كتاب كشف الغطاء ::: 631 ـ 640
(631)
     وهذا هو السرّ في طعن جملة من علماء الرجال وقدماء الأصحاب في جملة من وراة أسرار أخبار الأئمّة الأطهار كمحمّد بن سنان والجعفي والمفضّل بن عمر والمعلى بن خنيس وأضرابهم ، فإنّهم كانوا يحتملون ما لايحتمله غيرهم كما صرّح به المفيد في إرشاده والسيد الأجل ابن طاووس. (1)
     قال السيّد (ره) : إنّ بعض أجلّاء الشيعة الذين رووا أسرار الأئمة عليهم السلام كان جلالة قدرهم وعلوّ مرتبتهم سبباً لانحطاطها عند أصحابنا حتى نسبوهم إلى ما لايليق بجنابهم وعدّ منهم محمد بن سنان مع أنّ حديثه في الضعف عند أصحابنا أشهر من أن يذكر.
     ولمّا كان قصور قوالبهم وضعف طاقتهم عن تحمّلها يفضي إلى الافشاء احياناً من غير اختيار ، فربّما رخصّوا لهم الجنون والخروج عن زيّ العقلاء ، وربّما منعوهم فلم ينتهوا وعصوا فخرج لعنهم من الأئمة عليهم السلام إمّا لمخافتهم وعصيانهم أولئلّاً يفتتن بهم الناس ويفشى سرّهم ويذيع بواطن الأمور عند من لايليق به ، وهذا أحد أسباب لعنهم ، وربما افتتنوا ففهموا الزائد على ماأشرنا إليه فكفروا واقعاً ، ولذلك لعنوا فإذا لم يكن لخواصّ الشيعة الواصلين إلى المراتب العليا ببركات أنفاس أولئك الأقطاب قوّة تحمّل قليل من كثير ممّا هم عليهم السلام فيه فكيف يطيق أحد يمكن أن يدعي الطاقة في الوصول إلى المرتبة معرفة الله سبحانه وحبّه ويتظاهر به.
     نعم قد يكون للمحبّ سكرة في حبّه حتى يدهش ويضطرب أحواله
1 ـ لم يصرّح المفيد ـ رحمه الله ـ بأن محمد بن سنان كان يحتمل مالا يحتمل غيره ، نعم صرّح في إرشاده (ج2/248) بكونه من خاصّة الكاظم عليه السلام مع أنّه ضعّفه في الرسالة العدديّة (ص 20 طبع المؤتمر) وقال : وهو (أي محمّد بن سنان) مطعون فيه لا تختلف العصابة في تهمته وضعفه.
وكذا لم يصرّح السيّد بما قاله المصنّف (ره) بل صرّح بجلالته وعلوّ شأنه ورئاسته ولقائه ثلاثة من الأئمّة عليهم السلام ومعجزة لأبي جعفر الثاني بالنسبة إليه فراجع فلاح السائل : 13.

(632)
فيظهر شيئاً من غير اختيار واكتساب فهو معذور ، لأنّه مقهور وليس طاقة الناس على نمط واحد ، فالقادر على الكتمان يقول :
وقالوا قريب قلت ما أنا صانع فمالي منه غير ذكر بخاطري بقرب شعاع الشمس لو كان في حجري يهيج نار الحبّ والشوق في صدري
     والعاجز عنه يقول :
ومن قلبه مع غيره كيف حاله ومن سرّه في جنبه (1) كيف يكتم
     على أنّ العارف لو كان صادقاً في عرفانه وعرف أحوال الملائكة في حبّهم الدائم وشوقهم اللازم الذي به يسبّحون الليل والنهار لايفترون لاستنكف عن نفسه ومن إظهار حبّه وقطع بأنّه من أخسّ المحبّين في مملكته ، وكذا لو عرف أحوال الأنبياء والأولياء وما اعترفوا به من العجز والقصور لخرس لسانه عن التظاهر بدعوى المحبّة ، فسبحان من لا سبيل إلى معرفته الا بالعجز عن معرفته.
     ومن علامات المحبّة : الرضا وقد تقدّم ، والأنس وسيأتي.
     وبالجملة؛ جميع محاسن الدين ومكارم الأخلاق من ثمرات الحبّ ، وقد جمع بعض العرفاء علامات الحبّ في عدة أبيات فقال :
لاتخد عنّ فللمحبّ دلائل منها تنعّمه بمرّ بلائه فالمنع منه عطية مقبولة ومن الدلائل أن يرى من عزمه ومن الدلائل أن يرى متبسّما ولديه من تحف الحبيب وسائل وسروره في كلّ ما هو فاعل والفقر إكرام وبرّ عاجل طوع الحبيب وإن ألحّ العاذل والقلب فيه من الحبيب بلابل

1 ـ في الإحياء (4/337) : جفنه.
(633)
ومن الدلائل أن يرى متفهّماً ومن الدلائل أن يرى متقشفا لكلام من يحظى لديه السائل متحفّظاً عن كلّ ما هو قائل
     وزاد آخر :
ومن الدلائل أن تراه مشمّراً ومن الدلائل حزنه ونحيبه ومن الدلائل أن تراه مسافراً ومن الدلائل زهده فيما يرى ومن الدلائل أن تراه باكياً ومن الدلائل أن تراه مسلّماً ومن الدلائل أن تراه راضياً ومن الدلائل ضحكة بين الورى في خرقتين على شطوط الساحل جوف الظلام فماله من عاذل نحو الجهاد وكلّ فعل فاضل من دار ذلّ والنعيم الزائل أن قد رآه على قبيح فعائل كلّ الأمور إلى المليك العادل بمليكه في كلّ حكم نازل والقلب محزون كقلب الثاكل

فصل
     من الوازم المحبّة ونتائجها الشوق وهو الميل إلى الوصول إلى الشيء بعد غيبة عنه أو إدراك ما أدرك بوجه دون آخر ، فإنّ الحاصل الحاضر لايشتاق إليه ، وكذا ما لم يدرك بوجه أصلاً فالشخص الغير المسموع وصفه ولا المرئي مطلقاً لايتصوّر التشوّق إليه ، وكذا الحاضر حين الرؤية فإنّه من قبيل تحصيل الحاصل.
     نعم المتّضح [ له ] بوجه ما مع عدم استكمال الوضوح يشتاق إلى الكمال الذي هو عادمه حين الشوق ، كمن غاب معشوقه عنه وهو في خياله حيث يشتاق إلى استكماله بالرؤية ، والذي رآه في ظلمة واستتر عليه بعض ما يطلبه من صورته يشتاق إلى إشراق الضوء عليه باطلباً لإكمال الرؤية ، أو يكون ممدركاً لبعض كمالات المعشوق مع العلم بأنّ له كمالات أخر لم يدركها كان يرى وجهه ويشتاق إلى رؤية شعره وسائر أعضائه ، والشوق


(634)
إلى الله ثابت للمشتاقين ، ممكن في حقّ غيرهم بجميع ما ذكر ، فإنّ ما يتضح للعارف من المعارف الالهية.
     [ وإن اتّضح لديه في الدنيا الا أنّك عرفت أنّه لا يحصل له النكشاف التامّ الرافع لمطلق الأستار والحجب الا في الآخرة ، لكونه في الدنيا مشوباً بأنواع الكدورات والمنغّصات ، فيشتاق إلى الوصول إلى تلك المرتبة العالية التي لايتصوّر بالنسبة إليه ما هي فوقها ، وأيضاً قد عرفت أنّ المعارف الالهيّة ] (1) وصفات كماله وجماله وجلاله ممّا لا نهاية لها ، والذي ينكشف للعارف شيء متناه قليل جدّاً بالإضافة إلى ما لم ينكشف ، مع علمه إجمالاً بوجوده فلايزال متشوّقاً إليه.
     قال أبو حامد ما ملخّصه : إنّ الشوق الأوّل ربما انتهى في الآخرة إذا حصل اللقاء بخلاص النفس عن ظلمة البدن وحصول تمام التجرّد لها عن العلائق المادية ، بخلاف الثاني ، إذ نهايته كشف مثل معلوماته تعالى عليه وهو محال ، لأنّها غير متناهية فيمتنع الإحاطة بها ، بل لايزال عالماً بوجود درجات غير متنناهية فوق درجاته ويشتاق إلى الوصول إليها فلا ينتهي شوقه لعدم انتهاء متعلّقه. (2)
     أقول : ادّعاء الفرق بين الكمّ والكيف في التناهي وعدمه لايخلو عن نظر قد أشرنا إليه سابقاً ، فإنّ زيادة الانكشاف والإشراق إنما تكون بكثرة المعارف والمعلومات.
     فإذا كانت غير متناهية كانت مراتب المشاهدات والانكشافات كذلك أيضاً ، فلايزال متشوّقاً إلى المراتب الانكشاف المعلومة له إجمالاً كتشوّقه إلى علله.
     وبالجملة ، فكما أنّ المعلومات غير متناهية فكذا التجلّيات
1 ـ ما بين المعقوفتين في هامش « ج » فقط ولابدّ منه لارتباط كلام أبي حامد به.
2 ـ المحجّة البيضاء : 8/56 ـ 57.

(635)
والإشارقات ، فادّعاء التناهي في الثاني دون الأوّل غير معقول ، الا أن يقال : إنّ عدم تناهي المعلومات النكشافات ممّا لا يستريب فيه أحد وهو ما حكمنا بعدم تناهيه.
     والمراد من الأوّل الذي حكم فيه بالوصول إليه في الآخرة هو أنّ المرتبة الحاصلة للعارف في دار الدنيا من المعرفة حيثما هي حاصلة له متكدّرة بنوع من الظلمة تزول بالممات وتتبدّل بنوع أجلى من الانكشاف ، وهذا هو الذي يشتاق إليه ويصل إليه بالموت ، وهذا وإن كان صحيحاً ، الا أنّه مضافاً إلى أنّه حينئذ سكون لا حركة فيه ، والمطلوب من هذه المقامات حصول سير تدريجي للسالك من المباديء إلى الغايات.
     يرد عليه أنّ ما يتيقّن الوصول إليه جنس النكشاف المغاير للانكشاف الحاصل له في الدنيا وكونه أشرف وأبهى وأكمل وأسنى ، الا أنّ له في جنسه مراتب لاتتناهي في كيفيّة التجلّيات والنكشافات والترقّيات الحاصلة له في الآخرة كعدم تناهي المعلومات ، فتفطّن.
     فإن قلت : الشوق هو الميل إلى شيء غير مدرك كما ذكرت وهو لايخلو عن ألم والآخرة دار الراحة والأمن ن الآلام فكيف يتصوّر فيها الشوق المحرق المؤلم للقلب؟
     قلت : أمّا أوّلاً : فالمراد من الشوق الذي نبحث عنه هنا وندّعي عدم تناهيه مايحصل للعبد في دار الدنيا كما أشرنا إليه حتى يحصل منه السير ويترتّب علي الكمال الاكتسابي الصناعي ، والمراد من عدم تناهيه عدم وقوفه إلى حدّ يقف عنده ، وهو وإن كان موجباً للألم من الجهة التي ذكرت ، الا أنّ لهذا الألم مع كونه ألماً لذّة غريبة لايدركها الا من أدرك حقيقة الحبّ والعشق وأدرك لذّتهما مع أنّ الدنيا سجن المؤمن ودار ألمه واحتراق قلبه.
     وأمّا ثانياً : فلو فرض ذلك في الآخرة أيضاً لم يبعد أن يكون الشوق شوقاً لذيذاً لايظهر فيه الألم لحصول أصل الوصال ، وكون الشوق مؤلماً إنّما


(636)
هو إذا وقف على حدّ خاص من عدم الإدراك وبقي على تلك الحالة مدّة من الزمان.
     ولعلّ توالي لطائف الإشراقات والابتهاجات وعدم انقطاع مراتب ترقّيات العبد وتجلّيات المعبود لايبقي له ألماّ ، إذ لا يزال اللذّة والنعيم يتزايد له أبدالآباد.
     فالبهجة الحاصلة له في كل آن بالفعل واللذّة المتجدّدة من غير انقطاع تشغله عن الإحساس بألم مالم يدركه ، فإن أمكن حصول الكشف في الآخرة فيما لم يحصل أصله في الدنيا من المعارف فيتجدّد له فيها ويتوارد عليه منها على سبيل الاستمرار من غير زوال ولاانقطاع.
     وربما كان في قوله تعالى : « نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربّنا اتمم لنا نورنا » (1) إشارة إليه ، وإن اختصّت النعم الاخرويّة وأنوار تلك النشأة بما تزوّد أصلها في الدنيا وامتنع حصولها مالم يحصل له فيها ، وإن تغايرا في الكيف كان الكمّ متناهياً في الآخرة لتفرّعه على المتناهي الذي حصل له في الدنيا ، الا أنّ الكيف الذي هو من فيوض الوّهاب المطلق وفنون أنواره وتجلياته الباقية الصافية مجازاة لما اكتسبه في دار الدنيا من المعرفة المتناهية الكدرة الناقصة المشوبة بأنواع الشوائب غير متناه كما أشرنا إليه.
     ولعلّ الظاهر من الآية هذا الذي أوضحناه أخيراً فيكون المراد من إتمام النور إفاصة فنون النكشافات وكيفيّات التجلّيات تفضّلاً منه تعالى عليه.
     قيل : ويشهد للأخير قوله تعالى : « انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً » (2) فافهم.
     ولا يمكن تعيين الأصل الذي ترتّب عليه الغير المتناهي من الأنوار كيفاً
1 ـ التحريم : 8.
2 ـ الحديد : 13.

(637)
وكمّاً الا على سبيل الإجمال والإبهام بتحصيل اليقين ـ بالمعنى الثاني الذي يستولي على القلب بالأمر والنهي دون مجرّد الاعتقاد الثابت الجازم ، فإنّه لايترتّب عليه شيء ـ بوجوده ووجوبه ووحدانيته ذاتاً وصفةوفعلاً ، وعظمته وجلاله وقدرته وحكمته واتّصافه بأشرف ما يمكن أن يتّصف به.
     فأصل هذه العقائد ممّا يشترك فيه عامّة المؤمنين ، والانكشاف عن حقائقها بالكنه متعذّر لأشرف المخلوقات ، وإنما ينكشف بالرياضات والمجاهدات القدر الممكن في حقّ الممكن ما يترتّب عليه تلك الأنوار المتناهية بقدر السعي والاجتهاد والقابلية والاستعداد الحاصلة في دار الدنيا ، فهذا مايمكن أن يفهم من الأصل والفرع ، والله العالم.

تذنيب
     من أنكر المحبّة يلزمه إنكار الشوق أيضاً ، لأنّه من فروعه وثمراته ، وقد عرفت ما يدلّ على ثبوته عقلاً ، والشواهد النقلية الدالّة عليه أيضاً أكثر من أن تحصى.
     ففي الدعاء النبوي صلى الله عليه وآله : « اللّهمّ إنّي أسألك الرضا بعد القضاء ، وبرد العيش بعد الموت ، ولذّة النظر إلى وجهط الكريم وشوقاً إلى لقائك ». (1)
     وفي أخبار داود عليه السلام : « أنّي خلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعّمتها بجلالي ». (2)
     وفيها : « يا داود! إلى كم تذكر الجنّة ولاتسألني الشوق إليّ؟ قال : ياربّ من المشتاقون إليك؟ قال : إنّ المشتاقين إليّ الذين صفيّتهم عن كلّ كدر ـ إلى أن قال ـ : وإنّ قلوبهم لتضيء في سمائي لملائكتي ، كما تضيء الشمس لأهل الأرض. يا داود! إنّي خلقت قلوب المشتاقين من رضواني ونعّمتها بنور وجهي واتّخذتهم لنفسي محدّثين وجعلت أبدانهم موضع
1 ـ المحجّة البيضاء : 8/57 ـ 58.
2 ـ المحجّة البيضاء : 8/58.

(638)
نظري إلى الأرض وقطعت من قلوبهم طريقاً ينظرون به إليّ ، يزدادون في كلّ يوم شوقاً ». (1)
     وفي بعض الأخبار القدسيّة : « إنّ لي عباداً يحبّونني وأحبّهم ، ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم ، ويذكرونني وأذكرهم ... وأوّل ما أعطيهم أن أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عنّي كما أخبر عنهم ». (2)
     وقال سيّد العابدين عليه السلام : « اللّهم املأ قلبي حباً لك وخشية منك وإيماناً بك وفرقا منك وشوقاً إليك يا ذالجلال والإكرام ». (3)
     وقال عليه السلام : « يا من قلوب المشتاقين إليه والهة [ وعقولهم في بحار عظمته تائهة ] ». (4)
     وقال الصادق عليه السلام : « المشتقا لايشتهي طعاماً ، ولايلتذّ شراباً ولا يستطيب رقاداً ، ولايأنس حميماً ، ولايأوي داراً ، ولايسكن عمراناً ، ولايلبس ليناً ، ولايقرّ قراراً ، ويعبد الله ليلاً ونهاراً راجياً لأن يصل إلى ما يشتاق إليه ويناجيه بلسان شوقه ... الحديث ». (5)
     وبالجملة؛ فهي ممّا لاتحصى ، وإنّما ذكرنا اليسير تبرّكاً بكلماتهم.

فصل
     ثم من ثمرات الحبّ الأنس كالشوق والخوف ، والفرق بينها بالاعتبار واختلاف نظر المحبّ إلى المحبوب وما يغلب عليه في وقته ، فإن غلب عليه التطلّع من وراء حجب الغيوب إلى منتهى الجمال واستشعر قصوره من الاطّلاع على كنه الجلال انبعث القلب إلى الطلب وانزعج له وهاج إليه ،
1 ـ المحجّة البيضاء : 8/59.
2 ـ المحجّة البيضاء : 8/58 ـ 59.
3 ـ مفاتيح الجنان : دعاء أبي حمزة ، مع اختلاف.
4 ـ لم أجده.
5 ـ مصباح الشريعة : الباب 98 ، في الشوق.

(639)
فتسمّى هذه الحالة في الانزعاج شوقاً ، وإذا غلب عليه الفرح بالقرب والحضور وحصول ماتيسّر له بالفعل من الانكشاف ومطالعة الجمال الحاضر المكشوف له من دون التفات إلى ما لم يدركه سمّي استبشاره بذلك أنساً ، وإن نظر إلى عزّ المحبوب وغناه وجلاله وعظمته وعدم مبالاته وكونه تحت لواء الخطر بزوال ما هو فيه وبعده ، تألّم قلبه من ذلك وسمي تألّمه المزبور خوفاً ، فالأنس معناه استبشار القلب وفرحه بمطالعة الجمال الأقدس ، فإذا غلب على القلب ذلك وتجرّد عن ملاحظة الغائب وخطر الزوال عظمت اللذّة ولابتهاج بما ناله فلا يكون شهوته الا في العزلة والخلوة والانفراد والمناجاة ، فإنّ الانس بالحبيب يستلزم التوحّش عن كلّ ما يعوق عن الخلوة ، فيكون من أثقل الأشياء على القلب ، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله لتضجّره وتبرّمه عن مصاحبه الناس يقول : « أرحني يا بلال » (1) حتّى يعود إلى قرّة عينه من مناجاة حبيبه.
     ومن علامته الخاصّة ضيق الصدر من معاشرة الخلق واستهتاره بعذوبة الذكر ، فإن خالط فهو منفرد في جماعة ومجتمع في خلوة وغريب في حضر وحاضر في سفر ومشاهد في غيبة وغائب في حضور ومخالط بالبدن منفرد بالقلب كما قال علي عليه السلام :
     « هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة فباشروه بروح اليقين واستلانوا ما استوعوه المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالملأ الأعلى ، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه ». (2)
     ومنهم من أنكر الشوق والانس والحبّ ، بل أنكروا مقام الرضا أيضاً كما سبق الكلام في جميعها ظنّاً منهم أنّ الأنس يدلّ على التشبيه ، وهذا
1 ـ المحجّة البيضاء : 1/377 ، وفيه : « أرحنا ».
2 ـ المحجّة البيضاء : 8/80 ، نهج البلاغة : الحكمة : 147.

(640)
جهل منهم بالمدركات العقليّة وقصور منهم على القشور الحسيّة ، فكيف يمكن لهم إدراك هذه المقامات العالية؟
الأنس بالله لايحوية بطّال والآنسون رجال كلّهم نجب وليس يدركه بالحول محتال وكلّهم صفوة الله عمّال
     والكلمات الدالّة على طلب الانس من سادتنا الأطيبين سلام الله عليهم ممّا لايحصى.
     إنارة
     قيل : إذا استحكم الأنس وغلب على القلب ولم يشوّشه قلق الشوق ولا خوف الحجاب والبعد أثمر نوعاً من النبساط والإدلال في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الملك المتعال ، وقد ينكر بحسب الصورة لما فيه من الجرأة ، لكنّه محتمل ممّن أقيم ذلك المقام ، ومن لم يصل إليه وأراد التشبيه به في الفعل والكلام هلك وكفر ، ومثاله مناجاة برخ الأسود الذي أمر الله تعالى كليمه عليه السلام في سبعين ألفاً للاستسقاء فأوحى الله تعالى : كيف أستجيب لهم وقد أظلمت عليهم ذنوبهم ، يدعونني على غير يقين ويأمنون مكري ، ارجع إلى عبد من عبيدي يقال له : برخ ، فقل له يخرج حتّى أستجيب له ، فسأل عنه موسى عليه السلام فلم يعرف ، فبينما هو ذات يوم في الطريق إذاً بعبد أسود قد استقبله وبين عينيه تراب من أثر السجود في شملة قد عقدها على عنقه ، فعرفه موسى بنور الله تعالى فسلّم عليه وقال : ما اسمك؟ قال : برخ ، فقال : أنت طلبتنا منذ حين اخرج بنا فاستسق لنا ، فخرج وقال في كلامه : « ما هذا من فعالك؟ وما هذا من حلمك؟ وما الذي بدالك؟ أنقصت عيونك أم عاتت الرياح عن طاعتك؟ أم فقد ما عندك ، أم أشتدّ غضبك على المذنبين؟ ألست كنت غفّاراً قبل خلق الخاطئين خلقت الرحمة وأمرت بالعطف؟ أم ترينا أنّك ممتنع أم تخشى الفوت فتعجل
كشف الغطاء ::: فهرس