مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 41 ـ 50
(41)
    12 ـ عدم السماح للمسلمين بنصرة المحدثين والمبتدعين في الإسلام ولزوم مقاومتهم.
    13 ـ قيام النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بحلّ مشاكلهم والخصومات التي تحدث بين المسلمين أو بينهم وبين اليهود.
    14 ـ منح اليهود الحقوق العامّة من الأمن والحريّة وغير ذلك بشرط أن يسايروا المسلمين ولا يعيثوا فساداً في الأرض.
    15 ـ إعتبار الجار كالنفس غير مضار ولا إثم.
    وهذه هي بعض بنود تلك المعاهدة التاريخية (1).
    ولم تكن هذه سيرة الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فحسب مع غير المسلمين من مواطني الدولة الإسلاميّة، بل كانت سيرة الدولة الإسلاميّة حتّى بعد الرسول الكريم.
    فها نحن نرى كيف يساوي الدين الإسلامي بين الحاكم والمحكوم في جميع المجالات .. ومنها القضاء. وإليك مثلاً على ذلك.
    وجد الإمام عليّ (عليه السلام) ـ أيام خلافته ـ درعه عند يهوديّ من عامّة الناس ، فأقبل به إلى أحد القضاة ، وهو شريح، ليخاصمه ويقاضيه ، ولمّا كان الرجلان أمام القاضي قال الإمام عليّ : « إنّها درعي و لم أبع ولم أهب ».
    فسأل القاضي الرجل اليهوديّ : ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ؟ فقال اليهوديّ : ما الدرع إلاّ درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب.
    وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله : هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك؟ فضحك عليّ ، وقال : « أصاب شريح ، مالي بيّنة ».
    فقضى شريح بالدرع للرجل اليهودىّّ ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه! إلاّ أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول : أمّا أنا فأشهد أنّ هذه أحكام
    1 ـ النظام السياسيّ في الإسلام : 155 ـ 156.

(42)
أنبياء ، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ...
    ثمّ قال : الدرع واللّه درعك ياأمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت.
    وبعد زمن شهد الناس هذا الرجل وهو من أصدق الجنود ، وأشدّ الأبطال بأساً وبلاءً في قتال الخوارج يوم النهروان إلى جانب الإمام عليّ (1).
    وفي رواية مماثلة : أنّ يهودياً خاصم عليّاً (عليه السلام) في أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فقال له عمر : قم يا أبا الحسن وقف مع خصمك.
    فتغيّر وجه الإمام (عليه السلام) وبعدالانتهاء من المرافعة قال له عمر : يا أبا الحسن لعلّه ساءك أمري، أن تقف مع خصمك اليهوديّ ؟
    قال (عليه السلام) : « كلاّ ، وإنّما ساءني أنكّ كنّيتني ولم تساو بيني وبين خصمي ، والمسلم واليهوديّ أمام الحقّ سواء » (2).
    كما مرّ شيخ أعمى كبير السنّ يستجدي ويسأل الناس فقال عليّ (عليه السلام) ـ وهو آنئذ في أيّام خلافته ـ : « ما هذا » ؟
    فقالوا : يا أمير المؤمنين نصرانيّ !
    فقال أمير المؤمنين : « استعملتموه حتّى إذا كبر و عجز منعتموه ؟ أنفقوا عليه من بيت المال » (3).
    وقبل كلّ ذلك يشير القرآن الكريم إلى قانون التسامح الدينيّ هذا ، فهو يسمح للمسلمين بأن يعاملوا غيرهم من الطوائف والجماعات غير المسلمة بالعدل والرفق ، والشفقة ما داموا لا يت آمرون على المسلمين ولا يسيئون إلى أمنهم ، ولا يؤذونهم بالقتال أو
    1 ـ الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّّة : 87 ـ 88 ، بحار الأنوار 9 : 598 طبعة تبريز مع اختلاف يسير.
    2 ـ الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة : 49.
    3 ـ الوسائل 11 : 49 ( الطبعة الجديدة ).


(43)
الإخراج من البلد. فيقول : ( لاَ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُواْ إِلَيهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ فَاُولَئِكَ هُمُ الظّالِمونَ ) (الممتحنة : 8 ـ 9).
    فالإسلام لايمنع عن البرّ والقسط إليهم ، وإنّما منع عن الذين ظاهروا على المسلمين وتآمروا ضدّهم.
    إنّ هذه الآية تعطي ميزاناً كلّيّاً لكيفية تعامل المسلمين مع غيرهم ، والميزان هو مسالمة كلّ من سالم ومعاداة كلّ من عادى.
    وممّا يؤيّد هذا الأمر قوله سبحانه : ( يَا أَيُّها الّذِينَ ءَامنُوا لاَ تَتّخِذُواْ بِطَانَةً مِنْ دونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُم تَعْقِلُونَ ) (آل عمران : 118).
    إذن، فالقرآن يمنع من التسامح مع الآخرين إذا كانوا يعادون المسلمين ويتعاونون مع المشركين لإيذاء المسلمين.
    إنّ نظرةً واحدةً إلى التاريخ الإسلاميّ تكشف لنا، أنّ عدل الحكومات الإسلاميّة وعفوها ولطفها كان سبباً لأن يرجّح الكثير من المسيحيين وغيرهم ، العيش في ظل النظام الإسلاميّ رغبةً وطواعية لما رأوا وسمعوا ولمسوا من مسامحة المسلمين وحسن معاملتهم ، ولما لمسوه من حكّامهم المتديّنين بدينهم من الظلم والجور على خلاف المسلمين وحكّامهم.
    وإليك ما ذكره البلاذري في هذا المجال : ( لمّا جمع هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ، ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج ، وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم ، فقال أهلحمص [ وكانوا مسيحيّين ] : لولايتكم وعدلكم أحبُّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم ، والغشم ، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ، ونهض اليهود فقالوا :


(44)
والتوراة، (1) لا يدخل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب و نجهد ، فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود ، وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه [ من الظلم والحرمان ] وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.
    فلمّا هزم اللّه الكفرة وأظهر المسلمين، فتحوا مدنهم ، وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج ) (2).
    هذا، والشواهد والأمثلة التاريخية على هذا الموضوع أكثر من أن تحصى.
    وقد بلغ تسامح الدول الإسلاميّة في التاريخ حداً عجيباً، إذ أشرك المسيحيون وغيرهم في الأجهزة الحكوميّة ، وهو يدل على العناية القصوى بغير المسلمين.
    وستوافيك هذه النصوص وغيرها عند البحث عن السلطة القضائية وحقوق الأقلّيات في الإسلام ، وما ذكرناه هنا سوى لمحة عابرة اقتضاها المقام.

الحكومات الجائرة
    ليس من الغريب أن تتبادر إلى أذهان البعض من شعوب الشرق ـ عند سماع اسم الحكومة ـ صورة مخيفة عن الحكومات الجائرة والحكام الجائرين ، فإنّ شعوب هذه المنطقة عانت طوال قرون متمادية أسوأ أنواع الظلم والاضطهاد على أيدي الحكومات المستبدّة.
    ولذلك، سرعان ما يتبادر إلى أذهانهم صورة الحاكم القاهر ، والأمير المتسلّط الذي يمتصُّ دماء الناس ، وينهب أموالهم ، ويتحالف مع أضرابه من الظ ـ المين ومع القوى الأجنبيّة لترسيخ دعائم عرشه. ولكنّ الغاية التي يتوخاها الإسلام، ليست هي
    1 ـ أي قسماً بالتوراة.
    2 ـ فتوح البلدان للبلاذري (المتوفّى سنة 279 هـ) : 143 ، وراجع أيضاً (الدعوة إلى الإسلام ) للسير توماس ارنولد.


(45)
إيجاد مثل هذه الحكومات الجائرة المستبدّة ، إنّما هي : الحكومة الصالحة العادلة الحائزة لرضا الاُمّة ، الملتزمة بإجراء القوانين الإلهيّة العادلة.
    ومن المعلوم، أنّ مثل هذه الحكومة لن تهدف إلاّ خدمة الامة ، وحماية حقوقها وحرمتها وصيانة كرامتها ، وتحقيق سعادتها ، ولذلك فهي تعيش في ضمير الاُمّة وترتبط بوجدانها.
    إنّ ما ينشد الإسلام إقامته وإيجاده هو : الدولة العادلة التي رسم الإمام عليّ (عليه السلام) أهمّ خطوطها في عهده المشهور لمالك الأشتر الذي ولاّه على مصر ، حيث يقول في موضع منه : « واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك ، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه للّه الذي خلقك ، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع » (1).
    إنّ الحاكم العادل ـ في نظر الإسلام ـ هو من يشارك شعبه في أفراحه وأتراحه ، وفي آلامه وآماله ، لا أن يعيش في البروج العاجيّة ، متنعّماً في أحضان اللّذة ، رافلاً في أنواع الخير ، غير عارف بأحوال من يسوسهم، كما قال الإمام عليّ (عليه السلام) وهويرسم بذلك ملامح الحكومة الإسلاميّة الصالحة : « ءأقنع من نفسي بأن يقال : أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر ، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمُّمها » (2)
    ولو كان المفكّرون المعاصرون يعرفون ما اشترطه الإسلام للحاكم من شروط وعيّن له من وظائف وواجبات ، وفرض عليه من قيود ، وكيف يجب عليه أن يكون في جميع أفعاله منسجماً مع القوانين الإسلاميّة العادلة ، ولو عرفوا الأهداف التي يبتغيها الإسلام من وراء إقامة الدولة الإسلاميّة ، لما اعتبروا قيام مثل هذه الحكومة معارضاً للحرّيّات الفرديّة أبداً.
    1 ـ نهج البلاغة : الرسالة رقم (53).
    2 ـ نهج البلاغة : الرسالة رقم (45).


(46)
وظيفة الاُمّة اتّجاه الحكومة
    إذا كانت الحكومة الإسلاميّة تضمن تلك المصالح الكبيرة للاُمّة ، وتوصل الإنسانية إلى قمّة الكمال ، فيجب على الاُمّة الإسلاميّة القيام بتأسيسها وتشكيلها إذا لميكن هناك حكومة إسلاميّة ، وتأييدها ونصرها والتحرُّز عن خيانتها عند قيامها ووجودها.
    وإليك بعض النصوص التي تشرح وظيفة الاُمّة الإسلاميّة وواجبها اتّجاه الحكومة الإسلاميّة.
    قال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « الدّين النّصيحة ».
    قيل : لمن يارسول اللّه ؟
    قال : « للّه ، ولرسوله ، ولكتابه ، و للأئمّة ولجماعة المسلمين » (1).
    وقال الإمام عليّ (عليه السلام) : « يحقُّ على الإمام أن يحكم بما أنزل اللّه ، وأن يؤدّي الأمانة فإذا فعل ذلك فحقّ على النّاس أن يسمعوا له. ويطيعوه ، ويجيبوه إذا دعا » (2).
    وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) : « إنّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم خطب الناس في مسجد الخيف فقال : نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها و بلّغها من لم يسمعها فربّ حامل فقه إلى غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
    ثلاث لا يغلُّ عليهنّ قلب امرىء مسلم :
    إخلاص العمل للّه.
    والنّصيحة لأئمّة المسلمين.
    واللّزوم لجماعتهم. فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم.
    المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم » (3).
    1 ـ الأموال : 9 ـ 12.
    2 ـ الأموال : 9 ـ 12.
    3 ـ الكافي 1 : كتاب الحجة : 402.


(47)
    وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : لا تختانوا ولاتكم ، ولا تغشّوا هداتكم. ولا تجهلوا أئمّتكم ، ولا تصدّعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم ، وعلى هذا فليكن تأسيس أموركم ، والزموا هذه الطّريقة » (1).
    وقال الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) : « قال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : ما نظر اللّه عزّ وجلّ إلى وليّ له يجهد نفسه بالطّاعة لإمامه والنّصيحة إلاّ كان معنا في الرّفيق الأعلى » (2).
    وسأل أبو حمزة من الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) : ماحقُّ الإمام على الناس؟ قال : « حقُّه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ».
    قلت : فما حقُّهم عليه ؟ قال (عليه السلام) : « يقسم بينهم بالسّويّة و يعدل في الرّعيّة » (3).
    هذه لمحة عن واجبات الاُمّة ووظائفها اتّجاه الحكومة الإسلاميّة.
    ومن المعلوم، أنّ الحكومة لو قامت بوظائفها التي قرّرها الإسلام ، وقامت الاُمّة الإسلاميّة بواجباتها اتّجاه الحكومة كما عيّنها الدين لاستقرّت العدالة ، واستتبّ الأمن ، وانتشر السلام ، وازدهر الخير ، وعّمت السعادة كلّ أرجاء البلاد.
    1 ـ الكافي 1 : كتاب الحجة : 405.
    2 ـ الكافي 1 : كتاب الحجة : 404.
    3 ـ الكافي 1 : كتاب الحجة : 405.


(48)
3
أنواع الحكومات
في العالم
    إنّ لنظم الحكم في العالم ألواناً وأنواعاً نذكر المعروفة منها باختصار :

1 ـ الملوكيّة
    ويتحقّق النظام الملكيّ باستيلاء شخص على زمام الحكم والسلطة بانقلاب عسكريّ وبقوّة النار والحديد ، يعلن على أثره نفسه حاكماً على البلاد ، وملكاً للناس ، ويعاقب معارضيه وينكّل بهم ، ولا يكتفي باعلان نفسه ملكاً على الناس ، بل ينصّب خلفه ملكاً من بعده ، وهكذا تتناوب ذرّيّته عرشه وسلطانه جيلاً بعد جيل ، ونسلاً بعد نسل.
    وربما تبلغ به شهوة السلطة وداعية الملك إلى أن يسمّي نفسه ظلاّ ًللّه إن لم يبلغ به الاستعلاء والتفرعن إلى أن يجعل نفسه في مصافّ اللّه تعالى ، فإذا به يرفع شعار : (اللّه ، الملك ، الوطن).
    وهذا هو ما نلحظه في أكثر الملوكيّات الراهنة.
    إنّ النظام الملكيّ ضرب من الحكومة الفرديّة التي يكون فيها(فرد واحد ) مبدأً


(49)
للسلطة ، ومصدراً لكلّ القرارات ، ومنشأً للقوانين. ولا يكون وحده كذلك بل يكون أبناؤه وأحفاده حكّاماً وملوكاً بالتوارث ، فإذن ، هو نظام فرديّ وراثيّ استبداديّ.
    وقد كان هذا النمط من النظام ـ ولا يزال ـ ملازماً للاستعلاء والاستكبار ومنشأً للإرهاب والكبت ، وهو ـ لا شكّ ـ أمر مرفوض في منطق القرآن الكريم إذ يقول :
    ( تِلْكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلّذينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواً فِى اْلأرْضِ وَلاَ فَسادَاً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ ) (القصص : 83).

القرآن الكريم والملوكيّة
    إنّ القرآن الكريم يعتبر طبيعة الملوكيّة بحكم كونها ناشئةً من الفرد، طبيعيةً ميّالةً إلى الفساد والتفرعن ، وحمل الإرادة الفرديّة على الشعوب بالقهر والإرغام وإذلال أبنائها وأعزّتها ، إلى غير ذلك من المنكرات والمفاسد والتبعات التي عانت منها البشريّة ، طوال قرون ، إذ يقول : ( قَالَتْ إِنّ الملُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزّةَ أَهْلِها أَذِلّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) (النمل : 34).
    هذه الكلمة التي نقلها اللّهسبحانه في هذه الآية عن بلقيس ملكة سبأ ، تمثّل إحدى سنن التاريخ الحاكمة في الحياة البشريّة ، ولولا أنّها كذلك، لردّ عليها اللّه سبحانه ولم يمر عليها بسلام كما هو شأنه في هذه الحالات.
    يقول السيد قطب ـ في ظلاله ـ حول تفسير هذه الآية : ( ... فهي تعرف أنّ من طبيعة الملوك أنّهم إذا دخلوا قرية أشاعوا فيها الفساد وأباحوا ذمارها ، وانتهكوا حرماتها ، وحطّموا القوّة المدافعة عنها ، وعلى رأسها رؤساؤها ، وجعلوهم أذلّةً لأنّهم عنصر المقاومة ، وأنّ هذا هو دأبهم الذي يفعلون) (1).
    إنّ القرآن عندما يتعرّض لأحوال الملوك الذين حكموا الأرض، يذكر جشعهم
    1 ـ في ظلال القرآن 19 : 146.

(50)
وطمعهم الذي لم يقف عند حدّ ويصوّر لنا كيف أنّهم لم يتركوا حتّى أموال الضعفاء والمساكين طمعاً وجشعاً.
    فها هو القرآن يذكر لنا عن ملك بلغ به الجشع والحرص إلى درجة انتزاع سفينة بعض المساكين التي كانوا يرتزقون من ورائها ، ويحصلون بها على لقمة عيشهم ، فيقول : ( أَمّا السّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أنْ أَعِيبَهَا وكَانَ وَرَاءَهُمْ مِلكٌ يأْخذُ كُلّ سَفِينَة غَِصْبا ً ) (الكهف : 79).
    وها هو فرعون أحد ملوك مصر الذين حملوا أنفسهم على رقاب الناس وأكتافهم ، يبلغ به الطمع والحرص إلى أن يعدّ نفسه مالكاً لأرض مصر وأنهارها وما فيها من خيرات من دون مبرر ولا سبب، إلاّ الطمع وحب الاستئثار بكلّ شيء لوحده ، فإذا به يتباهى بما في يده من ملك ، ويتبجّح بما له من سلطان كما يقول القرآن عنه : ( وَنادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمهِ قَالَ يَاقَوْم ِأَليْسَ لِى مُلُكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِى مِنْ تَحتِى أَفَلاَ تُبْصِرُون ) (الزخرف : 51).
    إنّ الملوكيّة بما أنهّا لا تنطلق من مقاييس وضوابط إلهيّة دينيّة ، بل تنطلق من المقاييس الشخصيّة والتسلُّط الفرديّ، لا يمكن أن تلازم غير صفة الاستئثار والطمع في اموال الآخرين.
    فإذا كانت هذه هي طبيعة الملوك ، وهذه هي سجيّتهم ، فهل يسمح العقل ـ فضلاً عن الشرع ـ بأن يفوّض إليهم مقدّرات الناس وأعراضهم وأموالهم ونفوسهم وما يملكون من حول وقوّة ؟!وهل يسمح العقل بأن يترك الأمر لتلك النفوس الجشعة والطبائع المنحرفة أن تتصرّف في شؤون الناس كيفما شاءت وارتأت ؟ وأن تتسلّط على رقاب الناس لتفعل ما تريد ؟.
    أجل، إنّ الملوكيّة بما أنّها نظام فرديّ يقوم على تغليب إرادة الفرد على الجماعة ، وبما أنّها تحظى بالسيادة والحاكميّة دون أن تمتلك كفاءة الإدارة والحكم حسب الضوابط الإنسانيّة والأخلاقيّة بل تمارس ذلك بالقوّة والقهر والإرهاب، فمن الطبيعيّ أن تؤول إلى
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس