الفصل الثالث

خصائص وصفات
الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر

الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية كبيرة وتكليف شاق ؛ لاَنّه ليس مجرد ألفاظ تردّد أو كلام يقال ، وليس مجرد أمر ونهي ، وإنّما هو اصلاح وتغيير للمحتوى الداخلي للاِنسان ، وصياغة جديدة للاَفكار والعواطف والسلوك .
ولهذا فلابدّ ان يتّصف الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بخصائص وصفات متميزة ، تؤهلهم لخوض غمار المسؤولية إلى نهاية الشوط في تغيير ذهنية المجتمع إلى ذهنية اسلامية ، وتغيير سلوكه إلى سلوك اسلامي .
وبما إنّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو تكليف شرعي فيجب أن يكون المكلّف ـ في جميع أحواله وفي جميع مراحل المسؤولية ـ مخلصاً لله تعالى ، وان يتوكل عليه ، ويستمد العون والنصرة منه وحده ، وان يستخدم الاساليب المشروعة في ادائه للتكليف والمسؤولية ، وان


( 80 )

يكون متفائلاً بالنجاح ، وان يندفع ذاتياً للعمل لا ينتظر أجراً ولا جزاءً بشرياً من أحدٍ ، وإنّما أجره على الله تعالى .
ويمكن تصنيف الخصائص والصفات إلى :
أولاً : خصائص وصفات ذاتية .
ثانياً : خصائص وصفات عملية أو سلوكية .
ونبحثها تباعاً في مبحثين :

المبحث الاَول
الخصائص والصفات الذاتية

أولاً : العلم والمعرفة :
من أهم الخصائص والصفات أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عالماً بقواعد وأسس المنهج الاِسلامي ؛ ليصلح ويغيّر على ضوئها، والحد الاَدنى من العلم أن يكون مطّلعاً اطلاعاً إجمالياً على اُصول العقيدة الاِسلامية ، واُصول العقائد السائدة في المجتمع ، وان يكون على علم بالاحكام الشرعية التي تصنّف إلى : معروف ومنكر ، وتصنّف أيضاً إلى : واجب ومستحب ، وحرام ومكروه ، ومباح ، والحد الاَدنى أن يكون على علم بمسائل يبتلي بها أفراد المجتمع .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلاّ من


( 81 )

كان فيه ثلاث : ... عالماً بما يأمر به عالماً بما ينهى عنه » (1).
وقال الاِمام الصادق عليه السلام : « إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك : إيّاك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم » (2).
وينبغي أن يطّلع المكلّف على السيرة النبوية وسيرة أهل البيت عليهم السلام وسيرة المصلحين ؛ ليكون أكثر خبرة في أداء العمل .
وأن يكون على معرفة بأحوال المجتمع وخصائص أفراده من حيث أفكارهم وعواطفهم وممارساتهم العملية ، وأن يكون مطّلعاً على الاَحداث والمواقف ليتخذ الاُسلوب الانجح في حركته الاِصلاحية ، وأن يكون قادراً على تشخيص ما ينبغي أن يعمله تبعاً للظروف من حيث اللين والشدّة ، أو الحيطة والحذر ، أو الاسراع والتأني . وأن يكون مطّلعاً على الفوارق الطبيعية بين بلدٍ وآخر ، أو قوم وآخرين.
وعدم المعرفة بالاوضاع الاجتماعية والفردية ، أو بعدم استخدام الاُسلوب الاَنجح ، أو عدم الاطّلاع على أساسيات المفاهيم والقيم الاِسلامية ، قد تؤدي إلى نتائج عكسية ومنها النفور من الاِسلام أو من الداعين له .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح » (3) .
____________
1) الجعفريات : 88 .
2) الكافي 1 : 42 .
3) تحف العقول : 33 .

( 82 )

وقال الاِمام جعفر الصادق عليه السلام : « العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بعداً » (1).

ثانياً : القدوة :

إن لم يكن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قدوة لغيره فإنّ عمله لايثمر ، ولا يستطيع أن ينفذ إلى القلوب لتتبناه الجوارح في ممارسات عملية ، فالناس ينظرون إلى شخصية من يريد اصلاحهم وتغييرهم ومدى تجسيده للمفاهيم والقيم التي يدعوهم إلى التمسك بها ، ومقدار ابتعاده عن النواهي التي يدعو للانتهاء عنها .
قال تعالى : ( كَبُرَ مَقتاً عِندَ اللهِ أن تَقُولُوا مَالا تَفعَلُونَ ) (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا بن مسعود لا تكوننَّ ممّن يهدي الناس إلى الخير ويأمرهم بالخير وهو غافل عنه » (3).
ودعا أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى تجسيد المفاهيم والقيم في النفس والارادة والسلوك العملي قبل دعوة الناس إليها ، فقال عليه السلام : « ائتمروا بالمعروف وأمروا به ، وتناهوا عن المنكر وانهوا عنه » (4).
« احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك » (5).
____________
1) الكافي 1 : 43 .
2) سورة الصف : 61 / 3 .
3) مكارم الاخلاق : 457 .
4) تصنيف غرر الحكم : 332 .
5) تصنيف غرر الحكم : 106 .

( 83 )

« كفى بالمرء غواية أن يأمر الناس بما لا يأتمر به ، وينهاهم عمّا لاينتهي عنه » (1).
وعدم الالتزام بموارد الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبل الآمرين به والناهين عنه يكون حجة عليهم ، ولا ينتفع الناس بهم ، قال الاِمام الصادق عليه السلام : « من لم ينسلخ عن هواجسه ، ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها ، ولم يهزم الشيطان ، ولم يدخل في كنف الله وأمان عصمته ؛ لا يصلح له الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لاَنّه إذا لم يكن بهذه الصفة ، فكلّما أظهر أمراً كان حجة عليه ، ولا ينتفع الناس به » (2).
وقال عليه السلام : « فإنّ مثل الواعظ والمتعظ كاليقظان والراقد ، فمن استيقظ عن رقدته وغفلته ومخالفاته ومعاصيه ، صلح أن يوقظ غيره من ذلك الرقاد » (3) .
وقال عليه السلام : « كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ؛ ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير ، فإنّ ذلك داعية » (4).
وقد جسّد أهل البيت عليهم السلام دور القدوة في حركتهم الاصلاحية والتغييرية .
قال الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام : « أيُّها الناس ، إنّي والله ما أحثكم على طاعة إلاّ وأسبقكم إليها ، ولا أنهاكم عن معصية إلاّ وأتناهى قبلكم »
____________
1) تصنيف غرر الحكم : 333 .
2) مستدرك الوسائل 12 : 203 .
3) مستدرك الوسائل 12 : 203 .
4) الكافي 2 : 78 .

( 84 )

عنها » (1).
وحينما دعا الاِمام الحسين عليه السلام إلى الجهاد تجسيداً للاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تقدّم بنفسه وأهل بيته وعياله ، فكان قدوة لاَصحابه في جميع قيم الايثار والتضحية ، والاخلاص لله تعالى .

ثالثاً : الشجاعة :

إنّ مواجهة الناس ومواجهة الاحداث والمواقف لتغييرها بالاِسلام بحاجة إلى الشجاعة والاقدام ؛ لاَنّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر والداعي له سيصطدم بشهوات البعض ، وبالضعف النفسي لهم ، ويصطدم بالجاهلين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ويصطدم بالمنحرفين الذين يبغضون الصلاح والسمو الروحي والسلوكي ، ويصطدم بمخططات ومؤامرات أعداء الاِسلام أو التيارات الفكرية المنحرفة التي لا يروق لها انتشار مبادئ الاِسلام في المجتمع ، ويصطدم بالقوى الشريرة التي تقابله بالاذى والتكذيب والاستهزاء ، ويصطدم بالمثبطين له عن الانطلاق في التكليف أو الاستمرار به .
ولذا فهو بحاجة إلى أن يتسلح بالشجاعة وان تكون احدى خصائصه وصفاته ؛ لينطلق دون خوف أو وجل أو تردد أو تراجع .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا يحقر أحدكم نفسه » ، قالوا : يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : « يرى أمراً لله عليه فيه مقال ، ثم لايقول فيه ، فيقول الله عزَّ وجلَّ له يوم القيامة : ما منعك أن تقول في كذا
____________
1) نهج البلاغة : 250 ، الخطبة : 175 .

( 85 )

وكذا ؟ فيقول : خشية الناس ، فيقول : فإيّاي كنتَ أحق أن تخشى »(1).
والشجاعة لها دور كبير في التغيير ؛ لاَنّ الناس يتأثرون لا إرادياً بالشجاع، ويكون له تأثير لا شعوري على سلوكهم وممارساتهم العملية كما اثبتت التجارب الاجتماعية .

رابعاً : الاِيثار :

للايثار دور كبير في خلق الاجواء الروحية والنفسية لنمو حركة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالناس ستنشدّ عواطفهم ومشاعرهم للمتصفين بهذه الصفة ، وهذا الانشداد يمكن استثماره للتأثير على أفكارهم ومواقفهم العملية .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا علي ما كرهته لنفسك فاكره لغيرك ، وما احببته لنفسك فاحببه لاَخيك ، تكن عادلاً في حكمك ، مقسطاً في عدلك ، محبباً في أهل السماء ، مودوداً في صدور أهل الاَرض » (2).
وقال الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام : « بالاِيثار يُسترقّ الاَحرار »(3).

خامساً : الزهد :

الزهد في أموال الناس وممتلكاتهم ، والزهد الذاتي في الحياة الدنيا ، يساعد على زرع ثقة الناس بالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، فيشعرون بانه لا يرجو دنياً ولا جاهاً في قيامه وتبنّيه لحركة الاصلاح
____________
1) سنن ابن ماجة 2 : 1328 .
2) تحف العقول : 12 .
3) تصنيف غرر الحكم : 396 .

( 86 )

والتغيير ، وإنّما يعمل لذات المسؤولية تقرباً إلى الله تعالى .
وبالزهد يكتسب محبة الناس ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « تحبّب إلى الناس بالزهد فيما بأيديهم تفز بالمحبة منهم » (1).
وبمحبة الناس إليه يستطيع التأثير على قلوبهم وارادتهم ، ليجعلها منسجمة مع مفاهيم وقيم الاِسلام .
والطمع يمنع من ابداء الآراء أو النهي عن بعض الممارسات التي تصطدم مع آراء وممارسات الآخرين الذين يطمع المكلف بأموالهم خوفاً من عدم الحصول عليها . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « الطمع يذهب الحكمة من قلوب العلماء »(2). وغير الزاهد يستسلم للمغريات وقد يؤدي بالنهاية إلى تخلّيه عن الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلّما ازدادت أمامه المغريات .

سادساً : البشاشة وطلاقة الوجه ولين الكلام :

البشاشة وطلاقة الوجه ولين الكلام تساعد على جذب الناس وامتلاك عواطفهم ومشاعرهم ، وتوجيهها توجيهاً رسالياً ؛ لاَنّ الناس غالباً ما يتأثرون بالاشخاص قبل التأثر بالافكار والقيم .
وفي ذلك قال إمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : « طلاقة الوجه بالبشر والعطية وفعل البر وبذل التحية داعٍ إلى محبة البرية .
عليك بالبشاشة فإنّها حبالة المودّة .
____________
1) تصنيف غرر الحكم : 437 .
2) كنز العمال 3 : 495 .

( 87 )

عوّد لسانك لين الكلام وبذل السلام يكثر محبّوك ويقل مبغضوك .
من عذب لسانه كثر إخوانه » (1).

المبحث الثاني
الخصائص والصفات العملية والسلوكية

أولاً : المداراة :

يجد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر اصنافاً من الناس يختلفون في طاقاتهم وامكاناتهم الفكرية والعاطفية والسلوكية ، فلابدّ وأن يتصف بالمداراة ليستطيع التأثير على تعدد أصناف الناس المنتمين إلى مدارس عقائدية وفكرية متنوعة ، والمتوزعين على ولاءات متعددة قبلية وقومية وطائفية .
ومداراة الناس من أولويات العمل في أوساطهم ، كما أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك بقوله : « أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض » (2) .
« رأس العقل بعد الاِيمان بالله مداراة الناس في غير ترك الحق » (3).
« رأس العقل المداراة ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في
____________
1) تصنيف غرر الحكم : 434 ـ 436 .
2) الكافي 2 : 117 .
3) تحف العقول : 29 .

( 88 )

الآخرة » (1) .
وقال الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام : « من سالم الناس كثر اصدقاؤه وقلّ أعداؤه . المداراة أحمد الخلال . رأس الحكمة مداراة الناس » (2).
وتتمثل المداراة بتكليم الناس على قدر عقولهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّا معاشر الاَنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم » (3). وأن يتحدث المكلف بكلام مفهوم من قبل الجميع بلا حاجة إلى استخدام العبارات الغامضة ، والمصطلحات غير الواضحة ، قال أمير المؤمنين علي عليه السلام : « أحسن الكلام ما زانه حُسنُ النظام ، وفهمه الخاص والعام » (4).
ومن المداراة اختصار الكلام وعدم التطويل المؤدي إلى الملل ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « الكلام كالدواء قليله ينفع وكثيره قاتل .
أقل المقال ، وقصّر الآمال ، ولا تقل ما يكسبك وزراً وينفِّر عنك حراً » (5) .
ومن مصاديق المداراة ، مراعاة الدوافع النفسية للانحراف ، ومراعاة الضعف البشري وعدم ترتيب الاَثر في بعض الحالات ، فحينما سرّب حاطب بن أبي بلتعة أخبار مسير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة إلى قريش دعاه صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : « يا حاطب ، ما حملك على هذا ؟ » فقال : يا رسول
____________
1) كنز العمال 3 : 407 .
2) تصنيف غرر الحكم : 445 .
3) أمالي الصدوق : 341 .
4) تصنيف غرر الحكم : 210 .
5) تصنيف غرر الحكم : 211 .

( 89 )

الله ، أما والله إنّي لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيّرت ولا بدّلت ، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أهل وعشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم ، ولم يستجب صلى الله عليه وآله وسلم لقول عمر بن الخطاب ، حينما قال : (دعني فلاَضرب عنقه ، فإنّ الرجل قد نافق) (1).
وينبغي ان تكون المداراة في (غير ترك الحق) كما تقدم الحديث عنه .
ومن المداراة كشف الحقائق في حال التشكيك بشخص الآمر والناهي، قال أمير المؤمنين عليه السلام ـ في وصيته لاَحد ولاته ـ : « وان ظنّت الرعية بك حيفاً ، فاصحر لهم بعذرك ، واعدل عنك ظنونهم باصحارك ، فان تلك رياضة منك لنفسك ، ورفق منك برعيتك ، واعذار تبلغ فيه حاجتك من تقويمهم على الحقّ في خفض واجمال » (2).

ثانياً : الرفق :

الاِنسان غالباً ما يأنس بآرائه وأفكاره ومواقفه حتى تصبح جزءاً من كيانه ، يرى فيها كرامته وكبرياءه ، ولا يتنازل عنها أحياناً ؛ لاَنّه يرى في ذلك تنازلاً عن كرامته ، ولهذا فالتعامل مع هكذا إنسان يجب أن يكون برفق وهدوء ، لذا كان الرفق صفة وخاصية مستحسنة لدى المكلف بالاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : » لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلاّ من كان فيه ثلاث : رفيقاً بما يأمر به ، رفيقاً بما ينهى عنه... » (3) .
____________
1) السيرة النبوية / ابن هشام 4 : 41 .
2) تحف العقول : .
3) الجعفريات : 88 .

( 90 )

والرفق ييسّر الصعاب ويذلل الشدائد ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : « الرفق ييسّر الصعاب ويسهّل شديد الاَسباب .
من استعمل الرفق لان له الشديد » (1).
وجعل الاِمام علي بن الحسين عليه السلام الرفق من حقوق المستنصح فقال : « ... وحقّ المستنصح : أن تؤدي إليه النصيحة ، وليكن مذهبك الرحمة والرفق به » (2) .
وذكر الاِمام جعفر الصادق عليه السلام آثار عدم الرفق في الدعوة إلى الاِسلام في قصة المسلم وجاره الكافر ، فبعد أن آمن بالاِسلام اصطحبه إلى المسجد ليصلي معه الفجر في جماعة فلمّا صلّى : » قال له : لو قعدنا نذكر الله عزَّ وجلَّ حتى تطلع الشمس فقعد معه ، فقال له : لو تعلّمت القرآن إلى أن تزول الشمس وصمت اليوم كان أفضل ، فقعد معه ، وصام حتى صلّى الظهر والعصر ، فقال : لو صبرت حتى نصلي المغرب والعشاء الآخرة كان أفضل ، فقعد معه حتى صلّى المغرب والعشاء الآخرة ، ثم نهضا ، وقد بلغ مجهوده وحمل عليه ما لا يطيق ، فلمّا كان من الغد غدا عليه ، وهو يريد به مثل ماصنع بالاَمس فدّق عليه الباب ثم قال له : اخرج حتّى نذهب إلى المسجد ، فأجابه : أن انصرف عنّي ، فإنّ هذا دين شديد لا أطيقه ».
ثم قال عليه السلام : « فلا تخرقوا بهم أما علمت أنّ إمارة بني أُميّة كانت بالسيف والعسف والجور ، وان امارتنا بالرفق والتآلف والوقار والتقيّة وحسن الخلطة
____________
1) تصنيف غرر الحكم : 244 .
2) مكارم الاخلاق : 423 .

( 91 )

والورع والاجتهاد، فرغّبوا الناس في دينكم وفيما أنتم فيه » (1) .
ومن الرفق طرح المفاهيم والقيم الاِسلامية بشكل شيّق وجذّاب ، وبمرونة ويسر ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يسّروا ولا تعسّروا ، وسكّنوا ولاتنفّروا » (2). فالاِسلام واضح في عقيدته ومنهجه في الحياة فلا تعقيد ولا تعسير . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا حدّثتم الناس عن ربّهم ، فلا تحدّثوهم بما يفزعهم ويشقّ عليهم » (3).
فينبغي التحدث عن لطف الله تعالى ورأفته ورحمته وغفرانه أكثر من الحديث عن عقوبته وغضبه ؛ لكي لا يدّب اليأس والقنوط في نفوس المذنبين والعاصين .
وقال الاِمام أمير المؤمنين علي عليه السلام : « قولوا ما قيل لكم ، وسلموا لما روي لكم ولا تكلِّفوا ما لم تُكلَّفوا ، فإنّما تبعته عليكم فيما كسبت أيديكم ولفظت ألسنتكم ، أو سبقت إليه غايتكم »(4).
ومن الرفق عدم الاشارة إلى اسماء المخالفين لمفاهيم الاِسلام وقيمه ، وعدم تشخيصهم أمام الناس ، لمنحهم فرصة جديدة للاستقامة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يوضّح اخطاء البعض يقول : « ما بال أقوام قالوا كذا وكذا » (5) .
____________
1) الخصال 2 : 354 ـ 355 .
2) مسند أحمد بن حنبل 3 : 587 .
3) الفتح الكبير 1 : 101 .
4) تحف العقول : 104 .
5) مسند أحمد بن حنبل 4 : 126 .

( 92 )

ورخّص صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الاَمر ، فرغب عنه رجال ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « ما بال رجال آمرهم بالاَمر يرغبون عنه ، والله إنّي لاَعلمهم بالله عزَّ وجلَّ وأشدّهم له خشية »(1) .
ومن الرفق أيضاً أن تكون الموعظة سرّاً ، فإنّها أكثر ايقاعاً وقبولاً ، قال الاِمام الحسن العسكري عليه السلام : « من وعّظ أخاه سرّاً فقد زانه ، ومن وعّظه علانية فقد شانه » (2).

ثالثاً : الاحسان :

الاحسان صفة محمودة يستطيع بها الاِنسان أن يؤثر على عواطف الآخرين ومن ثم عقولهم وسلوكهم ؛ لاَنّ النفس الاِنسانية مجبولة على حب من أحسن إليها .
والاِحسان يؤدي إلى كسب ودّ الآخرين وثقتهم ، كما قال الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام : « بالاحسان تملك القلوب .
بالاِحسان تسترقّ الرقاب .
من كثر احسانه كثر خدمه وأعوانه .
احسن إلى المسيء تملكه » (3).
فالاحسان الذي يرافق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يساعده في استهواء الآخرين وشدّهم إلى ما يمليه عليهم من أفكار وقيم ، ومن
____________
1) مسند أحمد بن حنبل 7 : 260 .
2) تحف العقول : 368 .
3) تصنيف غرر الحكم : 385 ـ 386 ، 388 .

( 93 )

نصائح وارشادات ، ويدفعهم لمراجعة نفوسهم وسلوكهم ، واصلاحها حياءً أو قناعة في مقابل الاحسان إليهم .
فقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤثر على الكثيرين ويوجههم للانتماء إلى الاِسلام بالاحسان اليهم ، فقد أسلم مالك بن عون كبير هوازن لاحسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه وأسلم عدي بن حاتم واخته بسبب الاِحسان إليهم(1).
وقدم رجل المدينة وكان يبغض عليّاً عليه السلام فقطع به ، ولم يكن له زاد ولاراحلة ، فشكا ذلك إلى بعض أهل المدينة ، فقال له : عليك بحسن بن علي ، فقال الرجل : ما لقيت هذا إلاّ في حسن وأبي حسن ، فقيل له : فإنّك لا تجد إلاّ خيراً منه ، فأتاه فشكا إليه ، فأمر له بزاد وراحلة ، فقال الرجل : الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وقيل للاِمام الحسن عليه السلام : (أتاك رجل يبغضك ويبغض أباك فأمرت له بزاد وراحلة) ؟! ، قال عليه السلام : « أفلا اشتري عرضي منه بزاد وراحلة ؟ » (2).

رابعاً : التعايش مع الناس :

من أهم الصفات التي تجعل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قادراً على الاصلاح والتغيير هي عدم الانعزال عن الناس ؛ لاَنّ التكليف وأداء الواجب لا يقتصر على إلقاء الخطب في مجالس محدودة ، وإنّما هو حركة وعمل دؤوب في وسط الناس ، يشاركهم في أعمالهم ، ويعيش معهم كواحد منهم يفرح لافراحهم ويحزن لاَحزانهم ، ويكون شريكاً لهم في
____________
1) السيرة النبوية / ابن هشام 4 : 133 ، 226 .
2) مختصر تاريخ دمشق 7 : 26 .

( 94 )

آمالهم وآلامهم ، وهذه الصفة تجعله قادراً على التأثير على أفكارهم وعواطفهم وممارساتهم العملية ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود المريض ، ويتبع الجنازة ، ويجيب دعوة المملوك (1).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعطي كلاً من جلسائه نصيبه ، حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه . وكان يضحك ممّا يضحكون ويتعجب مما يتعجبون(2).
فعن زيد بن ثابت قال : كنّا إذا جلسنا إليه صلى الله عليه وآله وسلم إن أخذنا في حديث في ذكر الآخرة أخذ معنا ، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا ، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا (3).
وينبغي أن لا تكون لقاءاته مجرد أحاديث ، وأقوال خطابية ، مقتصرة على الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويكون الآخرون مجرد مستمعين ، بل ينبغي أن يسمع منهم مثل ما يسمعون منه ، ويستمع إلى اقتراحاتهم وتوجيهاتهم ، فلا ينبغي أن يكون الحديث من جانب واحد يصدر من الاَعلى إلى الاَدنى .

خامساً : الصبر والحلم :

إنّ طريق الدعوة والاصلاح والتغيير طريق طويل مليء بالمعوقات والعراقيل ، فلا بدّ وأن يتحلّى من تبنّاه بصفة الصبر ، ولابدّ وان يتحمل التكاليف المترتبة عليه ، وان يصبر على ردود الاَفعال الاجتماعية
____________
1) مكارم الاَخلاق : 15 .
2) مكارم الاَخلاق : 14 ـ 15 .
3) مكارم الاَخلاق : 21 .

( 95 )

والدوافع النفسية التي تدعوه إلى الراحة والهدوء .
فعليه يجب أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر صابراً على طول الطريق ، رغم كثرة المعوقات والمثبطات ؛ يصبر على التكذيب والاستهزاء والاَذى المادي والمعنوي ، ويصبر أمام ضغط النفس التي تروم حب الراحة والسكينة ، وان يصبر على الوحشة في حالة فقدان الناصر والمعين .
قال تعالى : ( وَاصبِر عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهجُرهُم هَجراً جَمِيلاً ) (1).
وقال تعالى : ( وَاصبِر عَلى مَا أصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِن عَزمِ الاُمُورِ ) (2).
ولا بدّ من صبرٍ على الشدائد المحيطة بالمصلح والمغيّر ، فقد حدّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الشدائد بقوله : « المؤمن بين خمس شدائد : مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه ، وكافر يقاتله ، وشيطان يضلّه ، ونفس تنازعه » (3).
كما أن عليه التصبّر والاستمرار في حركته ، قال تعالى : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ ) (4).
وينبغي هنا أن يكون الصابر حليماً حتى ينال احترام وتقدير الآخرين ، ويملك قلوبهم بحلمه .
قال الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام : « بالحلم تكثر الاَنصار .
____________
1) سورة المزمل : 73 / 10 .
2) سورة لقمان : 31 / 17 .
3) المحجة البيضاء 5 : 115 .
4) سورة آل عمران : 3 | 200 .

( 96 )

بالاحتمال والحلم يكون لك النّاس أنصاراً وأعواناً .
أُحْلُمْ تُكْرَمْ .
ضادّوا الغضب بالحلم تحمدوا عواقبكم في كلِّ أمر » (1).
والصبر هو أهم وسائل الاستمرار في الدعوة ، فقد صبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة عشر عاماً على التكذيب والاستهزاء والاَذى ، وصبر على المغريات والمساومات ، وصبر على أذى أهل الكتاب وأذى المنافقين ، وأذى أصحابه في العهد المدني ، وصبر أمير المؤمنين عليه السلام على ازاحته من منصبه ، وصبر الاِمام الحسين عليه السلام في حركته حتّى انه قدّم أولاده وأهل بيته صابراً محتسباً من أجل اعلاء كلمة الله تعالى .

سادساً : عدم الانشغال في امور هامشية :

من الخصائص التي ينبغي أن يعتمدها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هي الاستمرار في أداء التكليف والمسؤولية ، وعدم الانشغال بامور هامشية تقضي على الوقت وتصرف العمل عن هدفه ، وتحرفه عن مساره ، وهو مدعو مع هذا للاعراض عن الاشخاص والمواقف التي تشغله عن أداء الواجب . قال تعالى : ( خُذِ العَفوَ وأمُر بِالعُرفِ وأعرِض عَنِ الجاهِلينَ ) (2).
والاعراض هو الترك والاهمال ، وعدم الدخول في جدال يضيع معه الوقت والجهد دون ان يحقق شيئاً في طريق الواجب .
____________
1) تصنيف غرر الحكم : 287 .
2) سورة الاَعراف : 7 | 199 .

( 97 )

ونهى الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام عن الدخول في الخصومات ، والمراء فقال : « المخاصمة تبدي سفه الرجل ولا تزيد في حقّه »(1).
« جماع الشر اللجاج وكثرة المماراة »(2).
وللخصومة آثار سلبية أشار إليها الاِمام جعفر الصادق عليه السلام بقوله : « إياكم والخصومة في الدين ، فإنّها تشغل القلب عن ذكر الله عزَّ وجلَّ ، وتورث النفاق ، وتكسب الضغائن ، وتستجيز الكذب » (3).

سابعاً : القدرة على التقييم الموضوعي :

التقييم الموضوعي للاشخاص والوجودات يساهم في انجاح الاعمال والنشاطات المتعلقة بمسؤولية الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فينبغي لمن تحمّل المسؤولية أن يقيّم الاشخاص على أسس وموازين اسلامية من حيث درجة قربهم وبعدهم عن الاِسلام فكراً أو سلوكاً ، فلكلِّ فرد تقييمه الخاص ليكون الموقف اتجاهه منسجماً مع شخصيته .
والتقييم الموضوعي الذي يصحبه التعامل الموضوعي يساهم في تشجيع المحسنين على الاحسان والعمل الصالح ، ودفع المسيئين والمذنبين إلى العودة إلى الاستقامة .
قال الاِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : « لا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فإن ذلك تزهيد لاَهل الاحسان في الاحسان ،
____________
1) تصنيف غرر الحكم : 461 .
2) تصنيف غرر الحكم : 463 .
3) أمالي الصدوق : 340 .

( 98 )

وتدريب لاَهل الاِساءة على الاساءة ، فألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه أدباً منك ينفعك الله به ، وتنفع به أعوانك »(1).
فالتقييم الموضوعي يستنهض الهمم ويستجيش العزائم ليبدأ الاِنسان باصلاح وتغيير شخصيته في جميع مقوماتها : في الفكر والعاطفة والارادة، من سيء إلى حسن ، ومن حسن إلى أحسن ، وموازين التقييم التي حددها القرآن الكريم هي : الايمان ، والتقوى ، والعلم ، والعمل الصالح .
فينبغي تقييم الاشخاص في ضوء من تلك الموازين ، والتعامل مع الناس في ضوء درجات قربهم وبعدهم عنها ، فلكلٍّ تقديره المناسب واحترامه المناسب قدر ما يمتلك من تلك المؤهلات .
____________
1) تحف العقول : 87 .