الاتجاه الثاني : النصوص الصحيحة الحاكمة
نصوص أيقن بها طائفة من الصحابة ، على رأسهم عليّ ، يقيناً لا يسمح أن يتسرّب إلى مدلولها شكّ.. يقيناً دفع عليّاً عليه السلام أن يردّ بدهشة على من دعاه لتعجيل البيعة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، قائلاً : «ومن يطلب هذا الاَمر غيرنا» (1)؟!
لكنّ تسارع الاَحداث تلك الاَثناء ، وإحكام القبضة ، لم يتركا لشيء من تلك النصوص موقعاً يرتجى ، أمّا حين تحقّقت بارقة أمل يوم اجتماع الاَصحاب الستّة للشورى ولم يُبَتّ في الاَمر بعد ، فلم يتوانَ عليٌّ عليه السلام عن التذكير بطائفة منها (2).
وبعد أن تمّت له البيعة كانت الاَذهان أكثر استعداداً للاِصغاء ، وأوسع فسحةً للتأمّل.. فبالغ في التذكير ببعضها ، نصّاً أو دلالةً ، حتّى امتلاَت بها خطبه الطوال والقصار ، وكان لايخلو تذكيره أحياناً من تقريع ، ظاهر.. أو خفيّ!
وبواحد من مواقفه نستهلّ هذه الطائفة من النصوص :
1 ـ قوله ( ص ) : «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه» :
خطب الإمام عليٌّ عليه السلام في الناس ، فقال : أنشدُ اللهَ مَن سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
____________
(1) الاِمامة والسياسة : 12 .
(2) أُنظر : الاستيعاب بحاشية الاِصابة 3 : 35 ، شرح نهج البلاغة 6 : 167 ـ 168 .

( 92 )
يقول يوم غدير خُمّ : «مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه» لَما قام فشهد !
فقام اثنا عشر بدرياً ، فقالوا : نشهد أنّا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خُمّ : «ألستُ أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم» ؟ قلنا : بلى ، يا رسول الله.
قال : «فمَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عادا»(1).
وحديث غدير خمّ لم يرد في مسند أحمد أكثر منه طُرُقاً إلاّ حديثاً واحداً (2)! أمّا في كتاب (السُنّة) لابن أبي عاصم ( ت /287 هـ) وتاريخ ابن كثير، فلا يضاهيه حديث (3)!! ورواه غيرهم بأسانيد صحيحة ، كالترمذي وابن ماجة ، والنسائي ، وابن أبي شيبة ، والحاكم (4). ونَصَّ الذهبي على تواتره (5).

____________
(1) مسند أحمد 1 ، 84 و 88 و 118 و 119 ـ مرّتان ـ ، سنن النسائي ـ كتاب الخصائص ـ | 8542، البداية والنهاية 5 : 229 ـ 232 و 7 : 383 ـ 385 من نحو عشرين طريقاً .
(2) أخرج أحمد حديث الغدير من تسع عشرة طريقاً ، المسند 1 : 84 و 88 و 118 ـ ثلاث مرّات ـ و 119 ـ مرّتان ـ و 152 و 331 ، و 4 : 281 و 368 و 370 و 372 ـ مرّتان ـ و 5 : 347 و 358 و 361 و 362 و 419 .
ولا يضاهيه إلاّ حديث «مَن كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار» فقد خرّجه من نحو 25 طريقاً.
(3) أُنظر : البداية والنهاية 5 : 228 ـ 233 و 7 : 383 ـ 386 ، فقد خرّجه من نحو 40 طريقاً ، بما فيها طرق حديث المناشدة المتقدّمة .
(4) سنن الترمذي 5 | 3713 ، سنن ابن ماجة 1 | 116 و 121 ، الخصائص ـ للنسائي بتخريج الاَثري ـ | 80 و 82 ـ 85 و 90 و 95 و 153 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة ـ باب فضائل عليّ ـ 7 | 9 و 10 و 29 و 55 ، المستدرك 3 : 109 ـ 110 .
(5) أُنظر : البداية والنهاية 5 : 233 .

( 93 )
لكن بعد هذا جاء دور المتكلّمين ، فبذلوا جهوداً مضنيةً في تأويله وصرفه عن معناه ، بل تجريده من كلّ معنىً !!
فحين رأوا أنّ الاِقرار بدلالته على الولاية العامّة يفضي إلى إدانة التاريخ وتخطئة كثير من الصحابة ، ذهبوا إلى تأويله بمجرّد النصرة والمحبّة ، فيكون معنى الحديث : يا معشر المؤمنين ، إنّكم تحبّونني أكثر من أنفسكم، فمن يحبّني يحبّ عليّاً ، اللّهمّ أحبّ من أحبّه ، وعادِ من عاداه(1)!
وحين رأوا أنّ جماعة من الصحابة قد عادَوه وحاربوه ، ومنهم : عائشة وطلحة والزبير ، وأنّ آخرين قد أسّسوا دينهم ودنياهم على بغضه ، ومنهم: معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة ومروان وعبد الله بن الزبير.. ذهبوا إلى حقّ هؤلاء في الاجتهاد مقابل ذلك النصّ ، فهم معذورون وإن أخطأوا ، بل مأجورون أجراً واحداً لاَجل اجتهادهم (2)!!
وهكذا أصبح الخروج على نصوص الشريعة حتّى في مثل تلك الطرق السافرة ، اجتهاداً يُثاب صاحبه ، وليس بينه وبين الآخر الذي تمسّك بالشريعة وقاتل دونها إلاّ فرق الاَجر ! فالذي قاتل الشريعة له نصف أجر الذي قاتل دونها !!
لقد كان الاَوْلى بهم أن يتابعوا سُنّة الرسول ، ويوقِّروا نصّه الشريف الثابت عنه ، بدلاً من إفراطهم في متابعة الاَمر الواقع الذي ظهر فيه اختلاف كثير..

____________
(1) الآلوسي ، روح المعاني 6 : 195 وما بعدها .
(2) أُنظر : الفِصَل في الملل والنحل 4 : 161 و 163 ، البداية والنهاية 7 : 290 ، الباعث الحثيث : 182 .

( 94 )
فالحقّ أنّ هذا نصٌّ صريح في ولاية الإمام عليٍّ عليه السلام، لا يحتمل شيئاً من تلك التأويلات التي ما كانت لتظهر لولا الانحياز للاَمر الواقع ومناصرته .
وممّا يزيد في ظهور هذا النصّ نصوص أُخرى تشهد له وتبيّنه ، كما نرى في النصوص الآتية :
2 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّ عليّاً منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي» . حديث صحيح (1)؟ .
3 ـ ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم في عليّ : «إنّه منّي وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي.. إنّه منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي» يكرّرها (2).
4 ـ ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعليٍّ : «أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي» . أو : «أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة» (3).
وبعد اليقين بصحّة هذه الاحاديث ، لايمكن أن تفسّر بحسب ظاهرها فتدين الواقع التاريخي !
فلمّا أرادوا تفسير الولاية هنا أيضاً بالنصرة والمحبّة ، نظير ما في قوله تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) (4)، صدمهم قوله : «بعدي» الذي لا يمكن أن يتشابه معناه !

____________
(1) مسند أحمد 4 : 437 ـ 438 ، سنن الترمذي 5 | 3712 ، الخصائص ـ للنسائي بتخريج الاَثري ـ | 65 و 86، المصنّف ، ابن أبي شيبة ـ فضائل عليّ ـ 7 | 58 ، الاِحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 : 41 | 6890.
(2) مسند أحمد 5 : 356 ، الخصائص ـ بتخريج الاَثري : | 87 .
(3) مسند أحمد 1 : 331 ، الخصائص ـ بتخريج الاَثري : | 23 ، المستدرك 3 : 134 .
(4) سورة التوبة 9 : 71 .

( 95 )
ولمّا كانت قدسية الرجال أعظم من قدسية النصّ ، رغم ثبوت صحّته عندهم ، شهروا سيف التكذيب ، فقالوا : إسناده صحيح مع نكارة في متنه لشذوذ كلمة ( بعدي ) !
ولمّا أرادوا البرهان على هذه النكارة والشذوذ فمن اليسير جدّاً أن يرموا بها «شيعيّاً» ورد في إسناد بعضها (1)!
لكن من البديهي أنّ مثل هذا البرهان الاَخير يحتاج إلى توثيق ، خصوصاً إزاء حديث يرِد بأسانيد صحيحة متعدّدة ، فكيف وثّقوه ؟!
ليتهم لم يوثّقوه ، ليتهم تركوه مجازفةً كمجازفات الكثير من أصحاب الاَذواق !!
قالوا في توثيقه : يؤيّده أنّ الاِمام أحمد روى هذا الحديث من عدّة طرق ليست في واحدة منها هذه الزيادة (2)!
إنّها مقالةُ مَن لايخشى فضيحة التحقيق !!
فالنصوص الثلاثة التي ذكرناها لهذا الحديث ، وفي جميعها كلمة ( بعدي ) جميعها في مسند أحمد (3)!
وأغرب من هذا أنّ المحقّق الذي ينقل قولهم المتقدّم ويعتمده ، يخرّج بعضها على مسند أحمد نفسه (4)!!

____________
(1) علماً أنّ التشيّع في مصطلحهم : هو تفضيل عليٍّ على عثمان ، لا غير، والطعن على ملوك بني أُميّة !
(2) أُنظر : أبا إسحاق الاَثري في تخريجه الحديث 60 من كتاب (الخصائص) .
(3) مسند أحمد 1 : 331 ، 4 : 438 ، 5 : 356 . وقد ذكرناها في تخريج النصوص كلٌّ في محلّه .
(4) الاَثري ، كتاب (الخصائص) للنسائي | 87 .

( 96 )
ومرّة أُخرى ينهار ذلك البرهان وتوثيقه أمام الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وفيه قوله ( ص ) : «أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي» (1)، وليس في إسناده واحد من أُولئك (الشيعة) الّذين اتُّهِموا به ! بل اتّفق على صحّته الحاكم والذهبي والاَلباني (2)!
إنّ هذه الدلائل ليست فقط تثبت صحّة قوله «بعدي» ، إنّما تثبت أيضاً أنّ الرواية التي وردت في مسند أحمد أو غيره وليس فيها كلمة «بعدي» إنّما قام (بتهذيبها) أنصار التاريخ الّذين نصروه حتّى في أوج انحرافه عن السُنّة..
كيف لا ؟! وهي إدانة صريحة لمساره المنحرف الذي صار عقيدةً يتديّنون بها ، ويضلِّلون مَن خالفهم فيها !
5 ـ الحديث الذي غاب عن (السنن) وأظهره أصحاب التاريخ والتفسير:
قوله ( ص ) : « إنّ هذا أخي ، ووصيّي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا» (3).
فإذا كان الذي دهش قريشاً في جاهليّتها هو أن يؤمر أبو طالب بأن
____________
(1) مسند أحمد 1 : 331 من حديث ابن عبّاس .
(2) المستدرك 3 : 133 ـ 134 وتلخيصه للذهبي في الصفحة ذاتها ، كتاب السُنّة لابن أبي عاصم ـ بتخريج الاَلباني ـ : 552 .
(3) تاريخ الطبري 2 : 217 ، الكامل في التاريخ 2 : 62 ـ 64 ، السيرة الحلبية 1 : 461 ، شرح نهج البلاغة 13 : 210 و 244 وصحّحه ، مختصر تاريخ دمشق ـ لابن عساكر ـ ، ابن منظور 17 : 310 ـ 311 ، تفسير البغوي (معالم التنزيل) 4 : 278 ، تفسير الخازن 3 : 371 ـ 372 نقلاً عن سيرة ابن إسحاق ، المنتخب من كنز العمّال ـ بهامش مسند أحمد ـ 5 : 41 ـ 42 .

( 97 )
يسمع لابنه ويطيع (1)، فقد دهشها بعد الاِسلام أن يؤمر كلّ الصحابة بذلك !
قال ابن كثير : ذكروا في إسناد هذا الحديث عبد الغفّار بن القاسم ، وهو كذّاب ، شيعي ، اتّهمه عليّ بن المديني بوضع الحديث ، وضعّفه الباقون(2).
لكنّ أبو مريم ، عبد الغفّار بن القاسم ، قد حفظ له التاريخ غير ما ذكر ابن كثير !
حفظ لنا خلاصة سيرته ، وصلته بالحديث ، ومنزلته فيه ، ثمّ حفظ علّة تركهم حديثه :
قال ابن حجر العسقلاني : (كان ـ أبو مريم ـ ذا اعتناء بالعلم وبالرجال.. وقال شعبة : لم أرَ أحفظ منه.. وقال ابن عديّ : سمعتُ ابن عقدة يثني على أبي مريم ويُطريه ، ويجاوز الحدّ في مدحه ، حتّى قال : لو ظُهر على أبي مريم مااجتمع الناس إلى شعبة) (3)!!
إذن لاَمرٍ ما لم يُظهَر على أبي مريم ! قال البخاري : عبد الغفّار بن القاسم ليس بالقويّ عندهم.. حدّث بحديث بُرَيدة «عليٌّ مولى مَن كنتُ مولاه» (4) !

____________
(1) حين قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لعليّ ، قام الناس يضحكون ويقولون لاَبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع !
(2) البداية والنهاية 3 : 38 ـ 39 .
(3) لسان الميزان 4 : 42 رقم 123 .
(4) لسان الميزان 4 : 43 .

( 98 )
لكنّ حديث بريدة هذا قد أخرجه ابن كثير نفسه من طريق آخر وصفه بأنّه إسناد جيّد قويّ ، رجاله كلّهم ثقات (1)!
ذلك هو أبو مريم !
6 ـ خلاصة وصيّة النبيّ لاَُمّته في حفظ رسالته ، قال ( ص ) : «ألا أيُّها الناس ، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب ، وأنا تاركٌ فيكم الثَقَلَين : أوّلهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به.. وأهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي» (2).
ـ «إنّي تاركٌ فيكم ماإنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الاَرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض.. فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (3).
ـ «إنّي تارك فيكم خليفتين : كتاب الله ، وأهل بيتي...» (4).
تلك خلاصة رسالة السماء... ومفتاح المسار الصحيح الذي أراده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لشريعته .
وهذا كلام لا يختلف في فهمه عامّيٌّ وبليغ.. فمن أين يأتيه التأويل ؟!
إنّه لو قُدِّر أن تتحقّق الخلافة لعليٍّ أوّلاً ، لَما ارتاب أحد في هذا النصّ
____________
(1) البداية والنهاية 5 : 228 .
(2) صحيح مسلم 4 | 2308 من عدّة طرق .
(3) سنن الترمذي 5 | 3788 ، مسند أحمد 3 : 17 .
(4) مسند أحمد 5 : 182 و 189 .

( 99 )
الصريح الصحيح .. لكنّ اختلاف المسار الجديد عنه ، وتقديس الرجال ، هما وراء كلّ ما نراه من ارتياب وتجاهل لنصّ لا شيء أدلّ منه على تعيين أئمّة المسلمين ، خلفاء الرسول !!
إنّ أغرب ما جاء في (تعطيل) هذا النصّ قولٌ متهافتٌ ابتدعه ابن تيميّة حين قال : (إنّ الحديث لم يأمر إلاّ باتّباع الكتاب ، وهو لم يأمر باتّباع العترة، ولكن قال : أُذكّركم الله في أهل بيتي) (1)!
فقط وفقط ، ولا كلمة واحدة !!
ولهذا القول المتهافت مقلِّدون ، والمقلِّد لا يقدح في ذهنه ما يقدح في أذهان البسطاء حتّى ليعيد على شيخه السؤال : أين الثقل الثاني إذن ؟! أين الخليفة الثاني إذن ، والنبيّ يقول «الثقلين .. خليفتين» ؟! ومَن هذان اللذان لن يفترقا حتّى يردا الحوضَ معاً ؟!
«كتاب الله» و «عترتي أهل بيتي» إنّهما المحوران اللذان سيمثّلان محلّ القُطب في مسار الاِسلام الاَصيل غداً بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وليس بعد هذا الحديث ، وحديث غدير خمّ ، مايستدعي البحث عن نصوص أُخر لمن شاء أن يؤمن بالنصوص ..

الخطاب الجامع.. مفترق الطرق :
في حديث صحيح ، جمع الخطاب وأوجز :
قال الصحابي زيد بن أرقم : لمّا دفع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من حجّة الوداع ونزل
____________
(1) منهاج السُنّة 4 : 85 ، الفرقان بين الحقّ والباطل : 139 .

( 100 )
غدير خمّ ، أمر بدوحاتٍ فقُمِمْن (1)، ثمّ قال : «كأنّي دُعيتُ فأجبتُ ، وإنّي تارك فيكم الثَقَلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي. فانظروا كيف تخلفوني فيهما ! فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض» .
ثمّ قال : «إنّ الله مولاي ، وأنا وليّ كلّ مؤمن» ثمّ أخذ بيد عليّ رضي الله عنه ، فقال: «مَن كنتُ وليّه فهذا وليّه ، اللّهمّ والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه» .
قال أبو الطفيل : قلتُ لزيد : سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
قال : نعم ، وإنّه ما كان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينه وسمعه بأُذنيه(2)
ص.
هذا الخطاب ، على نحو مائة ألف من المسلمين شهدوا حجّة الوداع ، وعند مفترق طرقهم إلى مدائنهم ، لم يعِشِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعده إلاّ نحو ثمانين يوماً (3) ، ليكون هذا الخطاب ذاته بعد اليوم الثمانين مفترق الطرق بين المسلمين ، وحتّى اليوم !!
ثمانون يوماً لا تكفي لنسيانه !!

____________
(1) أي : كُنِسْنَ .
(2) أخرجه : النسائي ، السنن 5 | 8464 ، الاَثري ، تخريج خصائص عليّ عليه السلام | 76 وذكر له عدّة مصادر ، منها : مسند أحمد 1 : 118 ، البزّار | 2538 ـ 2539 ، وابن أبي عاصم : 1365 ، والحاكم ، المستدرك 3: 109 ، وأخرجه ابن كثير ، البداية والنهاية 5 : 228 وقال: قال شيخنا الذهبي : هذا حديث صحيح ، وأخرجه اليعقوبي ، التاريخ 2 : 112 .
(3) كانت خطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خمّ يوم 18 ذي الحجّة سنة 10 هـ ، ووفاته صلى الله عليه وآله وسلم يوم 2 أو 12 ربيع الاَوّل من سنة 11 هـ ، حسب اليعقوبي والطبري والكليني ، أو 28 صفر ، حسب الطبرسي .

( 101 )
ودواعي الذكرى التي أحاطت به لا تسمح بتناسيه !!
لكن لم يحدّثنا التاريخ أنّ أحداً قد ذكره في تلك الاَيّام الحاسمة التي ينبغي ألاّ تعيد الاَذهان إلى شيء قبله ، فهو النصّ الذي يملأ ذلك الفراغ ، ويسكن له ذلك الهيجان ، وتنقطع دونه الاَمانيّ ، أو فرص الاجتهاد..
«إنّي يوشك أن أُدعى فأُجيب..
وإنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي..
مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه..» .
والعهدُ ، بعدُ ، قريبٌ ، جدُّ قريب..
فإذا وجدنا اليوم من لم يؤمن بالنصّ على خليفة النبيّ ( ص )، فليس لاَنّ النبيّ لم يَقُلْه ، بل لاَنّ الناس يومئذٍ لم يذكروه !!
7 ـ قوله ( ص ) :«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» .
حديث متواتر لا خلاف فيه (1)، لكنّ الكلام في تأويله ، وما أغنانا عن التأويل الذي ما أبقى من النصّ إلاّ حروفه !!
غريب جدّاً ما ذهب إليه المتأوَّلون من أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يَقُلْهُ إلاّ تطييباً لخاطر عليٍّ وترغيباً له في البقاء في المدينة لمّا أرجف به المنافقون وقالوا: خلّفك مع النساء والصبيان ! وليس فيه من تشابه المنزلتين إلاّ
____________
(1) مسند أحمد 1 : 173 و 175 و 182 و 184 و 331 ، صحيح البخاري ـ فضائل عليّ ـ | 3503، صحيح مسلم ـ فضائل عليّ ـ | 2404 ، مصنّف ابن أبي شيبة ـ فضائل عليّ ـ 7 : 496 | 11 ـ 15 .

( 102 )
القرابة (1) !
غريب في نسبة هذه الاغراض إلى حديث نبويّ ظاهر ، إلى حديث النبيّ ( ص ) الذي لا يقول إلاّ حقّاً ، ومع عليٍّ ( ع ) بالذات ، ربيب النبيّ وبطل الملاحم !!
وغريب في تناسي القرآن ، وكأنّ القرآن لم يذكر شيئاً من منزلة هارون من موسى !!
وغريب في الغفلة عمّا يضفيه هذا التأويل إلى الإمام عليّ ( ع ) وسعد وابن عبّاس، على الاَقلّ ، من سذاجة في التفكير وقصور في الفهم !!
ألم يكن الإمام عليٌّ ( ع ) يعرف قرابته من رسول الله ( ص ) قبل ذلك اليوم ؟!
أم كان سعد لم يتمنّ إلاّ هذه القرابة وهو يقول : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في عليٍّ ثلاث خصال لئن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليَّ من حمر النعم ، سمعته يقول : «إنّه منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي...» (2)؟! فهل فهم منه القرابة ، لا غير ؟!
أم كان ابن عبّاس لا يريد إلاّ القرابة حين يذكر لعليٍّ ( ع ) عشر خصال ليست لاَحدٍ من الناس ، فيعدّ فيها هذا الحديث (3)؟! فهل كان النبيّ ( ص ) ليس له ابن عمّ إلاّ عليّ ( ع )؟!

____________
(1) ابن حزم ، الفِصَل 4 : 94 ، ابن تيميّة ، منهاج السُنّة 4 : 87 ـ 88 .
(2) صحيح مسلم ـ فضائل عليّ ـ | 32 ، الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ | ح 9 و 10 و 43 و 52 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة ـ فضائل عليّ ـ | 15 .
(3) مسند أحمد 1 :331 ، الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ | 23 ، المستدرك 3 : 132 ـ 133 ـ ويأتي لاحقاً .

( 103 )
لقد كان لابن عبّاس من قرابة النبيّ ( ص ) مثل مالعليّ عليه السلام فكلاهما ابن عمّه صلى الله عليه وآله وسلم !! ويساويهما في هذه القرابة كلّ أولاد أبي طالب وأولاد العبّاس وأولاد أبي لهب !
ولا يخفى أيضاً أنّ قرابة عليٍّ للرسول ليست كقرابة هارون لموسى ( صلوات الله عليهم أجمعين )، فليست هي المعنيّة في النصّ قطعاً..
وغريب أن يخفى على هؤلاء ما هو ظاهر لمن هو دونهم : فقوله ( ص ) : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» ظاهر في عمومه واستيعابه جميع مصاديق تلك المنزلة ، ومن هنا استثنى النبوّة ، فقال ( ص ) : «إلاّ أنّه لانبيَّ بعدي» فلمّا استثنى النبوّة فقد نصّ على ثبات المصاديق الاَُخر ، وهي : ( الوزارة والخلافة ) .
فلو لم يرد النصّ إلاّ في غزوة تبوك ، لَما أفاد ذلك تخصيصه بتلك الغزوة مادام الحديث نصّاً في العموم .
ولقد ورد هذا النصّ نفسه في غير غزوة تبوك أيضاً ، كما رواه ابن حبّان وغيره في خبر المؤاخاة في السنة الاَولى من الهجرة النبوية (1).
8 ـ قوله ( ص ) : «يكون بعدي اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش» .
متواتر ، لانزاع فيه (2)!

____________
(1) السيرة النبوية ، لابن حبّان : 149 ، وصحّحه سبط ابن الجوزي ، تذكرة الخواصّ : 23 نقله عن الاِمام أحمد في المناقب ، وقال : رجاله ثقات .
(2) صحيح البخاري ـ الاَحكام | 8461 ، صحيح مسلم ـ الاِمارة ـ | 1821 و 1822 ، مسند أحمد 1 : 398 و 406 ، سنن أبي داود | 4280 ، سنن الترمذي ـ كتاب الفتن 4 | 2223، مصابيح السُنّة 4 | 4680 . لذا فإنّ قول الدكتور النشّار ، نشأة الفكر الفلسفي في الاِسلام 1 : 448 و 2 : 218 : (إنّ فكرة 12 خليفة لا وجود لها في الاِسلام) إنّما هي كبوة فارس !

( 104 )
أهل البيت أوّلاً :
يقول ابن تيميّة : إنّ بني هاشم أفضل قريش ، وقريش أفضل العرب ، والعرب أفضل بني آدم ، كما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله في الحديث الصحيح : «إنّ الله اصطفى بني إسماعيل ، واصطفى كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش»..
ويمكن أن يضاف إلى هذا كثير :
أ ـ «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي ، فأذهِب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام )، ولا أحد سواهم، ذلك حين نزل قوله تعالى: ( إنّما يريد اللهُ ليُذهِبَ عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً)(1) فأدار عليهم الكساء وقال فيهم قوله المتّفق عليه هذا (2)!
ب ـ «نحن بنو عبد المطّلب سادة أهل الجنّة : أنا ، وحمزة ، وعليّ ، وجعفر ، والحسن ، والحسين ، والمهديّ» (3).
جـ ـ «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» (4).

____________
(1) الاحزاب 33 : 33 .
(2) صحيح مسلم ـ فضائل الصحابة ـ | 2424 ، سنن الترمذي | 3205 و 3787 و 3871 ، مسند أحمد 4 : 107 و 6 : 291 و 304 ، مصابيح السُنّة 4 : 183 | 4796 ، أسباب النزول: 200 ، وسائر كتب التفسير عند هذه الآية من سورة الاَحزاب .
(3) سنن ابن ماجة 2 | 4087 .
(4) مسند أحمد 3 : 3 و 62 و 64 و 80 و 82 .

( 105 )
د ـ «المهديّ من عترتي ، من وُلْد فاطمة» (1).
فلم يبق في الاَمر أدنى غموض ، بعد تقديم بني هاشم الصريح ، وتقديم أهل البيت خاصّة على سائر بني هاشم ، وصراحة النصوص المتقدّمة ، لا سيّما الغدير والولاية والثقلين ، وببساطة كبساطة هذا الدين الحنيف ، وبعيداً عن شطط التأويل بُعد هذا الدِين عن التعقيد والتنطُّع ، تبدو عندئذٍ كم هي ظاهرةٌ إمامة اثني عشر سيّداً من سادة أهل البيت عليهم السلام .. وتحديداً : أوّلهم عليّ ، فالحسن ، فالحسين ، وآخرهم المهديّ (عليهم السلام) .
ومن لحظ الاضطراب الشديد والتهافت الذي وقع فيه شرّاح الصحاح عند حديث الخلفاء الاثني عشر (2)، ازداد يقيناً في اختصاص سادة أهل البيت بهذا الحديث ، دون سواهم .
وقد اهتدى إلى هذا المعنى بعض من شرح الله صدره للاِسلام من أهل الكتاب لمّا رأوا في أسفارهم الخبر عن اثني عشر إماماً يكونون بعد النبيّ العظيم من وُلْد إسماعيل (3)، فناقضهم ابن كثير ، نقلاً عن شيخه ابن تيميّة، ليجعل هؤلاء العظماء هم الخلفاء الّذين يعدّون فيهم معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك وهشام ، أو الّذين لا يدرون من هُم (4).

____________
(1) سنن أبي داود | 4284 ، تاريخ البخاري 3 : 346 ، مصابيح السُنّة | 4211 .
(2) أُنظر : فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13 : 180 ـ 183 ، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 15 : 212 ـ 213 ، صحيح مسلم بشرح النووي 12 : 201 ـ 203 ، البداية والنهاية 6 : 278 ـ 281 .
(3) العهد القديم ـ سفر التكوين ـ إصحاح 17 : آية 20 .
(4) أُنظر : البداية والنهاية 6 : 280 .

( 106 )
وأهل البيت أوّلاً :
لو لم يكن ثمّة نصّ في الاِمامة ، وكان للاَُمّة أن تُرشّح لها أهلها ، وبعد ما تقدّم في تفضيل بني هاشم ، وأهل البيت خاصّة ، فهم الاَوْلى بالاِمامة بلا منازع .
وأهل البيت أوّلاً :
لو كانت الخلافة محصورة في قريش ، إمّا لنصّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، أو لقول المهاجرين في السقيفة ، (أنّ قريشاً أولياؤه وعشيرته) ، (وقومه أوْلى به) ، (وهيهات أن يجتمع سيفان في غمد) ، (ولا تمتنع العرب أن تولّي أمرها مَن كانت النبوّة فيهم) .
وأخيراً : (فمَن ينازعنا سلطان محمّد ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلاّ مُدلٍ بباطلٍ ، أو متجانف لاِثمٍ ، أو متورّط في هَلَكة) (1)؟!
فإنّ هذا كلّه لا يرشّح أحداً قبل بني هاشم ، فإذا كان قومه أوْلى به فلا ينازعهم إلاّ ظالم ، فما من أحد أوْلى به من بني هاشم ، ثمّ أهل البيت خاصّة !
فبنو هاشم ، دون سواهم من بطون قريش ، هم المعنيّون بآية الاِنذار في بدء الدعوة النبوية : ( وأنذر عشيرتك الاَقربين ) (2).
وبنو هاشم هم المعنيّون بالمحاصرة في شعب أبي طالب ثلاث سنين، وليس معهم إلاّ بني المطّلب ، أمّا بطون قريش الاَُخر ، تَيم وعديّ
____________
(1) أُنظر : الاِمامة والسياسة : 12 ـ 16 ، الكامل في التاريخ 2 : 329 ـ 330 .
(2) سورة الشعراء 26 : 214 .

( 107 )
وأُميّة ومخزوم وزهرة وغيرها ، فهم الّذين تحالفوا على محاصرة عشيرة محمّد الاَقربين ، بني هاشم وبني المطّلب !!
فهل خفي هذا على أحد ، لو خفيت عليه النصوص ؟!
فالذي جادل في النصوص ودَفَعها بأنّها لو صحّت ، أو لو أفادت الخلافة ، لَمّا خفيت على عظماء الصحابة وجمهورهم .. عليه أن يقف أمام هذه الحقيقة ، كيف خفيت عليهم ؟!

سلوك النبيّ في ابلاغ إمامة عليّ :
عمليّاً كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يمارس إعداد الإمام عليّ ( ع ) لخلافته ، ومنذ بدء الدعوة ، ويُظهر لصحبه وللناس أنّه ينصبه لذلك ، عملاً مشفوعاً بالقول أحياناً ، مصرحاً بين الحين والحين بأنّ ذلك من الله تعالى وبأمره..
منذ البدء ، نشأ عليٌّ ( ع ) في بيت النبيّ ( ص ) يتبعه اتّباع الظلّ ، حتّى بُعث صلى الله عليه وآله وسلم فكان عليٌّ أوّل من آمن به مع زوجته خديجة (1).
وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يخرج إلى البيت الحرام ليصلّي فيه ، فيصحبه عليٌّ ( ع ) وخديجة فيصلّيان خلفه ، على مرأىً من الناس ، ولم يكن على الاَرض من يصلّي تلك الصلاة غيرهم (2).

____________
(1) الطبقات الكبرى 3 : 21 ، سيرة ابن هشام 1 : 228 ، كتاب الاَوائل : 91 ـ 93 ، البدء والتاريخ 4 : 145 ، السيرة النبوية ، ابن حبّان : 67 ، جوامع السيرة ، ابن حزم : 45 ، السيرة النبوية ، الذهبي : 70 ، الاِصابة 4 : 269 .
(2) مسند أحمد 1 : 209 ، المستدرك 3 : 183 وتلخيصه للذهبي ، الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ | 2 و 3 ، تاريخ الطبري 2 : 311 ، مجمع الزوائد 9 : 103 .

( 108 )
وكان الإمام عليٌّ ( ع ) يصف أيّامه تلك ، فيقول : «وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حِجره وأنا ولد، يضمّني إلى صدره... وكان يمضغُ الشيء ثمّ يُلقمنيه ، وما وجد لي كذبةً في قول ، ولا خَطلةً في فِعل... ولقد كنتُ أتّبعه اتّباع الفصيل أثَرَ أُمّه، يرفعُ لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كلّ سنةٍ بحِراء فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الاِسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة...» (1).
ويوم أنذر عشيرته الاَقربين ، رفع شأن عليٍّ عليهم جميعاً ، وخصّه بمنزلة لا يشركه فيها غيره .
ويوم هجرته إلى المدينة ، اختار عليّاً يبيت في فراشه ، ثمّ يؤدّي ما كان عند النبيّ ( ص ) من أمانات ، ثمّ يهاجر بمن بقي من نساء بني هاشم .
ثمّ اختصّه بمصاهرته في خير بناته سيّدة نساء العالمين (2)، بعد أن تقدّم لخطبتها أبو بكر ثمّ عمر فردّهما صلى الله عليه وآله وسلم (3)! وقال لها : «زوّجتك أقدم أُمّتي سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً» (4).
وآخى بين المهاجرين والاَنصار ، ثمّ اصطفى عليّاً ( ع ) لنفسه فقال له : «أنت
____________
(1) نهج البلاغة ـ شرح صبحي الصالح ـ : 300 ـ 301 خطبة 192 .
(2) الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ | 127 و 128 و 129 .
(3) الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ | 120 .
(4) مسند أحمد 5 : 26 .

( 109 )
أخي في الدنيا والآخرة» ، أو : «أنت أخي وأنا أخوك» (1). فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيّد المرسلين وإمام المتّقين ورسول ربّ العالمين الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد ، والإمام عليّ بن أبي طالب ( ع )، أخوَين (2).
وفي سائر حروبه كان لواؤه صلى الله عليه وآله وسلم أو راية المهاجرين بيد الامام عليٍّ عليه السلام (3).
وفي خيبر بعث أبا بكرٍ براية ، فرجع ولم يصنع شيئاً ، فبعث بها عمر ، فرجع ولم يصنع بها شيئاً ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «لاَُعطينَّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله ، لا يخزيه الله أبداً ، ولا يرجع حتّى يفتح عليه» فدعا عليّاً ( ع ) ودفع إليه الراية ودعا له ، فكان الفتح على يديه (4).
وفي عبارة بعضهم : بعث أبا بكر فسار بالناس فانهزم حتّى رجع إليه ، وبعث عمر فانهزم بالناس حتّى انتهى إليه (5). وفي عبارة بعضهم : فعاد يُجبِّن أصحابه ويجبّنونه (6)!
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم لاَصحابه : «إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله» فيستشرفون له ، كلٌّ يقول : أنا هو ؟ وفيهم أبو بكر
____________
(1) مسند أحمد 1 : 230 ، سنن الترمذي 5 | 3720 ، مصابيح السُنّة 4 | 4769 ، الطبقات الكبرى 3 : 22 ، البداية والنهاية 7 : 371 ، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ 4 : 209 .
(2) سيرة ابن هشام 2 : 109 .
(3) الاِصابة 2 : 30 ترجمة سعد بن عبادة .
(4) المصنّف لابن أبي شيبة ـ فضائل علي ـ 7 | 17 ، سنن النسائي 5 | 8402 ، الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ | 14 وصحّحه ، المستدرك 3 : 37 وصحّحه ووافقه الذهبي ، سيرة ابن هشام 3 : 216 ، تاريخ الطبري 3 : 12، الكامل في التاريخ 2 : 219 ، البداية والنهاية 7 : 373 .
(5) ابن أبي شيبة ، المصنّف 7 : 497 | 17 فضائل عليّ .
(6) الحاكم والذهبي ، المستدرك 3 : 37 وتلخيصه .

( 110 )
وعمر ، فيقول : «لا ، لا ، لكنّه عليّ» (1).
ويبعث أبا بكر بسورة براءة أميراً على الحجّ ، ثمّ يبعث خلفه الإمام عليّاً ( ع ) فيأخذها منه ، فيعود أبو بكر إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيقول : أحَدَث فيَّ شيءٌّ ، يارسول الله ؟!
فيقول صلى الله عليه وآله وسلم : «لا ، ولكنّي أُمرتُ ألاّ يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي»(2)!
وكان لبعض الاَصحاب أبواب شارعة في المسجد ، فقال لهم ( ص ) : «سدّوا هذه الاَبواب ، إلاّ باب عليّ» (3).
وكان الصحابة عنده في المسجد ، فدخل عليٌّ ( ع )، فلمّا دخل خرجوا ، فلمّا خرجوا تلاوموا ! فرجعوا ، فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم : «والله ما أنا أدخلته وأخرجتكم ، بل الله أدخله وأخرجكم» (4).
ودعاه يوم الطائف يناجيه ، فقال بعضهم : لقد طال نجواه مع ابن عمّه!!

____________
(1) مسند أحمد 3 : 82 ، صحيح ابن حبّان 9 : 46 | 6898 ، المصنّف لابن أبي شيبة ـ فضائل عليّ ـ 7 | 19 ، البداية والنهاية 7 : 398 .
(2) مسند أحمد 1 : 3 و 331 و 3 : 212 و 283 و 4 : 164 و 165 ، سنن الترمذي 5 | 3719 ، سنن النسائي 5 | 8461، الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ | 23 و 72 و 73 وصحّحها جميعاً، البداية والنهاية 7 : 374 و 394، تفسير الطبري 10 : 46 .
(3) مسند أحمد 1 : 331 ، سنن الترمذي 5 | 3722 ، الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ | 23 و 41 ، البداية والنهاية 7 : 374 و 379 ، فتح الباري 7 : 13 ، الاِصابة 4 : 270 .
(4) الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ | 38 .

( 111 )
فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم : «ما أنا انتجيته ، ولكنّ الله انتجاه» (1).
في حجّة الوداع أشركه في هديه ، دون غيره من أصحابه أو ذوي قرباه(2) .
وفيها خطب خطبته الشهيرة في عليٍّ وأهل البيت عليهم السلام بغدير خمّ ، وتقدّم نصّها آنفاً .
وخصّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مدّة حياته الشريفة بمنزلةٍ ليست لاَحد ! خصّه بساعةٍ من السحر يأتيه فيها كلّ ليلة (3).
وإذ نزل قوله تعالى : ( وَأْمُرْ أهلَك بالصلاة ) (4) كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يأتي باب عليٍّ صلاة الغداة كلّ يوم ، ويقول : «الصلاة ، رحمكم الله ، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً» (5).
وحين يُتوَفّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخصُّ عليّاً بميراثه دون عمّه العباس ، فسُئل وُلْدُ العبّاس عن ذلك فقالوا : إنّ عليّاً كان أوّلنا به لحوقاً ، وأشدّنا به لصوقاً (6) .
وغير هذا كثير ، وقد عرفه الصحابة في حياة الرسول ( ص )..

____________
(1) سنن الترمذي 5 / 3726 ، مصابيح السنة 4 / 4773 ، جامع الاصول 9 / 6493 ، البداية والنهاية 7 : 369.
(2) الكامل في التاريخ 2 : 302 ، وانظر حجة الوداع في سائر كتب السنن المفصّلة.
(3) الخصائص ـ بتخريج الأثري ـ / 112 ـ 113 ، وخرجه على النسائي وابن ماجة وابن خزيمة من وجوه.
(4) طه 20 : 132.
(5) تفسير القرطبي 11 : 174، تفسير الرازي 22 : 137 ، روح المعاني 16 : 284 والنصّ عنه.
(6) السنن الكبرى 5 : 139 / 8493 و 8494.