كفاية الاصول ::: 16 ـ 30
(16)
ليست كذلك ، كما لا يخفى ، وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك ، مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعم شخص اللفظ ، كما في مثل : ( ضرب فعل ماض ).

    لا ريب في كون الالفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي ، لا من حيث هي مرادة للافظها ، لما عرفت بما لا مزيد عليه ، من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال ، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه. هذا.
    مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والاسناد في الجمل ، بلا تصرف في ألفاظ الاطراف ، مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة ، لما صح بدونه ، بداهة أن المحمول على ( زيد ) في ( زيد قائم ) والمسند إليه في ( ضرب زيد ) ـ مثلا ـ هو نفس القيام والضرب ، لا بما هما مرادان.
    مع أنه يلزم كون وضع عامة الالفاظ عاما والموضوع له خاصا ، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ ، فإنه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الارادة فيه ، كما لا يخفى ، وهكذا الحال في طرف الموضوع.
    وأما ما حكي (1) عن العلمين ( الشيخ الرئيس (2) ، والمحقق
1 ـ راجع الشفاء ، قسم المنطق في المقالة الاولى من الفن الاول ، الفصل الثامن / 42 ، عند قوله ( وذلك لان معنى دلالة اللفظ ، هو ان يكون اللفظ اسما لذلك المعنى على سبيل القصد الاول ) انتهى. وحكى العلامة الحلي ( ره ) في الجوهر النضيد في شرح التجريد / 4. عن أستاذه المحقق الطوسي ( ره ) قوله بأن اللفظ لا يدل بذاته على معناه بل باعتبار الارادة والقصد.
2 ـ الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا الحكيم المشهور ، أحد فلاسفة المسلمين ولد سنة 370 ه‍ بقرية من ضياع بخارى ، نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه ، لم يستكمل ثماني عشرة سنة من عمره الا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها ، صنف كتاب « الشفاء » و « النجاة » و « الاشارات » و « القانون » وغير ذلك مما يقارب مائة مصنف ،


(17)
الطوسي (1) ) من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الارادة ، فليس ناظرا إلى كون الالفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة ، كما توهمه بعض الافاضل (2) ، بل ناظر إلى أن دلالة الالفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية ، أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها ، ويتفرع عليها تبعية مقام الاثبات للثبوت ، وتفرع الكشف على الواقع المكشوف ، فإنه لولا الثبوت في الواقع ، لما كان للاثبات والكشف والدلالة مجال ، ولذا لا بد من إحراز كون المتكلم بصدد الافادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الارادة ، وإلا لما كانت لكلامه هذه الدلالة ، وإن كانت له الدلالة التصورية ، أي كون سماعه موجبا لاخطار معناه الموضوع له ، ولو كان من وراء الجدار ، أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار.
    إن قلت : على هذا ، يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ ، والقطع بما ليس بمراد ، أو الاعتقاد بإرادة شيء ، ولم يكن له من اللفظ مراد.
    قلت : نعم لا يكون حينئذ دلالة ، بل يكون هناك جهالة وضلالة ، يحسبها الجاهل دلالة ، ولعمري ما أفاده العلمان من التبعية ـ على ما بيناه ـ واضح لا محيص عنه ، ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم أن يجعل كلامهما ناظرا إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل ، فضلا عمن هو علم
وله شعر ، توفي بهمدان يوم الجمعة من شهر رمضان 428 ه‍ ودفن بها. ( وفيات الاعيان 2 / 157 رقم 190 ).
1 ـ المحقق خواجه نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي الحكيم الفيلسوف ولد في طوس عام 597 ه‍. ، درس في صغره مختلف العلوم وأتقن علوم الرياضيات وكان لا يزال في مطلع شبابه ، سافر إلى نيشابور وقضى فيها فترة ظهر نبوغه وتفوقه ، باشر إنشاء مرشد مراغة وأسس مكتبة مراغة ، حضر درس المحقق الحلي عندما زار الفيحاء بصحبة هولاكو ، كتب ما يناهز 184 مؤلفا في فنون شتى ، توفي 682 ه‍ ودفن في جوار الامام موسى الكاظم ( عليه السلام ). ( أعيان الشيعة 9 / 414 ).
2 ـ صاحب الفصول 17 ، السطر الاخير.


(18)
في التحقيق والتدقيق ؟!.

    لا وجه لتوهم وضع للمركبات ، غير وضع المفردات ، ضرورة عدم الحاجة إليه ، بعد وضعها بموادها ، في مثل ( زيد قائم ) و ( ضرب عمرو بكرا ) شخصيا ، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيا ، ومنها خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والاضافات ، بمزاياها الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعيا ، بداهة أن وضعها كذلك واف بتمام المقصود منها ، كما لا يخفى من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها ، مع استلزامه الدلالة على المعنى : تارة بملاحظة وضع نفسها ، وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها.
    ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك ، هو وضع الهيئات على حدة ، غير وضع المواد ، لا وضعها بجملتها ، علاوة على وضع كل منهما.

    لا يخفى أن تبادر المعنى من اللفظ ، وانسباقه إلى الذهن من نفسه ـ وبلا قرينة ـ علامة كونه حقيقة فيه ، بداهة أنه لولا وضعه له ، لما تبادر.
    ولا يقال : كيف يكون علامة ؟ مع توقفه على العلم بأنه موضوع له ، كما هو واضح ، فلو كان العلم به موقوفا عليه لدار.
    فإنه يقال : الموقوف عليه غير الموقوف عليه ، فإن العلم التفصيلي ـ بكونه موضوعا له ـ موقوف على التبادر ، وهو موقوف على العلم الاجمالي الارتكازي به ، لا التفصيلي ، فلا دور. هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم ، وأما إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة ، فالتغاير أوضح من أن يخفى.


(19)
    ثم إن هذا فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ ، وأما فيما احتمل استناده إلى قرينة ، فلا يجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه ، لا إليها ـ كما قيل (1) ـ لعدم الدليل على اعتبارها إلا في إحراز المراد ، لا الاستناد.
    ثم إن عدم صحة سلب اللفظ ـ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن اجمالا كذلك ـ عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه ، كما أن صحة سلبه عنه علامة كونه مجازا في الجملة.
    والتفصيل : إن عدم صحة السلب عنه ، وصحة الحمل عليه بالحمل الاولي الذاتي ، الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوما ، علامة كونه نفس المعنى ، وبالحمل الشائع الصناعي ، الذي ملاكه الاتحاد وجودا ، بنحو من أنحاء الاتحاد ، علامة كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقية (2). كما أن صحة سلبه كذلك علامة أنه ليس منها ، وإن لم نقل بأن إطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة ، بل من باب الحقيقة ، وإن التصرف فيه في أمر عقلي ، كما صار إليه السكاكي (3).
    واستعلام حال اللفظ ، وأنه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما ،
1 ـ قوانين الاصول / 13.
2 ـ فيما إذا كان المحمول والمحمول عليه كليا وفردا ، لا فيما إذا كانا كليين متساويين ، أو غيرهما ، كما لا يخفى. منه قدس سره.
    وفي نسخة « أ » لم يظهر كونه تعليقا بل الظاهر دخوله في المتن.
3 ـ مفتاح العلوم / 156 ، الفصل الثالث في الاستعارة. أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر بن محمد السكاكي الخوارزمي ، ولد سنة 555 ه‍ كان علامة بارعا في فنون شتى خصوصا المعاني والبيان ، وله كتاب « مفتاح العلوم » فيه إثنا عشر علما من علوم العربية ، وله النصيب الوافر في علم الكلام وسائر الفنون مات بخوارزم سنة 626 ه‍. ( بغية الوعاة 2 / 364 رقم 2204 ).


(20)
ليس على وجه دائر ، لما عرفت في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه ، بالاجمال والتفصيل أو الاضافة إلى المستعلم والعالم ، فتأمل جيدا.
    ثم إنه قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا ، ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات ، حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها ، وإلا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال ، فالمجاز مطرد كالحقيقة ، وزيادة قيد ( من غير تأويل ) أو ( على وجه الحقيقة ) (1) ، وإن كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة ، إلا أنه ـ حينئذ ـ لا يكون علامة لها إلا على وجه دائر ، ولا يتأتى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا (2) ، ضرورة أنه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة ، لا يبقى مجال لاستعلام (3) حال الاستعمال بالاطراد ، أو بغيره.

    انه للفظ أحوال خمسة ، وهي : التجوز ، والاشتراك ، والتخصيص ، والنقل ، والاضمار ، لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الامر بينه وبين المعنى الحقيقي ، إلا بقرينة صارفة عنه إليه.
    وأما إذا دار الامر بينها ، فالاصوليون ، وإن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها ، إلا أنها استحسانية ، لا اعتبار بها ، إلا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى ، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك ، كما لا يخفى.
1 ـ الزيادة من صاحب الفصول ، الفصول / 38 ، فصل في علامة الحقيقة والمجاز.
2 ـ في « أ » : هاهنا.
3 ـ في « ب » : الاستعلام.


(21)
    إنه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه على أقوال ، وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال ، وهو : أن الوضع التعييني ، كما يحصل بالتصريح بإنشائه ، كذلك يحصل بإستعمال اللفظ في غير ما وضع له ، كما إذا وضع له ، بأن يقصد الحكاية عنه ، والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة ، وإن كان لا بد ـ حينئذ ـ من نصب قرينة ، إلا أنه للدلالة على ذلك ، لا على إرادة المعنى ، كما في المجاز ، فافهم.
    وكون إستعمال اللفظ فيه كذلك في غير ما وضع له ، بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز ، فلا يكون بحقيقة ولا مجاز ، غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره ، وقد عرفت سابقا (1) ، أنه في الاستعمالات الشايعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز.
    إذا عرفت هذا ، فدعوى الوضع التعييني في الالفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدا ، ومدعي القطع به غير مجازف قطعا ، ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته ، ويؤيد ذلك أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية ، فأي علاقة بين الصلاة شرعا والصلاة بمعنى الدعاء ، ومجرد إشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل بينهما ، كما لا يخفى. هذا كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا.
    وأما بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة ، كما هو قضية غير واحد من الآيات ، مثل قوله تعالى « كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من
1 ـ راجع صفحة 14 الامر الرابع.

(22)
قبلكم » (1) وقوله تعالى « وأذن في الناس بالحج » (2) وقوله تعالى « وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا » (3) إلى غير ذلك ، فألفاظها حقائق لغوية ، لا شرعية ، واختلاف الشرائع فيها جزءا وشرطا ، لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية ، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات ، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا ، كما لا يخفى.
    ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال ، لا مجال لدعوى الوثوق ـ فضلا عن القطع ـ بكونها حقائق شرعية ، ولا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها ، لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه.
    ومنه [ قد ] (4) إنقدح حال دعوى الوضع التعيني معه ، ومع الغض عنه ، فالانصاف أن منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة ، نعم حصوله في خصوص لسانه ممنوع ، فتأمل.
    وأما الثمرة بين القولين ، فتظهر في لزوم حمل الالفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت ، وعلى معانيها الشرعية على الثبوت ، فيما إذا علم تأخر الاستعمال ، وفيما إذا جهل التاريخ ، ففيه إشكال ، وأصالة تأخر الاستعمال مع معارضتها بأصالة تأخر الوضع ، لا دليل على اعتبارها تعبدا ، إلا على القول بالاصل المثبت ، ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك ، وأصالة عدم النقل إنما كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل ، لا في تأخره ، فتأمل.
1 ـ البقرة / 183.
2 ـ الحج / 27.
3 ـ مريم / 31.
4 ـ أثبتناه من « أ ».


(23)
    أنه وقع الخلاف في أن الفاظ العبادات ، أسام لخصوص الصحيحة أو للاعم منها ؟ وقبل الخوض في ذكر أدلة القولين ، يذكر أمور :
    منها : إنه لا شبهة في تأتي الخلاف ، على القول بثبوت الحقيقة الشرعية ، وفي جريانه على القول بالعدم إشكال.
    وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره : إن النزاع وقع ـ على هذا ـ في أن الاصل في هذه الالفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع ، هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الاعم ، بمعنى أن أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء ، وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته ، كي ينزل كلامه (1) عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية ، وعدم قرينة أخرى معينة للآخر.
    وأنت خبير بأنه لا يكاد يصح هذا ، إلا إذا علم أن العلاقة إنما اعتبرت كذلك ، وأن بناء الشارع في محاوراته ، استقر عند عدم نصب قرينة أخرى على إرادته ، بحيث كان هذا قرينة عليه ، من غير حاجة إلى قرينة معينة أخرى ، وأنى لهم بإثبات ذلك.
    وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع ـ على ما نسب (2) إلى الباقلاني (3) ـ
1 ـ في « أ » : تقديم ( عليه ) على ( كلامه ).
2 ـ نسبه ابن الحاجب والعضدي : راجع شرح العضدي على مختصر الاصول : 1 / 51 ـ 52.
3 ـ هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب البصري البغدادي المالكي الاصولي المتكلم كان مشهورا بالمناظرة وسرعة الجواب توفي سنة 403 ه‍ ببغداد ، ( الكنى والالقاب : 2 / 55 والعبر في خبر من غبر : 2 / 207 ).


(24)
وذلك بأن يكون النزاع ، في أن قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها إلا بالاخرى ـ الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه ـ هو تمام الاجزاء والشرائط ، أو هما في الجملة ، فلا تغفل.
    ومنها : أن الظاهر أن الصحة عند الكل بمعنى واحد ، وهو التمامية ، وتفسيرها بإسقاط القضاء ـ كما عن الفقهاء ـ أو بموافقة الشريعة ـ كما عن المتكلمين ـ أو غير ذلك ، إنما هو بالمهم من لوازمها ، لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الانظار ، وهذا لا يوجب تعدد المعنى ، كما لا يوجبه اختلافها بحسب الحالات من السفر ، والحضر ، والاختيار ، والاضطرار إلى غير ذلك ، كما لا يخفى.
    ومنه ينقدح أن الصحة والفساد أمران إضافيان ، فيختلف شيء واحد صحة وفسادا بحسب الحالات ، فيكون تاما بحسب حالة ، وفاسدا بحسب أخرى ، فتدبر جيدا.
    ومنها : أنه لابد ـ على كلا القولين ـ من قدر جامع في البين ، كان هو المسمى بلفظ كذا ، ولا إشكال في وجوده بين الافراد الصحيحة ، وإمكان الاشارة إليه بخواصه وآثاره ، فإن الاشتراك في الاثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد ، يؤثر الكل فيه بذاك الجامع ، فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا : بالناهية عن الفحشاء ، وما هو معراج المؤمن ، ونحوهما.
    والاشكال فيه (1) ـ بأن الجامع لا يكاد يكون أمرا مركبا ، إذ كل ما فرض جامعا ، يمكن أن يكون صحيحا وفاسدا ، لما عرفت ، ولا أمرا بسيطا ، لانه لا يخلو : أما أن يكون هو عنوان المطلوب ، أو ملزوما مساويا له ، والاول غير معقول ، لبداهة استحالة أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الطلب في متعلقه ،
1 ـ الاشكال من صاحب التقريرات ، مطارح الانظار / 6.

(25)
مع لزوم الترادف بين لفظة الصلاة والمطلوب ، وعدم جريان البراءة مع الشك في أجزاء العبادات وشرائطها ، لعدم الاجمال ـ حينئذ ـ في المأمور به فيها ، وإنما الاجمال فيما يتحقق به ، وفي مثله لا مجال لها ، كما حقق في محله ، مع أن المشهور القائلين بالصحيح ، قائلون بها في الشك فيها ، وبهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب أيضا ـ مدفوع ، بأن الجامع إنما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة. بحسب إختلاف الحالات ، متحد معها نحو إتحاد ، وفي مثله تجري البراءة ، وإنما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمرا واحدا خارجيا ، مسببا عن مركب مردد بين الاقل والاكثر ، كالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فيما إذا شك في أجزائهما ، هذا على الصحيح.
    وأما على الاعم ، فتصوير الجامع في غاية الاشكال ، فما قيل في تصويره أو يقال : وجوه (1) :
    أحدها (2) : أن يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة ، كالاركان في الصلاة مثلا ، وكان الزائد عليها معتبرا في المأمور به لا في المسمى.
    وفيه ما لا يخفى ، فإن التسمية بها حقيقة لا تدور مدارها ، ضرورة صدق الصلاة مع الاخلال ببعض الاركان ، بل وعدم الصدق عليها مع الاخلال بسائر الاجزاء والشرائط عند الاعمي ، مع أنه يلزم أن يكون الاستعمال فيما هو المأمور به ـ بأجزائه وشرائطه ـ مجازا عنده ، وكان من باب إستعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل ، لا من باب إطلاق الكلي على الفرد والجزئي ، كما هو واضح ، ولا يلتزم به القائل بالاعم ، فافهم.
1 ـ راجع القوانين / 40 في الصحيح والاعم ، ومطارح الانظار / 7 في الصحيح والاعم ، والفصول / 46.
2 ـ هذا ما يظهر من صاحب القوانين ، القوانين 1 / 44 في الصحيح والاعم.


(26)
    ثانيها : أن تكون موضوعة لمعظم الاجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفا ، فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمى ، وعدم صدقه عن عدمه.
    وفيه ـ مضافا إلى ما أورد على الاول أخيرا ـ أنه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمى ، فكان شيء واحد داخلا فيه تارة ، وخارجا عنه أخرى ، بل مرددا بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند إجتماع تمام الاجزاء ، وهو كما ترى ، سيما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.
    ثالثها : أن يكون وضعها كوضع الاعلام الشخصية ك‍ ( زيد ) فكما لا يضر في التسمية فيها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر ، ونقص بعض الاجزاء وزيادته ، كذلك فيها.
    وفيه : أن الاعلام إنما تكون موضوعة للاشخاص ، والتشخص إنما يكون بالوجود الخاص ، ويكون الشخص حقيقة باقيا مادام وجوده باقيا ، وإن تغيرت عوارضه من الزيادة والنقصان ، وغيرهما من الحالات والكيفيات ، فكما لا يضر اختلافها في التشخص ، لا يضر اختلافها في التسمية ، وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات مما كانت موضوعة للمركبات والمقيدات ، ولا يكاد يكون موضوعا له ، إلا ما كان جامعا لشتاتها وحاويا لمتفرقاتها ، كما عرفت في الصحيح منها.
    رابعها : إن ما وضعت له الالفاظ إبتداء هو الصحيح التام الواجد لتمام الاجزاء والشرائط ، إلا أن العرف يتسامحون ـ كما هو ديدنهم ـ ويطلقون تلك الالفاظ على الفاقد للبعض ، تنزيلا له منزلة الواجد ، فلا يكون مجازا في الكلمة ـ على ما ذهب إليه السكاكي (1) في الاستعارة ـ بل يمكن دعوى
1 ـ مفتاح العلوم / 156 ، الفصل الثالث في الاستعارة.

(27)
صيرورته حقيقة فيه ، بعد الاستعمال فيه كذلك دفعة أو دفعات ، من دون حاجة إلى الكثرة والشهرة ، للانس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة ، أو المشاركة في التأثير ، كما في أسامي المعاجين الموضوعة ابتداء لخصوص مركبات واجدة لاجزاء خاصة ، حيث يصح إطلاقها على الفاقد لبعض الاجزاء المشابه له صورة ، والمشارك في المهم أثرا تنزيلا أو حقيقة.
    وفيه : إنه إنما يتم في مثل أسامي المعاجين ، وسائر المركبات الخارجية مما يكون الموضوع له (1) فيها ابتداء مركبا ، خاصا ، ولا يكاد يتم في مثل العبادات ، التي عرفت أن الصحيح منها يختلف حسب إختلاف الحالات ، وكون الصحيح بحسب حالة فاسدا (2) بحسب حالة أخرى ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.
    خامسها : أن يكون حالها حال أسامي المقادير والاوزان ، مثل المثقال ، والحقة ، والوزنة إلى غير ذلك ، مما لا شبهة في كونها حقيقة في الزائد والناقص في الجملة ، فإن الواضع وإن لاحظ مقدارا خاصا ، إلا أنه لم يضع له بخصوصه ، بل للاعم منه ومن الزائد والناقص ، أو أنه وإن خص به أولا ، إلا أنه بالاستعمال كثيرا فيهما بعناية أنهما منه ، قد صار حقيقة في الاعم ثانيا.
    وفيه : إن الصحيح ـ كما عرفت في الوجه السابق ـ يختلف زيادة ونقيصة ، فلا يكون هناك ما يلحظ الزائد والناقص بالقياس عليه ، كي يوضع اللفظ لما هو الاعم ، فتدبر جيدا.
    ومنها : ان الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له ـ في ألفاظ العبادات ـ عامين ، واحتمال كون الموضوع له خاصا بعيد جدا ، لاستلزامه كون
1 ـ في « ب » : الموضوع فيها.
2 ـ في « أ و ب » : فاسد.


(28)
استعمالها في الجامع ، في مثل : ( الصلاة تنهى عن الفحشاء ) و ( الصلاة معراج المؤمن ) و [ ( عمود الدين ) ] (1) و ( الصوم جنة من النار ) مجازا ، أو منع استعمالها فيه في مثلها ، وكل منهما بعيد إلى الغاية ، كما لا يخفى على أولي النهاية.
    ومنها : أن ثمرة النزاع إجمال الخطاب على القول (2) الصحيحي ، وعدم جواز الرجوع إلى إطلاقه ، في رفع ما إذا شك في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته أصلا ، لاحتمال دخوله في المسمى ، كما لا يخفى ، وجواز الرجوع إليه في ذلك على القول الاعمي ، في غير ما إحتمل دخوله فيه ، مما شك في جزئيته أو شرطيته ، نعم لا بد في الرجوع إليه فيما ذكر من كونه واردا مورد البيان ، كما لا بد منه في الرجوع إلى سائر المطلقات ، وبدونه لا مرجع أيضا إلا البراءة أو الاشتغال ، على الخلاف في مسألة دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين.
    وقد إنقدح بذلك : إن الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال في موارد إجمال الخطاب أو إهماله على القولين ، فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع إلى البراءة على الاعم ، والاشتغال على الصحيح (3) ، ولذا ذهب المشهور إلى البراءة ، مع ذهابهم إلى الصحيح.
    وربما قيل (4) بظهور الثمرة في النذر أيضا.
    قلت : وإن كان تظهر فيما لو نذر لمن صلى إعطاء درهم في البرء فيما لو أعطاه لمن صلى ، ولو علم بفساد صلاته ، لاخلاله بما لا يعتبر في الاسم على الاعم ، وعدم البرء على الصحيح ، إلا أنه ليس بثمرة لمثل هذه
1 ـ أثبتناها من ( ب ).
2 ـ وفي النسخ : القول.
3 ـ القوانين 1 / 40 ، مبحث الصحيح والاعم.
4 ـ القوانين 1 / 43 ، مبحث الصحيح والاعم.


(29)
المسألة ، لما عرفت من أن ثمرة المسألة الاصولية ، هي أن تكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الاحكام الفرعية ، فافهم.
    وكيف كان ، فقد استدل للصحيحي بوجوده :
    أحدها : التبادر ، ودعوى أن المنسبق إلى الاذهان منها هو الصحيح ، ولا منافاة بين دعوى ذلك ، وبين كون الالفاظ على هذا القول مجملات ، فإن المنافاة إنما تكون فيما إذا لم تكن معانيها على هذا مبينة بوجه ، وقد عرفت كونها مبينة بغير وجه.
    ثانيها : صحة السلب عن الفاسد ، بسبب الاخلال ببعض أجزائه ، أو شرائطه بالمداقة ، وإن صح الاطلاق عليه بالعناية.
    ثالثها : الاخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسميات مثل ( الصلاة عمود الدين ) (1) أو ( معراج المؤمن ) (2) و ( الصوم جنة من النار ) (3) إلى غير ذلك ، أو نفي ماهيتها وطبائعها ، مثل ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) (4) ونحوه ، مما كان ظاهرا في نفي الحقيقة ، بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطرا أو شرطا ، وإرادة خصوص الصحيح من الطائفة الاولى ، ونفي الصحة من الثانية ، لشيوع إستعمال هذا التركيب في نفي مثل الصحة أو الكمال خلاف الظاهر ، لا يصار إليه مع عدم نصب قرينة عليه ، واستعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع ، حتى في مثل ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) (5) مما يعلم أن المراد نفي الكمال ، بدعوى استعماله
1 ـ دعائم الاسلام 1 : 133 ، جامع الاخبار / 85 ، الكافي 3 / 99 باب النفساء الحديث 4 غوالي اللآلي 1 / 322 الحديث 55.
2 ـ لم نجده في كتب الحديث ، ولكن أورده في جواهر الكلام 7 / 2.
3 ـ الفقيه 2 / 44 باب فضل الصيام ، الحديث 1 و 5 ، الكافي 4 / 62 باب ما جاء في فضل الصوم والصائم الحديث 1.
4 ـ غوالي اللآلي 1 : 196 ، الحديث 2 وغوالي اللآلي 2 : 218 الحديث 13.
5 ـ دعائم الاسلام 1 : 148 ، التهذيب 3 : 261 باب 25 فضل المساجد والصلاة فيها ،


(30)
في نفي الحقيقة ، في مثله أيضا بنحو من العناية ، لا على الحقيقة ، وإلا لما دل على المبالغة ، فافهم (1).
    رابعها : دعوى القطع بأن طريقة الواضعين وديدنهم ، وضع الالفاظ للمركبات التامة ، كما هو قضية الحكمة الداعية إليه ، والحاجة وإن دعت أحيانا إلى إستعمالها في الناقص أيضا ، إلا أنه لا يقتضي أن يكون بنحو الحقيقة ، بل ولو كان مسامحة ، تنزيلا للفاقد منزلة الواجد.
    والظاهر أن الشارع غير متخط عن هذه الطريقة.
    ولا يخفى أن هذه الدعوى وإن كانت غير بعيدة ، إلا أنها قابلة للمنع ، فتأمل.
    وقد إستدل للاعمي أيضا ، بوجوه :
    منها : تبادر الاعم.
    وفيه : أنه قد عرفت الاشكال في تصوير الجامع الذي لا بد منه ، فكيف يصح معه دعوى التبادر.
    ومنها : عدم صحة السلب عن الفاسد.
    وفيه منع ، لما عرفت.
    ومنها : صحة التقسيم إلى الصحيح والسقيم.
    وفيه أنه إنما يشهد على أنها للاعم ، لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح ، وقد عرفتها ، فلا بد أن يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللفظ ، ولو بالعناية.
الحديث 55 وسائل الشيعة 3 / 478 الباب 2 من أبواب أحكام المساجد ، الحديث 1.
1 ـ إشارة إلى أن الاخبار المثبتة للآثار وإن كانت ظاهرة في ذلك ـ لمكان أصالة الحقيقة ، ولازم ذلك كون الموضوع له للاسماء هو الصحيح ، ضرورة اختصاص تلك الآثار به ـ إلا أنه لا يثبت بأصالتها كما لا يخفى ، لاجرائها العقلاء في إثبات المراد ، لا في أنه على نحو الحقيقة لا المجاز ، فتأمل جيدا ، منه قدس سره.
كفاية الاصول ::: فهرس