كتاب كشف الغطاء ::: 591 ـ 600
(591)
ولذا ورد أنّه من أعظم الذنوب أن يحضر عرفات ويظن أنّه لا يغفر له.
     وإذا أفاض من عرفات ودخل المشعر فليتذكّر عند دخوله فيه إذنه له في دخول حرمه بعد ما كان خارجاً منه ، لأنّ المشعر من جملته ، عرفات خارجة منه ، فليتفأّل من دخوله بعد خروجه قبول حجّه وقربه منه تعالى وأمنه من العذاب وصيرورته من أهل الجنّة.
     فإذا ورد منى ورمى الجمار قصد الأمتثال والعبوديّة والتشبّه بالخليل عليه السلام حين عرض له الشيطان لإفساد حجّه ، فأمره الله برمي الجمار إليه طرداً له ، وأنّه في الحقيقة رمي للشيطان وطرد له وإرغام لأنفه في امتثال الباري وعبوديّته.
     فإذا ذبح الهدي أشار إلى أنّه بفعل الحج غلب على النفس والشيطان وقتلهما فاستحقّ به الرحمة والغفران ، كما ورد أنّه يعتق بكلّ جزء الهدي عضو منه من النار.
     وليجتهد في أن يكون عمله بعد ذلك أحسن ممّا قبله حتّى يكون مصدّقاً لفعله وعلامة لقبول حجّة كما ورد في الخبر.
     تتمّة
     قال الصادق عليه السلام : « إذا أردت الحجّ فجرّد قلبك لله من كلّ شغل مشاغل وصحاب كلّ صاحب وفوّض أمورك كلّها إلى خلقك ، وتوكّل في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك وسلّم لقضائه وحكمه وقدره ، وودّع الدنيا والراحة والخلق ، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين ، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقومك وثيابك ومالك مخافة أن يصير ذلك عدواً ووبالاً ، فإن من ادّعى رضا الله تعالى واعتمد على ماسواه صيّره عليه وبالاً وعدوّاً ، ليعلم أنّه ليس له قوّة وحيلة ، ولا لأحد الا بعصمة الله وتوفيقه.
     فاستعدّ استعداد من لايرجو الرجوع ، وأحسن الصحبة ، وراع أوقات


(592)
فرائض الله وسنن نبيّه ، وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر الشفقة والسخاوة وإيثار الزاد على دوام الأوقات.
     ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك والبس كسوة الصدق والصفا والخضوع والخشوع وأحرم من كلّ شيء يمنعك عن ذكر الله ويحجبك عن طاعته ، ولبّ بمعنى إجابة صادقة صافية خالصة زاكية لله في دعوتك متمسّكاً بالعروة الوثقى ، وطف ببقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت ، وهرول هرولة من هواك ، وتبرّاً من حولك وقوّتك ، واخرج عن غفلتك وزلّاتك بخروجك [ إلى منى ] ، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك ولاتستحقّه ، واعترف بخطاياك بعرفات ، وجدّد عهدك عند الله بوحادنيّته والقرب إليه ، واتّقه بمزدلفة ، واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك على الجبل ، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة ، ورام الشهوات والخساسة والدناءة عند رمي الجمرات ، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق رأسك ، وادخل في أمان الله وكنفه وستره وكلائته من متابعة مرادك بدخول الحرم ، و[ زر ] البيت متحقّقاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه ، واستلم الحجر رضاً لقسمته وخضوعاً لعزّته ، وودّع ماسواه بطواف الوداع ، وأصف روحك وسرّك بلقائه يوم تلقاه بوقوفك على الصفا ، وكن بمرئى من الله نقياً أوصافك عند المروة ، واستقم على شرط حجتك هذه ووفاء عهدك الذي عاهدت مع ربّك وأوجبته له إلى يوم القيامة ... الحديث ». (1)

فصل
     في زيارة مشاهد النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الطاهرين عليه السلام.
     فاعلم أنّ النفوس القدسيّة سيّما نفوس الأئمّة عليه السلام المعصومين من
1 ـ مصباح الشريعة : الباب 22 في الحج مع اختلاف في كثير من الموارد ومنها ما جعلته بين المعقوفتين.
(593)
أدناس كل خطيئة إذا فارقوا أبدانهم واتّصلوا بعالم القدس والمجرّدات صارت غلبتهم وإحاطتهم بهذا العالم أقوى ولهم التمكّن من التصرّف في عالم الملك وتغيّر أجزائه عن مقتضى طباعها بعد مماتهم ، كما كان في حال فهم « أحياء عند ربّهم يرزقون* فرحين بما آتاهم الله من فضله » (1) وذلك يوجب هبوب نسائم ألطافهم وفيضان رشحات أنوارهم على الخلّص من قاصديهم وزوّارهم وشفاعتهم في غفران ذنوبهم وستر عيوبهم وكشف كروبهم ، مع ما فيه من صلتهم وبرّهم وتجديد عهد ولا يتهم وإعلاء كلمتهم وتشميت أعدائهم.
     وكيف لاتكون من أعظم القربات ولو لم يكن الا من حيث كونه زيارة المؤمن لأجل إيمانه لكفى في عظيم الأجر والثواب ، كما ورد به الحثّ الأكيد في أخبار العترة الأطياب ، وصارت زيارة الأحبّاء (2) سنّة طبيعية متعارفة بين الشيخ والشابّ ، فكيف بزيارة المعصومين عن الخطايا والأدناس والمطهّرين عن المعاصي والأرجاس مع مالهم من الحقوق الكثيرة على الناس وتحمّلهم المشاقّ العظيمة في إرشاد الضالين وتنبيه الجاهلين مع كونهم أئمّة وقدوة للمسلمين ، حججاً من الله على العالمين والمخلوق لأجلهم الأرض والسماء وأبوابه التي منها يؤتى ، وأنواره التي بها يستضاء ، أدلّاء العباد وأمناء الله في البلاد والأسباب المتّصلة بينهم وبين ربّ الأرباب.
     هذا مع ورود الأخبار الكثيرة عنهم في هذا الباب بما هي مذكورة في كتب المزارات للأصحاب.
     فإذا عرفت فضل زيارتهم وما فيها من الأسرار فأكثر من التواضع والخشوع والأنكسار عند الدخول إلى مراقدهم الفائضة الأنوار وأحضر في
1 ـ آل عمران : 169 ـ 170.
2 ـ في « الف » : الأحياء.

(594)
قلبك ما لهم من رفعة الشأن وجلالة المقدار عند الملك الجبّار.
     ثم عظّم جهدهم وجدّهم وسعيهم في إرشاد الناس وتطهيرهم عن الذمائم والأرجاس وإعلاء كلمة الله وتقويتها على مكائد الخنّاس.
     ثم اطّلاعهم على ما في ضميرك من خير وشرّ ومجازاتهم إيّاك عل وفق ما تقصده من نفع أو ضرّ فأخلص نيّتك في زيارتهم وأحضر في قلبك معاني ما تلفظه في مخالبتهم ، فإن ادعيت محبّة وولاية أو طاعة واقتداء فاحترز عن أن تكون كاذباً في دعواك مستحقّا للمقت والسخط في عقباك.
     ثم أحضر ما وصل إليهم من أعدائهم من المشاقّ والمتاعب والظلم والغصب والاستيلاء على حقوقهم التي خصّصهم الله بها وقتلهم وأسرهم وفعل أنواع الأذى بالنسبة إليهم وتحمّلهم لها مع قدرتهم على دفعهم ودفعها محبّة لله وإطاعة لأمره وشوقاً في هداية الضعفاء وتكثيراً لأمّة سيّد الأنبياء ببقاء نسل أولئك الأطغياء سيّما ماجرى على سيّد الشهداء الحسين بن علي عليه السلام وأولاده وأصحابه البررة الأتقياء ممّا اهتزّ به عرش ربّ العالمين وبكت عليه كافّة أهل السماوات والأرضين ، وكذا سائر الأئمّة الطاهرين فتذكر مصائبهم وترقّ لهم وتبكي عليهم وتلعن على أعدائهم وظالميهم لعناً صحيحاً وتحبّهم حبّاً عظيماً وتراعي الآداب الظاهرة المذكورة في كتب المزار وتخصّص كلاً منهم بما يليق بشأنه من الإجلال وتذكر ماجرى عليه واعتقاد مايليق بظالميه من اللعن والنكال ، وتبالغ في التضرّع والأستشفاع منهم ، فإنّهم معادن الجود والكرم ومصابيح الهداية للأمم ، والسلام على من اتّبع الهدى.


(595)
خاتمة


(596)
من أشرف المباحث وأبهاها وأسنى المقاصد وأعلاها المحبّة لله والشوق إليه والأنس به ، فلنفصّل الكلام فيها في عدّة فصول :


(597)
فصل
     الحبّ عبارة عن ميل الطبع إلى الملائم ، وتوضيحه : أنّ الحبّ لايتصوّر بدون الإدراك كما لا يتّصف به الجماد ولا يحبّ الانسان من لايعرفه.
     والمدرك ينقسم إلى ما يوافق طبع المدرك فيلتذّ منه وما يخالفه فيتألّم منه وما لا يتأثّر منه بلذّة ولا ألم.
     ولابدّ لمدرك الأوّل من ميل إليه يسمّى حبّاً. والثاني من نفرة عنه تسمّى كراهة وبغضاً.
     والمدرك إمّا حسّ ظاهر كما في الصور الجميلة والألحان الحسنة والروائح الطيّبة والمطاعم النفسية والملموسات الليّنة ، أو باطن كالصور الملائمة الخيالية والمعاني الملائمة الجزئية ، أو عقل كالمعاني الكلّية والذوات النورية.
     وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ العقل أشدّ إدراكاً ونفوذاً في حقائق الأشياء ومدركاته أشرف وأبهى وأدوم وأبقى ، فلذّته أتّم وأبلغ.
     قال النبي صلى الله عليه وآله : « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : النساء والطيب وقرّة عيني في الصلاة » (1) لكونها لذّة عقيلة ، والأوليان لذّتان حسّيتان.
     ولمّا عرفت أنّ هذه القوى بمنزلة الخدّام للنفس وهي السلطان المدبّر تعرض ما تدركه إليها فهي المدركة الملتذّة والمتألّمه حقيقة.

تقسيم
     أحدها : حبّ الانسان وجوده وبقاءه وكماله ، وهو أقواها ، لأنّ الحبّ بقدر الإدراك والملاءمة ، والانسان أبصر بنفسه وأعرف ولا ملائم له أقوى من نفسه ، وكيف لا وثمرة الحبّ حصول الاتّحاد بين المحبّ والمحبوب ، وهو حاصل هنا حقيقة ، فالوجود ودوامه محبوب له كما أنّ العدم مبغوض له ،
1 ـ المحجّة البيضاء : 33/68.
(598)
ولذا يكره الموت لظنّه عدمه أو عدم بعضه.
     وكذا كمال الوجود محبوب له لأنّ النقص عدم بالإضافة إلى المفقود ، فالنقائص أعدام في الحقيقة ، كما أنّ الكمالات وجودات.
     فحاصله حبّ الوجود وبغض العدم أيضاً فكلّما كان الوجود أقوى ونحوه أتمّ كان أجمع لمراتب الوجودات والوجود الواجبي لكونه تامّاً وفوق التمام وقيّوماً محيط بكلّ الموجودات وجامع لها بأسرها ، وحبّ المرء لأقاربه وأولاده وعشائره راجع إلى هذا القسم ، أي حبّه لكمال نفسه إذ يرى الولد جزءاً منه قائماً مقامه ، فبقاؤه بمنزلة بقائه ويرى نفسه قويّاً كثيراً بأقاربه لأنّهم كالأجنحة المكمّلة له.
     الثاني : حبّ من يحصل له نفع بسببه أي ما يكون وسيلة إلى لذّاته كحبّه للمرأة التي بها تحصل لذّة الوقاع ، والطعام الذي يحصل به لذّة الأكل ، والطّيب الذي به يحصل الصحّة ، والمعلّم الذي به يحصل العلم ، وهذا أيضاً يؤول إلى الأوّل ، لأنّه باعث لحصول الحظوظ التي بها يتمّ كمال الوجود ، فإذا أحبّ الانسان غيره بحظّ واصل منه إليه فما أحبّه لذاته بل لأجل الحظّ المزبور ، ولو ارتفع طمعه فيه زال حبّه مع بقائه بذاته ، وإذا كان الحظّ واصلاً إليه (1) ، فما أحبّ في الحقيقة الا نفسه.
     والثالث : المحبّة الحاصلة بسبب الأنس والإلف والاجتماع كما في الأسفار البعيدة ، فإنّ المؤانسة لاتنفكّ عن الحبّ ، والانسان مجبول عليها.
     وهذا أحد أسرار التعبّد بالجماعات والجماعات.
     والرابع : الحبّ الحاصل بالمجانسة والمشاركة في الصفة كالصبي لمثله والشيخ لمثله والتاجر لصنفه.
     والخامس : محبّة المتشاركين في سبب واحد كالقرابة ، وكلّما قرب كانت أشدّ.
1 ـ كذا ، وفي العبارة سقط.
(599)
     والسادس : الحبّ لمجانسة خفيّة ومناسبة معنويّة من دون سبب ظاهر ، فإنّ الأرواح لها تناسب كما ورد في الأخبار.
     والسابع : حبّ العلل لمعلولاتها وبالعكس ، لأنّ المعلول مثال للعلة مترشّح منها منبجس عنها لكونه من سنخها ، فالعلّة تحبّه لأنه فرعها المنطوي فيها ، والمعلول يحبّها لأنّها أصله الذي يحتوي عليه ، فحبّ كلّ منهما للآخر حبّ لنفسه في الحقيقة ، والعلّة الحقيقيّة في ذلك أقوى من المعدّة.
     فأقوى أقسام الحبّ ما كان الحبّ للواجب تعالى بالنسبة إلى معلولاته.
     ثمّ محبّة عباده العارفين به له ، فإنّ هذه متوقّفة على المعرفة بكون العلّة تامّة فوق التمام ، وكونها سبباً لإخراجهم من العدم الصرف إلى الوجود المحض وإعطائهم ما يحتاجون إليه في النشأتين ، وحينئذ تشتاق النفس إلى العلّة بالضرورة.
     قال سيّد الرسل صلى الله عليه وآله : « ما اتّخذ الله وليّاً جاهلاً قطّ ». (1)
     قيل : ويشبه حبّ الأب لابنه وبالعكس هذا القسم لكون الأب علّة معدّة له فيحبّه لأنّه يراه مثالاً لذاته وجزءاً له ، ولذا يريد له ما يريد لنفسه ، ويفرح بتفضيله عليه ويرجو منه إنجاح مقاصده ومطالبه في حياته ومماته ، وكذا محبّة المعلم للمتعلّم وبالعكس ، لأنّ المعلّم سبب لحياته الروحانيّة وإفاضة الصورة الانسانيّة علي وبقدر شرف الروح على الجسم يكون المعلّم أشرف من الأب.
     ومنه يظهر أنّ حبّ النبي صلى الله عليه وآله وخلفاء (أي أو صياؤه) الراشدين (2) أوكد من سائر أقسام الحبّ بعد الله تعالى ، لأنّه المعلّم الحقيقي والمكمّل الأوّل.
     قال صلى الله عليه وآله : « لايكون أحدكم مؤمناً حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وأهله
1 ـ جامع السعادات : 33/140.
2 ـ قال في جامع السعادات (3/141) : « ينبغي أن يكون حبّ النبي وأوصيائه الراشدين عليه السلام أوكد من جميع أقسام الحبّ ».

(600)
وولده ». (1)
     والثامن : حبّ الشيء لذاته ، فيكون حظّه منه عين ذاته ، وهو الحبّ الحقيقي كحبّ الجمال والحسن ، فإن إدراك الجمال عين اللذّة الروحانية المحبوبة لذاتها ، وأمّا حبّه لقضاء الشهوة فهي من اللذّات الحيوانية ، ولذا يذمّ العشق الحاصل منه دون ماكان حاصله الابتهاج بإدراك الجمال ولا لتباسهما وقع الخلاف فيه ، والخضرة والماء الجاري محبوبان من نفس الرؤية دون إدراك حظّ آخر من الأكل والشرب ونحوهما ، كما كان يعجب بهما النبي صلى الله عليه وآله.
     وكذا النظر إلى الأزهار والأنوار والأطيار المليحة بل يزول به الغمّ والهمّ عن الانسان ، والجمال ليس مقصوراً على ما يدرك بانظر ، بل يقال : صوت حسن وريح طيّب ، ويقال أيضاً : خلق حسن وعلم شريف وسيرة حسنة ممّا لايدرك الا بالبصيرة الباطنة ، فهذه الخصال وأمثالها محبوبة للعقل بالطبع وصاحبها محبوب كذلك ، ولذا إنّ الطباع السليمة مجبولة بحبّ الأنبياء والأئمّة عليهم السّلام مع عدم مشاهدتهم بحسّ البصر ولااستماع كلامهم بل ربما يصل حبّهم إلى حد العشق فينفق ماله بل يبذل نفسه في نصرة مذهبه ونبيّه ويقاتل من يطعن فيه ، فالحامل على حبّهم صفاتهم الباطنة الراجعة إلى علمهم بوجوه الخيرات والشرور وقدرتهم على نشرها بين الناس وصرفهم إليها وعنها.
     ولذا إنّه إذا وصف أحد بالشجاعة أو العلم أو الملك أو ملك بالعدل أحبّه المستمع حبّاً ضرورياً مع عدم رؤيته له ويأسه عن وصول نفع منه إليه ، وكذا لو وصف أحد حواسّه الظاهرة كان حبّه للمعاني الباطنة والموصوفين بها أكثر وأشدّ.
1 ـ راجع المحجة البيضاء : 8/4ـ5.
كشف الغطاء ::: فهرس