الشورى في التاريخ والفقه السياسي

الذي يتركّز عليه البحث في التاريخ وفي الفقه السياسي هو موضوع الشورى في اختيار الحاكم (خليفة الرسول) .
وقد ثبت في البحث المتقدّم أنّ شيئاً ما لم يرد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ممّا يمكن أن يُلتمس منه ايكال أمر اختيار خليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشورى ، بل الاَدلة الثابتة من الكتاب والسُنّة قائمة على عدم إيكاله إلى أحدٍ من الاَُمة مطلقاً . ومما يشهد بذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عرض الاِسلام على القبائل اشترط عليه بعضهم أن يكون الاَمر لهم من بعده ، فرفض في تلك الظروف الصعبة هذا الشرط قائلاً : «إنَّ الاَمر لله يضعه حيثُ يشاء» (1).
وعدم ورود شيء عن النبيّ (ص) في هذا الموضوع ، قضية مفروغ منها ، متّفق عليها ، لا نزاع فيها.. فمتى ولد التفكير في اسناد هذا الامر إلى الشورى ؟

أول ظهور لمبدأ الشورى
هذا أمر اثبته أصحاب التاريخ وأصحاب الحديث ، بلا نزاع فيه ولا خلاف.. اتفقوا على أنّ ذلك مبدأ سنّه عمر بن الخطاب قبل وفاته ، وليس
____________
(1) ذكرهُ أصحاب السيرة ، اُنظر منها : انسان العيون 2 : 154 .

( 32 )
له قبل هذا التاريخ أثر..
قال القرطبي ، بعد كلام في استحباب الشورى : (وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافةَ ـ وهي أعظم النوازل ـ شورى) (1).
وقال ابن كثير : ( وأمرهم شورى بينهم ) أي لا يبرمون أمراً حتّى يتشاوروا فيه ، ليتساعدوا بآرائهم ، في مثل الحروب وما جرى مجراها ، كما قال تبارك وتعالى : ( وشاورهم في الاَمر ) ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيّب بذلك قلوبهم . وهكذا لمّا حضرت عمر بن الخطاب الوفاة حين طعن جعل الاَمر بعده شورى (2).
فانظر إلى هذا التحوّل الكبير في المدى الذي حدث قبل وفاة عمر ، ولم يكن له قبلها أثر ! أمّا كيف حدث هذا التحوّل الكبير ؟ وتحت أيّ دافع؟
فهذا سؤال هام أجاب عنه عمر بن الخطاب بنفسه في ذات الوقت الذي جعل فيه الخلافة شورى ، ذلك في خطبته الشهيرة التي ذكر فيها السقيفة وأخبارها ، ثم قال : (لا يغترنّ أمرؤ أن يقول إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت ، ألا إنّها قد كانت كذلك ، ولكن وقى الله شرّها ! فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تغرّةً أن يُقتلا) (3) .

____________
(1) تفسير القرطبي : 161 ـ 162 .
(2) تفسير ابن كثير 4 : 119 .
(3) صحيح البخاري ـ كتاب الحدود ـ باب رجم الحبلى من الزنا | 6442 ، مسند أحمد 1 : 56 ، سيرة ابن هشام 4 : 308 ، تاريخ الطبري 3 : 200 .

( 33 )
أمّا سبب هذه الخطبة التي أفرزت (الشورى) مبدءاً في اختيار الخليفة لاَوّل مرّة ، فيحدّثنا عنه القسطلاني وهو يفكَ ألغازها..
فبعد أن يأتي باسنادها الذي أورده البخاري عن ابن عباس ، وفيه أنّ عبدالرحمن بن عوف جاء إلى ابن عباس في موسم الحجّ وكان يتعلّم عنده القرآن ، فقال له : لو سمعت ما قاله أمير المؤمنين ـ يعني عمر بن الخطاب ـ إذ بلغه أنّ "فلاناً" قال : لو قد مات عمر لبايعت "فلاناً" فما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة ، فهمّ عمر أن يخطب الناس ردّاً على هذا القول ، فنهيته لاجتماع الناس كلّهم في الحج وقلت له إذا عدت المدينة فقل هناك ما تريد ، فإنّه أبعد عن اثارة الشغب.. فلمّا رجعوا من الحجّ إلى المدينة قام عمر في خطبته المذكورة..
فمن هو "فلان" القائل ؟ ومن هو "فلان" الآخر ؟
حين تردّد بعض الشارحين في الكشف عن هذين الاسمين ، استطاع ابن حجر العسقلاني أن يتوصل إلى ذلك بالاِسناد الصحيح المعتمد عنده، والذي ألغى به كل ماقيل من أقوال أثبت ضعفها ووهنها ، فقال : وجدته في الاَنساب للبلاذري بإسناد قويّ ، من رواية هشام بن يوسف ، عن معمر ، عن الزهري ، بالاسناد المذكور في الاصل ، ولفظه : (قال عمر : بلغني أنّ الزبير قال : لو قد مات عمر لبايعنا عليّاً..) الحديث (1)!!
فذلك إذن هو السرّ في ثورة عمر !

____________
(1) مقدمة فتح الباري بشرح صحيح البخاري : 337 . وتبعه القسطلاني في ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري 10 : 19 .

( 34 )
وذلك هو السرّ في ولادة مبدأ الشورى في الخلافة !
الشورى التي سنتحدّث عن تفاصيلها وأحكامها وما قيل فيها ، باستيعاب يتناسب مع حجم هذا الكتاب .

( 35 )


الشورى في اطارها النظري

إنّ الاَساس الذي قامت عليه نظرية الشورى هو أنّ أمر الخلافة متروك إلى الاَُمّة.. ومن هنا ابتدأت الاَسئلة تنهال على هذه النظرية ؛ عند البحث عن الدليل الشرعي في تفويض هذا الامر إلى الاَُمّة.. وعند محاولة إثبات شرعية الاسلوب الذي سوف تسلكه الاَُمّة في الاختيار..
لقد رأوا في قوله تعالى : ( وأمرهم شورى بينهم ) (1)أفضل دليل شرعي يدعم هذه النظرية ، ومن هنا قالوا : إنّ أوّل وجوه انتخاب الخليفة هو الشورى .
لكن ستأتي الصدمة لاَوّل وهلة حين نرى أنّ مبدأ الشورى هذا لم يطرق أذهان الصحابة آنذاك .
فانتخاب أوّل الخلفاء كان بمعزل عن هذا المبدأ تماماً ، فإنّما كان "فلتةً" كما وصفه عمر ، وهو الذي ابتدأه وقاد الناس إليه !
ثمّ كان انتخاب ثاني الخلفاء بمعزلٍ أيضاً عن هذا المبدأ !
نعم ، ظهر هذا المبدأ لاَوّل مرّة على لسان عمر في خطبته الشهيرة التي ذكر فيها السقيفة وبيعة أبي بكر فحذّر من العودة إلى مثلها ، فقال : (فمن بايع رجلاً من غير مشورةٍ من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تغرَّة
____________
(1) الشورى 42 : 38 .

( 36 )
أن يُقتلا) (1) . ذلك القول الذي عرفنا قبل قليل أنّه ما قاله إلاّ ليقطع الطريق على الإمام عليّ عليه السلام ومن ينوي أن يبايع له !
لكنّه حين أدركته الوفاة أصبح يبحث عن رجل يرتضيه فيعهد إليه بالخلافة بنصّ قاطع بعيداً عن الشورى !
فقال : لو كان أبو عبيدة حيّاً لولّيته (2).
ثمّ قال : لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته (3).
ثمّ قال : لو كان معاذ بن جبل حيّاً لولّيته (4).
إذن لم يكن عمر يرى أنّ الاَصل في هذا الاَمر هو الشورى ، وإن كان قد قال بالشورى في خطبته الاَخيرة إلاّ أنّه لم يعمل بها إلاّ اضطراراً حين لم يجد من يعهد إليه !
لقد أوضح عن عقيدته التامّة في هذا الاَمر حين قال قُبيل نهاية المطاف : (لو كان سالمٌ حيّاً ماجعلتها شورى) (5)!!
ثمّ كانت الشورى..
وأيّ شورى !!
إنّها شورى محاطة بشرائط عجيبة لا مجال للمناقشة فيها ! وجملتها :

____________
(1) صحيح البخاري ـ كتاب المحاربين 6 | 6442 ، مسند أحمد 1 : 56، سيرة ابن هشام 4 : 308.
(2) الكامل في التاريخ 3 : 65 ، صفة الصفوة 1 : 367 .
(3) الكامل في التاريخ 3 : 65 ، صفة الصفوة 1 : 383 ، طبقات ابن سعد 3 : 343 .
(4) صفة الصفوة 1 : 494 .
(5) طبقات ابن سعد 3 : 248 .

( 37 )
1 ـ إنّها شورى بين ستّة نفر ، وحسب ، يعيّنهم الخليفة وحده دون الاَُمّة !
2 ـ أن يكون الخليفة المنتخب واحداً من هؤلاء الستّة ، لا من غيرهم !
3 ـ إذا اتّفق أكثر الستّة على رجل وعارض الباقون ، ضُربت أعناقهم !
4 ـ إذا اتّفق اثنان على رجل ، واثنان على آخر ، رجّحت الكفّة التي فيها عبد الرحمن بن عوف ـ أحد الستّة ـ وإنْ لم يُسَلّم الباقون ضُربت أعناقهم !
5 ـ ألاّ تزيد مدّة التشاور على ثلاثة أيّام ، وإلاّ ضُربت أعناق الستّة أهل الشورى بأجمعهم !!
6 ـ يتولّى صهيب الرومي مراقبة ذلك في خمسين رجلاً من حَمَلَة السيوف ، على رأسهم أبو طلحة الاَنصاري (1)!
فالحقّ أنّ هذا النظام لم يترك الاَمر إلى الاَُمّة لتنظر وتعمل بمبدأ الشورى، بل هو نظام حدّده الخليفة ، ومنحه سمة الاَمر النافذ الذي لامحيد عنه ، ولاتغيير فيه ، ولايمكن لصورة كهذه أن تُسمّى شورى بين المسلمين ، ولابين أهل الحلّ والعقد .
لقد كانت تلك الظروف إذن كفيلة بتعطيل أوّل شورى في تاريخ الاِسلام عن محتواها ، فطعنت إذن في تلك القاعدة الاَساسيّة المفترضة (قاعدة الشورى) .

____________
(1) الكامل في التاريخ 3 : 66 ـ 67 .

( 38 )
والحقّ أنّ هذه القاعدة لم يكن لها عين ولا أثر من قبل.. فلم يكن أبو بكر مؤمناً بمبدأ الشورى قاعدةً للنظام السياسي وأصلاً في انتخاب الخليفة ، ولا مارس ذلك بنفسه ، بل غلّق دونها الاَبواب حين سلب الاَُمّة حقّ الاختيار وممارسة الشورى إذ نصّ على عمر خليفةً له ، ولم يُصغ إلى ماسمعه من اعتراضات بعض كبار الصحابة على هذا الاختيار .
علماً أنّ اعتراض هؤلاء الصحابة المعترضين حينذاك لم يكن على طريقة اختيار الخليفة التي مارسها أبو بكر ، ولا قالوا : إنّ الاَمر ينبغي أن يكون شورى بين الاَُمّة ، ولا احتجّ أحدهم بقوله تعالى : ( وأمرُهم شورى بينهم) ، وإنّما كان اعتراضهم على اختياره عمر بالذات ، فقالوا له : استخلفت على الناس عمر ، وقد رأيت مايلقى الناس منه وأنت معه ، فكيف به إذا خلا بهم ؟! وأنت لاقٍ ربّك فسائلك عن رعيّتك (1)!
بل كان عمر صريحاً كلّ الصراحة في تقديم النصّ على الشورى ، ذلك حين قال : (لو كان سالمٌ حيّاً لَما جعلتها شورى) (2)!!
إنّ عهداً كهذا ليلغي رأي الاَُمّة بالكامل ، وحتّى الجماعة التي يُطلق عليها (أهل الحلّ والعقد) !
قالوا : إذا عهد الخليفة إلى آخر بالخلافة بعده ، فهل يُشترط في ذلك رضى الاَُمّة ؟
فأجابوا : إنّ بيعته منعقدة ، وإنَّ رضى الاَُمّة بها غير معتبر ، ودليل
____________
(1) الكامل في التاريخ 2 : 425 .
(2) طبقات ابن سعد 3 : 248 .

( 39 )
ذلك: أنّ بيعة الصدّيق لعمر لم تتوقّف على رضى بقيّة الصحابة (1)!
لم يكن إذن لقاعدة الشورى أثر في تعيين الخليفة !!
لعلّ هذه الملاحظات هي التي دفعت ابن حزم إلى تأخير مبدأ الشورى وتقديم النصّ والتعيين الصريح مِن قِبَل الخليفة السابق ، فقال : (وجدنا عقد الاِمامة يصحّ بوجوه ، أوّلها وأصحّها وأفضلها : أن يعهد الاِمام الميّت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته) (2)!

الشورى أم السيف ؟
لقد أدركنا جيّداً هبوط مبدأ الشورى في الواقع عن المرتبة التي احتلّها في النظريّة ، فتنازلنا عنه تنازلاً صريحاً ـ بعد إقراره ـ حين ذهبنا إلى تصحيح واعتماد كلّ ماحدث على السّاحة رغم منافاته الصريحة لمبدأ الشورى .
ولم نكتف بهذا ، بل ذهبنا إلى تبرير تلك الوجوه المتناقضة بلا استثناء، وبدون الرجوع إلى أيّ دليل من الشرع ، ودليلنا الوحيد كان دائماً : (فعل الصحابة) رغم أنّنا نعلم علم اليقين أنّ الصحابة لم يجتمعوا على رأي واحد من تلك الآراء والوجوه .
كما أنّنا نعلم علم اليقين أيضاً أنّ خلاف المخالفين منهم وإنكار المنكرين كان ينهار أمام الحكم الغالب .
ورغم ذلك فقد عمدنا إلى القرار الغالب والنافذ في الواقع ، فمنحناه
____________
(1) مآثر الاِنافة 1 : 52 ، الاَحكام السلطانية ـ للماوردي ـ : 10 ، الاَحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : 25 ـ 26 .
(2) الفصل 4 : 169 .

( 40 )
صبغة الاِجماع ، بحجّة أنّه لم يكن لينفذ في عهدهم إلاّ بإجماعهم عليه ، أو إقرارهم إيّاه .
وبهذا تنكّرنا لحقيقة أنّ القرار النافذ كان يبتلع كلَّ ماصادفه من أصوات المخالفين والمنكرين ، ولايلقي لها بالاً ، وهذا هو الغالب على كلّ مايتّصل بالخلافة والمواقف السياسية الكبرى .
فماذا أغنى اعتراض بني هاشم ومَن معهم مِن المهاجرين والاَنصار على نتائج السقيفة ؟!
وما أغنى إنكار الصحابة على أبي بكر يوم استخلف عمر ؟!
وما أغنى إنكار الصحابة سياسة عثمان في قضايا كثيرة كتقديمه بني أُميّة على خيار الصحابة مع ماكان عليه أُولئك من حرص على الدنيا وبُعدٍ عن الدِين ؟!
ثمّ لم يشتدّ هذا الاِنكار ويعلو صداه حتّى تغلّب على شؤون الاَُمّة والخليفة غلمانُ بني أُميّة ممّن اتفق الكل على أنّه لم يكن معهم من الدين والورع لا كثير ولا قليل ، كمروان بن الحكم وعبد الله بن سعد بن أبي سرح والوليد بن عقبة ، ومعاوية .
ومع هذا فلم يكن إنكارهم عندنا حجّة ، بل كانوا به ملومين !
فمتى إذن كان إنكار الصحابة حجّة ، ليكون سكوتهم إقراراً ؟!
فإذا كانت الخطوة الاَُولى في التراجع عن مبدأ الشورى هي القبول بتسليم الاَمر إلى الخليفة القائم ليستخلف بعده من يشاء ، فإنّ الخطوة الثانية كانت خطوة مُرّةً حقّاً .

( 41 )
فلمّا تجنّب الخلفاء مبدأ الشورى ومبدأ النصّ والاستخلاف معاً ، واختاروا مبدأ القهر والاستيلاء والتغلّب بالسيف ، قبلنا به واحداً من طرق الخلافة !
فكم بين الشورى ، والتغلّب بالسيف ؟!
إنّ إقرار مبدأ التغلّب بالسيف لَيُعدّ أكبر انتكاسة لمبدأ الشورى !
وإذا كانت الشورى مستمدّة من القرآن ، فمن أين استمدّت قاعدة التغلّب بالسيف ؟!
وثَمَّ سؤال أشدّ إحراجاً من هذا :
فإذا كانت الشورى هي القاعدة الشرعية المستمدّة من القرآن ، فماذا عن عهود الخلافة التي لم تتمّ وفق هذه القاعدة ؟!
وحين لم يتوفّر الجواب الذي ينقذ هذه النظرية من هذا المأزق الكبير ، رأينا أنّ المهرب الوحيد هو أن نبرِّر جميع صور الخلافة التي تحقّقت في الواقع : فمرّةً بعقد رجل واحد ومتابعة أربعة ، ومرّة بنصّ من الخليفة السابق، ومرّة في ستّة يجتمعون لانتخاب أحدهم ، ومرّة بالقهر والاستيلاء، حتّى أدّى هذا المبدأ الاَخير إلى أن تصبح الخلافة وراثة بحتة لا أثر للدِين فيها .

مصير شروط الاِمامة :
إنّ هذه الطريقة في تبرير الاَمر الواقع لم تسقط الشورى وحدها ، بل أسقطت معها أهمّ شروط الاِمامة الواجبة لصحّة عقدها ، والتي منها :

( 42 )
1 ـ العدالة : إذ قالوا أوّلاً في بناء نظرية الخلافة : لاتنعقد إمامة الفاسق ؛ لاَنّ المراد من الاِمام مراعاة النظر للمسلمين ، والفاسق لم ينظر لنفسه في أمر دينه ، فكيف ينظر في مصلحة غيره (1)؟!
وقالوا : إنّ هذا الفسق يمنع من انعقاد الاِمامة ، ومن استدامتها ، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها (2).
2 ـ الاجتهاد : إذ عدّوا في شروط الاِمام : أن يكون من أفضلهم في العلم والدين ، والمراد بالعلم هو العلم المؤدّي إلى الاجتهاد في النوازل والاَحكام ، فلاتنعقد إمامة غير العالم بذلك ، لاَنّه محتاج لاَنْ يصرّف الاَُمور على النهج القويم ويُجريها على السراط المستقيم ، ولاَنْ يعلم الحدود ويستوفي الحقوق ويفصل الخصومات بين الناس ، وإذا لم يكن عالماً مجتهداً لم يقدر على ذلك (3).
لكن سرعان ما انهار هذان الشرطان حين تغلّب على الخلافة رجال لم يكن فيهم شيء منها ، لا العدالة ، ولا العلم المؤدّي إلى الاجتهاد..
قال الفرّاء : قد روي عن أحمد ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل ، فقال : (ومن غلبهم بالسيف حتّى صار خليفةً وسمّي أمير المؤمنين ، فلا يحلّ لاَحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه ، برّاً كان أو فاجراً ، فهو أمير المؤمنين) (4)!

____________
(1) مآثر الاِنافة 1 : 36 ، الاَحكام السلطانية ـ للماوردي ـ : 6 ، الاَحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ :20.
(2) الاَحكام السلطانية ـ للماوردي ـ : 17 .
(3) مآثر الاِنافة 1 : 37 ، الاَحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : 20 .
(4) الاَحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : 20 .

( 43 )
وقال القلقشندي : ( إن لم يكن الخليفة المتغلّب بالقهر والاستيلاء جامعاً لشرائط الخلافة ، بأن كان فاسقاً أو جاهلاً ، فوجهان لاَصحابنا الشافعية ، أصحّهما : انعقاد إمامته أيضاً ) (1)!

التبرير :
إنّ مثل هذا الرأي الذي ينقض شرائط الخلافة بعد أن نقض أساسها ، لابُدّ له من تبرير مقبول .
والتبرير الذي قدّمته هذه النظرية هنا هو : (الاضطرار) !
لاَنّا لو قلنا : لاتنعقد إمامته ، لزم ذلك بطلان أحكامه كلّها المالية والمدنيّة، فيتعيّن على الخليفة الذي يأتي بعده وفق الشروط الشرعية أن يقيم الحدود ثانياً ، ويستوفي الزكاة والجزية ثانياً ، وهكذا (2).
والضرورة أيضاً تقتضي صحّة خلافته : لحفظ نظام الشريعة ، وتنفيذ أحكامها (3) ، ولاَنّه لابُدّ للمسلمين من حاكم (4).
إذن قبولها على هذه الصورة يستدعي السعي الدائم لاِزاحتها وإرجاع الاَمر إلى صيغته الشرعية متى ما وجدت الاَُمّة سبيلاً إلى ذلك .
هذا ماذهب إليه الشيخ محمّد رشيد رضا وقد استعرض هذه الآراء ، فقال : ( معنى هذا أنّ سلطة التغلّب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند
____________
(1) مآثر الاِنافة 1 : 58 .
(2) اُنظر : مآثر الاِنافة 1 : 58 .
(3) مآثر الاِنافة 1 : 71 .
(4) الاَحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : 24 .

( 44 )
الضرورة، تنفذ بالقهر ، وتكون أدنى من الفوضى !
ومقتضاه أنّه يجب السعي دائماً لاِزالتها عند الاِمكان ، ولايجوز أن توطّن الاَنفس على دوامها ، ولا أن تجعل كالكرة بين المتغلّبين يتقاذفونها، ويتلقّفونها كما فعلت الاَُمم التي كانت مظلومة وراضية بالظلم )(1) .
لكنَّ الواقع كان على العكس من ذلك ، فقد حرّموا دائماً الخروج على السلطان الجائر والفاسق ، وعدّوا أيّ محاولة من هذا القبيل من الفتن التي نهى عنها الدين وحرّم الدخول فيها..
يقول الزرقاني : ( أمّا أهل السُنّة فقالوا : الاختيار أن يكون الامام فاضلاً عادلاً محسناً . فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائر أوْلى من الخروج عليه ، لِما فيه من استبدال الخوف بالاَمن ، وإهراق الدماء ، وشنّ الغارات، والفساد، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه ) (2)!
كما ثبت عن أحمد بن حنبل أنّه قال : (الصبر تحت لواء السلطان على ماكان منه من عدلٍ أو جور ، ولايُخرَج على الاَُمراء بالسيف وإنْ جاروا)(3).
استعرض الشيخ أبو زهرة هذين القولين ، ثمّ قال : ( وهذا هو المنقول عن أئمّة أهل السُنّة ؛ مالك ، والشافعي ، وأحمد ) (4).

____________
(1) الخلافة : 45 ، عنه : نظام الحكم والاِدارة في الاِسلام : 126 .
(2) شرح الموطّأ 2 : 292 ، عنه : المذاهب الاِسلامية : 155 .
(3) المذاهب الاِسلامية : 155 .
(4) المذاهب الاِسلامية : 155 .

( 45 )
فهل ينسجم هذا الاعتقاد مع أحكام الاضطرار والاِكراه ؟!
لقد طعن الشيخ محمّد رشيد رضا هذه العقيدة في الصميم حين قال :
«وقد عُني الملوك المستبدّون بجذب العلماء إليهم بسلاسل الذهب والفضّة والرُتَب والمناصب ، وكان غيرهم أشدّ انجذاباً ، ووضع هؤلاء العلماء الرسميّون قاعدة لاَُمرائهم ولاَنفسهم هدموا بها القواعد التي قام بها أمرُ الدِين والدنيا في الاِسلام ، وهي : أنّه يجوز أن يكون أولياء الاَُمور فاقدين للشروط الشرعية التي دلّ على وجوبها واشتراطها الكتاب والسُنّة، وإنْ صرّح بها أئمّة الاُصول والفقه ، فقالوا : يجوز ، إذا فُقِدَ الحائزون لتلك الشروط .
مثال ذلك : إنّه يشترط فيهم العلم المعبَّر عنه بالاجتهاد ، وقد صرّح هؤلاء بجواز تقليد الجاهل ، وعدّوه من الضرورة ، وأطلق الكثيرون هذا القول ، وجرى عليه العمل . وذلك من توسيد الاَمر إلى غير أهله الذي يقرّب خطوات ساعة هلاك الاَُمة ، ومن علاماتها : ذهاب الاَمانة ، وظهور الخيانة.. ولا خيانة أشدّ من توسيد الاَمر إلى الجاهلين..
روى مسلم وأبو داوود حديث ابن عبّاس : ( من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أوْلى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسُنّة نبيّه ، فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين )(1).
وطعنها أيضاً في قوله : ( ما أفسد على هذه الاَُمّة أمرها وأضاع عليها ملكها إلاّ جعل طاعة هؤلاء الجبّارين الباغين واجبة شرعاً على الاِطلاق ،
____________
(1) تفسير المنار 5 : 215 ـ 216 باختصار .

( 46 )
وجعل التغلّب أمراً شرعيّاً كمبايعة أهل الحلّ والعقد للاِمام الحقّ ، وجعل عهد كلّ متغلّب باغٍ إلى ولده أو غيره من عصبته حقّاً شرعياً وأصلاً مرعياً لذاته ) (1) !
وهذه حقيقة تاريخية ، وليست دعوى مجازفٍ أو متهاون .

صورتان :
صورتان نقف عندهما يسيراً بعد هذا الشوط المضني ، لنواصل بعدهما المشوار..

الصورة الاَولى : مذهب عظماء السَلَف ؟!
لقد أسقط مذهب الكثير من عظماء السلف وأشرافهم فلا يُذكر لهم اسم ، ولايُشرَك لهم قول في هذه النظرية .
فلا ذكر للسبط الشهيد الاِمام الحسين بن عليّ ( ع ) وثورته (2)... ولا لمئات المهاجرين والاَنصار وبقيّة الصحابة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونهضتهم على يزيد بن معاوية (3).. ولا عبد الله بن الزبير.. ولا الشهيد زيد بن عليّ بن
____________
(1) الخلافة : 51 ، عنه : نظرية الحكم والاِدارة في الاِسلام : 126 .
(2) قُتل الاِمام الحسين عليه السلام مع نيّف وسبعين من أهل البيت والتابعين وفيهم الصحابي أنس بن الحارث الذي روى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم : «إنّ ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يُقتل بأرض يقال لها كربلاء ، فمن شهد منكم ذلك فلينصره» البداية والنهاية 8 : 201 ، أُسد الغابة ، والاِصابة : ترجمة أنس بن الحارث .
(3) قُتل منهم ثمانون صحابياً ولم يبق بدريّ بعد ذلك ، وقتل من قريش والاَنصار سبع مئة ، ومن التابعين والعرب والموالي عشرة آلاف ، وأُبيحت المدينة ثلاثة أيّام وانتُهكت الاَعراض حتّى ولدت الاَبكار لايُعرَف من أولدَهنّ !
أُنظر تفاصيل وقعة الحرّة في أحداث سنة 63 هـ في : المنتظم لابن الجوزي ، تاريخ الطبري ، وانظر تاريخ الخلفاء للسيوطي : 195 .

( 47 )
الحسين ( ع ) .. ولا الصحابي سليمان بن صُرَد الخزاعي ومن معه أصحاب ثورة التوّابين.. ولا القُرّاء في الكوفة وثورتهم !
كما أُسقط أيضاً مذهب أبي حنيفة من بين أئمّة أهل السُنّة ، وذلك لاَنّه ـ كما جاء في غير واحدٍ من المصادر ـ كان يساند الثائرين على خلفاء الزور فساند زيد الشهيد ابن الإمام زين العابدين عليه السلام وساند ثورات أولاد الامام الحسن عليه السلام حتّى مات في السجن وهو على موالاتهم ، وكان يسمّي خلفاء بني أمية وبني العباس (اللصوص)(1)!
كلّ أُولئك أُسقطوا من هذه النظرية ، فأُخرجوا عن دائرة أهل السُنّة !!
لقد بالغ بعض كبار المتكلّمين باسم أهل السُنّة في النَيْل من أُولئك العظماء الاَشراف ، ووجوه القوم وكبارهم ، ولعلّ من أشهرهم ابن تيميّة الذي ذهلته العصبية حتّى تمرّد على جميع الضوابط الدينية والقيم الخُلقية ، فوصف نهضة سيّد شباب أهل الجنّة سبط الرسول وريحانته بأنّها فساد كبير ! ولايرضى بها الله ورسوله ! وكذا وصف نهضة بقيّة المهاجرين والاَنصار في المدينة المنوّرة ، ثمّ بالغ في إعذار يزيد في التصدّي لهم وقتلهم جميعاً لاَجل حفظ ملكه ؛ ولم ينكر على يزيد إلاّ أنّه أباح المدينة ثلاثة أيام (2).
وقال في هذا الاَمر أيضاً : ( ممّا يتعلّق بهذا الباب أن يُعلَم أنّ الرجل العظيم في العلم والدِين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم
____________
(1) اُنظر : الملل والنحل 1 : 140 ، الكشاف للزمخشري : عند تفسيره الآية 124 من سورة البقرة ( لا ينال عهدي الظالمين ).
(2) اُنظر : منهاج السُنّة 2 : 241 ـ 243 و 253 ، الوصيّة الكبرى : 54 .

( 48 )
القيامة، أهل البيت وغيرهم ، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظنّ ونوع من الهوى الخفيّ ، فيحصل بسبب ذلك ما لاينبغي اتّباعه فيه وإنْ كان من أولياء الله المتّقين ، ومثل هذا إذا وقع صار فتنة ) (1)!!
تُرى لماذا كان ابن تيميّة أعلم بمداخل الفتنة وأبعد عن الهوى الخفيّ من أُولئك العظماء من الصحابة وأهل البيت ؟! هل لاَنّه رضي إمامةَ الفاجر والجاهل ، ورفضَها أُولئك ؟!
هكذا تُلقي هذه النظرية بنفسها في مأزقٍ حرج حين تُعرِض عن ذلك الاَثر الضخم من آثار عظماء السَلَف وأئمّتهم .

الصورة الثانية : الخارج المأجور
مازال إظهار الخلاف للحاكم محرَّماً ، والخروج عليه فتنةً وفساداً كبيراً، مازال هذا الحكم ثابتاً لا يتزحزح..
إذن لماذا أصبح الخارج على الاِمام ، مرّةً واحدة فقط في تاريخ الاِمامة، مأجوراً ؟!
حين كان الاِمام هو عليٌّ بن أبي طالب ، أخصّ الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكثرهم علماً وجهاداً وأوْلاهم بالعدل ، عندئذٍ فقط حقَّ للناس أن يخرجوا على الاِمام !
وسوف لايكون خروجهم ـ هذه المرّة ـ فتنة وفساداً ، بل هو اجتهاد ، وهم مأجورون عليه ، مثابون لاَجله وإن أخطأوا !!

____________
(1) منهاج السُنّة 2 : 245 .

( 49 )
إنّها صور لو عرضتَ أيّاً منها على تلك النظرية لوجدت فتقاً لايُرتَق إلاّ بتكلّفٍ ظاهر ، والتواءٍ سافر .

( 50 )

( 51 )

الــنــص


( 52 )

( 53 )

ضرورة النصّ بين الخليفة والنبيّ :
لانزاع بينهم في ثبوت حقّ الخليفة في النصّ على مَن يخلفه ، ولافي نفوذ هذا النصّ ؛ لاَنّ الاِمام أحقّ بالخلافة ، فكان اختياره فيها أمضى ، ولا يتوقّف ذلك على رضى أهل الحلّ والعقد (1).
وإنّما صار ذلك للخليفة خوفاً من وقوع الفتنة واضطراب الاَُمّة (2).
فمن أجل ذلك كان بعض الصحابة يراجع عمر ويسأله أن ينصّ على من يخلفه (3) .
تُرى ، لماذا لا يكون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أوْلى بالتفكير في ذلك ، وبرعاية هذه المصلحة ؟!
إنّه الرحمة المهداة ، بلا شكّ.. أليس من تمام الرحمة وجمالها أن يُجنّب أُمّته المحذور من الاختلاف بعده ؟!
لقد أحبّ أُمّته وحرص عليها ( عزيزٌ عليه ماعنِتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) (4).
وأيضاً: فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أنّنا سوف لاننتظر بعده نبيّاً يُعيد نظمَ أمرنا!

____________
(1) الاَحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : 10 ، الاَحكام السلطانية ـ للبغوي ـ : 25 ـ 26 .
(2) الفِصَل 4 : 169 ، تاريخ الاَُمم الاِسلامية ـ للخضري ـ : 1 : 196 .
(3) الكامل في التاريخ 3 : 65 .
(4) التوبة 9 : 128 .

( 54 )
لقد بصر ابن حزم بذلك ، فحاول أن يتداركه ، فقال : وجدنا عقد الاِمامة يصحّ بوجوه : أوّلها وأصحّها وأفضلها أن يعهد الاِمام الميّت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته ، سواء جعل ذلك في صحّته أو عند موته ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي بكر ، وكما فعل أبو بكر بعمر ، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز .
قال : وهذا هو الوجه الذي نختاره ، ونكره غيره ، لِما في هذا الوجه من اتّصال الاِمامة ، وانتظام أمر الاِسلام وأهله ، ورفع مايتخوّف من الاختلاف والشغب ممّا يُتوَقّع في غيره من بقاء الاَُمّة فوضى ، ومن انتشار الاَمر وحدوث الاَطماع (1).
لقد لحظ ابن حزم أكثر من ثغرة في تلك النظرية ( الشورى ) ، فأظهر مهارةً في محاولة رتقها ، بأنْ جمع بين الضرورات الدينية والعقلية والاجتماعية وبين الاَمر الواقع ، ليخرج بصيغة أكثر تماسكاً .
فتَرْكُ الاَُمّة دون تعيين وليّ الاَمر الذي يخلف زعيمها يعني بقاء الاَُمّة فوضى ، وتشتّت أمرها ، وظهور الاَطماع في الخلافة لا محالة.. وهذا ممّا ينبغي أن يدركه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيبادر إلى تلافيه ، ولو في مرضه الذي توفّي فيه .
وتعيين الخليفة بهذه الطريقة سيضمن اتّصال الاِمامة ، وانتظام أمر الاِسلام .
وإذا كان أبو بكر قد أدرك ذلك فنصَّ على مَن يخلفه ، وأدركه أيضاً
____________
(1) الفِصَل 4 : 169 .

( 55 )
عمر ، وأدركه سليمان بن عبد الملك ، فكيف نظنّ بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قد أغفل ذلك ؟!
إنّها إثارات جادّة دفعته إلى حلٍّ وحيد يمكنه أن ينقذ هذه النظرية ، كما ينقذ الاَمر الواقع بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وتمثّل هذا الحلّ عنده بنصّ النبيّ على أبي بكر بالخلافة !
إذن فلا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد ترك هذا الاَمر للاَُمّة ، أو تركها فوضى ، ولا كانت بيعة أبي بكر فلتة !
إنّها أُطروحة متينة ، كفيلة بقطع النزاع ، لو تمّت.. !
ولكنّها ـ للاَسف ـ لم تكن سوى مجازفة ، فمن البديهي عندئذٍ أن تكون عاجزةً عن تحقيق الاَمل المنشود منها !
فلا هي تداركت تلك النظرية وعالجت ثغراتها ، ولا هي أنقذت الاَمر الواقع !
وذلك لسبب بسيط ، وهو أنّ النصّ على أبي بكر لم يثبت ، بل لم يدّعِ وجوده أحد ، بل تسالمت الاَُمّة على عدمه .
فمن أراد أن يثبت مثل هذا النصّ على أبي بكر بالخصوص ، فعليه أن ينفي حادثة السقيفة جملةً وتفصيلاً .
عليه أن يكذّب بكلّ ماثبت نقله في الصحاح من كلام أبي بكر وعمر وعليٍّ والعبّاس والزبير في الخلافة..
عليه أن يهدم بعد ذلك كلّ ماقامت عليه نظرية أهل السُنّة في الاِمامة ، فلم تُبْنَ هذه النظرية أوّلاً إلاّ على أصل واحد ، وهو البيعة لاَبي بكر بتلك
( 56 )
الطريقة التي تمّت في السقيفة وبعدها !!
عليه أن ينفي ماصرّحوا به من (الاِجماع على أنّ النصّ منتفٍ في حقّ أبي بكر) (1) !
ولم يكن هذا الطرح منسجماً مع هذه المدرسة ومبادئها ، وإنّما هو محاولة لسدّ ثغراتها ، ومقابلة للاِلحاح الذي تُقدّمه النظرية الاُخرى القائمة على أساس النصّ ، ولقطع دابر النزاع ، كما ذكر ابن حزم .
إنّه كان مقتنعاً بضرورة النصّ ، ولكنّه أراد نصّاً منسجماً مع الاَمر الواقع، وإنْ لم يسعفه الدليل !!

إقرار بقدر من النصّ :
لم يختف النصّ إلى الاَبد في هذه النظرية ، والشورى هنا ليست مطلقة العنان ، فليس لاَهل الحلّ والعقد أن ينتخبوا من شاءوا بلا قيد .
إنّ هناك حدّاً تلتزمه الشورى ، وهذا الحدّ إنّما رسمه النصّ الثابت .
قالوا : إنّ من شرط الاِمامة : النَسَب القرشي ، فلا تنعقد الاِمامة بدونه.. وعلّلوا ذلك بالنصّ الثابت فيه ، فقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : «الاَئمّة من قريش» .
وقال : «قدّموا قريشاً ولا تتقدّموها» . وليس مع هذا النصّ المسلَّم شبهةٌ لمنازع ، ولا قول لمخالف (2).

____________
(1) شرح المقاصد 5 : 255 ، ومصادر أُخرى .
(2) الاَحكام السلطانية ـ للماوردي ـ : 6 .

( 57 )
واشترطوا لهذا القرشي أن يكون قرشيّاً من الصميم ، من بني النضر بن كنانة ، تصديقاً للنصّ (1).
وقال أحمد : (لا يكون من غير قريش خليفة) (2).
واستدلّوا على تواتر هذا النصّ بتراجع الاَنصار وتسليمهم الخلافة للمهاجرين القرشيّين حين احتجّوا عليهم بهذا النصّ في السقيفة (3).
وقال ابن خلدون : ( بقي الجمهور على القول باشتراطها ـ أي القرشية ـ وصحّة الخلافة للقرشيّ ولو كان عاجزاً عن القيام بأُمور المسلمين ) (4).
وهكذا ثبت النصّ الشرعي ، وثبت تواتره ، وثبت الاِجماع عليه .
وحين تراجع بعضهم عن الالتزام بهذا النصّ ـ كأبي بكر الباقلاّني ـ فسّر ابن خلدون سرّ تراجعه ، وردّ عليه ، فقال : لمّا ضعف أمر قريش ، وتلاشت عصبيّتهم بما نالهم من الترف والنعيم ، وبما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الاَرض ، عجزوا بذلك عن أمر الخلافة وتغلّبت عليهم الاَعاجم ، فاشتبه ذلك على كثير من المحقّقين حتّى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشية ، وعوّلوا على ظواهر في ذلك مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «اسمعوا وأطيعوا وإنْ وليَ عليكم عبدٌ حبشي» (5).

____________
(1) الاَحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : 20 ، الفِصَل 4 : 89 ، مآثر الاِنافة 1 : 37 ، مقدّمة ابن خلدون : 214 فصل 26 .
(2) الاَحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : 20 .
(3) الفِصَل 4 : 89 .
(4) المقدّمة : 215 .
(5) والخوارج أيضاً احتجّوا بهذا حين لم يجدوا بينهم قرشياً يسندون إليه الزعامة فيهم !

( 58 )
قال : وهذا لاتقوم به حجّة في ذلك ، لاَنّه خرج مخرج التمثيل ، للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة (1).
وثبت النصّ واستقرّ ، ولا غرابة ، فهو نصّ صحيح ، بل متواتر .
وهو فوق ذاك ينطوي على فائدة أُخرى ، فهو النصّ الذي يعزّز أركان هذه النظرية ، إذ يضفي الشرعية على الخلافة في كافة عهودها ، ابتداءً من أوّل عهود الخلافة ! وانتهاءً بآخر خلفاء بني العبّاس ، فهذا كلّ مايتّسع له لفظ القرشيّة هنا .
لمّا تغلب معاوية بالسيف بلغه أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص يُحدِّث أنّه سيكون ملك من قحطان ، فهبّ معاوية غضباً فجمع الناس وخطبهم قائلاً : أمّا بعد ، فإنّه بلغني أنّ رجالاً منكم يحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولاتؤثر عن رسول الله ، أُولئك جهّالكم ! فإيّاكم والاَمانيّ التي تضلّ أهلها ، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «إنّ هذا الاَمر في قريش، لايعاديهم أحد إلاّ كبّه الله في النار على وجهه» (2).

وقفة مع هذا النصّ :
عرف المهاجرون القرشيّون الثلاثة ـ أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ـ هذا النصّ فاحتجّوا به على الاَنصار في السقيفة ، فأذعن الاَنصار ، وعاد القرشيّون بالخلافة ، أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ مالت عن أبي عبيدة ، لا لعدم كفاءته وهو القرشيّ المهاجر ، بل لاَنّه قد توفّي في خلافة عمر ، فلمّا حضرت عمر الوفاة تأسّف عليه ، وقال : (لو كان أبو عبيدة حيّاً
____________
(1) مقدّمة ابن خلدون : 214 ـ 215 فصل 26 .
(2) صحيح البخاري ـ كتاب الاَحكام ـ باب 2 | 6720 .

( 59 )
لولّيتهُ)(1).. والاَمر ماضٍ مع النصّ .
ولكن حين لم يكن أبو عبيدة حيّاً كاد ذلك المبدأ ـ النصّ ـ أن ينهار ، وكاد ذلك النصّ المتواتر أن يُنسى ، كلّ ذلك على يد الرجل الذي كان من أوّل المحتجّين به على الاَنصار ، عمر بن الخطاب ! إنّه لمّا لم يجد أبا عبيدة حيّاً ، قال : (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيتُه) (2).
ولمّا لم يكن سالم حيّاً ، قال : (لو كان معاذ بن جبل حيّاً لولّيتُه) (3).
فهل كان سالم قرشياً ؟! أم كان معاذ كذلك ؟!
أمّا سالم : فأصله من إصْطَخْر ، من بلاد فارس ، وكان مولىً لاَبي حذيفة(4) !
وأمّا مُعاذ : فهو رجل من الاَنصار الّذين أغار عليهم القرشيّون الثلاثة في السقيفة ، وفيهم عمر ، واحتجّوا عليهم بأنّ الاَئمّة من قريش ، وهيهات أن ترضى العرب بغير قريش ! هذا الكلام قاله عمر في خطابه للاَنصار في السقيفة ، ثمّ واصل خطابه قائلاً : (ولنا بذلك الحجّة الظاهرة ، مَن نازعنا سلطانَ محمّد ونحن أولياؤه وعشيرتُه ، إلاّ مُدْلٍ بباطلٍ ، أو متجانفٍ لاِثم ، أو متورّط في هَلَكة) (5)؟!
إنّ تعدّد هذه المواقف المختلفة أضفى كثيراً من الغموض على عقيدة
____________
(1) مسند أحمد 1 : 18، الكامل في التاريخ 3 : 65، صفة الصفوة 1 : 367 ، سير أعلام النبلاء 1 : 10.
(2) الكامل في التاريخ 3 : 65 ، صفة الصفوة 1 : 283 ، طبقات ابن سعد 3 : 343 .
(3) مسند أحمد 1 : 18، صفة الصفوة 1 : 494، طبقات ابن سعد 3 : 590، سير أعلام النبلاء 1 : 10.
(4) سير أعلام النبلاء 1 : 167 .
(5) راجع : الكامل في التاريخ 2 : 329 ـ 330 ، الاِمامة والسياسة : 12 ـ 16 .

( 60 )
عمر في الخلافة ، ممّا يزيد في إرباك نظرية الخلافة والاِمامة إذا ماأرادت أن تُساير جميع المواقف ، من هنا اضطرّوا إلى الضرب على اختلافات عمر حفاظاً على صورة أكثر تماسكاً لهذه النظرية ، كلّ ذلك لاَجل تثبيت هذا المبدأ القائم على النصّ الشرعي : «الاَئمّة من قريش» .
واضح إذن كيف تمّ الانتصار للنصّ على الرأي المخالف !
وواضح أيضاً كيف كان قد تمّ الانتصار لمبدأ النصّ على مبدأ الشورى ، وذلك حين رأى الخليفة ضرورة النصّ على من يخلفه ، هذا بغض النظر عن السر الذي ذكرناه في طرح نظرية الشورى !
فدخل النصّ إذن في قمّة النظام السياسي !
إذن ، ثبت لدينا نصّ صريح صحيح وفاعل في هذه النظرية ، وهو الحديث الشريف «الاَئمّة من قريش» وقد أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن والسير بألفاظ مختلفة .

ضرورة التخصيص في النصّ :
1 ـ إنّ قراءةً سريعة في تاريخنا السياسي والاجتماعي توقفنا على حقيقة أنّ النصّ المتقدّم «الاَئمّة من قريش» بمفرده لايحقق للاِمامة الاَمل المنشود منها في حراسة الدين والمجتمع .
وأوّل من لمس هذه الحقيقة هم الصحابة أنفسهم منذ انتهاء عصر الخلفاء الاَربعة ، ثمّ أصبحت الحقيقة أكثر وضوحاً لدى من أدرك ثاني ملوك بني أُميّة ـ يزيد بن معاوية ـ ومَن بعده .
ففي صحيح البخاري : لمّا كان النزاع دائراً بين مروان بن الحكم وهو
( 61 )
بالشام ، وعبد الله بن الزبير وهو بمكّة ، انطلق جماعة إلى الصحابي أبي برزة الاَسلمي رضي الله عنه فقالوا له : ياأبا برزة ، ألا ترى ماوقع فيه الناس ؟! فقال : إنّي أحتسب عند الله أنّي أصبحتُ ساخطاً على أحياء قريش ، إنّ ذاك الذي بالشام والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا ، وإنّ الذي بمكّة والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا (1) !!
2 ـ وأهمّ من هذا أنّه ثمّة نصوص صحيحة توجب تضييق دائرة النصّ المتقدّم..
لقد حذّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الاغترار بالنسب القرشي وحسب ، وأنذر بأنّ ذلك سيؤدّي إلى هلاك الاَُمّة وتشتّت أمرها !
ففي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : «هَلَكَةُ أُمّتي على يَدَي غلمةٍ من قريش» (2) .
كيف إذن سيتمّ التوفيق بين النصّين : «الاَئمّة من قريش» و «هَلَكة أُمّتي على يدي غلمة من قريش» ؟!
أليس لقائل أن يقول : ماهو ذنب الاَُمّة ؟! إنّها التزمت نصّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
____________
(1) صحيح البخاري ـ الفتن ـ باب 20 | 6695 .
(2) صحيح البخاري ـ الفتن ـ باب 3 | 6649 ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13 : 7 ـ8. ومما يثير الدهشة أن تجد هذه الاَحاديث وأكثر منها في آل أبي سفيان وآل مروان ، تجدها في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير تحت عنوان (إخباره صلى الله عليه وآله وسلّم لما وقع من الفتن من بني هاشم بعد موته) !! 6 : 255 ـ ط. دار التراث العربي ـ سنة 1992 م ، و 6 : 227 ـ ط . مكتبة المعارف ـ سنة 1988 م . علماً أنّه وضعها وفق ترتيبه التاريخي في أحداث العهد الاَموي!! ولعل المتهم في هذا ناسخ أمويّ الهوى غاضه ذكر بني أُمية في هذا العنوان فقلبه على بني هاشم !

( 62 )
«الاَئمّة من قريش» فقادها هذا النصّ إلى هذا المصير حين ذُبح خيار الاَُمّة بسيوف قريش أنفسهم !
أليس النصّ هو المسؤول ؟!
حاشا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يضع أُمّته على حافة هاوية ، وهو الذي كان قد استنقذها من الهاوية .
إنّهم أرادوا أن يحفظوا الرسول بحفظ جميع الصحابة وإضفاء الشرعية حتّى على المواقف المتناقضة تجاه القضيّة الواحدة ، فوقعوا في مافرّوا منه !
بل وقعوا في ماهو أكبر منه حين صار النصّ النبويّ هو المسؤول عمّا آل إليه أمر الاَُمّة من فتن ، ثمّ هَلَكة !
فهؤلاء الغلمة إنّما يكون هلاك الاَُمّة على أيديهم عندما يملكون أمر الاَُمّة ، لكنّ الاَُمّة إنْ رضيت بهم فإنّما كان اتّباعاً للنصّ الاَوّل «الاَئمّة من قريش» فهل يكون هذا إلاّ إغراء ؟!
حاشا لرسول الله أن يكون ذلك منه ، وإنّما هو من علامات التهافت في هذه النظرية التي أغضت عن كلّ ماورد في السُنّة ممّا يفيد تخصيص ماورد في حقّ قريش .

نوعان من التخصيص :
ورد في السُنّة نوعان من التخصيص في أمر قريش ؛ تخصيص سلب ، وتخصيص إيجاب .

( 63 )
1 ـ تخصيص السلب : ثمّة نصوص صريحة تستثني قوماً من قريش ، فتبعدهم عن دائرة التكريم ، ناهيك عن التقديم : قال ابن حجر الهيتمي : في الحديث المرويّ بسندٍ حَسَن أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : «شرّ قبائل العرب : بنو أُميّة وبنو حنيفة وثقيف» .
قال : وفي الحديث الصحيح ـ قال الحاكم : على شرط الشيخين ـ عن أبي برزة رضي الله عنه أنّه قال : ( كان أبغض الاَحياء ـ أو الناس ـ إلى رسول الله بنو أُميّة ) (1) .
والذي ورد في ذمّ آل الحَكَم ـ أبو مروان ـ خاصّة كثير ومشهور .
فهل يصحّ أن تُسند الاِمامة إلى شرّ قبائل العرب ، وأبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
ومن دقائق النصّ الاَوّل إقرانه بني أُميّة ببني حنيفة ، وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الكذّاب !!
فإذا أصبح هؤلاء هم الحكّام في الواقع فعلينا أن نشهد أنّ هذا الواقع منحرف عن النصّ ، بدلاً من أن نسعى لتبريره وإخضاعه للنصّ .

2 ـ تخصيص الاِيجاب : الحديث الذي ميّز قريشاً بالاصطفاء على سائر القبائل لم يقف عند دائرة قريش الكبرى ، بل خصّ منها طائفةً بعينها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّ الله اصطفى كنانة من وُلد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم»(2).

____________
(1) تطهير الجنان واللسان : 30 .
(2) صحيح مسلم ـ كتاب الفضائل ـ | 1 .

( 64 )
وهذا تقديم لبني هاشم على سائر قريش ..
ساق ابن تيميّة هذا الحديث الصحيح ، وأضاف قائلاً : وفي السنن أنّه شكا إليه العبّاسُ أنّ بعض قريش يحقّرونَهم ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «والذي نفسي بيده لايدخلون الجنّة حتّى يحبّوكم لله ولقرابتي» وإذا كانوا أفضل الخلائق ، فلا ريب أنّ أعمالهم أفضل الاَعمال.. ففاضلهم أفضل من كلّ فاضل من سائر قبائل قريش والعرب ، بل وبني إسرائيل وغيرهم (1).
وليس المقام مقام تفضيل وحسب ، بل إنّ قريشاً لا يصحّ لها إيمان مالم تحبّ بني هاشم حُبّين : لله ، ولقرابة الرسول !
فهل يصحّ أن تكون قريش كلّها سواء في حقّ التقدّم والاِمامة ، وفيها بنو هاشم الّذين رفعهم النصّ إلى أعلى منزلة ، وفيها بنو أُميّة الّذين خفضهم النصّ إلى أردى الرتب ؟!
إذا كان الواقع قد آل إلى هذه الحال ، فعلينا أن نشهد أنّه واقع منحرف عن النصّ ، لا أن نسعى إلى تبريره .

نتيجة البحث :
ممّا تقدّم يبدو بكّل وضوح أنّنا هنا قد أخفقنا في تحقيق نظرية منسجمة متماسكة في موضوع الاِمامة ، وأنّ السبب الحقيقي لهذا الاِخفاق هو متابعة الاَمر الواقع والسعي لتبريره وجعله مصدراً رئيساً في وصف النظام السياسي .
وتلك الوجوه المتناقضة كلّها من المستحيل أن تجتمع في نظرية
____________
(1) ابن تيميّة ، رأس الحسين : 200 ـ 201 مطبوع مع استشهاد الحسين ـ للطبري .

( 65 )
واحدة ، فتكون نظرية منسجمة وذات تصوّر واضح ومحدّد ومفهوم .
هذا كلّه ، وبقدر مايثيره من شكوك حول صلاحية هذه النظرية ، فإنّه يرجّح الرأي الآخر الذي يذهب إلى اعتماد النصّ الشرعي في تعيين خليفة الرسول .
إلى هذه النتيجة أيضاً خلص الدكتور أحمد محمود صبحي وهو يدرس نظرية الاِمامة ، إذ قال : (أمّا من الناحية الفكرية فلم يقدّم أهل السُنّة نظرية متماسكة في السياسة تُحدّد مفاهيم البيعة والشورى وأهل الحلّ والعقد ، فضلاً عن هوّة ساحقة تفصل بين النظر والتطبيق ، أو بين ماهو شرعي وبين ما يجري في الواقع .
لقد ظهرت نظريات أهل السُنّة في السياسة في عصر متأخّر بعد أن استقرّ قيام الدولة الاِسلامية على الغَلَبة.. كما جاء أكثرها لمجرّد الردّ على الشيعة.. والتمس بعضها استنباط حكم شرعي من أُسلوب تولّي الخلفاء الثلاثة الاَوائل .
وإنّ الهوّة الساحقة بين تشريع الفقهاء وبين واقع الخلفاء ، فضلاً عن تهافت كثير من هذه الآراء وإخفاقها في استنباط قاعدة شرعية ، هو ما مكّن للرأي المعارض ـ القول بالنصّ ـ ممثّلاً في حزب الشيعة) (1).

____________
(1) الزيدية : 35 ـ 37.