الرجوع
إلى النصوص المباشرة في تعيين الخليفة
لقد أحسّ الكثير من المتكلّمين وأصحاب الحديث إذن بالحاجة إلى النصّ في تعيين أوّل الخلفاء على الاَقلّ ، لتتّخذ الاَدوار اللاحقة له شرعيّتها من شرعيّته.
وليس غريباً أن تتعدّد أوجه الاستدلال بتعدّد المتكلّمين وتعدّد أساليبهم ، وتعدّد النصوص التي يعتمدونها ، وكثيراً ما يتعلّق المتكلّمون بما يشفع لمذاهبهم وإنْ كانوا يلمحون فيه علامات الوضع !
وسوف يدور الحوار هنا في اتّجاهين توزّعت عليهما النصوص المطروحة في هذا الباب..

( 68 )


( 69 )

الاتجاه الاَوّل : النصوص الدالّة على خلافة أبي بكر:
لقد عرض بعض المتكلّمين في تثبيت خلافة أبي بكر نصوصاً من القرآن ونصوصاً من السُنّة ، نستعرض أهمّها بتركيز وإيجاز مبتدئين بنصوص السُنّة لكونها أكثر تصريحاً ، ولاَنّ النصوص القرآنية اعتُمِدت في تصحيح خلافته لا في إثبات النصّ عليه .

أوّلاً ـ نصوص من السُنّة :
النصّ الاَوّل : قوله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي توفّي فيه : «مُروا أبا بكر فليصلّ بالناس» .
فرأى بعضهم في هذا الحديث نصّاً على الخلافة وإن كان خفياً ؛ لعدم الفصل بين إمامة الصلاة والاِمامة العامّة .
واستدلّوا لذلك بقول بعض الصحابة لاَبي بكر : إرتضاك رسول الله لديننا ، أفلا نرضاك لدنيانا ؟! وأهمّ شيء في هذا القول الاَخير أن ينسب إلى عليّ بن أبي طالب (1)!!
غير أنّ جملةً من الاِثارات تحيط بهذا النصّ وبهذه الواقعة ، قد تبتلع كلّ ما يُبنى عليهما من استنتاجات :

الاِثارة الاَُولى : إنّ القول بعدم الفصل بين إمامة الصلاة والاِمامة العامة
____________
(1) شرح المواقف 8 : 365 .

( 70 )
قول غريب ، وأغرب منه قول الجرجاني : (لا قائل بالفصل) (1)!
فابن حزم يقطع بأنّ هذا قياساً باطلاً ، ويقول : (أمّا من أدّعى أنّه إنّما قُدِّم قياساً على تقديمه إلى الصلاة ، فباطل بيقين ؛ لاَنّه ليس كلّ من استحقّ الاِمامة في الصلاة يستحقّ الاِمامة في الخلافة ، إذ يستحقّ الاِمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً ، ولايستحقّ الخلافة إلاّ قرشيّ ، فكيف والقياس كلّه باطل) (2)؟!
والشيخ أبو زهرة ينتقد هذا النوع من القياس ووجه الاستدلال به ، فيقول : ( اتّخذ بعض الناس من هذا ـ النصّ ـ إشارة إلى إمامة أبي بكر العامّة للمسلمين ، وقال قائلهم : (لقد رضيه عليه السلام لديننا ، أفلا نرضاه لدنيانا) ولكنّه لزوم ماليس بلازم ؛ لاَنّ سياسة الدنيا غير شؤون العبادة ، فلا تكون الاِشارة واضحة.. وفوق ذلك فإنّه لم يحدث في اجتماع السقيفة ، الذي تنافس فيه المهاجرون والاَنصار في شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة ، أن احتجّ أحد المجتمعين بهذه الحجّة ، ويظهر أنّهم لم يعقدوا تلازماً بين إمامة الصلاة وإمرة المسلمين ) (3).
والذي يُستشفّ من كلامه استبعاد صحّة نسبة هذا الكلام إلى الاِمام عليّ عليه السلام ؛ فهذه النسبة لاتحتمل الصحّة ، لِما ثبت في الصحاح من أنّ عليّاً عليه السلام لم يبايع إلاّ بعد ستّة أشهر (4)، كما أنّ الصحيح المشهور عن
____________
(1) شرح المواقف 8 : 365 .
(2) الفِصَل 4 : 109 .
(3) المذاهب الاِسلامية : 37 .
(4) صحيح البخاري ـ باب غزوة خيبر | 3998 ، صحيح مسلم ـ كتاب الجهاد والسِيَر 3 : 1380 | 52 ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 6 : 300 ، تاريخ الطبري 3 : 202 ، الكامل في التاريخ 2 : 331 .

( 71 )
عليّ عليه السلام خلاف ذلك ، فجوابه كان حين بلغه احتجاج المهاجرين بأنّ قريشاً هم قوم النبيّ وأوْلى الناس به ، قال عليه السلام : «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة» (1) !

الاِثارة الثانية : إنّ إمامة الصلاة وفقاً لفقه هذه المدرسة لايترتّب عليها أيّ فائدة في التفضيل والتّقديم ، فالفقه هنا يُجيز مطلقاً إمامة المفضول على الفاضل ، بل يُجيز إمامة الفاسق والجائر لاَهل التقوى والصلاح ، « صلّوا وراء كلّ برٍّ وفاجر » !

الاِثارة الثالثة : أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي : أنّ عبد الرحمن بن عوف قد صلّى إماماً بالمسلمين وكان فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2). وهذه الرواية أثبت ممّا ورد في تقديم أبي بكر ـ كما سيأتي ـ فالحجّة فيها إذن لعبد الرحمن بن عوف أظهر ، فتقديمه أوْلى وفقاً لذلك القياس (3).

الاِثارة الرابعة : في صحيح البخاري : كان سالم مولى أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين الاَوّلين وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد قباء ، وفيهم : أبو بكر، وعمر ، وأبو سلمة ، وعامر بن ربيعة (4).
وكان عمرو بن العاص أميراً على جيش ذات السلاسل ، وكان يؤمّهم
____________
(1) نهج البلاغة : 97 الخطبة 67 ، واُنظر : الاِمامة والسياسة ـ لابن قتيبة ـ : 11 .
(2) مسند أحمد 4 : 248 ـ 251 ، صحيح مسلم : الطهارة ـ باب المسح على الناصية والعمامة ، سنن أبي داود : المسح على الخفّين | 149 و 152 ، سنن ابن ماجة : |1236 ، سنن النسائي : الطهارة | 112 .
(3) أُنظر : ابن الجوزي ، آفة أصحاب الحديث : 99 .
(4) صحيح البخاري : كتاب الاَحكام | 6754 .

( 72 )
في الصلاة حتّى صلّى بهم بعض صلواته وهو جنب ، وفيهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة (1).
فهل يُستدلّ من هذا أنّ سالماً وعمرو بن العاص أفضل من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ، وأوْلى بالخلافة منهم ؟!

الاِثارة الخامسة : نتابعها في النقاط التالية :
أ ـ ثبت في جميع طرق هذا الحديث بروايته التامّة أنّه بعد أن افتتح أبو بكر الصلاة ، خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتهادى بين رجلين ـ عليّ والفضل بن العبّاس ـ فصلّى بهم إماماً وتأخّر أبو بكر عن موضعه مؤتمّاً بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن يمينه .
أثبت ذلك تحقيقاً أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب صنّفه لهذا الغرض ، فقسّمه إلى ثلاثة أبواب : فجعل الباب الاَوّل في إثبات خروج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى تلك الصلاة وتأخيره أبا بكر عن إمامتها ، وخصّص الباب الثاني في بيان إجماع الفقهاء على ذلك ، فذكر منهم : أبا حنيفة ، ومالك ، والشافعي، وأحمد ، وأثبت في الباب الثالث وَهَن الاَخبار التي وردت بتقدّم أبي بكر في تلك الصلاة ، ووصف القائلين بها بالعناد واتّباع الهوى(2)!
وقال العسقلاني : تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدلّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان هو الاِمام في تلك الصلاة (3).

____________
(1) سيرة أبن هشام 4 : 272 ، البداية والنهاية 4 : 312 .
(2) أبو الفرج ابن الجوزي ، آفة أصحاب الحديث ـ الباب الاَوّل ، والثاني ، والثالث .
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 2 : 123 .

( 73 )
ومن هنا قال بعضهم : متى نظرنا إلى آخر الحديث احتجنا إلى أن نطلب للحديث مخرجاً من النقص والتقصير ، وذلك أنّ آخره : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا وجد إفاقةً وأحسّ بقوّة خرج حتّى أتى المسجد وتقدّم فنحّى أبا بكر عن مقامه وقام في موضعه . فلو كانت إمامة أبي بكر بأمره صلى الله عليه وآله وسلم لَتَركه على إمامته وصلّى خلفه ، كما صلّى خلف عبد الرحمن بن عوف (1).
ب ـ ممّا يعزّز القول المتقدّم ماورد عن ابن عبّاس من أنّه قبل أن يؤذّن بلال لتلك الصلاة قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «أُدعوا عليّاً» . فقالت عائشة : لو دعوت أبا بكر ! وقالت حفصة : لو دعوت عمر ! وقالت أُمّ الفضل : لو دعوت العبّاس ! فلمّا اجتمعوا رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه فلم ير عليّاً (2)!!
ج ـ ويشهد لذلك كلّه ماثبت عن عليّ عليه السلام من أنّه كان يقول : «إنّ عائشة هي التي أمرت بلالاً أن يأمر أباها لِيُصَلّ بالناس ؛ لاَنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليصلِّ بهم أحدهم ولم يعيّن» !! وكان عليٌّ عليه السلام يذكر هذا لاَصحابه في خلواته كثيراً ، ويقول عليه السلام : «إنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل : إنّكنّ لَصُويحبات يوسف إلاّ إنكاراً لهذه الحال ، وغضباً منها لاَنّها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما، وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب» (3).
فهذه صور منسجمة ومتماسكة لاتُبقي أثراً للاستفادة من هذا النصّ أو تلك الواقعة ، ويمكن أن يضاف إليها ملاحظات أُخر ذات قيمة لايُستهان بها :

____________
(1) ابن الاِسكافي ، المعيار والموازنة : 41 ـ 42 .
(2) مسند أحمد 1 : 356 ، وأخرجه الطبري في تاريخه 3 : 196 ولم يذكر فيه قول أُمّ الفضل .
(3) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 9 : 197 .

( 74 )
منها : الاختلاف الشديد والتعارض بين روايات هذه الواقعة ، وقد صرّح بهذا ابن حجر العسقلاني ، ثمّ حاول التوفيق بينها بعد جهد (1).
ومنها : ملاحظة بعض نقّاد الحديث أنّ هذا الحديث لم يصحّ إلاّ من طريق عائشة ، لذا لم تقم حجّته (2).
ومنها : أنّ ابن عبّاس قد طعن هذا الحديث طعناً عبقريّاً لم يتنبّه له الرواة ، إذ كانت عائشة تقول في روايتها لهذا الحديث : (خرج النبيّ يتهادى بين رجلين ، أحدهما الفضل بن العبّاس) ولاتذكر الرجل الآخر ، فلمّا عرض أحدهم حديثها على عبد الله بن عبّاس ، قال له ابن عبّاس : فهل تدري مَن الرجل الذي لم تُسَمِّ عائشة ؟
قال : لا .
قال ابن عبّاس : هو عليّ بن أبي طالب ، ولكن عائشة لاتطيبُ نفساً له بخير (3) !

الاِثارة السادسة : أثبت جلُّ أصحاب التاريخ والسِيَر أنّ أبا بكر كان أيّام مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاَخير هذا ، مأموراً بالخروج في جيش أُسامة، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يشدّد كثيراً بين الآونة والاَُخرى على التعجيل في إنفاذ هذا الجيش.. فكيف ينسجم هذا مع الاَمر بتقديمه في الصلاة ؟! ناهيك عن قصد الاِشارة إلى استخلافه !

____________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 2 : 122 ـ 123 .
(2) المعيار والموازنة : 41 .
(3) عبد الرزّاق ، المصنّف 5 : 429 ـ 430 ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 2 : 123 .

( 75 )
لقد أدرك ابن تيميّة مابين الاَمرين من منافاة وتعارض صريحين ، فنفى نفياً قاطعاً كون أبي بكر ممّن سُمّي في بعثة أُسامة (1)!!
لكنّ مثل هذا النفي لاينقذ الموقف ، خصوصاً وأنّ ابن تيميّة لم يقدّم برهاناً ولا شبهةً في إثبات دعواه ، فيما جاء ذِكر أبي بكر في مَن سُمّي في ذلك الجيش في مصادر عديدة وهامّة ، أصحابها جميعاً من القائلين بصحّة تقدّم أبي بكر (2).
أمّا نفي ذلك ، أو تحرّج بعض المؤرّخين عن ذِكره ، فإنّما مرجعه إلى الاختيار الشخصي في مساندة المذهب ، لاغير ، حين أدركوا بيقين أنّ شيئاً ممّا استدلّوا به على إمامته سوف لايتمّ لو كان أبو بكر في مَن سُمّي في جيش أُسامة ، إذ هو مأمور بمغادرة المدينة المنوّرة أيّام وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، تحت إمرة أُسامة بن زيد الشابّ ابن الثمان عشرة سنة (3)!

نصوص أُخر :
لم يقف القائلون بالنصّ عند النصّ المتقدّم ، بل رجعوا إلى مارأوا فيه نصّاً جليّاً على الخلافة ، لكنّها في الحقيقة نصوص تثير على نفسها بنفسها شكوكاً كثيرة لاتُبقي احتمالاً لصحّتها ، شكوكاً تثيرها الاَسانيد والمتون معاً.. وأهمّ هذه النصوص :

____________
(1) ابن تيميّة ، منهاج السُنّة 3 : 213 .
(2) الطبقات الكبرى 4 : 66 ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 : 124 ، تهذيب تاريخ دمشق 2 : 395 و 3 : 218 ، مختصر تاريخ دمشق 4 : 248 رقم 237 و 5 : 129 رقم 56 ترجمة أُسامة بن زيد وأيّوب بن هلال ، تاريخ اليعقوبي 2 : 77 ، تاريخ الخميس 2 : 172 ، شرح نهج البلاغة 1 : 159 و 220 و 9 : 197 .
(3) الطبقات الكبرى 4 : 66 .

( 76 )
1 ـ إنّ أمرأةً سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً ، فأمرها أن ترجع إليه ، فقالت : يا رسول الله ، أرأيتَ إنْ جئتُ فلم أجدك ؟ ـ كأنّها تُريد الموت ـ فقال : «فإن لم تجديني فأتي أبا بكر» (1).
وهذا الحديث متّحد عند الشيخين في سلسلة واحدة ، وهي : إبراهيم ابن سعد ، عن أبيه ، عن محمّد بن جُبير بن مطعم ، عن أبيه جُبير بن مطعم: أنّ أمرأةً سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ...
فلم يروه من الصحابة إلاّ جُبير بن مطعم ، ولم يروه عن جُبير إلاّ ولده محمّد ، ولم يروه عن محمّد غير سعد (وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف) ولم يروه عن سعد غير ولده إبراهيم ! ثمّ أخذه الرواة عن إبراهيم بن سعد !
مناقشة الاِسناد : نظرة واحدة في هذا الاِسناد ، بعيداً عن التقليد ، تُحبط الآمال التي يمكن أن تُعقد عليه :
فجبير بن مطعم : من الطلقاء ، وهو صاحب أبي بكر ، تعلّم منه الاَنساب وأخبار قريش (2)، وكانت عائشة تُسمّى له وتُذكر له قبل أن يتزوّجها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (3)، وذكره بعضهم في المؤلّفة قلوبهم . وكان شريفاً في قومه بني نوفل وهم حلفاء بني أُميّة في الجاهلية والاِسلام . وهو أحد الخمسة الّذين اقترحهم عمرو بن العاص على أبي موسى الاَشعري
____________
(1) أخرجه البخاري ومسلم في باب فضائل أبي بكر ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7 : 14 ـ 15 ، صحيح مسلم بشرح النووي 8 : 154 ، وانظر : تثبيت الاِمامة وترتيب الخلافة : 90 رقم 56 .
(2) ترجمة جبير بن مطعم في : سير أعلام النبلاء 3 : 95 رقم 18 ، الاِصابة 1 : 226 رقم 1092.
(3) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 14 : 22 .

( 77 )
للمشورة في التحكيم ـ وهم : جبير بن مطعم ، وعبدالله بن الزبير ، وعبدالله بن عمرو بن العاص ، وأبو الجهم بن حذيفة ، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام بن المغيرة ـ وكلّهم مائل عن عليّ عليه السلام ، فابن الزبير وعبد الرحمن بن الحرث كانا في أصحاب الجَمل الّذين قاتلوا عليّاً في البصرة ، وعبدالله بن عمرو مع أبيه عمرو بن العاص في أصحاب معاوية ، وجبير وأبو الجهم من مسلمة الفتح هواهما مع بني أُميّة (1)!
محمّد بن جبير بن مطعم : وهو القائل لعبد الملك بن مروان وقد سأله : هل كنّا نحن وأنتم ـ يعني أُميّة ونوفل ـ في حلف الفضول (2)؟ فقال له محمّد بن جُبير بن مطعم : لا والله يا أمير المؤمنين ، لقد خرجنا نحن وأنتم منه ، ولم تكن يدنا ويدكم إلاّ جميعاً في الجاهلية والاِسلام (3)!
وقد اعتزل محمّد عليّاً والحسن عليهما السلام في حربهما مع معاوية ، فلمّا تمّ الصلح كان محمّد ممثَّلاً في وفد المدينة إلى معاوية للبيعة (4).
وأمّا سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف : فقد كان قاضياً لبعض ملوك بني أُميّة على المدينة (5).
وأمّا ولده إبراهيم بن سعد : فهو صاحب العُود والغناء ، كان يعزف
____________
(1) راجع تراجمهم في : الاستيعاب ، وأُسد الغابة ، والاِصابة ، ومختصر تاريخ دمشق ، وسير أعلام النبلاء .
(2) حلف الفضول : حلف جمع بني هاشم وزُهرة وتَيم ، اجتمعوا عند عبد الرحمن بن جدعان فتحالفوا جميعاً على دفع الظلم واسترداد الحقّ من الظالم وإعادته إلى صاحبه المظلوم .
(3) الاَغاني 17 : 295 .
(4) أُنظر : فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13 : 98 .
(5) تاريخ بغداد 6 : 83 ، الاَغاني 15 : 329 .

( 78 )
ويغنّي ، جاءه أحد أصحاب الحديث ليأخذ عنه ، فوجده يغنّي ، فتركه وانصرف ، فأقسم إبراهيم ألاّ يحدّث بحديث إلاّ غنّى قبله ! وعمل والياً على بيت المال ببغداد لهارون الرشيد (1).
هذا النصّ ، الذي جاء بهذه السلسلة الوحيدة ، هو الذي رأى فيه ابن حزم وغيره نصّاً جليّاً على خلافة أبي بكر (2)! غير أنّ الجرجاني والتفتازاني لم يذكراه ، فيما ذكرا نصوصاً كثيرة أضعف منه سنداً ، وأقلّ منه دلالة (3) !
مناقشة المتن : وخطوة أُخرى إلى الاَمام في التحقيق تضعنا أمام صورة أكثر وضوحاً حيث تُرينا كيف حلّ هذا الحديث محلّ الحديث الصحيح الوارد في عليّ عليه السلام بعين هذا المتن !
لمّا حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت صفيّة أُمّ المؤمنين : يا رسول الله ، لكلّ امرأةٍ من نسائك أهل تلجأ إليهم ، وإنّك أجليت أهلي ، فإنْ حَدَثَ حَدَثٌ فإلى مَن ؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم : «إلى عليّ بن أبي طالب» . أخرجه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح (4).
إنّ الظروف السياسية الغالبة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحتى عصر
____________
(1) تاريخ بغداد 6 : 81 ـ 86 ، الاَعلام 1 : 40 .
(2) الفِصَل 4 : 108 . انظر أيضاً : تثبيت الاِمامة وترتيب الخلافة : 90 ـ 91 رقم 56 ، نظام الخلافة بين أهل السُنّة والشيعة : 39 .
(3) أُنظر : الجرجاني ، شرح المواقف 8 : 364 ـ 365 ، التفتازاني ، شرح المقاصد 5 : 263 ـ367.
(4) مسند أحمد 6 : 300 ، مجمع الزوائد 9 : 113 .

( 79 )
تدوين جوامع الحديث ، هي السبب الوحيد في ظهور الحديث الاَول ودخوله في كتب الشيخين وغيرهما دون الحديث الثاني !
2 ـ قالت عائشة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه : «ادعي لي أبا بكر أباك ، وأخاكِ ، حتّى أكتب كتاباً ، فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنٍّ ويقول قائل : أنا أوْلى ، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر» (1).
أسند مسلم هذا الحديث كما يلي : عبيدالله بن سعيد ، عن يزيد بن هارون ، عن إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة .
فقد ظهر إبراهيم بن سعد في هذا الحديث أيضاً ، وهو صاحب الحديث المتقدّم ، صاحب العود والغناء ، صاحب هارون الرشيد .
أمّا الزهري وعروة وعائشة فهم من أشدّ الناس ميلاً وانحرافاً عن عليّ عليه السلام ، وموقفهم من الخلافة ومن عليّ عليه السلام خاصّة وبني هاشم عامّة معروف جدّاً !
وأورده البخاري من طريق آخر ينتهي أيضاً إلى عائشة ، فهي وحدها رأس هذا الحديث في جميع طرقه !
ولعلّ أقوى مايُثار هنا : أنّ هذه الاَحاديث قد رواها الشيخان ، فكيف يمكن طعنها والشكّ فيها ؟!
وما أيسر الجواب لمن تجرّد للحقيقة دون سواها ، الحقيقة التي كشف
____________
(1) صحيح البخاري ـ كتاب الاَحكام ـ باب الاستخلاف 6 | 6791 ، صحيح مسلم ـ باب فضائل أبي بكر 5 | 2387 والنصّ منه .

( 80 )
عنها النقاب مؤرّخون وأئمّة لاشك في وثاقتهم وصدقهم :
ـ قال نفطويه في تاريخه : ( إنّ أكثر الاَحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة اختُلِقت في أيّام بني أُميّة تقرّباً إليهم في مايظنّون أنّهم يُرغِمون به أُنوف بني هاشم ) !
ـ وقال المدائني في كتابه في الاَحداث : ( فرُوِيَتْ أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة ، لا حقيقة لها .. حتّى انتقلت تلك الاَخبار والاَحاديث إلى الديّانين الّذين لايستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة مارووها ولا تديّنوا بها ) !
ـ وقال الاِمام الباقر عليه السلام : «حتّى صار الرجل الذي يُذكر بالخير ، ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ، يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض مَن قد سلفَ من الولاة ، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ، ولا كانت وقعت ، وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من رواها ممّن لم يُعرف بالكذب ولابقلّة ورع»(1)!
فليس بمستنكَرٍ إذن أن تنفذ هذه الاَخبار إلى الصحيحين وغيرهما.. فمن أين يأتي الاستنكار وهم مارووها إلاّ وهم يعتقدون صحّتها ؟!
وهذا الحديث بالذات ممّا شهد المعتزلة بأنّ البكرية وضعته في مقابل الحديث المرويّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه : «ائتوني بدواةٍ وبياض أكتب لكم كتاباً لاتضلّوا بعده أبداً» فاختلفوا عنده ، وقال قوم منهم : لقد غلبه
____________
(1) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 11 : 43 ـ 46 .

( 81 )
الوجع، حسبنا كتاب الله (1)!
وممّا يشهد لهذا القول ، بل يجعله يقيناً لا شكّ فيه ، ماثبت عن ابن عبّاس في وصف اختلافهم عند النبيّ ( ص ) الذي حال دون كتابة ذلك الكتاب ، فقد كان ابن عبّاس يصف هذا الحديث بأنّه (الرزيّة ، كلّ الرزيّة) ويذكره فيقول : (يوم الخميس ، وما يوم الخميس ! قالوا : وما يوم الخميس ؟! قال: اشتدّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه فقال : «ائتوني أكتب لكم كتاباً لاتضلّوا بعدي» فتنازعوا ، وماينبغي عند نبيٍّ تنازع ! وقالوا : ماشأنهُ ! أهَجَر ؟ استفهموه !! فقال : «دعوني ، فالذي أنا فيه خير» قال ابن عباس : إن الرزيّة كلّ الرزيّة ماحال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ، من اختلافهم ولغطهم) . ويبكي حتّى يبلّ دمعُه الحصى (2).
فلو كان الاَمر كما وصفه الحديث المنسوب إلى عائشة «يأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر» لم تكن ثمّة رزية يبكي لها ابن عبّاس كلّ هذا البكاء ويتوجّع كلّ هذا التوجّع .
إنّ بكاء ابن عبّاس وتوجّعه الشديد لهذا الحديث لهو دليلٌ لاشيء أوضح منه على أنّ الذي أراده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك الكتاب لم يتحقّق ، بل تحقّق شيء آخر غيره لم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أراده ولا أشار إليه أدنى إشارة .
وتزداد هذه الحقيقة رسوخاً حين ندرك أنّ ابن عبّاس هو واحد من
____________
(1) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 11 : 49 .
(2) صحيح البخاري ـ كتاب المرضى ـ باب 17 | 5345 وفيه أن الذي اعترض على الرسول هو عمر ، صحيح مسلم ـ كتاب الوصيّة | 15 و 21 و 22 ، مسند أحمد 1 : 324 ، السيرة النبوية ـ للذهبي ـ : 384 ، البداية والنهاية 5 : 248 .

( 82 )
سادة بني هاشم الّذين لم يبايعوا لاَبي بكر إلاّ بعد ستّة أشهر (1)!
فمع هذه الثوابت لايبقى احتمال لصحّة الحديث المنسوب إلى عائشة!
3 ـ حديث : «اقتدوا باللَّذَين مِن بعدي ، أبي بكر وعمر» .
أخرجه الترمذي وابن ماجة (2)، واعتمده كثيرون في إثبات النصّ على أبي بكر وعمر ، أو في إثبات صحّة خلافتهما (3).
لكنّ ابن حزم استهجن كثيراً الاستدلالَ بهذه الرواية ، وعدّه عيباً يترصّدُ أمثالَه الخصوم ، فقال مانصّه : (ولو أنّنا نستجيز التدليس والاَمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً ، أو أبلسوا أسفاً ، لاحتججنا بما روي « اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر وعمر » ولكنّه لايصحّ ، ويُعيذنا الله من الاحتجاج بما لايصحّ) (4).
4 ـ نصوص أُخر نُسبت إلى عليّ عليه السلام ، إمعاناً في سدّ الثغرات ، وقطع الطريق على الخصم ، استبعد المحبّ الطبري صحّة شيءٍ منها لتخلّف عليٍّ عن بيعة أبي بكر ستّة أشهر ، ونسبته إلى نسيان الحديث في مثل هذه المدّة أمر بعيد (5).

____________
(1) السنن الكبرى 6 : 300، تاريخ الطبري 3 : 208 ، مروج الذهب 2 : 316 ، الكامل في التاريخ 2 : 331 ، جامع الاَُصول 4 : 482 .
(2) سنن الترمذي ـ مناقب أبي بكر 5 | 3662 ، سنن ابن ماجة 1 : 97 .
(3) شرح المواقف 8 : 364 ، شرح المقاصد 5 : 266 ، تثبيت الاِمامة : 92 رقم 59 .
(4) الفِصَل 4 : 108 .
(5) الرياض النضرة : 48 ـ 49 .

( 83 )
وهذا حقٌّ يؤيّده ما اشتهر عن عليّ عليه السلام من ذِكر حقّه في الخلافة (1).
هذه جملة مااعتمدوه من النصوص الحديثية في النصّ على أبي بكر وتقديمه .

ثانياً ـ نصوص من القرآن الكريم :
1 ـ قوله تعالى : ( وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلِفنّهم في الاَرض كما استخلف الّذين من قبلهم وليمكّنَنّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) (2).
قالوا : الخطاب هنا للصحابة ، فوجب أن يوجد في جماعة منهم خلافة يتمكّن بها الدين ، ولم يوجد على هذه الصفة إلاّ خلافة الخلفاء الاَربعة ، فهي التي وعد الله بها (3). حتّى صرّح بعضهم بأنّ الآية نازلة فيهم ، أو في أبي بكر وعمر خاصّةً (4).
وهذا الاستدلال ضعّفه المفسّرون بأمرين :
الاَوّل : إنّ المراد في هذه الآية هو (الوعد لجميع الاَُمّة في ملك الاَرض كلّها تحت كلمة الاِسلام ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «زُوِيَتْ لي الاَرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ مُلك أُمّتي مازُوِيَ لي منها»). وأنّ (الصحيح في هذه الآية أنّها في استخلاف الجمهور ،
____________
(1) سيأتي في هذا البحث .
(2) سورة النور 24 : 55 .
(3) شرح المواقف 8 : 364 ، شرح المقاصد 5 : 265 .
(4) تفسير القرطبي 12 : 195 .

( 84 )
واستخلافهم هو أن يملّكهم البلاد ويجعلهم أهلها...
ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين في أُحد وغيرها ، وخاصّةً الخندق، حتّى أخبر الله تعالى عن جميعهم فقال : ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفلَ منكم وإذ زاغت الاَبصار وبلغت القلوبُ الحناجر وتظنّون بالله الظنونا * هنالك أبتليَ المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً ) (1). ثمّ إنّ الله ردّ الكافرين لم ينالوا خيراً ، وأمّن المؤمنين وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ، وهو المراد بقوله : ( لَيستخلِفنّهم في الاَرض ) . وقوله : ( كما استخلف الّذين من قبلهم ) يعني بني إسرائيل ، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر ، وأورثهم أرضهم وديارهم .. وهكذا كان الصحابة مستضعَفين خائفين ، ثمّ إنّ الله تعالى أمّنهم ومكّنهم وملّكهم ، فصحّ أنّ الآية عامّة لاَُمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم غير مخصوصة ، إذ التخصيص لايكون إلاّ بخبر ممّن يجب له التسليم ، ومن الاَصل المعلوم التمسّك بالعموم) (2).
والثاني : ماذكروه في سبب نزول الآية ، فإنّه منطبق تماماً على ماذُكر آنفاً ، لايُساعد على تخصيصها في الخلفاء الاَربعة أو بعضهم ، وإنْ كان فيه مايفيد تخصيصها بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه (3).
ففي رواية البراء ، قال : فينا نزلت ونحن في خوف شديد .

____________
(1) سورة الاَحزاب 33 : 10 و 11 .
(2) تفسير القرطبي 12 : 196 ـ 197 ، تفسير الشوكاني (فتح القدير) 4 : 47 . وانظر أيضاً : الميزان في تفسير القرآن 15 : 167 .
(3) كما تقدّم في آخر الكلام المنقول عن القرطبي ، وهو ماذهب إليه محمّد جواد مغنية في تفسيره الكاشف 5 : 436 .

( 85 )
وفي رواية أبي العالية ، يصف حال أصحاب الرسول وهم خائفون ، يُمسون في السلاح ويُصبحون في السلاح ، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله الآية ، فأظهر الله نبيّه على جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح.
ومثلها رواية أُبيّ بن كعب ، وقوله في رواية ثانية عنه : لمّا نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ( وَعَدَ اللهُ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ) الآية ، بشّر هذه الاَُمّة بالسَنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الاَرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب (1).
أمّا رواية عبد بن حُميد عن عطيّة ففيها تخصيص آخر مخالف للتخصيص المذكور في الخلفاء الاَربعة ، إذ قال عطيّة : هم أهل بيتٍ هاهنا! وأشار بيده إلى القِبلة (2).
وفي هذا عطف على ماذهب إليه غالب مفسّري الشيعة من أنّ المراد بالّذين آمنوا وعملوا الصالحات هنا : النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والاَئمّة من أهل بيته عليهم السلام . وأنّ هذه الآية تبشّر بالمهدي الموعود من أهل البيت ودولته(3).
فمع هذا القول ، أو مع ظهور ما تقدم من إفادتها العموم ، لا يبقى وجه للتمسّك بها هنا .
2 ـ قوله تعالى ( قُل للمخلَّفين من الاَعراب ستُدعون إلى قوم أُولي بأسٍ
____________
(1) الدر المنثور 6 : 215 ـ 216 .
(2) الدر المنثور 6 : 216 .
(3) مجمع البيان 4 : 152 ، الميزان 15 : 166 ـ 167 ، الاِفصاح في الاِمامة : 102 .

( 86 )
شديد تقاتلونهم أو يُسلمون فإنْ تُطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً ) (1). فقد جعل الداعي مفترض الطاعة ، والمراد به أبو بكر وعمر وعثمان ، فوجبت طاعتهم بنصّ القرآن ، وإذ قد وجبت طاعتهم فرضاً فقد صحّت إمامتهم وخلافتهم (2) .
والصحيح الذي يوافق تاريخ نزول الآية الكريمة ، ويوافق الوقائع ، هو ماذكره الرازي من أنّ الداعي هو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (3)، إذ كانت الآية المذكورة نازلة في الحديبية بلا خلاف ، وهي في سنة ستّ للهجرة ، وبعدها غزا النبيّ هوازن وثقيف وهم أُولو بأس شديد ، في وقعة حنين الشهيرة وذلك بعد فتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة ، وفتح مكّة هو الآخر دعوة إلى قتال قوم أُولي بأس شديد قاتَلوا الاِسلام وأهله حتّى أظهره الله عليهم في الفتح، ثمّ كانت غزوة مؤتة الشديدة ، ثمّ غزوة تبوك وهي المعروفة بجيش العسرة ، التي استهدفت محاربة الروم على مشارف الشام ، ثمّ دعاهم مرّةً أُخرى لقتال الروم في جيش أُسامة الذي جهّزه وأمر بإنفاذه وشدّد على ذلك في مرضه الذي توفّي فيه .
فكيف يقال إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يَدْعُهُم إلى قتال بعد نزول الآية ؟!
ولاَجل الفرار من هذا المأزق ذهبوا إلى آية سورة التوبة النازلة في المخلَّفين : ( فإنْ رَّجَعَكَ اللهُ إلى طائفةٍ مِنهُم فَاستَأذَنُوكَ لِلخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخرُجُوا مَعِيَ أبَداً وَلَن تُقاتِلوا مَعِيَ عَدُوّاً إنَّكُم رَضِيتُم بِالقُعُودِ أوَّلَ مَرَّةٍ فَاقعُدُوا
____________
(1) سورة الفتح 48 : 16 .
(2) الفِصَل 4 : 109 ـ 110 ، شرح المواقف 8 : 364 ، شرح المقاصد 5 : 266 .
(3) تفسير الرازي 28 : 92 ـ 93 .

( 87 )
مَعَ الخَالِفِينَ ) (1).
قال ابن حزم بعد أن ذكر هذه الآية ما نصّه : ( وكان نزول سورة براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شكّ التي تخلّف فيها الثلاثة المعذورون الّذين تاب الله عليهم في سورة براءة ، ولم يغزُ عليه السلام بعد غزوة تبوك إلى أن مات . وقال تعالى أيضاً : ( سيقول المخلَّفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتّبعكم يريدون أن يبدّلوا كلام الله قُل لن تتّبعونا كذلكم قال الله من قبل ) (2) فبيّن أنّ العرب لايغزون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد تبوك )(3)!
وهذا أوّل التهافت ! فالآية الثانية ، آية سورة الفتح ، نزلت في الحديبية سنة ستّ للهجرة بلا خلاف ، أي قبل تبوك بثلاث سنين ! ويتّضح التهافت جليّاً حين يواصل القول مباشرةً : (ثمّ عطف سبحانه وتعالى عليهم إثر منعه إيّاهم من الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغلق باب التوبة فقال تعالى : (قُل للمخلَّفين من الاَعراب ستُدعونَ إلى قومٍ أُولي بأسٍ شديد تقاتلونهم أو يُسلمون ) فأخبر تعالى أنّهم سيدعوهم غير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى قومٍ يقاتلونهم أو يُسلمون) (4) .
وهكذا قلب ترتيب الآيات ، فقدّم آية التوبة النازلة بعد تبوك سنة تسع، وأخّر آية الفتح النازلة في الحديبية سنة ستّ ، ليتّفق له مايريد !!

____________
(1) سورة التوبة 9 : 83 .
(2) سورة الفتح 48 : 15 .
(3) الفِصَل 4 : 109 .
(4) الفِصَل 4 : 109 .

( 88 )
وهذا هو الخطأ الاَوّل ، فكيف يكون مانزل سنة تسع من الهجرة مقدَّماً على مانزل سنة ستّ ؟!
وأمّا الخطأ الثاني فليس بأقلّ ظهوراً من الاَوّل : فآية سورة الفتح النازلة في الحديبية في السنة السادسة قد جاء فيها الاِخبار عن وقوع الدعوة ، وتعليق الثواب والعقاب بالطاعة والعصيان منهم ، فنصّ الآية يقول : (ستُدعون إلى قوم أُولي بأسٍ شديد... ) وقد وقعت الدعوة منه صلى الله عليه وآله وسلم حقّاً في حُنين ومؤتة وتبوك .
أمّا آية سورة التوبة في المخلَّفين المنافقين فقد أغلقت عليهم طريق التوبة ومنعت خروجهم مع النبيّ ومع غيره أيضاً ، إذ كيف يدعوهم أبو بكر أو عمر إلى جهاد الكفّار وهم قد شهد عليهم الله ورسوله بالكفر والموت على الضلال ؟! فقال تعالى في تلك الآية نفسها : ( فإنْ رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معيَ عدوّاً إنّكم رضيتم بالقعود أوّل مرّة فاقعُدوا مع الخالفين * ولا تُصلِّ على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تَقُم على قبره إنّهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) (1) .
وهذا صريح في حكم الله تعالى عليهم بالكفر وقت نزول الآيات ، وأنّهم يموتون على الكفر والضلال ، وأكّد ذلك بقوله في الآية التالية مباشرة : ( ولاتُعجبك أموالهم وأولادهم إنّما يريدُ اللهُ أن يعذّبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) (2).

____________
(1) سورة التوبة 9 : 83 ـ 84 .
(2) سورة التوبة 9 : 85 .

( 89 )
فهؤلاء إذن المقطوع بكفرهم وموتهم على الكفر ، غير أُولئك الّذين ذكرتهم سورة الفتح ووعدتهم بالثواب إنْ هم استجابوا للداعي !
ثمّة التفاتة هامّة جدّاً ، وهي : أنّه في ذات الواقعة التي نزلت فيها الآية الاَُولى : ( قُل للمخلَّفين من الاَعراب ستُدعَون إلى قوم أُولي بأسٍ شديد تقاتلونهم أو يُسلمون فإنْ تُطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً... ) أي في الحديبية ذاتها ، قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لوفد قريش : «يا معشر قريش ، لَتنتهنَّ أو لَيبعثنَّ اللهُ عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ، قد امتحن قلبه على الاِيمان» قالوا : من هو يا رسول الله ؟ فقال أبو بكر : من هو يا رسول الله ؟ وقال عمر : من هو يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : «خاصف النَعل» وكان قد أعطى عليّاً نعلاً يخصفها .
أخرجه الترمذي والنسائي وابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة (1).
ونحو هذا تماماً قاله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لوفد ثقيف ، قال : «لَتُسلمُنَّ أو لاَبعثنَّ عليكم رجلاً منّي ـ أو قال : مثل نفسي ـ ليضربنّ أعناقكم ، وليسبينّ ذراريكم ، وليأخذنّ أموالكم» قال عمر : فو الله ماتمنّيت الاِمارة إلاّ يومئذٍ، فجعلتُ أنصب صدري رجاء أن يقول : هو هذا . فالتفتَ إلى عليٍّ فأخذ بيده وقال : «هو هذا ، هو هذا» (2).
ونحوه ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه واقعٌ بعده ، فقال : «إنّ منكم من يقاتل
____________
(1) سنن الترمذي 5 | 3715 ، سنن النسائي 5 | 8416 ، كتاب الخصائص ـ بتخريج الاَثري | 30 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة ـ فضائل عليّ ـ 7 | 18 .
(2) أخرجه : عبد الرزّاق ، المصنّف 11 : 226 | 20389 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة ـ فضائل عليّ ـ 7 | 23 و 30، النسائي ، السنن ـ كتاب الخصائص ـ | 8457 ، ابن عبد البرّ ، الاستيعاب 3 : 46 .

( 90 )
على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله» فاستشرف له القوم ، وفيهم أبو بكر وعمر ، فقال أبو بكر : أنا هو ؟ قال : «لا» . قال عمر : أنا هو ؟ قال : «لا ، ولكن خاصف النعل» وكان عليٌّ يخصف نعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (1).
وهذه نصوص اجتمعت صراحةً على نفي وإثبات :
نفت صراحةً أن يكون الداعي أبو بكر أو عمر..
وأثبتت صراحةً أنّ الداعي بعد الرسول ( ص ) هو الإمام عليّ ( ع )!
وبعد وجود هذه النصوص الموثّقة المتضافرة فلا مسوِّغ للرجوع إلى مداخلات المتكلّمين .

____________
(1) مسند أحمد 3 : 82 ، الاحسان بترتيب صحيح ابن حبان 9 : 46 رقم 6898 ، المصنف ، ابن أبي شيبة ـ فضائل عليّ ـ 7 / 19، المستدرك 3 : 123 ، البداية والنهاية 7 : 398.