مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 71 ـ 80
(71)
    وقال الفاضل القوشجي : قد جوّز الأزارقة من الخوارج الكفر بناء على تجويزهم الذنب مع قولهم بأنّ كل ذنب كفر. (1)
    وربما يتوهم تجويز الكفر على النبي لأجل التقية ، وهو باطل ، لأنّ للتقية شرائط خاصة تجوز إذا حصلت ولا تقية في هذا المورد ، وفي ذلك يقول القاضي عبد الجبار الهمداني الأسدآبادي : فإن قال : أفتجوزون على الرسول التقية في ما يؤدّيه؟ قيل له : لا يجوز ذلك عليه في ما يلزمه أن يؤدّيه ، ولو كانت مجوزة لم تعظم مرتبة النبي ، لأنّها إنّما تعظم ، لأنّه يتكفّل بأداء الرسالة ، والصبر على كل عارض دونه ـ إلى أن قال : ـ فلو هُدّد بالقتل إذا أدّى شريعته فما الحكم فيه؟ قيل له : يلزمه أن يؤدّيه ويعلم انه تعالى يصرف ذلك عنه. (2)
    وأمّا غير الكفر فتفصيل المذاهب هو انّ الشيعة اتفقت على عصمة الأنبياء عن المعصية صغيرة كانت أو كبيرة ، سهواً كانت أو عمداً قبل البعثة أو بعدها. نعم يظهر من الشيخ المفيد تجويز بعض المعاصي الصغيرة على غير عمد على الأنبياء قبل العصمة حيث قال : إنّ جميع أنبياء اللّه ( صلى اللّه عليهم ) معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها وبما يستخف فاعله من الصغائر كلها ، وأمّا ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوة ، وعلى غير عمد ، وممتنع منهم بعدها على كل حال ( ثم قال : ) وهذا مذهب جمهور الإمامية. (3)
    ويظهر ذلك من المحقق الأردبيلي في تعاليقه على شرح التجريد للفاضل القوشجي حيث إنّ المحقق الطوسي استدل على العصمة بأنّه لولاها لما حصل الوثوق بقول الأنبياء ، وأورد عليه الشارح بأنّ صدور الذنوب لا سيما الصغيرة
    1 ـ شرح التجريد : 464.
    2 ـ المغني : 15/284.
    3 ـ أوائل المقالات : 29 و 30.


(72)
سهواً لا يخل بالوثوق ، وعلّق عليه الأردبيلي بقوله : « خصوصاً قبل البعثة ». (1)
    وأمّا غير الشيعة فقد عرفت نظرية الاعتزال غير انّ الفاضل القوشجي يفصل بقوله : الجمهور على وجوب عصمتهم عما ينافي مقتضى المعجزة ، وقد جوّزه القاضي سهواً ، زعماً منه انّه لا يخل بالتصديق المقصود بالمعجزة وكذا عن تعمد الكبائر ، بعد البعثة ، وجوّزه الحشوية ، وكذا عن الصغائر المنفرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتباع ولهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضاً والمذهب عند محققي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقاً ، والصغائر غير الخسيسة عمداً لا سهواً ، وذهب إمام الحرمين من الأشاعرة وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمداً. (2)
    هذه هي الأقوال المعروفة بين المتكلمين وستعرف شذوذ الكل عن الكتاب والسنّة وحكم العقل غير القول الأوّل ، فنقول يقع الكلام في مراحل :

المرحلة الأُولى : عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة
    ذهب الأكثرون من الجمهور والشيعة أجمع إلى عصمتهم في تلك المرحلة ونسب إلى الباقلاني تجويز الخطاء في إبلاغ الرسالة سهواً ونسياناً لا عمداً وقصداً ، وقال أبو الحسن عبد الجبار المعروف بالقاضي رئيس الاعتزال في وقته ( المتوفّى سنة 415 ) : لا يجوز الكذب في ما يؤدّيه ( أي النبي ) عن اللّه تعالى ، لأنّه تعالى ، مع حكمته ، ومع أنّ غرضه بالبعثة تعريف المصالح ، لو علم أنّه يختار الكذب في ما يؤديه لم يكن ليبعثه ، لأنّ ذلك ينافي الحكمة ، ولمثل هذه العلة لا يجوز أن لا يؤدّيه ما حمله من الرسالة ، ولا أن يكتمه أو يكتم بعضه.
    1 ـ تعاليق المحقّق الأردبيلي على شرح التجريد : 464.
    2 ـ شرح التجريد للفاضل القوشجي : 664.


(73)
    إلى أن قال : إنّا لا نجوز عليه السهو والغلط في ما يؤدّيه عن اللّه تعالى لمثل العلة التي تقدم ذكرها ، لأنّه لا فرق ، في خروجه من أن يكون مؤدّياً بين أن يسهو أو يغلط أو يكتم أو يكذب ، فحال الكل يتفق في ذلك ولا يختلف.
    وإنّما نجوز أن يسهو في فعل قد بينه من قبل وأدّى ما يلزم فيه حتى لم يغادر منه شيئاً ، فإذا فعله لمصالحه لم يمتنع أن يقع فيه السهو والغلط ، ولذلك لم يشتبه على أحد الحال في أنّ الذي وقع منه من القيام في الثانية هو سهو ، وكذلك ما وقع منه في خبر ذي اليدين إلى غير ذلك. (1)
    وفي ما ذكره من تجويز السهو على النبي في الفعل الذي بين حكمه سيأتي الكلام فيه.
    وقد استدل المحققون من المتكلمين على عصمتهم في تلك المرحلة بوجوه أشار إليها المحقّق الطوسي في تجريده بقوله : ليحصل الوثوق بأفعاله وأقواله ، ويحصل الغرض من البعثة وهو متابعة المبعوث إليهم له في أوامره ونواهيه (2).
    وما ذكره من الدليلين وإن كان لا يختص بهذه المرحلة بل يعم المراحل الأُخر ، ولكنه برهان تام يعتمد عليه العقل والوجدان في مسألة عصمة الأنبياء في مجال تبليغ الرسالة.
     توضيحه :
    انّ الهدف الأسمى والغاية القصوى من بعث الأنبياء هو هداية الناس إلى التعاليم الإلهية والشرائع المقدسة ، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بإيمانهم بصدق
    1 ـ المغني : 15/281.
    2 ـ شرح التجريد للفاضل القوشجي : 463 ، وكشف المراد : 217 طبع صيدا.


(74)
المبعوثين ، وإذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه ، وإنّ كلامهم وأقوالهم كلامه وقوله سبحانه ، وهذا الإيمان والإذعان لا يحصل إلاّ بإذعان آخر وهو الإذعان بمصونيتهم عن الخطاء في المراحل الثلاث في مجال تبليغ الرسالة ، وهي المصونية في مقام أخذ الوحي ، والمصونية في مقام التحفّظ عليه ، والمصونية في مقام الإبلاغ والتبيين ، ومثل هذا لا يحصل إلاّ بمصونية النبي عن الزلل والخطاء عمده وسهوه. قال القاضي أبو الحسن عبد الجبار : إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول ـ ممّن يخالف فعله قوله ـ سكونها إلى من كان منزهاً عن ذلك ، فيجب أن لا يجوز في الأنبياء ( عليهم السلام ) إلاّ ما نقوله من أنّهم منزهون عمّا يوجب العقاب والاستخفاف والخروج من ولاية اللّه تعالى إلى عداوته.
    يبين ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر والمعاصي بالمنع والردع والتخفيف فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك ، لأنّ المتعالم أنّ المقدم على الشيء لا يقبل منه منع الغير منه للنهي والزجر ، وانّ هذه الأحوال منه لا تؤثر ... ولو إنّ واعظاً انتصب يخوف من المعاصي من يشاهده مقدماً على مثلها لاستخف به وبوعظه. (1)
    وقال في موضع آخر : إنّ الواعظ والمذكّر وان غلب على ظننا من حاله انّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة والندامة حتى عرفنا من حاله الانهماك في الشرب والفجور من قبل ، لم يؤثر وعظه عندنا كتأثير المستمر على النظافة والنزاهة في سائر أحواله. (2)
    وما ذكره أخيراً دليل وجوب العصمة حتى قبل البعثة.
    وهذا البرهان لو قرر على الوجه الكامل لكفي برهاناً في جميع مراحل
    1 ـ المغني : 15/303.
    2 ـ المصدر نفسه : 305.


(75)
العصمة التي سنبيّنها في الأبحاث الآتية.
    هذا منطق العقل ، وأمّا منطق الوحي فهو يؤكد على مصونية النبي في تبليغ الرسالة في المجالات الثلاثة الماضية ، وإليك بيان ذلك :

القرآن وعصمة النبي في مجال تلقي الوحي و ...
    هناك آيات تدل على العصمة في ذلك المجال نذكرها واحدة بعد الأُخرى :
     الآية الأُولى
    ( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ). (1)
    ( إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ). (2)
    ( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْء عَدَداً ). (3)
    إنّ دلالة الآيات هذه على مصونية الرسل والأنبياء في مجال تلقي الوحي وما يليه من التحفظ والتبليغ تتوقف على توضيح بعض مفرداته :
    1 ـ قوله : ( فلا يظهر ) من باب الافعال بمعنى الاعلام كما في قوله سبحانه : ( وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عرّف بَعْضَهُ وَأَعْرضَ عَن بَعْض ). (4)
    2 ـ لفظة ( من ) في قوله : ( من رسول ) بيانية تبين المرضي عند اللّه ،
    1 ـ الجن : 26.
    2 ـ الجن : 27.
    3 ـ الجن : 28.
    4 ـ التحريم : 3.


(76)
فالرسول هو المرتضى الذي اختاره اللّه تعالى لتعريفه على الغيب.
    3 ـ والضمير في ( انّه ) في قوله : ( انّه يسلك ) يرجع إلى اللّه ، كما أنّ ضمير الفاعل في قوله : ( يسلك ) أيضاً يرجع إليه ، وهو بمعنى : يجعل.
    4 ـ والضمير في ( يديه ومن خلفه ) يرجع إلى الرسول.
    5 ـ و ( رصداً ) هو الحارس الحافظ يطلق على الجمع والمفرد.
    6 ـ والمراد من : ( بين يديه ) أي ما بين يدي الرسول : ما بينه وبين الناس ، المرسل إليهم.
    كما أنّ المراد من ( من خلفه ) ما بين الرسول وبين مصدر الوحي الذي هو سبحانه.
    وعلى ذلك فالنبي مصون ومحفوظ في مجال تلقي الوحي من كلا الجانبين.
    وقد اعتبر في هذا التعبير ما يوهمه معنى الرسالة من أنّه فيض متصل من المرسل ( بالكسر ) وينتهي إلى المرسل إليه ( بالفتح ) والآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسل وانّ الرسول محاط بالرصد والحارس من أمامه « ما بين يديه » و « خلفه » وورائه ، فلا يصيبه شيء يباين الوحي.
    ومعنى الآية : انّ اللّه يجعل ( يسلك ) ما بين الرسول ومن أرسل إليه ، وما بين الرسول ومصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة ، وليس جعل الرصد امام الرسول وخلفه إلاّ للتحفظ على الوحي من كل تخليط وتشويش بالزيادة والنقص التي يقع فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها.
    ثم إنّه سبحانه علّل جعل الرصد بين يدي الرسول وخلفه بقوله : ( ليعلم ان قد أبلغوا رسالات ربهم ).


(77)
    والمراد من العلم هو العلم الفعلي بمعنى التحقق الخارجي على حد قوله : ( فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ). (1)
    أي ليتح ـ قّق إبلاغ رسالات ربهم على ما هي عليه من غير تغ ـ يير وتبدّل.
    7 ـ قوله : ( وأحاط بما لديهم ) بمنزلة الجملة المتممة للحراسة المستفادة من قوله : ( رصداً ).
    وعلى الجملة فهذه العبارات الثلاث الواردة في الآية تفيد مدى عناية الباري للحراسة والحفاظ على الوحي إلى أن يصل إلى المرسل إليهم بلا تغيير وتبديل ، وهذه الجمل عبارة عن :
    أ. ( من بين يديه ).
    ب. ( ومن خلفه ).
    ج. ( وأحاط بما لديهم ).
    فالجملة الأُولى تشير إلى وجود رصد بين الرسول والناس.
    كما أنّ الجملة الثانية تشير إلى وجود رصد محافظين بينه وبين مصدر الوحي.
    والجملة الثالثة تشير إلى وجود الحفظة في داخل كيانهم.
    فتصير النتيجة أنّ الوحي في أمن وأمان من تطرق التحريف منذ أن يفاض من مصدر الوحي ويقع في نفس الرسول إلى أن يصل إلى الناس والمرسل إليهم.
    8 ـ قوله : ( وأحصى كل شيء عدداً ) مسوق لإفادة عموم علمه بكل شيء سواء في ذلك الوحي الملقى إلى الرسول وغيره.
    1 ـ العنكبوت : 3.

(78)
    يقول العلاّمة الطباطبائي : إنّ قوله سبحانه : ( فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه ) إلى آخر الآيتين يدل على أنّ الوحي الإلهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس ، مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله إليه.
    أمّا مصونيته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله : ( من خلفه ) وأمّا مصونيته حين أخذ الرسول إياه وتلقيه من ملك الوحي بحيث يعرفه ولا يغلط في أخذه ، ومصونيته في حفظه بحيث يعيه كما أُوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيره أو يبدله.
    ومصونيته في تبليغه إلى الناس من تصرف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله : ( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) حيث يدل على أنّ الغرض الإلهي من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربهم أي أن يتحقّق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس ، ولازمه بلوغه إيّاهم ولولا مصونية الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعاً لم يتم الغرض الإلهي وهو ظاهر.
    وحيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقاً غير سلوك الرصد دل ذلك على أنّ الوحي محروس بالملائكة وهو عند الرسول ، كما أنّه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتى ينتهي إليه ، ويؤكده قوله بعده : ( وأحاط بما لديهم ).
    وأمّا مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهي إلى الناس فيكفي فيه قوله : ( ومن بين يديه ) على ما تقدم معناه.
    أضف إلى ذلك دلالة قوله : ( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) بما تقدم من تقريب دلالته.
    ويتفرع على هذا البيان : انّ الرسول مؤيد بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه وفي حفظه وفي تبليغه إلى الناس ، مصون من الخطأ في الجهات الثلاث جميعاً لما مرّ


(79)
من دلالة على أنّ ما نزّله اللّه من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي ، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس ومن مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي وحفظه له وتبليغه إلى الناس.
    والتبليغ يعم القول والفعل فإنّ في الفعل تبليغاً كما في القول ، فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرمات وترك الواجبات الدينية ، لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحي وحفظه وتبليغه قولاً.
    وقد تقدمت الإشارة إلى أنّ النبوة كالرسالة في دورانها مدار الوحي ، فالنبي كالرسول في خاصة العصمة ، ويتحصل بذلك انّ أصحاب الوحي سواء كانوا رسلاً أو أنبياء معصومون في أخذ الوحي وفي حفظ ما أُوحي إليهم وفي تبليغه إلى الناس قولاً وفعلاً. (1)
     الآية الثانية
    قوله سبحانه : ( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعثَ اللّهُ النَّبِيّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراط مُسْتَقيم ). (2)
    إنّ الآية تصرح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو القضاء بين الناس في ما اختلفوا فيه ، وليس المراد من القضاء إلاّ القضاء بالحق ، وهو فرع وصول الحق إلى القاضي بلا تغيير وتحريف.
    1 ـ الميزان : 20/133.
    2 ـ البقرة : 213.


(80)
    ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمن من الناس إلى الحق بإذنه كما هو صريح قوله : ( فهدى اللّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ).
    والهادي وإن كان هو اللّه سبحانه في الحقيقة لكن الهداية تتحقق عن طريق النبي ، وبواسطته ، وتحقق الهداية منه فرع كونه واقفاً على الحق ، بلا تحريف.
    وكل ذلك يسلتزم عصمة النبي في تلقي الوحي والحفاظ عليه ، وإبلاغه إلى الناس.
    وبالجملة فالآية تدل على أنّ النبي يقضي بالحق بين الناس ويهدي المؤمنين إليه ، وكل ذلك ( أي القضاء بالحق أوّلاً ، وهداية المؤمنين إليه ثانياً ) يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه وليس المراد من الحق إلاّ ما يوحى إليه.
     الآية الثالثة
    قوله سبحانه : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّوَحْيٌ يُوحى ). (1)
    فالآية تصرح بأنّ النبي لا ينطق عن الهوى ، أي لا يتكلم بداعي الهوى. فالمراد إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجال الحياة كما هو مقتضى إطلاقه أو خصوص ما يحكيه من اللّه سبحانه ، فعلى كل تقدير فهو يدل على صيانته وعصمته في المراحل الثلاث المتقدم ذكرها في مجال إبلاغ الرسالة.
    وبما أنّ عصمة الأنبياء في تلك المرحلة تكون من المسلمات عند المحققين من أصحاب المذاهب والملل ، فلنعطف عنان البحث إلى ما تضاربت فيه آراء المتكلمين ، وإن كان للشيعة فيه قول واحد ، وهو عصمتهم عن العصيان والمخالفة لأوامره ونواهيه.
    1 ـ النجم : 3 ـ 4.
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس