأهل والأولاد.
1 ـ كذا ، وفي الكافي (4/406) : العبد أو الرجل.
2 ـ أي بين كفّني الميزان في القيامة.
كشف الغطاء ::: فهرس