مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 11 ـ 20
(11)
خطاب
تفضّل به العلاّمة الحجة الحكيم المتألّه الشيخ حسن الآملي
( دام ظله الوارف )
ننشره مشفوعاً بالشكر والتقدير
بسم الله الرحمن الرحيم
( ن والقلم وما يسطرون )
    سماحة العلم الآية العلاّمة العبقري الشيخ جعفر السبحاني متعنا اللّه بطول بقائه.
    بعد التحية والسلام :
    سلام كمثل الروض باكره الصبافصادف ريحاناً ونوراً مفتقاً
    أنّه سبحانه كتب على نفسه وأخبر في كتابه بقوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) فهو سبحانه يقيّض في كل دور وكور أعلاماً يهتدى بهم ، ويستضاء بنور هداهم ، فقد عرَّفهم وليّ ذي الجلال ، زارع المعارف في مزارع القلوب في خطابه الفصل الملقى إلى كميل الكامل الباخع النخعي بقوله : « يحفظ اللّه بهم حججه وبيناته ، حتى يودعها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، ذلك فضل اللّه يوَتيه من يشاء ، واللّه ذو الفضل العظيم ».
    وأنتم ـ بحمد اللّه سبحانه ـ ممن حذا حذو هوَلاء ، وتتلمذ في مدرستهم


(12)
وتعرّف على مناهجهم ، فلاَجل ذلك أخرجتم إلى المجتمع الاِسلامي تفسيركم الموضوعي لحبل اللّه : « القرآن الكريم » في حلقات عديدة ، وقد حالفني التوفيق لاَقف على أجزاء منها تتناول موضوعات قرآنية هامة كأنّما هي نسمات أُنس هبّت من حظائر القدس ، وقد تجلّى فيها القرآن بمفاهيمة ومعالمه للّذي قد جاء في طلب القبس.
    رزقنا اللّه وإيّاكم فهم الخطاب الاِلهي وأسأله سبحانه غرة جدّكم ، وعزة جداكم ، والحمد للّه الذي فضّل مداد العلماء على دماء الشهداء.
    تحريراً في 24 /شعبان المعظم/ 1403 هـ
    قم : حسن الآملي
    ملحوظة :
    هذا ما سمح المجال بنشره مما تفضّل به الاَساتذة حول كتابنا « مفاهيم القرآن » وقد نشرناها مشفوعة بالشكر والتقدير ، وسوف نقوم بنشر بعض الرسائل والكتب الاَُخرى التي وصلتنا من قادة الفكر وأرباب القلم في الجزء الآتي إن شاء اللّه تعالى.
الموَلف


(13)
مقدمة الموَلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الاِيمان بالغيب في الكتاب العزيز
    الاِيمان بالغيب عنصر أساسي في جميع الشرائع السماوية ، والشرط الرئيسي في التديّن بالدين الاِلهي على الاِطلاق ، بحيث لو انتزع هذا العنصر من برامج الدين لاَصبح الدين دستوراً عادياً يشبه الدساتير والآيديولوجيات المادية البشرية ، ونظاماً لا يمت إلى الدين الاِلهي بصلة.
    ولاَجل ذلك نرى أنّ اللّه سبحانه يعد الاِيمان بالغيب في طليعة الصفات التي يتصف بها المتقون إذ يقول سبحانه في الآية الثالثة من سورة البقرة : ( الّذِينَ يُوَمِنُونَ بِالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصّلاةَ ومِمّا رَزَقناهُمْ يُنفِقُون ) (1)
    والمراد من « الغيب » هو ما يقابل الشهادة ، ومن أجل مصاديقه : الروح والملائكة ، والجن والمعاجز ، والكرامات ، والوحي ، والبرزخ ، والقيامة ، وما يرجع إلى اللّه تعالى من ذاته وصفاته.
    ولا يشك أحد في أنّ تجريد الدين من هذه الاَُمور ومن الاعتقاد بها يوجب أن يصبح الدين نظاماً مادياً ، ومبدأً بشرياً كسائر الاَنظمة والمبادىَ والبرامج البشرية الاَرضية.
    1 ـ البقرة : 3.

(14)
    وقد كان أصحاب الشرائع ، وأنصارها ، وفي مقدمتهم علماء الاِسلام ، وكتابهم محتفظين بهذا الاَصل ، معتصمين به أشد الاعتصام ، موَكدين عليه في كتاباتهم غاية التأكيد باعتباره ميزة الشرائع الاِلهية ، وقوامها ، والفارق الجوهري بينها وبين الاَنظمة والآيديولوجيات الاَرضية البشرية.
    غير أنّ الحضارة المادية الحديثة التي اعتمدت على الحس والتجربة ، وأعطت كل القيمة والوزن لما أيّدته أدوات المعرفة المادية ، أدهشت بعض المفكرين المسلمين ، فوجدوا أنفسهم في صراع عنيف بين الاِيمان بالغيب باعتباره عنصراً أساسياً في الدين ، وبين الحضارة المادية الحديثة التي لا تعتمد إلاّ على الحس والتجربة ، وربّما لم يتجرّأوا على إنكار ما هو خارج عن إطار أدوات المعرفة المادية ، فلم يقدروا على الانحياز إلى أي واحد من الطرفين ، فلو صاروا إلهيين مطلقاً لوجب عليهم مقابلة الماديين المنكرين لعالم الغيب ، ولو انحازوا إلى جانب الماديين لانخرطوا في صفوف الملحدين ، ولذلك اختاروا طريقاً وسطاً ، وهو تأويل بعض ما ورد في مجال الغيب عامّة ، والمعاجز والكرامات خاصة ، وزعموا أنّهم يستريحون بهذا التأويل ، ويرضون كلتا الطائفتين.
    وممن سلك هذا الطريق بعض السلوك الشيخ المصلح « محمد عبده » والسيد سير « أحمد خان » الهندي ، و « طنطاوي جوهري » ، وتلامذة هذه المدرسة.
    ولكي لا يحمل القارىَ كلامنا هذا على القسوة والتحامل على أحد نأتي فيما يلي بنماذج من كتابات أصحاب هذه المدرسة ، ونختارها ممّا كتبه السيد محمد رشيد رضا منشىَ « المنار » تقريراً لدروس الاَُستاذ الامام الشيخ « محمد عبده » في التفسير ، ونكتفي ـ في هذا الاقتباس ـ على ما ضبطه حول سورة البقرة فقط ، ونحيل البحث المفصّل حول هذا التفسير المنشور في أحد عشر جزءاً إلى وقت آخر.


(15)
النموذج الاَوّل
    قوله سبحانه : ( وإذ قُلْتُمْ يا مُوسَى لَنْ نُوَمِنَ لكَ حتّى نَرى اللّهَ جَهْرَةً فَأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وأنتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثناكُمْ مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلّكُم تَشكرُون ). (1)
    لا شك أنّ المتبادر من الآية هو إحياوَهم بعد الموت ، والخطاب لليهود المعاصرين للنبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) باعتبار أحوال أسلافهم ، ولا يفهم أيُّ عربي صميم من لفظة : ( ثم بعثناكم من بعد موتكم ) غير هذا إلاّ أنّ صاحب المنار ذهب إلى أنّ المراد من البعث هو كثرة النسل ، أي أنّه بعدما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها وظن أنّهم سينقرضون ، بارك اللّه في نسلهم ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفره ـ م لها. (2)
    ولم يكن هذا التفسير من الاَُستاذ إلاّ لاَجل أنّ الاعتراف بالاِحياء بعد الموت في الظروف المادية ممّا لا يصدقه العلم الحسّ ـ ي والتجربة ، فلاَجل ذلك التجأ إلى تفسيره بما ترى ، وما أظن أنّ الاَُستاذ يتفوّه بهذا التفسير في نظائر الآية الكثيرة في القرآن الكريم.
    النموذج الثاني
    لقد كتب الاَُستاذ في تفسير قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُم فِي السّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدةً خاسِئين * فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَينَ يَدَيْها ومَا
    1 ـ البقرة : 55 ـ 56.
    2 ـ تفسير المنار : 1/322.


(16)
خَلْفَها ومَوْعِظَةً لِلمُتَّقِين ). (1) ما يلي :
    إنّ السلف من المفسرين ـ إلاّ من شذّ ـ ذهب إلى أنّ معنى قوله : ( كونوا قردة خاسئين ) أنّ صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين.
    وحيث كان هذا المعنى يصطدم بالاتجاه المادي ولا تصدقه أنصار الحضارة المادية الذين ينكرون إمكان صيرورة الاِنسان قرداً حقيقياً دفعة واحدة ، عمد الاَُستاذ إلى تأويل هذه الآية ، وتفسيرها على النحو والنهج الجامع بين الاتجاهين المادي والديني !!
    فمع أنّه نقل عن الجمهور أنّ معنى الآية أنّ صورهم مسخت فأصبحوا قردة على الحقيقة والواقع ، نجده ينحاز إلى رأي مجاهد الذي قال : ما مسخت صورهم ، ولكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقردة ، كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى : ( مَثَلُ الّذِينَ حُمِّلُوا التّوراةَ ثُمّ لَم يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أسْفَاراً ). (2)
    ثم قال : ومثل هذا قوله تعالى : ( وجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ والخَنَازِيرَ وعَبدَ الطّاغُوت ). (3) وقال : الخسوء هو الطرد والصغار ، والاَمر للتكوين ، أي فكانوا بحسب سنّة اللّه في طبع الاِنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس.
    ثم أخذ في رد قول الجمهور ، وقال : ولو صح ـ ما ذكره الجمهور ـ لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة ، لاَنّهم يعلمون بالمشاهدة أنّ اللّه لا يمسخ كلَّ عاص ، فيخرجه عن نوع الاِنسان ، إذ ليس ذلك من سننه في خلقه ، وإنّما العبرة الكبرى في العلم بأنّ من سنن اللّه تعالى في الذين خلوا من قبل : أنّ من يفسق عن أمرربّه ويتنكب الصراط الذي شرّعه له ، ينزل عن مرتبة الاِنسان ، ويلتحق
    1 ـ البقرة : 65 ـ 66.
    2 ـ الجمعة : 5.
    3 ـ المائدة : 60.


(17)
بعجماوات الحيوان ، وسنّة اللّه تعالى واحدة ، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية.
    إلى أن قال : فاختيار ما قاله مجاهد هو الاَوفق بالعبرة والاَجدر بتحريك الفكرة. (1)
    ونحن لسنا ـ هنا ـ في صدد تفسير الآية وتوضيح مفادها ، غير أنّه ـ إيقافاً للقارىَ الكريم على الحقيقة ـ نلفت نظره إلى أُمور تثبت ما نسبناه إلى هذه الجماعة من موقف خاص تجاه المعاجز والكرامات وما شاكلها ، وهذه الاَُمور هي :
    أوّلاً : أنّ المشهود من تفسير صاحب المنار أنّه مقلّد قوي للسلف في أكثر الموارد والمجالات ، فلماذا عدل في هذا المضمار ، واختار القول الشاذ ، أعني : قول مجاهد؟!
    ثانياً : كيف رضيت نفسه أن يفسر الآية بمثل قوله سبحانه : ( مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها ... ) مع أنّ المذكور في تلك الآية إنّما هو على سبيل المثل ، فإنّ لفظة « مثل » تنادي بأنّ حالهم ـ في عدم الفهم والانتفاع بالتوراة ـ كمثل الحمار الحامل للكتب والاَسفار من دون فهم لما فيها ، لا أنّهم حمر بالهيئة والصورة والحقيقة ، وهذا بخلاف ظاهر الآية الحاضرة ، فإنّها بظاهرها حاكية عن أنّهم صاروا قردة حقيقيّين لا أنّهم صاروا مثلهم مثل القردة؟!
    ثالثاً : لماذا غفل الاَُستاذ عما ورد في تلك القصة في سورة الاَعراف من قوله سبحانه : ( فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أنجَيْنا الّذِينَ يَنْهَونَ عنِ السُّوءِ وأخَذْنا الّذِينَ ظَلَمُوا بِعذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمّا عَتَوْا عَن ما نُهُوا عَنْهُ قُلنا لَهُم كُونُوا قِرَدَةً خاسِئين ). (2)
    1 ـ تفسير المنار : 1/343 ـ 345.
    2 ـ الاَعراف : 165 ـ 166.


(18)
    أفيمكن تفسير الآية ـ حينئذ ـ بغير ما اختاره جمهور المفسرين من صيرورتهم قردة حقيقيّين ، وأي عذاب بئيس أشدّ من صيرورة الاِنسان بصورة القردة المطرودة !!
    رابعاً : أنّ ما ردّ به نظرية الجمهور من أنّه لا يكون المسخ الصوري موعظة للعصاة ، لاَنّهم يعلمون ـ بالمشاهدة ـ أنّ اللّه لا يمسخ كلّ عاص ... إلى آخر كلامه ، مردود بوجهين :
    الاَوّل : أنّه لو صح ذلك لوجب تأويل جميع ما ورد في القرآن الكريم من الاِبادة والاِهلاك بالخسف والاِمطار بالحجارة ، والغرق ، والريح ، وغير ذلك مما وقع بالاَُمم السالفة عقاباً وعبرة للآخرين ، وذلك مثل قوله سبحانه : ( وَقَومَ نُوحٍ لمّا كَذّبُوا الرُّسُلَ أغْرَقْناهُمْ وجَعَلْناهُم لِلنّاسِ آيةً وأعتَدْنا لِلظّالِمِينَ عَذَاباً ألِيماً ) (1) ، ومثل قوله سبحانه في شأن فرعون : ( فَقَالَ أنا رَبُّكُمُ الاَعلى * فأَخَذَهُ اللّهُ نكالَ الآخِرةِ والاَُولى * إنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرًةً لِمَن يَخشَى ) (2).
    إنّه سبحانه يصرح في الآية الاَُولى والثانية بأنّه إنّما فعل ما فعل بقوم نوح وبفرعون ليكونوا عبرة للآخرين ، وتذكاراً.
    على أنّ اللّه سبحانه يذكر نظير ذلك في سورة هود ، وذلك عندما يستعرضقصص من أرسل إليهم الاَنبياء وأنّهم كذبوهم ، فأصابهم اللّه بشتّى ألوان العذاب والاِهلاك ، وذلك مثل قوم نوح ، وقوم عاد ، وقوم ثمود ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، وقوم فرعون ، ثم يختم هذا الاستعراض المفصل بقوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ أخْذُ رَبِّكَ إذا أَخَذَ القُرَى وهِيَ ظالِمَةٌ إنّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيد * إنَّ في ذَلِكَ لآيةً لِمَن خافَ عذابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَومٌ مَجموعٌ لَهُ النّاسُ وذَلِكَ يَومٌ
    1 ـ الفرقان : 37.
    2 ـ النازعات : 24 ـ 26.


(19)
مَشْهُود ). (1)
    إنّه تعالى يصرح بأنّ كل ما نزل بالاَُمم السابقة من العذاب والاِهلاك إنّما ذكر ليكون عبرة ، وآية للناس ، وعندئذٍ يطرح هذا السوَال نفسه بأنّه كيف يكون عبرة وآية للناس مع أنّهم يعلمون بالمشاهدة أنّ اللّه لا يوَدب الاَُمة المحمدية بما أدّب به الاَُمم السالفة؟!
    الثاني : أنّ كون هذه القضايا وسيلة للعبرة والاعتبار لا يستلزم أن تتحقّق تلك العقوبات بعينها في حق العصاة والطغاة في الاَُمم اللاحقة ، بل يكفي ـ في ذلك ـ أن تدل على أنّ اللّه لهم بالمرصاد ، فهو لا يترك الظالم بلا عقاب ، ولا يفوته العصاة دون أخذ.
    إنّ الاَخذ والعقوبة يختلف حسب مشيئة اللّه وإرادته ، ولا يلزم أن تكون العقوبة متحدة النوع مع العقوبات السابقة حتماً.
    وهذه هي الحقيقة التي توَكدها الآيات ( 10 ـ 14 ) من سورة الفجر إذ يقول سبحانه : ( وَفِرْعَوْنَ ذِي الاَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَّبَ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرصَادِ ). (2)
    النموذج الثالث
    لقد قصّ اللّه سبحانه في سورة البقرة قصة البقرة التي أمر بنو إسرائيل بذبحها إذ قال : ( وإذ قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إنَّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أعُوذُ بِاللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجَاهِلِين ) إلى أن قال : ( وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَءْتُمْ فِيها واللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمونَ * فَقُلنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذَلِكَ
    1 ـ هود : 102 ـ 103.
    2 ـ الفجر : 10 ـ 14.


(20)
يُحيِي اللّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ). (1)
    ومجمل القصة هو أنّ رجلاً قتل قريباً له غنياً ليرثه ، وأخفى قتله له ، فرغب اليهود في معرفة قاتله فأمرهم اللّه أن يذبحوا بقرة ويضربوا بعض المقتول ببعضها ليحيا ، ويخبر عن قاتله.
    ولقد بيّ ـ ن اللّه لنا في هذه القصة لجاجة بني إسرائيل ورفضهم للطاعة ، وانحرافهم عن منهج اللّه ، ونتائج ذلك في نفوسهم ومجتمعاتهم حيث آل أمرهم في هذه الواقعة ـ إلى أن يضطروا إلى ذبح البقرة ـ وبعد ما ذبحوها أمرهم اللّه سبحانه أن يضربوه ببعضها ( أي يضربوا المقتول ببعض البقرة ) حتى يحيا ويخبر عن قاتله.
    وهذا هو ما اختاره الجمهور في تفسير الآية ، وهو صريح قوله سبحانه : ( فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى اللّه الموتى ).
    وأمّا الاَُستاذ فقد سلك طريقاً آخر تحت تأثير موقفه المسبق من المعاجز والكرامات وخوارق العادة ، فهو بعد أن نقل رأي الجمهور قال : قالوا : إنّهم ضربوه فعادت إلى المقتول الحياة ، وقال : قتلني أخي ، أو ابن أخي فلان. قال : والآية ليست نصّاً في مجمله فكيف بتفصيله.
    ثم فسّر الآية بما ورد في التوراة من أنّه إذا قتل قتيل ولم يعرف قاتله ، فالواجب أنّ تذبح بقرة في واد دائم السيلان ويغسل جميع أفراد القبيلة أيديهم على البقرة المكسورة العنق في الوادي ، ويقولون : إنّ أيدينا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل ، ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل ، ومن لم يفعل يتبين أنّه القاتل ، ويراد بذلك حقن الدماء.
    ثم قال : وهذا الاِحياء على حد قوله تعالى : ( ولكم في القصاص حياة ) (2)
    1 ـ البقرة : 67 ـ 73.
    2 ـ البقرة : 179.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس