بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف مبعوث للعالمين، نبينا محمد المصطفى وعلى آله الطيّبين الطاهرين ، ومن أخلص لهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين . وبعد :
فقد أصبح من البداهة والضرورة بمكان أنّ أيّ قائدٍ من القوّاد ـ المخلصين لمبادئهم وشعوبهم ـ لا يعقل أن يترك أُمّته وأتباعه من بعده هملاً وبلا راع... ولذا نراهم ـ دائماً ـ يفكّرون في من يخلفهم عند غيابهم ـ حتى في المدة القصيرة ـ ليقوم بالوظائف والمهام اللازمة .
وإذا كان ترك الاَُمّة سدىً من سائر القادة مستحيلاً ، كان ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستحيلاً بالاَولوية القطعية ، فإنّه سيد العقلاء وأشرف المخلوقين من الاَولين والآخرين ، وشريعته أفضل الشرائع ، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم .
إذن ، لابدّ من خليفةٍ له يخلفه في أُمّته ، ولابدّ أيضاً من أن يكون هو ـ قبل غيره ـ المهتمّ بهذا الاَمر .
لاشك وأن الاَُمّة يوم فقدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت تتذكّر ما رأته وما سمعته من خلال أيام رسالته في هذا المجال ، لا سيّما أيامه الاَخيرة حيثُ أوصى بأشياء ، فإنّهم كانوا يحفظون وصاياه تلك ـ في الاَقل لقرب العهد بها ـ وهي الوصايا التي ما زالت الاَُمّة تحتفظ بها حتى يومنا هذا .

( 6 )
فهل كان الذي سمعوه منه وحفظوه هو (النص) على واحدٍ معيّنٍ من بعده ، أو ترك الاَمر إلى الاَُمّة نفسها لتختار له خلفاً يقوم بوظائفه وشؤونه ؟
وعلى الجملة ، فهل الاَساس في الاِمامة والخلافة ـ على ضوء الكتاب والسُنّة ـ هو (النص) أو (الشورى) ؟
ولكنا إذا ما عدنا إلى خلفيات الواقع التاريخي لمسألة الخلافة في الاِسلام ، ودرسناها بحياد تام ؛ لوجدناها قد حسمت بعيداً عن كلا الامرين وذلك باجراء سريع عاجل على أثر مبادرة جماعة من الانصار مع نفر قليل من المهاجرين إلى اجتماع السقيفة في وقت انشغال المسلمين وعلى رأسهم أهل البيت عليهم السلام وبنو هاشم كلهم بتجهيز النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، والقاء النظرة الاَخيرة على الجسد المطهر العظيم ومن ثم مواراته الثرى في موكب حزين .
ومع قلّة المجتمعين في السقيفة فان مادار بينهم لم يسفر عن رضا الجميع ولا عن اتفاقهم أو تشاورهم ، بل تطاير الشرُّ فيها ، وكانت بيعتهم ـ كما قال عمر ـ (فلتة وقى الله شرّها) .
وهذا يعني ان الشورى لم تتحقق بين أصحاب السقيفة أنفسهم فضلاً عمن غاب عنها ورفضها كأهل البيت عليهم السلام ، وأصحابهم ، وبني هاشم كلهم ، والامويين أيضاً كما يدلّ عليه موقف عميدهم ، فهذا هو الواقع التاريخي الذي ساد بعد اجتماع السقيفة .
ولاَجل صيانته ، والحفاظ على كرامة السلف الماضين حاولت طائفة التنظير لمسألة الخلافة من خلال ذلك الواقع فتشبثت بالشورى ، لكن لما اصطدمت بالواقع التاريخي الذي أشرنا إليه ، عادت إلى النص...

( 7 )
وحينئذٍ يأتي البحث عن من هو (المنصوص عليه) من قبل الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ؟
وهذا الكتاب الذي نقدمه باعتزاز إلى القراء قد أُجريت فيه موازنة دقيقة، وحوار علمي بين منطق أصحاب (الشورى) وبين منطق أصحاب (النص والتعيين) ، مع ايراد أقوى ما يمتلكه الطرفان من الاَدلة ومناقشتها بحياد وموضوعية ، مع بيان أي من المنطقين هو المتماسك وأيُّهما المتهافت .
نترك للقارئ والباحث حريّة اختيار ما توصل إليه البحث من نتائج في ضوء استخدام المصادر المعتبرة ، مع أصالة المنهج المتبع ، وقوة التحليل .

والله الهادي إلى سواء السبيل

مركز الرسالة


( 8 )


( 9 )

تمهيد

لا تزال مشكلة (أساس نظام الحكم في الاِسلام) تُعدّ من اُمّهات المشاكل التي لم يُحسم فيها القول بين المسلمين بعد..
إنّها واحدة من المشاكل الكبرى التي تعرّضت دائماً لاِشكالات الرُؤى المذهبية ، شأنها شأن أخواتها من المشكلات التاريخية والعقيدية .
ليس النزاع في أصل النظام ، فإنّ أحداً لا يستطيع أن يتصوّر أُمّة تحيا بلا نظام ، ونظاماً يسود بلا قيادة..
وقديماً تحدّث الفقهاء وفلاسفة السياسة المدنية عن هذا الاَصل :
ـ فأحمد بن حنبل يُعرّف الفتنة بأنها حال الاُمّة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس .
ـ وتحدّث المسعودي عن حاجة الدين إلى الملك ، وحاجة الملك إلى الدين ، ورأى أنّه لا غنى لاَحدهما عن الآخر..
ـ ورأى ابن حزم أنّ ذلك معلوم بضرورة العقل وبديهته ، وأنّ قيام الدين ممتنع غير ممكن إلاّ بالاسناد إلى واحد يكون على رأس هذا النظام.
ـ وعبّر ابن خلدون عن هذا النظام بأنّه قوانين سياسية مفروضة يسلّمها الكافة وينقادون إلى أحكامها ، فإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها ولم يتم استيلاؤها ( سُنّة الله في الذين خَلَوا من قبل ) (1).
____________
(1) الأحزاب 33 : 38.

( 10 )
وقبل هذا كلّه قد تعامل المسلمون مع هذا الاَصل كضرورة واقعية إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
أما النزاع الدائر فهو في أساس ذلك النظام.. في الاسلوب الذي يقود رأس النظام إلى موقع الرئاسة..
لقد حاول البعض على امتداد تاريخنا السياسي التركيز على نظرية الشورى أصلاً في النظام ، مستنداً على أمثلة تاريخية معدودة ، صاغ منها اُنموذجاً للشورى في الاِسلام .
وتناولت ذلك كتب العقائد والاَحكام السلطانية ثم تقدّمت به خطوة أُخرى إلى أمام لتنتزع لهذه النظرية أصالتها من مصادر التشريع الاِسلامي ؛ القرآن والسُنّة.. لتكتسب نظرية الشورى بعد ذلك أصالة دينية متقدمة على شهودها التاريخي ، بل ومبرّرة له .
وكلّ ذلك يدور حول الخلافة الاُولى للرسول صلى الله عليه وآله وسلم .. فشكّل الاتجاهان ـ دراسات التاريخ السياسي ، والدراسات العقيدية ـ وحدة موضوعية كافحت على امتداد هذا الزمن الطويل من أجل تدعيم تلك النظرية وتأصيلها..
لكن هل استطاعت هذه المسيرة المتوحّدة أن تُقدّم الكلمة الاَخيرة في الموضوع ، وتضع الحل الحاسم للاَسئلة التي تثار حوله ؟
هل استطاعت أن تثبت أصالة الشورى طريقاً إلى خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؟
هل استطاعت أن تثبت ما هو أوسع من ذلك ؛ أصالة الشورى في حل
( 11 )
مشكلة النظام السياسي في الاِسلام ؟
هل استطاعت أن تنفي الاُطروحات الاُخر المزاحمة للشورى ، من قبيل : النصّ ، والغلبة وغيرها ؟
ما هو مستوى النجاح الذي حققّته في كلِّ واحد من هذه الميادين ؟
وماذا عن قدرة الاطروحات الاُخرى على منازعة نظرية الشورى والحلول محلّها بديلاً في تعيين أساس نظام الحكم في الاِسلام ؟
مواضيع عديدة تتفرّع عن هذه الاَسئلة الكبيرة تبنّى هذا البحث المقتضب دراستها ومناقشتها ، مناقشة موضوعية عُمدتها البرهان العلمي والدليل الحاسم ، بعيداً عن الالتفاف على النصوص ، وتحويل القطعي إلى ظنّي ، والصريح إلى مؤوّل ، والخاص إلى العام ، والصحيح إلى ضعيف ، ونحو ذلك من أساليب الجدل..
ويقع البحث في قسمين رئيسيين ؛ يتناول القسم الاَول نظرية الشورى من جميع وجوهها ، فيدرس الشورى في القرآن والسنة ، ثم الشورى في واقعها التاريخي وفي الفقه السياسي ، مع أهم ما يتّصل بهذه العناوين من مباحث .
فيما يتناول القسم الثاني (نظرية النصّ) وفق المنهج نفسه ، مستوفياً ما يتعلّق بهذا الموضوع بحثاً ونقداً .
ليخلص إلى النتيجة التي يقررّها البحث في كلا قسميه..

والله المسدّد للصواب

( 12 )

( 13 )

الشورى



( 14 )

( 15 )

الشورى في الكتاب والسُنّة

ثلاثة نصوص في القرآن الكريم تتحدث عن الشورى ، ولكن على مستويات مختلفة :

النصّ الاَول :
قوله تعالى في شأن الرضاع : ( والوالدات يرضعنَ أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ الرضاعة وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف... فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاور فلا جناح عليهما ) (1).
وهذا حديث في أجواء الاُسرة الواحدة ، يتشاور الاَبوان في شأن وليدهما الرضيع ، هل تُتمّ اُمّه رضاعه إلى الحولين ، أم تفصله عن الرضاع؟ تفاهم ثنائي في مسألة على ضوء المعرفة بحال الاَم وحال الرضيع ، وجوّ الاُسرة العامّ ، ينتهي إلى قرار مشترك لا إكراه فيه .
وربما انتهى قرارهما بعد التشاور إلى أن يسترضعا له مرضعة غير اُمّه ، قال تعالى (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف واتّقوا الله واعلموا أنّ الله بما تعملون بصير ) (2).

____________
(1) البقرة 2 : 233 .
(2) البقرة 2 : 233 .

( 16 )
فهذه الآية الشريفة تعالج قضيّةً من قضايا الاُسرة ، وما يتعلّق منها بالرضيع خاصّة ، ضماناً لمصلحته ، وحفاظاً على سلامة الجوّ الاُسري الذي قد يحطّمه استبداد أحد الزوجين بالامر كلّه (1).

النصّ الثاني :
في الحديث عن غزوة اُحد وما انتهت إليه من هزيمة القسم الاَعظم من جيش المسلمين وتركهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع بضعة نفر من أصحابه يكافحون العدوّ لوحدهم ، ممّا هو مدعاة لاِشعارهم بتقصيرهم الشديد وذنبهم الكبير الذي ارتكبوه ، خصوصاً وأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج إلى اُحد إلاّ برأيهم ورغبتهم وإلحاحهم ، لكنّ الذي وجدوه من النبيّ القائد صلى الله عليه وآله وسلم هو عكس ما يظنّون ممّا هو معتاد لدى القادة إزاء الجند المنهزم عن قائده ساعة الحرب ! وجدوا منه صلى الله عليه وآله وسلم ليناً معهم وإكراماً زادهم شعوراً بالتقصير حين لم يلجئهم إلى التماس الاَعذار ، أو التذلّل .
فبارك الله تعالى هذا الخُلق الكريم ، وهذا السلوك الحكيم ، إذ جاء التنزيل : ( فبما رحمةٍ من الله لِنتَ لهم ولو كنتَ فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك ) (2) فإنّما كان لينك معهم وغضّك عن ذنبهم برحمة من الله تعالى ، وأيّ رحمة ، أيّ رحمةٍ هذه التي جعلتك تلين لجند أخرجوك إلى القتال برأيهم ، فلمّا حمي الوطيس فرّوا عنك ونجوا بأنفسهم ؟!
وإتماماً لهذه الرحمة الواسعة ، تنزّل الاَمر الالهي بما يدعو إلى إعادة
____________
(1) راجع تفسير ابن كثير 1 : 285 ، فتح القدير 1 : 246 ـ 247، الميزان في تفسير القرآن 2: 253 .
(2) آل عمران 3 : 159 .

( 17 )
المجتمع الاسلامي إلى تماسكه الاَوّل ، بل أكثر ، وإعادة هذا الرعيل الكبير إلى موقع إجتماعي طبيعي يستطيع من خلاله أن يستأنف نشاطه ويصحح عثرته ، فقال تعالى : ( فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الاَمر) (1) فلم تقف الرحمة عند اللين والعفو والاستغفار ، بل امتدت إلى مشاورتهم في الاُمور التي تصحّ المشاورة فيها ، عندئذٍ فقط سيجدون أنفسهم أعضاء فاعلين في هذا البناء الاجتماعي الذي ينشده الاِسلام .
لكنّ التنزيل لم يترك الاَمر بالمشورة مرسلاً ، بل وضع له نظاماً واضح المعالم ، فالنبيّ القائد المستشير حين يعزم على أمرٍ فيه الصواب والصلاح ينبغي أن ينفذ فيه ، سواء كان موافقاً لآراء المستشارين أو مخالفاً لها : ( فإذا عزمت فتوكّل على الله ) (2).

موضوع الشورى وأهدافها :
الشورى التي دعت إليها هذه الآية الكريمة ما هو موضوعها ؟ وما هي أهدافها ؟ بعد أن عرفنا أنّ الشورى في المورد الاَوّل كان موضوعها الرضاع، وأهدافها : ضمان مصلحة الرضيع ، وسلامة المحيط الاُسري .
إنّ الشورى هنا مختلفة عن الاُولى ، فالمستشير هنا هو النبيّ القائد صلى الله عليه وآله وسلم ، والمستشار هم جمهور الناس من أصحابه .
فما هي الاُمور التي كان صلى الله عليه وآله وسلم مدعوّاً لاستشارتهم فيها ؟ أهي أمور الدين ، أم اُمور الدنيا ؟

____________
(1) آل عمران 3 : 159 .
(2) آل عمران 3 : 159 .

( 18 )
ولاَي شيءٍ هذه المشورة ، ألاَجل أن يستنير بآرائهم ويهتدي بها إلى الصواب ؟ أم ماذا ؟ للمفسّرين هنا كلام تتّفق معانيه وأدلّته كثيراً ، وتختلف قليلاً ، فمّما اتّفقوا فيه كلامهم في حدود الاجابة عن سؤالنا الاَوّل ؛ أيّ الاُمور هذه التي يستشيرهم فيها ؟
قال الشوكاني ـ وقوله جامع لاَقوال المفسّرين ـ : ( إنّ المراد أيّ أمرٍ كان ممّا يشاوَر في مثله ، أو في أمر الحرب خاصّة كما يفيده السياق... والمراد هنا المشاورة في غير الاُمور التي يرد الشرع بها ) (1).
فالمشاورة إذن ليست في أمور الدين والاَحكام ، فهذه من شأن التنزيل وحده ، وليست محلاًّ للرأي والنظر .
فموضوع المشاورة إذن هو أمور الدنيا ، وقد تقدّم أنّ السياق يدلّ على أنّ المراد هو شأن الحروب وخططها ، وليس السياق وحده يدلّ على هذا، بل التاريخ أيضاً أثبت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد استشار أصحابه في بعض شؤون الحرب ، كالذي حدث في اختيار لقاء العدوّ يوم بدر ، وفي اُسارى بدر ، وفي الخروج إلى اُحد ، وفي الخندق .
أمّا وراء شؤون الحرب ، فإن حصل فنادرٌ جدّاً ، وحتى شؤون الحرب لم تكن كلّها خاضعة للشورى ، بل كان قرار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في اختيار الحرب وتحديد مكانها وزمانها حاسماً وسابقاً لاَيّ مستوى من مستويات الشورى ، وهو قرار باق وحاكم حتّى لو كثر فيه الخلاف ، كما هو واضح جدّاً في بعثة اُسامة ، وفي اختيار زيد بن حارثة أميراً على جيش مؤتة ولو
____________
(1) فتح القدير 1 : 393 .

( 19 )
بعد جعفر بن أبي طالب ، وفي عقد الصلح في الحديبية مع مشركي قريش، وغير ذلك كثير .
وسوف يطلّ علينا البحث في أهداف هذه الشورى بمزيد من الوضوح في موضوع الشورى ومساحتها .

أمّا أهداف هذه الشورى :
فتطالعنا بها أحاديث مرفوعة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وأقوال لقدماء المفسّرين أو متأخّريهم.. ومن مجموع ما ورد يظهر لهذه الشورى بعدان :
البعد الاَول :
نكتشفه في النصوص الآتية :
ـ عن قتادة ، قال : ( أمر الله نبيّه أن يشاور أصحابه في الاُمور ، وهو يأتيه وحي السماء ، لاَنّه أطيب لاَنفس القوم ، وأنّ القوم إذا شاور بعضهم بعضاً وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على الرشدة )(1).
إنّه إذن أمر للقائد أن يشاور قومه وأصحابه ، لما في ذلك من المنافع المذكورة .
ـ وعن الحسن ، قال : ( قد علم الله أنّه ما به إليهم من حاجة ، ولكن أراد أن يستنّ به من بعده )(2).
فهي إذن سنّة من السنن المُلزمة للقائد ، مارسها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من
____________
(1) الدر المنثور 2 : 358 .
(2) الدر المنثور 2 : 358 .

( 20 )
بعده من القادة أولى بممارستها والرجوع إليها .
ـ قال الرازي : ( ليقتدي به غيره في المشاورة ، ويصير سنّة في اُمّته ) (1).
فنحن مازلنا في دائرة واحدة ، وهي دائرة الشورى التي يمارسها القائد في تخطيطه السياسي والاجتماعي والتنظيمي ، مع قواعد شعبية واسعة ، أو مع طليعة ممتازة ، أو مع واحد تميّز بخبرة خاصّة في شأن من الشؤون التي يمكن أن تتسع لها الشورى ، من غير الاحكام والتشريعات وما تخصّصت النصوص الشرعية في بيانه .
إذن نحن إزاء شورى يمكن أن نطلق عليها اسم (شورى الحاكم) .

هل اتّخذت هذه الشورى نظاماً ثابتاً ؟ :
منذ أن نزلت هذه الآية الكريمة وحتّى وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، هل اتّخذت الشورى شكلاً معيناً ونظاماً ثابتاً ؟
ومن كافّة أمثلة الشورى وتطبيقاتها ـ ومعظمها في شؤون الحرب ـ نجد أنّ النبيّ القائد صلى الله عليه وآله وسلم كان يختار للمشورة أحياناً من يشاء ، وأحياناً يستمع إلى مشير يبدي رأيه ابتداءً ، دون أن ينتخب أشخاصاً بأعيانهم للمشاورة في النوازل..
ـ فيوم الخندق ؛ أشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر خندق حول المدينة ، فأخذ برأيه ، وأمر بحفر الخندق ، فحُفر ، وعاد على الاِسلام والمسلمين بكلِّ خير.. (2).

____________
(1) تفسير الرازي 9 : 66 .
(2) تاريخ الطبري 2 : 566 عن الواقدي ، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم ، دار التراث .

( 21 )
ـ وأيّام الخندق ذاتها ؛ أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يفتّ في عضد الاحزاب ويفرّق شملهم ليخفّف على أهل المدينة ضنك الحصار ، بأن يصالح كبير غطفان عيينة بن حصن على سهم من ثمر المدينة لينسحب بمن معه من غطفان وهوازن ويخذل الاَحزاب ، فدعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الاَمر سيّدي الاَوس والخزرج من الاَنصار : سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، فاستشارهما في ذلك ، فقالا : يا رسول الله ، إن كنت اُمرتَ بشيء فافعله وامضِ له ، وإن كان غير ذلك فوالله لا نعطيهم إلاّ السيف .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «لم اُؤمر بشيء ، ولو اُمرت بشيء ما شاورتكما.. بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلاّ لاَنّني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، وكالبوكم من كلِّ جانب ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ ما» . وسُرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهما ، فقال لعيينة بن حصن ، ورفع صوته بها «ارجع ، فليس بيننا وبينكم إلاّ السيف» (1).
وفي هذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد اختبر صبر الانصار وثباتهم وصدق إيمانهم .
كما كشف هذا الحوار صراحةً أنّه لا محلّ للشورى في ما كان عن أمر من الله ورسوله .
ـ وفي حدثٍ ثالث كان المستشار علي عليه السلام وزيد بن حارثة ، ذلك حين كان حديث الاِفك .
ـ وفي حدثٍ رابع استمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى مشورة امرأة واحدة ، هي اُمّ
____________
(1) سيرة ابن هشام 3 : 234 ، الاستيعاب 2 : 37 ، تاريخ الطبري 2 : 573 عن الزهري .

( 22 )
المؤمنين اُمّ سَلَمة ، ذلك يوم الحديبية ، بعد إمضاء الصلح ، إذ أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن ينحروا ما معهم من الهدي الذي ساقوه ، فلم ينحر أحد ، فبان الغضب بوجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعاد إلى خيمته ، فقالت له اُمّ سَلَمة، لو نحرتَ يا رسول الله ، لنحروا بعدك.. فنحر صلى الله عليه وآله وسلم هديه ، فنحروا بعده (1) .
هذه هي أشهر نماذج الشورى التي يعرضها التاريخ ، بغضّ النظر عن صحّة أسانيدها أو ضعفها ، منذ نزلت آية الشورى هذه حتّى قُبض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .. فليس هناك شيء أكثر ممّا كان قبل نزولها.. وليس هناك نظام محدّد ، ولا أشخاص معيّنون.. ليس هناك أثر لما دعاه البعض (هيئة العشرة)..
تلك هيئة ليس لها أثر أيّام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلّها ، ولا استطاع مدّعيها (2)أن يأتي بشاهد تاريخي واحد على وجودها في أيام النبيّ ( ص ) ، ولا يستطيع أن يأتي بشاهد واحد يؤيّدها من حياة أبي بكر كلّها وحياة عمر كلّها ، حتّى اختياره الستة المعروفين لشورى الخلافة !
وأضعف من هذه الدعوى ما جاء في محاولة البرهنة عليها من أشياء متكلَّفة ، واُخرى لا واقع لها ، واُخرى تفيد نفيها بدلاً من إثباتها !
ومن أنكر وأغرب ما استدلّ به ، وهو يراه أقوى أدلّة الاِثبات ، ثلاثة أشياء ، هي :

____________
(1) تاريخ الطبري 2 : 637 عن الزهري .
(2) محمد عمارة ، الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية : 54 .

( 23 )
الاَول : قوله : يتحدّث سعيد بن جبير عن هذه الحقيقة الهامّة ، فيقول : (وكان مقام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبدالرحمن بن عوف وابي عبيدة وسعيد بن زيد ، كانوا أمام رسول الله في القتال ووراءه في الصلاة) . ثم يستنتج من هذا القول أنّ هؤلاء العشرة لم يكونوا فقط وزراء الرسول ومجلس شوراه ، وانّما كانوا يديمون الوقوف خلفه مباشرة في الصلاة ، كما يلتزمون الوقوف أمامه عند الحرب والقتال (1)!!
إننا بغضّ النظر عن صحّة نسبة مثل هذا القول إلى سعيد بن جبير ، أو عدمها ، لو سألنا الباحث أن يكتشف لنا حرباً واحدةً فقط من حروب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقف فيها هؤلاء العشرة أمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقت القتال ، لعاد بعد بحث طويل في خيبة أمل !
الثاني : قوله : هؤلاء العشرة فيهم أوّل ثمانية دخلوا في دين الاِسلام ، فهم أوّلون في الاِسلام ، ومهاجرون (2). وهذا كلام مع ما فيه من تهافت فهو دعوى غير صحيحة أيضاً.. فهل كان سبق الثمانية إلى الاِسلام هو الذي رفع الاثنين الآخرين ؟!
ثمّ أين هذا السبق ، وكلّهم ـ ما خلا عليّ ـ مسبوق ؟! إنّهم ، غير الإمام علي عليه السلام، مسبوقون إلى الاِسلام ، سبقتهم خديجة ، وجعفر بن أبي طالب ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وأخوه عثمان ، وسبقهم زيد بن حارثة ، وسبقهم أبو ذرّ الغفاري خامس الاِسلام ، وسبقهم آخرون (3).

____________
(1) الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية : 57 .
(2) الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية : 58 .
(3) اُنظر : البداية والنهاية 3 : 34 ـ 38 ، ترجمة أبي ذرّ في : الاستيعاب ، اُسد الغابة ، الاصابة ، سِيَر أعلام النبلاء .

( 24 )
الثالث : وهو أكثرها نكارة ، ما نقله عن المستشرق فان فلوتن ، بعد أن قدّم له بسؤال مثير ، فقال : (ولكن هل خرجت الشورى على عهد رسول الله من النطاق الفردي غير المنظّم ، إلى نطاق التنظيم المحكوم بمؤسّسة من المؤسّسات ؟ ).
فلمّا لم يجد لهذا التساؤل الهام جواباً من التاريخ ، تعلّق بالخطأ الذي وقع فيه فان فلوتن لسوء فهمه لمفردات العربية ، فحين قرأ عن أصحاب الصفّة وهم المقيمون في المسجد على صفّة كبيرة فيه ، والبالغ عددهم سبعين رجلاً ، ظن أنّ الصفّة تعني (الصفوة) ! فظنّ أنّ صفوة الصحابة كانوا سبعين رجلاً لا يفارقون المسجد كمؤسّسة استشارية تتّخذ من المسجد مقرّاً لها ، ولم يفهم أنّ أصحاب الصفة هؤلاء هم أضعف المسلمين حالاً ، لا يملكون مأوىً لهم فاتخذوا المسجد مأوى !!
وليس هذا بمستغرب من مستشرق لا يتقن العربية ، ولا تعنيه فداحة الخطأ العلمي بقدر ما يعنيه الادلاء برأيه.. لكنّ المستغرب أن يأتي باحث كبير كالشيخ محمد عمارة فيعتمد هذا الخطأ العلمي مصدراً لتثبيت قضية هامّة كهذه ، قائلاً : (نعم ، فهناك ما يشير إلى وجود مجلس للشورى في عهد الرسول كان عدد أعضائه سبعين عضواً) ويصرّح أن مصدره فان فلوتن (1) !

أنتم أعلم باُمور دنياكم ! :
هذا وجه آخر من وجوه تفسير مشاورة الرسول أصحابه : إنّ علوم الخلق متناهية ، فلابدّ أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح مالا يخطر
____________
(1) الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية : 53 .

( 25 )
بباله صلى الله عليه وآله وسلم لا سيّما في ما يُفعل من اُمور الدنيا ، ولذلك قال : «أنتم أعلم بأمور دنياكم» (1)!
لكنّ هذا وجه مردود من أوّل نظرة ، حتّى على فرض صحّة الحديث «أنتم أعلم بأمور دنياكم».. ذلك أنّ هذا كان في واقعة محدّدة ، هي قضية تأبير النخل في عام من الاَعوام ، وقضية مثل هذه لا تدخل في شؤون النبوّة ولا في شؤون القيادة السياسة والاجتماعية ، فلم يكن قائد من قوّاد الاُمم مسؤولاً عن نظام تأبير النخل ! أو عن إصلاح شؤون بيوت الناس من ترتيب أثاثها وترميم قديمها ! أو كيفية خياطة الثياب ! أو طريقة رصف السلع في الاَسواق !
هذه هي أمور دنيا الناس التي يباشرونها بأذواقهم وبخبراتهم الخاصة الخاضعة لظروفها الزمانية والمكانية .
أمّا أن يقال إنّ من الناس من هو أعلم من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشؤون سياسة الدولة ، وأقدر منه على تقدير مصالحها وحفظها ، فهذا من الفكر الشاذّ الذي لا يستقيم ومبادئ الاِسلام .
فمن المستنكر جدّاً أن يستفاد من حديث «أنتم أعلم باُمور دنياكم» انّهم أعلم منه بسياسة البلاد وبتخطيط النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية !
إنّه لا يتجاوز في معانيه تلك الاَمثلة المتقدّمة في شؤون الناس الخاصّة التي يتعاهدونها بأنفسهم ، وليس القائد ـ نبيّاً أو غيره ـ بمسؤول عن
____________
(1) تفسير الرازي 9 : 66 .

( 26 )
تنظيمها .
إذن فخلاصة ما وقفنا عليه في هذا البعد الاَول : أنّ الشورى التي اُمر بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وزاولها إنّما هي شورى الحاكم ، القائد ، يشاور من يشاء من أهل الخبرة أو أهل الصلة المباشرة بالاَمر ، وليس هناك ما يشير من قريب أو بعيد إلى اعتماد الشورى في تعيين رأس النظام السياسي والاجتماعي في الاِسلام ، هذا حتّى لو تحقّق في التاريخ وقوع مشاورة في ما يتّصل بخطط سياسية أو اجتماعية .
البعد الثاني :
ثمّة بُعد ثانٍ للشورى هو أبعد من الاَوّل عن شؤون النظام السياسي ؛ إنّه البعد الاجتماعي ، المتمثّل بمزاولة الناس للشورى في شؤونهم الخاصّة ، ولم نقل إنّها ذات بعد شخصي فقط ، ذلك لاَنّها علاقة بين طرفين ، المشير والمستشار ، وعلى الثاني مسؤوليته في النصح والصدق والاَمانة ، فعادت علاقة اجتماعية ، ذات أثر اجتماعي هامّ .
ـ فقد روى ابن عباس أنّه لما نزلت ( وشاورهم في الاَمر ) (1)قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها ، ولكن جعلها الله تعالى رحمةً لاُمّتي ، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ، ومن تركها لم يعدم غيّاً» (2).
فلم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم محتاجاً إلى الشورى في اُمور الدنيا ليستنير برأيٍ ويهتدي إلى صواب ، بل كان غنيّاً عن ذلك ، وإنّما هي رحمة للعباد لئلاّ يركبوا رؤوسهم في شؤونهم وأعمالهم ويتمادوا بالغطرسة والاعتداد
____________
(1) آل عمران 3 : 159 .
(2) الدر المنثور 2 : 359 .

( 27 )
بالرأي الذي يوردهم المهالك ! ويوضّحه الحديث الشريف عنه ( ص ): «ما تشاور قوم قط إلاّ هدوا وأرشدَ أمرُهم» (1).
والحديث الشريف : «استرشدوا العاقل ترشدوا ، ولا تعصوه فتندموا»(2) .
وقد ورد حديث كثير في الحثّ على المشورة بهذا المعنى ، وحديث يخاطب المستشار بمسؤوليته : «المستشار مؤتمن» (3).
«من استشاره أخوه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه» (4).
هذا البعد الاجتماعي للشورى هو الذي يبرز في خطاب النصّ الثالث من نصوصها..

النصّ الثالث :
قوله تعالى : ( وأمرهم شورى بينهم ) (5).
جاءت هذه الآية الكريمة ضمن سياق عام يتحدّث عن خصائص المجتمع الاَمثل ، قال تعالى :
(... وما عند الله خيرٌ وأبقى للذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون *

____________
(1) أخرجه عبد بن حميد ، والبخاري في الاَدب المفرد ، الدر المنثور 7 : 357 .
(2) أخرجه الخطيب في (رواة مالك) ، الدر المنثور 7 : 357 .
(3) مسند أحمد 5 : 274 .
(4) مسند أحمد 2 : 321 .
(5) الشورى 42 : 38 .

( 28 )
والذين يجتنبون كبائر الاَثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربّهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم وممّا رزقناهم ينفقون * والذين إذا أصابهم البغيُ هُم ينتصرون ) (1).
فهي ناظرة إلى ظواهر يتميّز بها المجتمع الاِسلامي التي تمثّل أهداف الاِسلام وآدابه ، فمع ما يتحلّون به من الايمان ، وحسن التوكّل على الله تعالى ، واجتناب الكبائر والفواحش ، والعفو والمسامحة ، والاستجابة لاَمر ربّهم ، واحياء الصلاة ، وردّ البغي والعدوان ، فهم أيضاً (شأنهم المشاورة بينهم.. ففيه الاِشارة إلى أنّهم أهل الرشد واصابة الواقع ، يمعنون في استخراج صواب الرأي بمراجعة العقول . فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى : ( يستمعون القول فيتّبعون أحسنه ))(2).

وهذه نصوص تؤكد على اهمية التشاور والاسترشاد:
وعلى هذا انطلق المفسّرون في ظلال هذا النصّ يتحدّثون عن استحباب مشاورة الناس لمن أهمّه أمر ، والاسترشاد بعقول الآخرين وآرائهم الناضجة ، دائرين في دائرة ذلك البعد الاجتماعي الذي تقدّم آنفاً..
«ما تشاور قوم قطّ إلاّ هُدوا وأرشد أمرهم» .
«استرشدوا العاقل ترشدوا ، ولا تعصوه فتندموا» .
«من أراد أمراً فشاور فيه ، اهتدى لاَرشد الاُمور» (3).

____________
(1) الشورى 42 : 36 ـ 39 .
(2) الميزان في تفسير القرآن 18 : 65 ، والأية من سورة الزمر 39 : 18.
(3) الدر المنثور 7 : 357 .

( 29 )
شورى الحاكم أيضاً :
في حديث واحد ممّا قيل في ظلال هذا النصّ ، أخرجه السيوطي ، منسوباً إلى الإمام عليّ عليه السلام قال : «قلتُ : يا رسول الله ، الاَمر ينزل بنا بعدك ، لم ينزل فيه قرآن ، ولم يُسمَع منك فيه شيء ؟
قال : اجمعوا له العابد من اُمّتي ، واجعلوه بينكم شورى ، ولا تقضوه برأي واحد» (1) .
والبحث فيه على فرض صحّته ، علماً أنّه لم يرد في شيء من مصادر الحديث المعتمدة..
فهو حديث عن أمر لم ينزل فيه قرآن ، ولم يرد فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ممّا قد يستجدّ بعده من اُمور لم يكن لها موضوع ، أو ضرورة تدعوه لطرقها وتقديم الاِرشاد فيها.. وهذا موضوع عام لسائر مستجدّات الحياة المدنية والاجتماعية والتنظيمية..
ثمّ يأتي جواب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيه موجّهاً إلى جهة تتولّى مهامّ القيادة ، وتقع عليها مسؤولية الحكم : «اجمعوا له العابد من اُمّتي» فهناك جهة مسؤولة هي التي تتولّى مهمّة جمع الصالحين من المؤمنين للمشاورة .
أمّا إذا كان الاَمر قد ورد فيه شيء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقوله نافذ ، ولا محلّ للشورى والرأي فيه .
والبحث في هذا الحديث انما كان على فرض صحته ، والثابت أنّه لم
____________
(1) الدر المنثور 7 : 357 ، وقال : أخرجه الخطيب في (رواة مالك) .

( 30 )
يصحّ وليس له أصل ، قال فيه ابن عبد البر : هذا حديث لا أصل له ! وقال الدارقطني : لا يصحّ ! وقال الخطيب : لا يثبت عن مالك (1)!
____________
(1) لسان الميزان 3 : 78 | 283 ترجمة سليمان بن بزيع.