مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: 171 ـ 180
(171)
وخطابهم لأجل إعلام نساء النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) بأنّهن في جوار هؤلاء المطهرين فيحب عليهن القيام بأداء حقوق هؤلاء العظماء ، الذين ميّزهم اللّه تعالى عن غيرهم من هذه الأُمّة بالتطهير والعصمة والاقتداء بهم في القول والسلوك.
    ولكن يبقى هنا سؤال آخر ، وهو أنّه إذا كانت الآية ، آية مستقلة فلماذا جاءت في المصحف جزءاً من آية أُخرى ، ولم تكتب بصورة آية تامّة في جنب الآيات الأُخرى ؟
    الجواب : التاريخ يطلعنا بصفحات طويلة على موقف قريش وغيرهم من أهل البيت ( عليهم السّلام ) ، فإنّ مرجل الحسد ما زال يغلي والاتجاهات السلبية ضدهم كانت كالشمس في رابعة النهار ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن تجعل الآية في ثنايا الآيات المتعلّقة بنساء النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) من أجل تخفيف الحساسية ضد أهل البيت ، وان كانت الحقيقة لا تخفى على من نظر إليها بعين صحيحة ، وأنّ الآية تهدف إلى جماعة أُخرى غير نساء النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) كما بيّناه قبل قليل.
    وللسيد عبد الحسين شرف الدين هنا كلام ربّما يفصل ما أجملناه فإنّه ( قدّس اللّه سرّه ) بعد ما أثبت أنّ قوله سبحانه : « إنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُوَْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ » (1) منزل في حق الإمام أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) طرح سؤالاً ، وهو أنّه إذا كان أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) هو المراد من الآية فلماذا عبر عن المفرد بلفظ الجمع ؟
    فقال : إنّ العرب قد تعبّر عن المفرد بلفظ الجمع لنكتة التعظيم حيث يستوجب ، ثم قال : وعندي في ذلك نكتة ألطف وأدق ، وهي أنّه إنّما أُتي بعبارة الجمع دون عبارة المفرد بُقياً منه تعالى على كثير من الناس ، فإنّ شانئي علي وأعداء
1 ـ المائدة : 55.

(172)
بني هاشم وسائر المنافقين وأهل الحسد والتنافس لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد إذ لا يبقى لهم حينئذ مطمع في التمويه ولا ملتمس في التضليل فيكون منهم بسبب يأسهم حينئذ ما تخشى عواقبه على الإسلام فجاءت الآية بصيغة الجمع مع كونها للمفرد اتقاء من معرتهم ، ثم كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة ومقامات متعددة وبث فيهم أمر الولاية تدريجاً حتى أكمل اللّه الدين وأتمَّ النعمة جرياً منه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) على عادة الحكماء في تبليغ الناس ما يشق عليهم ، ولو كانت الآية بالعبارة المختصة بالمفرد لجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً ، وهذه الحكمة مطردة في كل ما جاء في القرآن الحكيم من آيات فضل أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين كما لا يخفى ، وقد أوضحنا هذه الجمل وأقمنا عليها الشواهد القاطعة والبراهين الساطعة في كتابينا « سبيل المؤمنين » و « تنزيل الآيات » والحمد للّه على الهداية والتوفيق والسلام. (1)
1 ـ المراجعات : المراجعة : 42 ص 166.

(173)
    نظريات أُخرى في تفسير الآية
    قد عرفت القولين المعروفين حول الآية ، كما عرفت الحق الواضح منهما ، فهلم معي ندرس سائر الأقوال الشاذة التي لا تعتمد على ركن وثيق وإنّما هي آراء مختلقة لأجل الفرار من المشاكل المتوجهة إلى ثاني القولين ، ونحن نذكرها واحداً بعد آخر على نحو الإيجاز :
    1. المراد من « البيت » هو بيت اللّه الحرام والمراد من أهله هم المقيمون حوله.
    2. المراد من « البيت » هو مسجد النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) والمراد من أهله هم القاطنون حوله ، وكان لبيوتهم باب إلى المسجد.
    3. المراد من تحرم عليهم الصدقة وهم ولد أبي طالب : علي ، جعفر ، وعقيل ، وولد العباس.
    4. المراد من البيت بيت النسب والحسب ، فيعم أبناء النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) ونساءه. (1)
    وهذه الوجوه كلّها عليلة ، أمّا الأوّل والثاني ، فلأنّ إطلاق « أهل البيت » واستعماله في أهل مكة والمدينة استعمال بعيد لا يحمل عليه الكلام إلا بقرينة قطعية ، والمتبادر منه هو أهل بيت الرجل ، وعلى ذلك جرى الذكر الحكيم في موردين أحدهما في قصة إبراهيم قال سبحانه : « قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ » . (2) وثانيهما في قصة موسى قال سبحانه : « هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ » . (3)
    أضف إليه أنّ الآية واقعة في سياق البحث عن نساء النبي ، فصرف الآية عنه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) وإرجاعها إلى من جاور بيت اللّه أو من بات حول مسجده لا يساعد عليه
1 ـ لاحظ في الوقوف على هذه الأقوال تفسير الطبري : 5/22 ـ 7 ؛ وتفسير القرطبي : 182/14 ؛ ومفاتيح الغيب للرازي : 615/6 ؛ والكشاف : 538/2 ؛ وغيرها.
2 ـ هود : 73.
3 ـ القصص : 12.


(174)
ظاهر الآيات أبداً.
    ويتلوهما الثالث : فإنّ تفسير « أهل بيت النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) » بمن تحرم عليه الصدقة من صلب أبي طالب والعباس تفسير بلا شاهد ، وكأنّه حمل البيت على البيت النسبي ، أضف إليه أنّ الصدقة غير محرمة على خصوص أبنائهما ، بل هي محرمة على أبنائهما وكل من كان من نسل عبد المطلب.
    قال الشيخ الطوسي في الخلاف : تحرم الصدقة المفروضة على بني هاشم من ولد أبي طالب العقيليين والجعافرة والعلويين ، وولد العباس بن عبد المطلب ، وولد أبي لهب ، وولد الحارث بن عبد المطلب ، ولا عقب لهاشم إلا من هؤلاء ، ولا يحرم على ولد المطلب ، ونوفل ، وعبد شمس بن عبد مناف ، قال الشافعي : تحرم الصدقة المفروضة على هؤلاء كلهم وهم جميع ولد عبد مناف. (1)
    وقال بمثله أيضاً في كتاب قسمة الصدقات : 353/2 ، المسألة 26.
    وعلى ذلك فليس لهذه النظرية دليل سوى ما رواه مسلم عن زيد بن أرقم ، وقد قدمنا نصّه عند ذكر الأحاديث الواردة حول الآية. (2)
    وأمّا النظرية الرابعة : فقد ذهب إليها بعضهم ، جمعاً بين الأحاديث المتضافرة الحاكية عن نزول الآية في العترة الطاهرة ، وسياق الآيات الدالة على رجوعها إلى نسائه ، فحاول القائل الجمع بين الدليلين بتفسير الآية بأولاده وأزواجه ، وجعل عليّاً أيضاً منهم بسبب معاشرته وملازمته للنبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ).
    قال الرازي : والأولى أن يقال هم : أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي معهم ، لأنّه كان من أهل بيته بسبب معاشرته بيت النبي وملازمته. (3)
    وقال البيضاوي : والتخصيص بهم أولاده لا يناسب ما قبل الآية
1 ـ الخلاف : 2/227 ، المسألة 4 كتاب الوقوف والصدقات.
2 ـ لاحظ ص 150 ، الحديث 35.
3 ـ مفاتيح الغيب : 615/6.


(175)
ومابعدها ، والحديث يقتضي أنّهم من أهل البيت لا أنّ غيرهم ليس منهم. (1)
    وقال المراغي : أهل بيته من كان ملازماً له من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب. (2)
    وهذه النظرية موهونة أيضاً
    أوّلاً : انّ اللام في « أهل البيت » ليس للجنس ولا للاستغراق ، بل هي لام العهد وهي تشير إلى بيت معهود بين المتكلم والمخاطب ، وهو بيت واحد ، ولو صح ذلك القول لوجب أن يقول « أهل البيوت » حتى يعم الأزواج والأولاد وكل من يتعلّق بالنبي نسباً أو حسباً أو لعلاقة السكنيّة مثل الإماء.
    والحاصل : انّه لو أُريد « بيت النبي » المادي الجسماني لا يصح ، إذ لم يكن له بيت واحد ، بل كان لكل واحدة من نسائه بيت مشخص ، فكان النبي صاحب البيوت لا البيت الواحد.
    ولو أُريد منه بيت النسب ، كما يقال : بيت من بيوتات « حمير » أو « ربيعة » ، فلازمه التعميم إلى كل من ينتمي إلى هذا البيت بنسب أو سبب ، مع أنّه كان بعض المنتمين إليه يوم نزول الآية من عبدة الوثن وأعداء النبي ، فإنّ سورة الأحزاب نزلت سنة ست من الهجرة ، وقد ورد فيها زواج النبي من زينب بنت جحش ، وهو حسب ما ذكره صاحب « تاريخ الخميس » من حوادث سنة الخمس ، وعلى ذلك فلا تتجاوز الآيات النازلة في نساء النبي عن هذا الحد وكان عند ذاك ، بعض من ينتمي إلى النبي بالنسب مشركاً ، كأبي سفيان بن عبد المطلب ابن عم رسول اللّه ، وعبد اللّه بن أُمية بن المغيرة ابن عمته ، وقد أسلما في عام الفتح ، وأنشد الأوّل قوله في إسلامه واعتذر إلى النبي ممّا كان مضى منه فقال :
1 ـ أنوار التنزيل : 162/4.
2 ـ تفسير المراغي : 7/22.


(176)
لعمرك إنّي يوم أحمِلُ رايةً لكالمُدلج الحيرانِ أظلم ليلُه لتَغْلِبَ خَيلَ اللات ، خيلُ محمد ُفهذا أواني حين أُهدي وأهْتدي (1)
    ولو أُريد منه « بيت الوحي » فلازمه الاختصاص بمن بلغ من الورع والتقوى ذروتهما ، حتى يصح عدّه من أهل ذلك البيت الرفيع المعنون ، ومثله لا يعم كل من ينتمي بالوشائج النسبية أو الحسبية إلى هذا البيت ، وإن كان في جانب الإيمان والعمل في درجة نازلة تلحقه بالعاديين من المسلمين.
    ثانياً : قد عرفت أنّ الإرادة الواردة في الآية تكوينية تعرب عن تعلّق إرادته الحكيمة على عصمة أهل ذلك البيت ، ومعه كيف يمكن القول بأنّ المراد كل من ينتمي إلى ذلك البيت بوشائج النسب والحسب ؟!
    ثالثاً : انّ النظرية في جانب مخالف للأحاديث المتضافرة الدالة على نزول الآية في حق العترة الطاهرة ، وقد قام النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) بتفسيرها بوجوه مختلفة أوعزنا إليها عند البحث عن القول الأوّل ، والنبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) هو المبين الأوّل لمفاد كتابه الذي أرسل معه قال سبحانه : « وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ » . (2)
    فليست وظيفة النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) القراءة والتلاوة بل التبيين والتوضيح من وظائفه التي تنص الآية عليها.
    هذا هو موجز القول في تفسير الآية ولا بأس بإكمال البحث بنقل بعض ما أنتجته قريحة الشعراء الإسلاميين حول أهل البيت وفضائلهم ، على وجه يعرب عن أنّ المتبادر من ذلك اللفظ في القرون الإسلامية لم يكن إلا العترة الطاهرة ، أعني : فاطمة وأباها وبعلها وابنيها سلام اللّه عليهم أجمعين ، وإليك نزراً يسيراً في هذا المجال.
1 ـ السيرة النبوية : 401/2.
2 ـ النحل : 44.


(177)
    خاتمة المطاف
أهل البيت في الأدب العربي
    ما حقَّقناه حول الآية كان أمراً واضحاً لا لبس فيه عند المسلمين في الصدر الأوّل فقد فهموا عن الآية الكريمة وبفضل الروايات من هم أهل البيت من دون تردّد أو تريّث ، وصاغوا ما فهموه في قوالب شعرية رائعة ، فنقتطف منها هذه الشذرات.
    قال عمرو بن العاص في قصيدته الجلجلية المعروفة يمدح بها الإمام علي ابن أبي طالب ، وفيها هذا البيت في حق العترة الطاهرة :
فوال مواليه يا ذا الجلال ولا تنقضوا العهد من عترتي وعاد معادي أخ المرسل فقاطعهم بي لم يوصل (1)
    و قال الكميت بن زيد الأسدي في قصيدة له :
1 ـ الغدير : 115/2.

(178)
ألم ترني من حب آل محمد فإن هي لم تصلح لحي سواهم يقولون لم يورث ولولا تراثه أروح وأغدو خائفاً أترقب فإنّ ذوي القربى أحق وأوجب لقد شركت فيها بكيل وأرحب (1)
    قال العبدي الكوفي ( المتوفّى 120 هـ ) :
ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم ركبت على اسم اللّه في سفن النجا وأمسكت حبل اللّه وهو ولاوَهم مذاهبهم في أبحر الغي والجهل وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل كما قد أمرنا بالتمسّك بالحبل (2)
    وقال الإمام الشافعي :
يا أهل بيت رسول اللّه حبكم فرض من اللّه في القرآن أنزله

1 ـ الغدير : 191/2.
2 ـ الغدير : 290/2 ـ 326.


(179)
كفاكم من عظيم القدر أنّكم من لم يصل عليكم لا صلاة له (1)
    وذكر ابن الصباغ المالكي في « الفصول » لقائل :
هم العروة الوثقى لمعتصم بها مناقب في شورى وسورة هل أتى وهم آل بيت المصطفى فودادهم مناقبهم جاءت بوحي وانزال وفي سورة الأحزاب يعرفها التالي على الناس مفروض بحكم وإسجال (2)
    وذكر الشبلنجي في « نور الأبصار » عن أبي الحسن بن جبير :
أحب النبيّ المصطفى وابنَ عمه هم أهل بيت أذهب الرجس عنهم موالاتهم فرض على كل مسلم علياً وسبطيه وفاطمة الزهرا وأطلعهم أفق الهدى أنجماً زهرا وحبهم أسنى الذخائر للأُخرى

1 ـ الغدير : 303/2.
2 ـ الغدير : 310/2 ـ 311 ، نقلاً عن الفصول : 13.


(180)
وما أنا للصحب الكرام بمبغض فإنّي أرى البغضاء في حقهم كفرا (1)
    وقال العبدي :
يا سادتي يا بني علي من ذا يوازيكم وأنتم أنتم نجوم الهدى اللواتي لولا هداكم إذاً ضللنا لازلت في حبكم أوالي وما تزودت غير حبي وذاك ذخري الذي عليه يا « آل طه » و « آل صاد » خلائف اللّه في البلاد يهدي بها اللّه كل هاد والتبس الغي بالرشاد عمري وفي بغضكم أعادي إياكم وهو خير زاد في عرصة الحشر اعتمادي

1 ـ الغدير : 311/2 ، نقلاً عن نور الأبصار : 13.
مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: فهرس