مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 231 ـ 240
(231)
ورابطة الاِمامة والقيادة الحاكمة في الحياة الدنيوية ، فإنّ صريح الآيات هو أنّ كل أُناس يُدّعى بإمامتهم فالقيادة الموجودة في هذه الحياة يمتد وجودها إلى الحياة الاَُخروية ، فمن كان قائداً في هذا الظرف فهو قائد في الحياة الاَُخروية ، قال سبحانه : ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) (1) فهذه الآية تكشف عن أنّ القيادة سيمتد وجودها وينجر من هذه الحياة إلى الحياة الاَُخرى ، ويدل على ذلك بوضوح قوله سبحانه في حق فرعون : ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيامَةِ فَأَورَدَهُمُ النّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمورُودُ ) . (2)
    وهذه الآية تدل ـ بوضوح وصراحة ـ على امتداد وجود القيادة من هذه الحياة إلى الحياة الاَُخروية ، فالاِمام الحق يقود أُمّته إلى الجنة ، والاِمام الباطل يقدم قومه ويوردهم النار ، وعلى ذلك فكل إمام سواء كان حقّاً أو باطلاً شفيع يسوق المشفوع له إلى الغاية التي يتوخّاها ، ولا يختص ظرف تلك الشفاعة بالحياة الدنيوية.
    ولكن الاِجابة عن هذا السوَال واضحة ، فإنّ القول بأنّ حقيقة التجسّم امتداد لنفس العمل الدنيوي إلى الحياة الاَُخروية غفلة عن حقيقة التجسّم الذي كشف عنه القرآن في بعض آياته.
    فإنّ التجسّم الذي يعترف به القرآن هو عبارة عن ظهور نفس العمل الدنيوي بالوجود المناسب للعالم الاَُخروي ، فالقيادة في الحياة الاَُخروية ليست امتداداً للقيادة الحاكمة في الحياة الدنيوية بل هو ظهور تلك القيادة بالوجود المناسب للعالم الاَُخروي ، والفرق بين الوجودين كالفرق بين الذهب ومعدنه ، فليس هناك ذهبان بل هناك ذهب واحد ، يظهر تارة بوجود معدني مع ما يرافقه
    1 ـ الاِسراء : 71.
    2 ـ هود : 98.


(232)
من الشوائب والاَغيار ، وأُخرى بوجوده المصفّى ، والذهب المصبوب المصفّى من تلك الزوائد والشوائب ، نفس الذهب في حالته الاَُوّلية.
    ويدلّ على ما ذكرناه ـ من أنّ هنا شيئاً واحداً يظهر بوجودين ـ الآيات الواردة حول مسألة التجسم قال سبحانه : ( وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (1) وقال سبحانه : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ) (2) وصريح الآيتين هو أنّ الحاضر هو نفس العمل ، كما أنّ المحضر نفس ما عملته النفس لا شيء آخر مغاير للوجود الدنيوي.
    ويدل بوضوح على ذلك قوله سبحانه في حق مكتنزي الذهب والفضة : ( يَوْمَ يُحْمى عَلَيها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لاََنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) (3) فالمحمي الظاهر في شكل النار هو نفس ما اكتنز من الذهب والفضة كما هو صريح قوله : ( هذا ما كنزتم ) ، وقوله : ( فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) لا شيئاً آخر ، ولا امتداداً لذلك الوجود.
    وعلى ذلك فالقيادة الاَُخروية والشفاعة التي تنتزع من تلك القيادة صورة أُخروية لنفس القيادة والشفاعة الدنيوية ، وحقيقة عينية لها ، فإنّ اللّه سبحانه يوجد تلك القيادة بالوجود المناسب لهذا الظرف ، وعلى ذلك فظرف الشفاعة القيادية وموضع تكونها هو الحياة الدنيوية ، وما يظهر من القيادة يوم القيامة هو ظهور تلك الرابطة لا شيء آخر ، وعلى ذلك فلا يناسب تفسير آيات الشفاعة أو بعضها بمسألة تجسّم العمل وتجسّم الروابط والقيادات الموجودة في الحياة الدنيوية للبشر ، فسوق فرعون قومه يوم القيامة إلى النار هو تجسم للقيادة التي اتخذها فرعون لنفسه
في هذه الدنيا وتبعتها أُمّته المسكينة ، فهذه القيادة الدنيوية تتمثل في الآخرة بالقيادة إلى النار.
    1 ـ الكهف : 49.
    2 ـ آل عمران : 30.
    3 ـ التوبة : 35.


(233)
3. الشفاعة المصطلحة
    وحقيقة هذه الشفاعة لا تعني إلاّ أن تصل رحمته سبحانه ومغفرته وفيضه إلى عباده عن طريق أوليائه وصفوة عباده ، وليس هذا بأمر غريب فكما أنّ الهداية الاِلهية التي هي من فيوضه سبحانه ، تصل إلى عباده في هذه الدنيا من طريق أنبيائه وكتبه ، فهكذا تصل مغفرته سبحانه وغفرانه إلى المذنبين والعصاة يوم القيامة من عباده عن ذلك الطريق.
    وإن شئت قلت : إنّ إرادته الحكيمة جرت في صفحة الوجود أن يتحقق كل شيء من طريق الاَسباب الخاصة ، والعلل المعينة فكما أنّ رحمته التي وسعت كل شيء تصل إلى عباده في الحياة الدنيوية ، عن طرق خاصة وعلل طبيعية يلمسها كل من فتح عينه على الكون ، فكذلك رحمته المعنوية ومغفرته الوسيعة تصل في الحياة الاَُخروية إلى عباده عن طريق علل وأسباب خاصة ومن تلك الاَسباب ، أولياوَه وصفوة خلقه ، ودعاوَهم وطلباتهم.
    وما ذلك إلاّ لاَنّ اللّه سبحانه قد جعل لكل شيء سبباً وقضى أن لا يصدر المسبب إلاّ بتوسط أسبابه ، فدار الوجود وصفحة الكون مدار الاَسباب والمسببات والعلل والمعلولات ، وقد جرت عليه مشيئته وإرادته.
    أضف إلى ذلك أنّ وصول فيضه عن طريق أوليائه إلى عباده ، تكريم للاَولياء ، وإظهار لمقامهم ونوع مثوبة لهم بالنسبة إلى طاعتهم وتضحياتهم ، في طريق الحق ، وإبلاغ رسالاته وأوامره.
    ولا بعد في أنّ يصل غفرانه سبحانه إلى عباده يوم القيامة عن طريق خيرة


(234)
عباده فإنّ اللّه سبحانه قد جعل دعاءهم في الحياة الدنيوية سبباً ، ونص بذلك في بعض آياته فنرى أنّ أبناء يعقوب لما عادوا خاضعين ، رجعوا إلى أبيهم وقالوا له : ( يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئينَ ) (1) فأجابهم يعقوب بقوله : ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيمُ ). (2)
    وليس يعقوب وحيداً في هذا الباب بل النبي الاَكرم أحد من يستجاب دعاوَه في حق العصاة قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَلَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً ). (3)
    وهذه الآيات ونظائرها مما لم نذكرها مثل قوله : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (4) تدل على أنّ مغفرته سبحانه قد تصل إلى عباده بتوسيط واسطة كالاَنبياء ، وقد تصل بلا توسيط واسطة ، كما يفصح عنه سبحانه بقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) (5) ، وقوله : ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (6) إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن أنّ توبة العبد تجلب المغفرة بلا واسطة أحد وقد تصل بتوسيط واسطة هي من أعز عباده وأفضل خليقته وبريته.
    وتتضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق وبخاصة دعاء الصالحين من الموَثرات الواقعة في سلسلة نظام العلة والمعلول ، ولا تنحصر العلة في العلل الواقعة في إطار الحس ، فإنّ في الكون موَثرات خارجة عن إحساسنا
    1 ـ يوسف : 97.
    2 ـ يوسف : 97.
    3 ـ النساء : 64.
    4 ـ التوبة : 103.
    5 ـ التحريم : 8.
    6 ـ هود : 90.


(235)
وحواسنا بل قد تكون بعيدة حتى عن تفكيرنا ، يقول سبحانه : ( وَالنّازِعاتِ غَرْقاً * وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً * وَالسّابِحاتِ سَبْحاً * فَالسّابِقاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ). (1)
    فما المراد من ( المدبرات أمراً ) ؟ أهي مختصة بالمدبرات الطبيعية المادية ، أو المراد هو الاَعم منها؟ فقد روي عن أمير الموَمنين تفسيرها بالملائكة الاَقوياء ، الذين عهد اللّه إليهم تدبير الكون والحياة بإذنه سبحانه ، فكما أنّ هذه المدبرات يجب الاِيمان بها وان لم تعلم كيفية تدبيرها وحقيقة تأثيرها ، فكذلك الدعاء يجب الاِيمان بتأثيره في جلب المغفرة ، ودفع العذاب وان لم تعلم كيفية تأثيره.
    ويشير إلى ذلك ما روي عن النبي الاَكرم ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) حيث سئل عن الاَحراز التي يتداولها سواد الناس يقصدون بها الاستشفاء ، وهل أنّها تستطيع أن تغير القدر أو لا؟ فأجاب ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) : « هي من قدر اللّه ». (2) فأخبر بهذا عن أنّ الدعاء أيضاً جزء من القدر الاِلهي ، فكما قدر أن يشفى المريض بسبب الداوء كذلك قدر أن يشفى بالدعاء.
    ثم إنّ العلاّمة الطباطبائي رضوان اللّه عليه قد أوضح كيفية تأثير الشفاعة في جلب الغفران ودفع العذاب بقوله : « إنّ الشفيع إنّما يحكّم بعض العوامل المربوطة بالمورد ، الموَثرة في رفع العقاب مثلاً من صفات المشفوع عنده ( أي اللّه سبحانه ) على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم وترتب العقاب على مخالفته ( إلى أن قال : ) ومن هنا يظهر أنّ الشفاعة من مصاديق المسببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الاَوّل ومسبّبه.
    1 ـ النازعات : 1 ـ 5.
    2 ـ التاج الجامع للاَُصول : 3/178 ـ 179. وروى الصدوق عن الاِمام الصادق ( عليه السلام ) عندما سئل عن الرقى : أتدفع من القدر شيئاً؟ فقال : « هي من القدر ». راجع توحيد الصدوق : 389.


(236)
    وإن شئت قلت : إنّ الشفيع يستفيد من صفات اللّه العليا من الرحمة والخلق والاِحياء والرزق وغير ذلك في إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه ، فكما أنّ الشفاعة التكوينية ( التي مر ذكرها وشرحها في القسم الاَوّل من الشفاعة ) ليست إلاّ توسط العلل والاَسباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها كما يفصح عنه قوله سبحانه : ( يُدَبِّرُ الاََمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِِه ) (1) فكذلك الشفاعة المصطلحة فإنّ الآيات تثبت الشفاعة لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الاِذن والارتضاء ، فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبداً من عباده ساءت حاله بالمعصية وشملته بلية العقوبة ، وللّه الملك وهو القائل عز من قائل : ( فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) (2). (3)
    وبذلك ظهر أنّ الشفاعة المصطلحة قسم من الشفاعة التكوينية ، بمعنى تأثير دعاء النبي ومسألته في جلب الغفران بتوسيط صفاته العليا في هذا الاَمر.
    أضف إلى ذلك : انّ تأثير الشفاعة في جلب الغفران ونزول الفيض ، لا يحتاج إلى هذا التحليل أساساً ، فإنّ اللّه سبحانه هو مالك يوم الدين وله الملك وله الاَمر ، فكما أنّ له إحباط عمل الكفار والمنافقين إذ يقول سبحانه : ( وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعْلناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) (4) وقال سبحانه : ( فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) (5) فكذلك له أن يغفر من ذنوب عباده ما شاء ولمن شاء وبما شاء إذ يقول : ( إِنَّ اللّهَ
    1 ـ يونس : 3.
    2 ـ الفرقان : 70.
    3 ـ الميزان : 1/161 ـ 163 بتلخيص.
    4 ـ الفرقان : 23.
    5 ـ محمد : 10.


(237)
لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) (1) ، والآية واردة في غير مورد الاِيمان والتوبة فإنّ الاِيمان والتوبة ، يغفر بهما الشرك أيضاً.
    فكما أنّ له تكثير القليل من العمل قال سبحانه : ( أُولئِكَ يُوَْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَينِ ) (2) وقال سبحانه : ( منْ جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (3) كذلك له أن يجعل المعدوم من العمل موجوداً قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِىٍَ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ). (4)
    وهذه الآية تصرح بأنّ ثواب العمل يصل إلى ذرية الاِنسان أيضاً وإن لم تفعل هي بنفسها.
    ولا يتوهم من هذه الآيات أنّ المغفرة والعقاب لا يخضعان لقانون بل اللّه يفعل ما يفعل بملاكات ومصالح مقتضية خفية علينا ، ولتكن من ذلك شفاعة أوليائه وتوسط صفوة عباده في هذا المورد.

مبررات الشفاعة
    إنّ هناك مبررات لجعل الشفاعة من أسباب المغفرة ورفع العذاب نذكر بعضها :

1. ابتلاء الناس بالذنب والتقصير
    ربما يقال إذا كان المنقذ الوحيد للاِنسان يوم القيامة هو عمله الصالح كما
    1 ـ النساء : 48 و 116.
    2 ـ القصص : 54.
    3 ـ الاَنعام : 160.
    4 ـ الطور : 21.


(238)
هو صريح الآيات ، فلماذا جعلت الشفاعة وسيلة للمغفرة ، وسبباً لرفع العذاب أو ليس اللّه يقول : ( وَأَمّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى ) (1) وقال سبحانه : ( فَأَمّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحينَ ) (2) وقال سبحانه : ( وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) (3) وعلى ذلك فلماذا أُدخلت الشفاعة في سلسلة العلل لجلب المغفرة؟
    ولكن الاِجابة على هذا السوَال واضحة فإنّ الفوز بالسعادة وإن كان يعتمد على العمل أشد الاعتماد غير أنّ صريح الآيات الاَُخر هو انّ العمل بنفسه ما لم تنضم إليه رحمته الواسعة لا ينقذ الاِنسان من تبعات تقصيره ، قال سبحانه : ( وَلَوْ يُوَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيها مِنْ دابَّةٍ وَلكِنْ يُوََخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍمُسَمّىً ) (4) وقال سبحانه : ( وَلَوْ يُوَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دابَّةٍ ) (5). (6)
    1 ـ الكهف : 88.
    2 ـ القصص : 67.
    3 ـ القصص : 80.
    4 ـ النحل : 61.
    5 ـ فاطر : 45.
    6 ـ الآيتان بحكم السياق تعنيان الكفار والعصاة ، فلا تعمّان المعصومين من الناس ، فإنّ الآية المتقدمة على تلك الآية في سورة النحل تعني الذين لا يوَمنون بالآخرة ، وتقول : ( للذين لا يوَمنون بالآخرة مثل السوء وللّه المثل الاَعلى وهو العزيز الحكيم ) ( النحل : 60 ).
    كما أنّ الآية المتقدمة على الواردة في سورة فاطر تعني المستكبرين فتقول : ( استكباراً في الاَرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله فهل ينظرون إلا سنّة الاَوّلين فلن تجد لسنّة اللّه تبديلاً ولن تجد لسنة اللّه تحويلا ) ( فاطر : 43 ) ثم يقول : ( أو لم يسيروا في الاَرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان اللّه ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الاَرض انّه كان عليماً قديراً * ولو يوَاخذ اللّه الناس بما كسبوا.. ).وعلى ذلك فالمنصرف من لفظة ( الناس ) في الآيتين هو الكفار والمستكبرون.


(239)
    وقد روي عن النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) أنّه قال : « أيّها الناس انّه ليس بين اللّه وبين أحد نسب ولا أمر يوَتيه به خيراً أو يصرف عنه شراً إلاّ العمل ألا لا يدّعين مدع ولا يتمنين متمن ، والذي بعثني بالحق لا ينجي إلاّ عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت ». (1)
    ولاَجل ذلك نرى أنّ رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) يقول : « إنّه ليغان على قلبي ، وإنّي لاستغفر اللّه كل يوم مائة مرة ». (2)
    ويدل هذا الحديث على أنّ كل من كثر قربه منه سبحانه يستفيد من مغفرته وفيضه العام أكثر من غيره.

2. سعة رحمته لكل شيء
    إنّ التدّبر في الآيات القرآنية يعطي انّ رحمة اللّه سبحانه واسعة تسع كل الناس ، إلاّ من بلغ إلى حد لا يقبل التطهر ، ولا الغفران ، قال سبحانه حاكياً عن حملة العرش الذين يستغفرون للذين تابوا واتبعوا سبيله : ( رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحيمِ ). (3)
    نرى أنّ حملة العرش يدلّلون طلب غفرانه سبحانه للتائبين والتابعين لسبيله بكون رحمته واسعة وسعت كل شيء.
    كما نرى أنّه سبحانه يأمر نبيه أن يواجه الناس كلهم حتى المكذبين لرسالته
    1 ـ الشرح الحديدي لنهج البلاغة : 2/863.
    2 ـ صحيح مسلم : 8/72 ، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه ، ط محمد علي صبيح. وللعلماء في معنى الحديث توجيهات ذكرها القاضي في الشفاء في الفصل الاَوّل من الباب الاَوّل من القسم الثالث.
    3 ـ غافر : 7.


(240)
بقوله : ( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ). (1)
    ونرى في آية ثالثة يعد الذين يجتنبون الكبائر بالرحمة والمغفرة ويقول : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الاِِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ). (2) وهذه الآيات توضح مفاد ما ورد في الاَدعية الاِسلامية من قوله عليه السَّلام : « يامن سبقت رحمته غضبه ».
    كيف ونحن نرى أنّ اللّه سبحانه يعد القانط من رحمة اللّه والآيس من روحه كافراً وضالاً ويقول : ( وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوحِ اللّهِ إِلاّ الْقَومُ الْكافِرُونَ ) (3) ويقول أيضاً : ( وَمَنْ يَقْنُطْ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاّ الضّالُّونَ ) (4) ويقول سبحانه : ( قُلْيا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُالرَّحيمُ ). (5)
    فإذا عرفنا القرآن بأنّ اللّه سبحانه ذو رحمة واسعة تفيض على كل شيء ، فعند ذلك لا مانع من أن تفيض رحمته وغفرانه عن طريق أنبيائه ورسله وأوليائه فيقبل أدعيتهم ، وطلباتهم في حق عباده بدافع انّه سبحانه ذو رحمة واسعة ، كما لا مانع أن يعتقد العصاة في شرائط خاصة بغفرانه سبحانه من طرق كثيرة لاَجل أنّه عد القانط ضالاً والآيس كافراً.
    وعلى الجملة فكما يجب على المربي الديني أن يذكّر عباد اللّه بعقوبته وعذابه وما أعدّ للعصاة والكفار من سلاسل ونيران ، يجب عليه أيضاً أن يذكّرهم برحمته الواسعة ومغفرته العامة التي تشمل كل شيء إلاّ من بلغ من الخبث والرداءة درجة
    1 ـ الاَنعام : 147.
    2 ـ النجم : 32.
    3 ـ يوسف : 87.
    4 ـ الحجر : 56.
    5 ـ الزمر : 53.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس