مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 51 ـ 60
(51)
العليا من التقوى ، غير انّ هناك نظرية أُخرى في حقيقتها ، لا تنافي النظرية الأُولى ، بل ربّما تعد من علل تحقق الدرجة العليا من التقوى التي عرفنا العصمة بها وموجب تكونها في النفس ، وحقيقة هذه النظرية عبارة عن « وجود العلم القطعي اليقيني بعواقب المعاصي والآثام » علماً قطعياً لا يغلب ولا يدخله شك ، ولا يعتريه ريب ، وهو أن يبلغ علم الإنسان درجة يلمس في هذه النشأة لوازم الأعمال وآثارها في النشأة الأُخرى وتبعاتها فيها ، ويصير على حد يدرك بل يرى درجات أهل الجنة ودركات أهل النار ، وهذا العلم القطعي هو الذي يزيل الحجب بين الإنسان وتوابع الأعمال ، ويصير الإنسان مصداقاً لقوله سبحانه : ( كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم ) (1) ، وصاحب هذا العلم هو الذي يصفه الإمام علي ( عليه السلام ) بقوله : « فهم والجنة كمن قد رآها ، فهم فيها منعمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون ». (2)
    فإذا بلغ العلم إلى هذه الدرجة من الكشف يصد الإنسان عن اجتراء المعاصي واقتراف المآثم بل لا يجول حولها فكره.
    ولتوضيح تأثير هذا العلم في صيرورة الإنسان معصوماً من اقتراف الذنب نأتي بمثال :
    إنّ الإنسان إذا وقف على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها قتل الإنسان إذا مسها من دون حاجز أو عائق بحيث يكون المس والموت مقترنين ، أحجمت نفسه عن مس تلك الأسلاك والاقتراب منها دون عائق.
    هذا نظير الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم ، فإنّه إذا وقف على ماء اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص أو السل ، لم يقدم على شربه والاغتسال منه ومباشرته مهما اشتدت حاجته إلى ذلك لعلمه بما يجر عليه الشرب
    1 ـ التكاثر : 5 ـ 6.
    2 ـ نهج البلاغة : 2 : الخطبة 188 ، ص 187 ، طبعة عبده.


(52)
والاغتسال بذلك الماء الموبوء ، فإذا وقف الإنسان الكامل على ما وراء هذه النشأة من نتائج الأعمال وعواقب الفعال ورأى بالعيون البرزخية تبدل الكنوز المكتنزة من الذهب والفضة إلى النار المحماة التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ، امتنع عن حبس الأموال والإحجام عن إنفاقها في سبيل اللّه.
    قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَلِيم * يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ). (1)
    إنّ ظاهر قوله سبحانه : ( هذا ما كنزتم لأنفسكم ) هو انّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ، ليست إلاّ نفس الذهب والفضة ، لكن بوجودهما الأُخرويّين ، وأنّ للذهب والفضة وجودين أو ظهورين في النشأتين فهذه الأجسام الفلزية ، تتجلّى في النشأة الدنيوية في صورة الذهب والفضة ، وفي النشأة الأُخروية في صورة النيران المحماة.
    فالإنسان العادي اللامس لهذه الفلزات المكنوزة وان كان لا يحس فيها الحرارة ولا يرى فيها النار ولا لهيبها ، إلاّ أنّ ذلك لأجل أنّه يفقد حين المس ، الحس المناسب لدرك نيران النشأة الآخرة وحرارتها ، فلو فرض إنسان كامل يمتلك هذا الحس إلى جانب بقية حواسه العادية المتعارفة ويدرك بنحو خاص الوجه الآخر لهذه الفلزات ، وهو نيرانها وحرارتها ، يجتنبها ، كاجتنابه النيران الدنيوية ، ولا يقدم على كنزها ، وتكديسها.
    وهذا البيان يفيد انّ للعلم مرحلة قويّة راسخة تصد الإنسان عن الوقوع في المعاصي والآثام ولا يكون مغلوباً للشهوات والغرائز.
    قال جمال الدين مقداد بن عبد اللّه الأسدي السيوري الحلي في كتابه القيم
    1 ـ التوبة : 34 ـ 35.

(53)
« اللوامع الإلهية » : « ولبعضهم كلام حسن جامع هنا قالوا : العصمة ملكة نفسانية يمنع المتصف بها من الفجور مع قدرته عليه ، وتتوقف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات ، لأنّ العفّة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء ، والطاعة من السعادة ، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس فتصير ملكة ». (1)
    يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد : إنّ القوة المسمّاة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة ، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك ، لتسرب إليها التخلّف ، ولتخبط الإنسان على أثره أحياناً ، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة ، التي تقبل الاكتساب والتعلم ، وقد أشار اللّه في خطابه الذي خص به نبيه بقوله : ( وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) (2) وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه ، إذ لا تذوق لنا في هذا المجال. (3)
    وهو قدّس سره يشير إلى كيفية خاصة من العلم والشعور الذي أوضحناه بما ورد حول الكنز وآثاره.

3. الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجماله
    إنّ هاهنا نظرية ثالثة في تبيين حقيقة العصمة يرجع لبها إلى أنّ استشعار العبد بعظمة الخالق وحبه وتفانيه في معرفته وعشقه له ، يصده عن سلوك ما يخالف رضاه سبحانه.
    1 ـ اللوامع الإلهية : 170.
    2 ـ النساء : 113.
    3 ـ الميزان : 5/81.


(54)
    وتلك النظرية مثل النظرية الثانية لا تخالف النظرية الأُولى التي فسرناها من أنّ العصمة هي الدرجة العليا من التقوى ، بل يكون الاستشعار والتفاني دون الحق ، والعشق لجماله وكماله ، أحد العوامل لحصول تلك المرتبة من التقوى ، وهذا النحو من الاستشعار لا يحصل إلاّ للكاملين في المعرفة الإلهية البالغين أعلى قممها.
    إذا عرف الإنسان خالقه كمال المعرفة الميسورة ، وتعرف على معدن الكمال المطلق وجماله وجلاله ، وجد في نفسه انجذاباً نحو الحق ، وتعلّقاً خاصاً به بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً ، فهذا الكمال المطلق هو الذي إذا تعرف عليه الإنسان العارف ، يؤجج في نفسه نيران الشوق والمحبة ، ويدفعه إلى أن لا يبتغي سواه ، ولا يطلب سوى إطاعة أمره وامتثال نهيه ، ويصبح كل ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه ، مقبوحاً في نظره ، أشد القبح. وعندئذ يصبح الإنسان مصوناً عن المخالفة ، بعيداً عن المعصية بحيث لا يؤثر على رضاه شيئاً ، وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بقوله : « ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك إنّما وجدتك أهلاً للعبادة ». (1)
    هذه النظريات الثلاث أو النظرية الواحدة المختلفة في البيان والتقرير تعرب عن أنّ العصمة قوة في النفس تعصم الإنسان عن الوقوع في مخالفة الرب سبحانه وتعالى ، وليست العصمة أمراً خارجاً عن ذات الإنسان الكامل وهويته الخارجية.
    نعم هذه التحاليل الثلاثة لحقيقة العصمة ، كلّها راجعة إلى العصمة عن المعصية والمصونية عن التمرد كما هو واضح لمن أعطى التأمل لها ، وأمّا العصمة في مقام تلقي الوحي والتحفظ عليه وإبلاغه إلى الناس ، أو العصمة عن الخطأ في
    1 ـ حديث معروف.

(55)
الحياة والأُمور الفردية أو الاجتماعية فلا بد أن توجه بوجوه غير هذه الثلاثة كما سيوافيك بيانها عند البحث عن المقام الثاني ، أعني : العصمة عن الخطأ والاشتباه ، والمهم هو البحث عن المقام الأوّل ، ولذلك قدّمنا الكلام فيه.
    نعم هناك عدة روايات تصرح بأنّ ، هناك « روحاً » تعصم الأنبياء والرسل عن الوقوع في المهالك والخطايا ، وإليك بيانها :

الروح التي تسدد الأولياء
    روى أبو بصير قال : سألت أبا عبد اللّه عن قول اللّه تبارك وتعالى : ( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلاَ الإِيمانُ ) (1) قال : « خلق من خلق اللّه عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللّه يخبره ويسدده وهو مع الأئمّة من بعده ». (2)
    وهذه الرواية مع أنّ ظاهرها لا ينطبق على الآية ، لأنّ الوحي يتعلّق بالمفاهيم والألفاظ لا بالجواهر والأجسام ، فالملك الذي هو أعظم من جبرئيل وميكائيل لا يمكن أن يتعلّق به الوحي ، ويكون هو الموحى به ، وإنّما يتعلق به الإرسال والبعث ونحو ذلك ، لا صلة لها بباب المعاصي بل هي راجعة إلى التسديد في تلقي الوحي وإبلاغه إلى الناس ، وحفظهم عن الخطأ على وجه الإطلاق.
    على أنّ هناك روايات تشعر بأنّ هذه الروح التي تؤيد الأنبياء غير خارجة عن ذواتهم ، وهذا جابر الجعفي يروي عن الإمام الصادق في تفسير قوله سبحانه : ( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصحابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصحابُ
    1 ـ الشورى : 52.
    2 ـ الكافي : 1/273 ، باب « الروح التي يسدّد بها الأئمّة » الحديث 1 و2.


(56)
الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) : « فالسابقون هم رسل اللّه ، وخاصة اللّه من خلقه جعل فيهم خمسة أرواح أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء ، وأيّدهم بروح الإيمان فبه خافوا اللّه عزّ وجلّ ، وأيدهم بروح القوة فبه قدروا على طاعة اللّه ، وأيّدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة اللّه عزّ وجلّ وكرهوا معصيته ، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون ». (2)
    ولا يخفى أنّ الأرواح الأربعة غير خارجة عن ذواتهم ، ولا يبعد أن تكون الخامسة وهي روح القدس غير خارجة عن ذواتهم ويكون المراد كمال نفوسهم إلى حد يعرفون الأشياء على ما هي عليها.
    قال الشيخ صالح المازندراني في تفسير هذه الأرواح الخمسة : جعل اللّه تعالى بالحكمة البالغة والمصلحة الكاملة في الرسل والخاصة ، خمسة أرواح لحفظهم من الخطاء وتكميلهم بالعلم والعمل ليكون قولهم صدقاً ، وبرهاناً ، والاقتداء بهم رشداً وإيقاناً كيلا يكون لمن سواهم على اللّه حجة يوم القيامة ، ولعل المراد بالأرواح هنا النفوس. (3)
    وعلى أي تقدير فهذه الروايات التي تشهد بتسديد الأنبياء بها إمّا راجعة إلى تسديدهم في مقام تلقي الوحي ، أو راجعة إلى تسديدهم عن الخطاء في الأحكام والموضوعات والكل خارج عن إطار البحث ، وإنّما الكلام في صيانتهم عن المعاصي.
    1 ـ الواقعة : 6 ـ 11.
    2 ـ الكافي : 1/261 باب فيه « ذكر الأرواح التي في الأئمّة » الحديث 1 و 2 و 3.
    3 ـ هامش أُصول الكافي : 136 ، الطبعة القديمة.


(57)
هل العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي؟
    قد وقفت على حقيقة « العصمة » والعوامل التي توجب صيانة الإنسان عن الوقوع في حبال المعصية ، ومهالك التمرد والطغيان ، غير انّ هاهنا سؤالاً هاماً يجب الإجابة عنه وهو : انّ العصمة سواء أفسّرت بكونها هي الدرجة العليا من التقوى ، أو بكونها العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي ، أم فسّرت بالاستشعار بعظمة الرب وجماله وجلاله ، وعلى أي تقدير فهو كمال نفساني له أثره الخاص ، وعندئذ يسأل عن أنّ هذا الكمال هل هو موهوب من اللّه لعباده المخلصين ، أو أمر حاصل للشخص بالاكتساب؟ فالظاهر من كلمات المتكلمين أنّها موهبة من مواهب اللّه سبحانه يتفضّّل بها على من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة وقابليات مصحّحة لإفاضتها عليهم.
    قال الشيخ المفيد : العصمة تفضل من اللّه على من علم انّه يتمسك بعصمته. (1)
    وهذه العبارة تشعر بأنّ إفاضة العصمة من اللّه سبحانه أمر خارج عن إطار الاختيار ، غير أنّ اعمالها والاستفادة منها يرجع إلى العبد وداخل في إطار إرادته ، فله أن يتمسك بها فيبقى معصوماً من المعصية ، كما له أن لا يتمسك بتلك العصمة.
    وقال أيضاً : والعصمة من اللّه تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان مما يكره إذا أتى بالطاعة. (2)
    وقال المرتضى في أماليه : العصمة : لطف اللّه الذي يفعله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع عن فعل قبيح.
    1 ـ شرح عقائد الصدوق : 61.
    2 ـ أوائل المقالات : 11.


(58)
    ونقل العلاّمة الحلّي عن بعض المتكلمين بأنّه فسر العصمة بالأمر الذي يفعله اللّه بالعبد من الألطاف المقربة إلى الطاعات التي يعلم معها أنّه لا يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي ذلك إلى الإلجاء.
    ونقل عن بعضهم : العصمة لطف يفعله اللّه تعالى بصاحبها لا يكون معه داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية.
    ثم فسر أسباب هذا اللطف بأُمور أربعة. (1)
    وقال جمال الدين مقداد بن عبد اللّه الشهير بالفاضل السيوري الحلي ( المتوفّى عام 826 هـ ) في كتابه القيم « اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية » :
    قال أصحابنا ومن وافقهم من العدلية : هي ( العصمة ) لطف يفعله اللّه بالمكلّفبحيث يمتنع منه وقوع المعصية لانتفاء داعيه ، ووجود صارفه مع قدرته عليها » ثم نقل عن الأشاعرة بأنّها هي القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية. (2)
    كما نقل عن بعض الحكماء أنّ المعصوم خلقه اللّه جبلة صافية ، وطينة نقية ، ومزاجاً قابلاً ، وخصّه بعقل قوي وفكر سوي ، وجعل له ألطافاً زائدة ، فهو قوي بما خصّه على فعل الواجبات واجتناب المقبحات ، والالتفات إلى ملكوت السماوات ، والإعراض عن عالم الجهات ، فتصير النفس الأمارة مأسورة مقهورة في حيز النفس العاقلة. (3)
    وقال العلاّمة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى : ( إِنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ
    1 ـ كشف المراد : 228 ، طبعة صيدا.
    2 ـ سيوافيك انّ العصمة لا تنافي القدرة ، والهدف من نقل قول الأشاعرة هو إثبات اتفاق القائلين بالعصمة ، على أنّها موهبة إلهية.
    3 ـ اللوامع الالهية : 169.


(59)
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) : إنّ اللّه تستمر إرادته أن يخصّكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقاد الباطل وأثر العمل السيّء عنكم أهل البيت وإيراد ما يزيل أثر ذلك عليكم وهي العصمة. (2)
    إلى غير ذلك من الكلمات التي تصرح بكون العصمة من مواهبه سبحانه إلى عباده المخلصين ، وفي الآيات القرآنية تلويحات وإشارات إلى ذلك مثل قوله سبحانه : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصارِ * إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَة ذِكْرَى الدّارِ * وَإِنَّهُمْ عَنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيارِ * وَاذْكُرْإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيارِ ) (3) ، وقوله سبحانه في حق بني إسرائيل والمراد أنبياؤهم ورسلهم : ( وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْم عَلَى الْعالَمِينَ * وَآتَيْناهُمْ مِنَ الآياتِ ما فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ ). (4)
    فإنّ قوله : ( إنّهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ) وقوله : ( ولقد اخترناهم على علم على العالمين ) يدل على أنّ النبوة والعصمة ، وإعطاء الآيات لأصحابها من مواهب اللّه سبحانه إلى الأنبياء ، ومن يقوم مقامهم من الأوصياء.
    فإذا كانت العصمة أمراً إلهياً وموهبة من مواهبه سبحانه ، فعندئذ ينطرح هاهنا سؤالان تجب الإجابة عنهما ، والسؤالان عبارة عن :
    1 ـ لو كانت العصمة موهبة من اللّه مفاضة منه سبحانه إلى رسله وأوصيائهم لم تعد كمالاً ومفخرة للمعصوم حتى يستحق بها التحسين والتحميد والتمجيد ، فإنّ الكمال الخارج عن الاختيار كصفاء اللؤلؤ ، لا يستحق التحسين
    1 ـ الأحزاب : 33.
    2 ـ الميزان : 16/313.
    3 ـ ص : 45 ـ 48.
    4 ـ الدخان : 32 ـ 33.


(60)
والتمجيد ، فإنّ الحمد والثناء إنّما يصحان في مقابل الفعل الاختياري ، وما هو خارج عن إطار الاختيار لا يصح أن يحمد صاحبه عليه ، إذ هو وغيره في هذا المجال سواء ، ولو أفيض ذاك الكمال على فرد آخر لكان مثله؟
    2 ـ إذا كانت العصمة تعصم الإنسان عن الوقوع في المعصية ، فالإنسان المعصوم عاجز عن ارتكاب المعاصي واقتراف المآثم ، وعندئذ لا يستحق لترك العصيان مدحاً ولا ثواباً إذ لا اختيار له؟
    والفرق بين السؤالين واضح ، إذ السؤال الأوّل يرجع إلى عد نفس إفاضة العصمة مفخرة من مفاخر المعصوم ، لأنّه إذا كانت موهبة إلهية لما صح عدها كمالاً للمعصوم ، بخلاف السؤال الثاني فإنّه يتوجه إلى أنّ العصمة تسلب القدرة عن المعصوم على ارتكاب المعاصي ، فلا يعد الترك كمالاً ولا عاملاً لاستحقاق الثواب.
    وهذان السؤالان من أهم الأسئلة في باب العصمة ، وإليك الإجابة عن كليهما.

العصمة المفاضة كمال لصاحبها
    إنّ العصمة الإلهية لا تفاض للأفراد إلاّ بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم تقتضي إفاضة تلك الموهبة إلى صاحبها ، وأمّا ما هي تلك الأرضيات والقابليات التي تقتضي إفاضتها فخارج عن موضوع البحث ، غير إنّا نقول على وجه الاجمال : إنّ تلك القابليات على قسمين : قسم خارج عن اختيار الإنسان ، وقسم واقع في إطار إرادته واختياره.
    أمّا القسم الأوّل ، فهي القابليات التي تنتقل إلى النبي من آبائه وأجداده عن طريق الوراثة ، فإنّ الأولاد كما يرثون أموال الآباء وثرواتهم ، يرثون أوصافهم
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس