مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 171 ـ 180
(171)
يصفه بقوله : ( بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ في صُدُورِالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُبِآياتِنا إِلاّ الظّالِمُونَ ) (1) فبعد ذلك ينقل اقتراحهم بقوله : ( ولولا أنزل عليه آيات من ربه ) تعريضاً بالكتاب على أنّه ليس بآية معجزة وهذه السخرية نظير قوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقينَ ). (2) ففي هذه الحالة ، وهذا الموقف هل يصح للنبي أن يقوم بتلبية مقترحهم ليكون عمله نوعاً من الاعتراف بعقيدتهم وتكريساً لاستهزائهم؟!
    ثم إنّه سبحانه يأمر نبيّه أن يجيبهم بقوله : ( قل إنّما الآيات عند اللّه ) وهذا جواب عن زعمهم أنّ من يدّعي الرسالة يجب أن يكون متدرعاً بقوة غيبية يقدر بها على كل ما طولب به ، وحقيقة الجواب هي التصريح بأنّه لا يشارك في القدرة على المعاجز معه سبحانه فليس للنبي شيء إلاّ أن يشاء اللّه ، وقد تكرر هذا المضمون في القرآن الكريم غير مرة ، وعلى ذلك فليست الآية بصدد نفي الاِعجاز عن النبي ، بل هي بصدد بيان حقائق غير منكرة في منطق العقل وهي : أنّ القادر المطلق هو اللّه سبحانه ، ولا يشاركه غيره والنبي لا يقوم بخرق العادة إلاّ بإذنه ، وأين ذلك ممّا يدّعيه الخصم؟!
    ويوَكد ذلك ذيل الآية : ( وإنّما أنا نذير مبين ).
    الآية الثامنة عشرة
    قوله سبحانه : ( وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ فَإِذا جاءَأَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) . (3)
    1 ـ العنكبوت : 49.
    2 ـ الحجر : 6 ـ 7.
    3 ـ غافر : 78.


(172)
    والاستدلال بهذه الآية على نفي المعجزة من غرائب الاستدلالات إذ ليس في الآية أيُّ إشعار بذلك فضلاً عن الدلالة والتصريح ، بل مفاد الآية ومرامها كمفاد الآية الثامنة والثلاثين من سورة الرعد ، أعني قوله سبحانه : ( وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ).
    وعلى ذلك فالآيتان تدلاّن على أنّ الاِعجاز ليس في اختيار النبي حتى يقوم به كيف شاء ، أو كيف ما شاءوا ، بل يقتفي في ذلك إذن اللّه سبحانه ، وهو موقوف على توفر شرائط غير موجودة إلاّ في ظروف قليلة.
    على أنّ من المحتمل جداً أن يكون المراد من الآية هي الآيات التي تنصر الحق ، وتقضي بين الرسول وأُمّته وتلك أعم من الاِعجاز ، أعني : النصر في الحروب والظروف القاسية ، ويوَيد ذلك ذيل الآية ، أعني : قوله : ( فإذا جاء أمر اللّه قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون ) أي إذا جاء أمر اللّه بالعذاب قضي بالحق فأُظهر الحق وأُزهق الباطل ، وخسر عند ذلك المتمسكون بالباطل في دنياهم بالهلاك وفي آخرتهم بالعذاب الدائم.

حصيلة البحث
    وأنت أيها القارىَ الكريم إذا أمعنت في هذه الآيات وما تشابهها في الهدف والمفاد تقف على أنّ هذه الآيات لا تهدف إلى ما يرميه الخصم المعاند الذي يكن للاِسلام ونبيه حقداً وعداوة ، ويمهد الطريق للغزو الفكري وزعزعة القلوب عما اعتقدت به.
    فإنّ هذه الآيات تهدف إلى حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق القرآنية وهي أن للاِتيان بالمعجزة قوانين وضوابط ، وانّه يتوقف على توفر شرائط أشرنا إليها في مستهل البحث الحاضر ، فلو فقدت واحدة من هذه لما صح للنبي القيام


(173)
بالاِعجاز والاِتيان بمقترحات القوم ، وليس في الآيات أي إشعار بأنّ النبي كان يظهر العجز عن القيام بالاِعجاز والاِتيان بالآية أو يحيل الاَمر إلى اللّه سبحانه بمعنى أنّه لم يوَت له أيّة معجزة سوى القرآن.
    كل ذلك دعايات وسفاسف ألصقها الكتّاب المسيحيون ، ومن يقتفي أثرهم في الاَهداف والغايات بمفاد الآيات ومعانيها ، والآيات تنادي خلاف ما ادّعوا.
    والعجب أنّ بعض الكتّاب قد استدل على مدّعاه ببعض الآيات التي لا تمس ما نحن فيه أصلاً مثل قوله سبحانه : ( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ). (1)
    فالآية تهدف إلى أنّ العلم بوقت قيام القيامة يختص به سبحانه ولم يطّلع عليه أحد سواه ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ) (2) ومثل ذلك قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ رَأَهُ بِالاَُفُقِ الْمُبينِ * وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنينٍ * وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ). (3)
    فالآية تهدف إلى أنّ النبي ليس بضنين على الوحي ، بأن يكتم بعضه ويبيّ ـ ن بعضه ، فالمراد من الغيب هو الوحي ، فلا صلة للآية بالاِعجاز ، كل ذلك يعرب عن أنّ الكاتب كان يخبط خبط عشواء فيأتي في مقام الاستدلال بشيء لا مساس له بالموضوع أبداً.
    1 ـ الملك : 25 ـ 26.
    2 ـ لقمان : 34.
    3 ـ التكوير : 23 ـ 25.


(174)

(175)
4
النبي الشفيع
في القرآن الكريم


(176)
في هذا الفصل
    1. الشفاعة وكلمات علماء الاِسلام ، وهي أربع وثلاثون كلمة.
    2. الآيات الواردة حول الشفاعة ، وهي على سبعة أصناف :
    أ. الآيات النافية للشفاعة.
    ب. ما يفنّد عقيدة اليهود فيها.
    ج. ما ينفي شمول الشفاعة للكفّار.
    د. ما ينفي صلاحية الاَصنام للشفاعة.
    هـ. ما يعد الشفاعة حقاً مختصاً به سبحانه.
    و. ما يثبت الشفاعة لغيره سبحانه في شرائط خاصة.
    ز. ما يسمي أسماء من تقبل شفاعتهم.
    3. الشفاعة المرفوضة والشفاعة المقبولة.
    4. آيات أُخرى في الشفاعة.
    5. حقيقة الشفاعة وأقسامها الثلاثة : التكوينية ، والقيادية ، والمصطلحة.
    6. لماذا شرِّعت الشفاعة ، وما هي مبرراتها؟
    7. ما هو أثر الشفاعة ، أهو إسقاط العقاب أو زيادة الثواب؟
    8. إشكالات مثارة حول الشفاعة وهي عشرة.
    9. الشفاعة في الاَدب العربي.
    10. الشفاعة في الاَحاديث الاِسلامية.


(177)
1
الشفاعة وعلماء الاِسلام
الشفاعة أصل من أُصول الاِسلام
    أجمع العلماء على أنّ النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) أحد الشفعاء يوم القيامة مستدلين على ذلك بقوله سبحانه : ( وَلَسَوفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ) . (1).
    وبقوله سبحانه : ( عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ). (2)
    وفسّ ـ رت الآيتان بالشفاعة ، فالمقام المحمود هو مقام الشفاعة ، والذي أُعطي للنبي هو حق الشفاعة الذي يرضيه.
    ولما كانت الاِحاطة بمفاد الآيتين تتوقف على البحث عن : معنى الشفاعة وأدلّتها ، وحدودها ، والتعرّف على الشفعاء ، ناسب أن نبحث عن الشفاعة بالاِسهاب ـ وإن كان الهدف الاَسمى هو التعرّف على إحدى صفات النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وهو كونه شفيعاً يوم القيامة ـ فنقول :
    اتفقت الاَُمّة الاِسلامية على أنّ الشفاعة أصل من أُصول الاِسلام نطق به الكتاب الكريم ، وصرّحت به السنّة النبوية والاَحاديث عن العترة الطاهرة.
    ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين ، وان اختلفوا في معناها وبعض
    1 ـ الضحى : 5.
    2 ـ الاِسراء : 79.


(178)
خصوصياتها. فذهب الاِمامية والاَشاعرة إلى أنّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته ، وذهبت المعتزلة إلى خلاف ذلك قائلين : بأنّ شفاعة رسول اللّه للمطيعين ، دون العاصين ، وأنّه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين. (1)
    وإلى ذلك يرجع أيضاً اختلافهم في معنى الشفاعة ، هل هي بمعنى طلب زيادة المنافع للموَمنين المستحقين للثواب كما ذهبت إليه الوعيدية؟ أو إسقاط عقاب الفساق من الاَُمّة كما ذهب إليه غيرهم؟ (2) فانّ مآل النزاعين أمر واحد ، فتارة تطرح المسألة بلحاظ المشفوع له ، فيقال : هل هي للمطيعين أو الخاطئين؟ وأُخرى بلحاظ نفس معنى الشفاعة ، هل هو طلب زيادة المنافع أو إسقاط العقاب؟
    وعلى كل تقدير ، فالشفاعة بإجمالها موضع اتفاق بين الاَُمّة الاِسلامية ، ولا بأس أن نذكر بعض نصوص علماء الاِسلام في هذا البحث حتى يكون القارىَ على بصيرة من الاَمر ، فنقول :
    1. لقد أشار أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي السمرقندي المتوفّى عام 333 هـ في تفسيره ، إلى الشفاعة المقبولة ، واستدل لها بآية : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى ) (3) وقد أورد قبلها قوله سبحانه : ( وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ ). (4)
    وقال ما حاصله : إنّ الآية الاَُولى وإن كانت تنفي الشفاعة ، ولكن هنا شفاعة مقبولة في الاِسلام وهي التي تشير إليها هذه الآية. (5)
    1 ـ أوائل المقالات : 14 ـ 15.
    2 ـ كشف المراد : 262.
    3 ـ الاَنبياء : 28.
    4 ـ البقرة : 48.
    5 ـ تفسير الماتريدي المعروف بتأويلات أهل السنّة : 148.


(179)
    2. قال تاج الاِسلام أبو بكر الكلابادي ( المتوفّى عام 380 هـ ) : أجمعوا على أنّ الاِقرار بجملة ما ذكر اللّه سبحانه وجاءت به الروايات عن النبي في الشفاعة واجب لقوله تعالى : ( وَلَسَوفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ) (1) ولقوله : ( عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) (2) وقوله : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى ). (3)
    وقال النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) : « شفاعتي لاَهل الكبائر من أُمّتي ». (4)
    3. قال المفيد : اتفقت الاِمامية على أنّ رسول اللّه يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته ، وأنّ أمير الموَمنين يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته ، وأنّ أئمّة آل محمد يشفعون كذلك ، وينجي اللّهُ بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين ، ووافقهم على شفاعة الرسول ، المرجئة ، سوى ابن شبيب وجماعة من أصحاب الحديث ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك ، وزعمت أنّ شفاعة رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) للمطيعين دون العاصين ، وانّه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين. (5)
    وقال في موضع آخر : إنّ رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) يشفع يوم القيامة في مذنبي أُمّته من الشيعة خاصة فيشفّعه اللّه عزّ وجلّ ، ويشفع أمير الموَمنين في عصاة شيعته فيشفّعه اللّه عزّ وجلّ ، وتشفع الاَئمّة في مثل ما ذكرناه من شيعتهم فيشفّعهم اللّه ، ويشفع الموَمن البر لصديقه الموَمن المذنب فتنفعه شفاعته ويشفّعه اللّه ، وعلى هذا القول إجماع الاِمامية ـ إلاّ من شذ منهم ـ وقد نطق به القرآن ، وتظاهرت به الاَخبار قال اللّه تعالى في الكفار عند إخباره عن حسراتهم وعلى الفائت لهم ممّا حصل لاَهل
    1 ـ الضحى : 5.
    2 ـ الاِسراء : 79.
    3 ـ الاَنبياء : 28.
    4 ـ التعرف لمذهب أهل التصوف : 54 ـ 55 ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود.
    5 ـ أوائل المقالات : 15.


(180)
الاِيمان : ( فما لنا مِن شافعين * ولا صَديقٍ حَمِيم ) (1) وقال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع ، ويشفع علي ( عليه السلام ) فيشفّع ، وأنّ أدنى الموَمنين شفاعة يشفع في أربعين من إخوانه ». (2)
    4. وقال الشيخ الطوسي : حقيقة الشفاعة عندنا أن يكون في إسقاط المضار دون زيادة المنافع ، والموَمنون عندنا يشفع لهم النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فيشفّعه اللّه تعالى ويسقط بها العقاب عن المستحقين من أهل الصلاة لما روي من قوله ( عليه السلام ) : « ادّخرت شفاعتي لاَهل الكبائر من أُمّتي » وإنّما قلنا لا تكون في زيادة المنافع ، لاَنّها لو استعملت في ذلك ، لكان أحدنا شافعاً في النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) إذا سأل اللّه أن يزيده في كرامته ، وذلك خلاف الاِجماع ، فعلم بذلك أنّ الشفاعة مختصة بما قلناه ، والشفاعة ثبتت عندنا للنبي وكثير من أصحابه ولجميع الاَئمّة المعصومين وكثير من الموَمنين الصالحين. (3)
    5. يقول القاضي عياض : مذهب أهل السنّة هو جواز الشفاعة عقلاً ، ووجوبها سمعاً ، بصريح الآيات ، وبخبر الصادق ، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي الموَمنين ، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنّة عليها ، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها ، وتعلّقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار ، واحتجوا بقوله تعالى : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) وأمثاله ، وهي في الكفّار ، وأمّا تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات ، فباطل ، وألفاظ الاَحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم ، وإخراج من استوجب النار. (4)
    1 ـ الشعراء : 100 ـ 101.
    2 ـ أوائل المقالات : 52 ـ 53.
    3 ـ التبيان : 1/213 ـ 214.
    4 ـ بحار الاَنوار : 8/62 ، وشرح صحيح مسلم : 2/58.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس